أقلام ثقافية

بيت الحكمة.. مُنبَثّق الإنطلاقة الحضارية!!

صادق السامرائيمُنبَثّق الإنطلاقة الحضارية التي توهجت من عينها الساطعة بغداد، فهو مكتبة عامة ومركز ثقافي إنساني مشعشع في أرجاء الدنيا.

بدأ بيت الحكمة كخزانة كتب في قصر الخلافة الذي كان يدير شؤون الدولة منه الخليفة أبو جعفر المنصور، والذي تُرجمت له العديد من الكتب، وجمع فيه المئات من كتب المعارف والعلوم، وعندما تولى هارون الرشيد الخلافة وجد القصر قد ضاق بالكتب، فأنشأ مكتبة عامة ونقلها إليها، وتطورت الفكرة وتحولت المكتبة إلى مركز للترجمة والتأليف وتوثيق النشاطات العلمية، وبلغ ذروته في عهد المأمون الذي ترجمت في زمنه الكتب اليونانية، وأصبح بيت الحكمة مؤسسة كبيرة ذات فروع وأقسام وآليات لترتيب الكتب ونسخها وصناعتها.

وكان المأمون محبا للعلوم والفلسفة وبارعا فيهما فإهتم بالمترجمين والعلماء، وأصبح بيت الحكمة في عهده جامعة يدرس فيها طلاب العلم والمعارف الإنسانية، والذين يؤلفون الكتب وصناعها، فهو مؤسسة ذات إرتباطات بما يتصل بالكتابة والكتاب والترجمة من صنعة وحرفة، إضافة إلى التفاعلات العلمية والإبداعات المتنوعة في كافة النشاطات المعرفية الأخرى.

وبعد المأمون أخذ وهج بيت الحكمة بالذبول شيئا فشيئا، مع أن الخلفاء الذين جاؤوا من بعده لم يهملوه لكنهم لم يتعهدوه بالعناية الكافية مثلما كان المأمون.

وبلغ عمر بيت الحكمة (170 - 656) هجرية،  ومر عليه (32) خليفة.

ويُذكر أن فيضان الفرات والأعاصير التي ضربت بغداد قد خربت معالمها ومنها بيت الحكمة وقضي عليه عندما دخل التتار بغداد، ويُقال أن نصير الطوسي قد أنقذ (600000) مخطوط قبل حصار بغداد، أما ما تبقى من المخطوطات فقد أحرقها التتار ورمى بقسم كبير منها في نهر دجلة، وبذلك فقدت الحضارة الإنسانية ذخيرة علمية نادرة.

ولا يمكن إلقاء اللوم فقط على التتار لما أصابه من خراب وإهمال، بل أن ما عانته بغداد من فتن وإضطرابات قد أسهمت بالحد من نشاطاته ودوره، فبدلا من أن يتطور ويشمل العديد من المدن والأقاليم في الدولة العباسية، تماثل للإنكماس، لإنشغال الخلفاء بأمور أخرى، ولتمكن غيرهم منهم، وتحولهم إلى رموز في معظم الأحيان.

ولو أن بيت الحكمة قد فتح فروعا ومراكز له في عدة أماكن أخرى، لما إستطاع التتار أن يقضي على ما فيه من نفائس الإبداع الإنساني.

وهذه خطيئة المأمون ومن جاء من بعده من الخلفاء الذين وضعوا بيوض الحضارة العالمية في سلة واحدة.

ولولا بعض النجباء الذين حاولوا أن ينقذوا ما تمكنوا منه من المخطوطات، لما بقي من مخطوطات بيت الحكمة كتاب واحد، ولو أن بعض الروايات تقول بأن التتار لم يتعاملوا بغباء مع بيت الحكمة، وإنما سرقوا منها العديد من الكتب التي كانت ذات قيمة وباعوها للدول الأخرى، وهذه رواية مشكوك فيها، لكن التتار لم يكونوا همجا كما يُقال وإنما ذوي عقيدة ورؤية، وديدنهم القوة وسفك الدماء لتأكيد نظرتهم وبناء إمبراطوريتهم.

ويمكن القول أن بيت الحكمة كان أول بادرة لإنشاء جامعة للعلوم في العالم، فالفكرة توقدت وأينعت ولم تتواصل بعطائها وإثمارها الجزيل، وتم الإستثمار فيها عند مجتمعات الدنيا الأخرى.

فهل سنبنيَ بيت حكمة معاصر لتتباهى به بغداد، كما تتفاخر الشارقة اليوم ببيت حكمتها؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم