أقلام ثقافية

الجدارة المعرفية للغة العربية

يسري عبد الغنيعن رهان النهضة نتحدث

للغة العربية قابلية تاريخية وذاتية كبرى للتفاعل مع معارف عصرها وعلومه، واستيعابها وتوطينها معرفياً ومفهومياً واصطلاحياً فيها، فضلاً عما فيها من قابلية لتوليد واشتقاق المفاهيم والاصطلاحات المناسبة للتعبير عن المنتوج المعرفي والعلمي العربي. حصل ذلك في الماضي، حين هضمت العربية معارف وعلوم الإغريق والهند وبلاد فارس، واستدمجتها في منظومتها المفهومية، وحين أبدعت منظومة مفهومية خاصة في العلوم العقلية والشرعية (الفلسفة، العلوم، المنطق، الجغرافيا والمساحة، الحساب والهندسة، علم النبات والبحار، الطب والبيطرة، علم الكلام، علم أصول الفقه، علم التاريخ، علوم اللغة والنحو والبلاغة...إلخ) انتقل كثير منها إلى أوروبا عبر الأندلس وصقلية والكنائس الشرقية العربية. ولقد حصل ذلك اليوم.

و منذ ما يزيد على مئتي عام (بداية القرن التاسع عشر)، من خلال تفاعلها مع اللغات الحديثة (الإنكليزية والفرنسية خاصة) والمعارف الحديثة التي أُنتجت في إطار تلك اللغات، إذ أبدت استجابة كبيرة لتحدي الوافد الحديث من معارف ومفاهيم: في علوم الطبيعة، وفي علوم الإنسان، وفي التقانة (التكنولوجيا)، كما في الآداب والفنون؛ فوطنت الكثير منها في اللسان والمعرفة، وطورت أساليب الترجمة والاشتقاق والتوليد لتتناسب مع غزارة المادة المعرفية والاصطلاحية الجديدة، وتطورت – هي نفسها- واغتنت من ذلك الاحتكاك، إلى أن أصبحت قادرة على حمل هذا المنتوج الحضاري الكوني، وتقديمه إلى القارئ العربي: في المدارس والجامعات، ومن خلال التأليف والإنتاج الرمزي. وها هي اليوم، تحتل المرتبة الخامسة، ضمن لغات العالم، في تصنيف الأمم المتحدة. أما الذين يجاهرون بالمواقف السلبية منها، ويصرّون على هيمنة لغات أخرى، فهم يجهلون تاريخ العربية وإمكانياتها اللسانية الهائلة، وقدراتها على الهضم والاستيعاب، بل هم منفصلون-تماماً- عن تراثها الفكري والثقافي.

لا نهضة ممكنة لشعب إلا بلغته الوطنية. وهذه حقيقة قام عليها الدليل من تجارب الأمم والشعوب التي أحرزت نهضتها وتقدمها في العالم المعاصر، إذ هي توسلت في ذلك لغاتها الوطنية، ولم تستعر لغات غيرها، متوهمة أن ذلك من مقتضيات انتهاضها وتقدمها. وتلك حقيقة تنطبق حتى على الدول التي سقطت في قبضة الاحتلال الأجنبي في فترة من تاريخها الحديث، مثل الصين وكوريا وتركيا واندونيسيا. أما الدول التي لم تقم فيها لغة وطنية جامعة، فسهل على الأجنبي فرض لسانه عليها رسمياً – وأكثر تلك الدول في أفريقيا – فلا نعلم منها من نجح في كسب رهان النهضة والتقدم، بل لا نعلم إلا أنها ما برحت تعاني أوضاعاً متفاوتة من التخلف والشقاق الداخلي.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم