تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام ثقافية

محمد الكرافـس: نافذة على الأدب الروسي المعاصر.. الشاعر سيرغي يسينين نموذجا

محمد الكرافسازداد الشاعر الروسي سيرغي ألكساندروفيتش يسينين في قرية كونستانتينوفا في مقاطعة ريازان عام 1895، وأمضى معظم طفولته في بيت عائلته، وهناك تلقى تعليمه في مدرسة ابتدائية دينية. ارتبط اسمه بالشعر تلقيا ونظما منذ حداثة سنه، إذ ظهرت موهبته الشعرية منذ سن التاسعة، مستفيدا من حياة الريف الهادئة التي تشرب أنواءها ومناظرها الخلابة.

تفتقت عبقريته في المدرسة بعدما لاحظت أسرته سرعة بداهته وقدرته الكبيرة على الحفظ والقراءة بنهم، ورغم أنه ابن فلاحين روسيين إلا أن دواليب الثقافة والشعر تسربت رويدا رويدا إلى مخيلته، فتغذى من الطبيعة الآسرة في قريته الجميلة، وانعكس ذلك بشكل لافت في أشعاره الرومانسية والثورية بلا شك.

 ومما ميز هذا الشاعر في طفولته أنه كان صبيا كثير المغامرات والشقاوة في الريف الروسي، قبل أن تحمله الأقدار في سنه السابعة عشرة  إلى مدينة موسكو الصاخبة، التي جاءها باحثا عن عالم جديد، عالم مغاير تماما عن هدوء قريته وبساطة حياته السابقة. وابتداء من 1912 سيبدأ العمل كمصحح لغوي في مطبعة اسمها أي. دي. سيتين، وهناك سيتشبع بالفكر الحر، وسيتأثر بالأفكار النضالية بعدما وجد ضالته في الفكر الثوري لدى زملائه في العمل، سنوات قبيل الثورة الروسية.

اشتغل الشاعر في المطبعة بلا كلل، ونجح في التوفيق بين العمل وقرض الشعر، كما أعجب بزميلته في العمل آنا إزريادنوفا وأحبا بعضهما البعض، لتثمر هذه العلاقة زواجا أنجبا من خلاله طفلا وسيما مثل والده، لكن سرعان ما عاد الفكر التحرري والبوهيمي والتنصل من مقاليد الحياة ليخيم على ذهنية الشاعر، ليجد نفسه مرة أخرى معانقا لأمداء الحرية ثائرا على نظم المجتمع والأسرة والالتزامات العائلية التي وجدها مكبلة لانطلاقته في الحياة، ومخصصا كل وقته لكتابة الشعر الذي عشقه بجنون.

ومافتئ الشاعر أن عاد مرة أخرى للانضمام إلى جامعة موسكو سنة 1913، ليتركها مجددا في ربيع 1915 بعدما تعرف على حلقة شعراء جدد، ضمت ألكسندر بلوك وسيرغي غوروديتسكي وأندري بيلي في مدينة سانت بطرسبرغ (لينينغراد وبتروغراد سابقا)، وهناك استطاع فرض ذاته في مجال الشعر رغم حداثة سنه، إذ بالكاد كان قد أكمل عقده الثاني، لكن عبقريته الشعرية كانت طافحة بالسليقة والموهبة الفذة والعذوبة الساحرة.

ومما زاد شهرته أن جميع الحلقات الشعرية والأدبية اهتمت بنباهته الشعرية وعبقريته، مما جعل قصائده تنشر في عدد من المجلات والصحف الروسية آنذاك. وفي عام 1916، نجح الشاعر في نشر أولى مجموعاته الشعرية  تحت عنوان ''رادونيستا'' التي كرسته واحدا من كبار الشعراء في تلك الفترة وهو لازال في سنته الحادية والعشرين، تماما مثل تجربتي الشاعرين الفرنسي أرثور رامبو والتونسي أبي القاسم الشابي.

استضافته الصالونات الأدبية وانهالت عليه العروض من كل حدب وصوب للمشاركة في اللقاءات الشعرية، وبدأ الشاعر يغوص في حياة السهر والبوهيمية والنساء وعالم الأضواء، حيث تزوج بعد ذلك زيجات قصيرة  وغير مستقرة ، ارتبط من خلالها بعدة نساء منهن: مواطنته زينيدا رايخ والراقصة الأمريكية إزادورا دونكان وناديشدا فولبين وكالينا أرتوروفنا بنيسلافسكايا وصوفيا تولستايا حفيدة الكاتب الروسي العظيم ليو تولستوي. ارتبطت علاقة سيرغي يسينين مع النساء بالمزاجية واللهو والملل الذي كان يتسرب إلى ذاته بسرعة، وهو الذي اعتاد حياة اللهو والمجون والتحرر والإدمان على الكحول الذي دمره في النهاية.

يعتبر يسينين واحدا من مؤسسي حركة "التصويريين'' سنة 1919 رفقة الشعراء مارينغوف وشيرشينوفيتش وإفليف، إذ آمنوا مجتمعين بأهمية التصوير في الشعر، رغم أنه اختلف معهم في الوظيفة التي يمكن أن تؤديها الصورة الشعرية في التعبير عن الخيال الشعري والتلقائية في عكس المعاني الشعرية المضمخة بإكليل العنفوان.

لم يكن يسينين شاعرا عاديا في روسيا، فقد شغل الناس وألهمهم بقصائده الثورية والعاطفية وحمل مشعل الشعر خلال مرحلة الثورة البلشوفية التي كان موقفه منها متناقضا، إذ دعمها في البداية، لكنه عاد ليرفض بعض مكوناتها وتوصياتها بعدما لم تنجح في تغيير حياة الناس البسطاء إلى الأحسن، حسب زاوية نظره الخاصة.

ومما زاد عذابه الداخلي سفره إلى أمريكا رفقة زوجته الراقصة إيزادورا دونكان التي وضعته بين جحيمين: جحيم العودة إلى الحياة في روسيا (السوفيتيية)، وجحيم الحياة بعيدا عنها، وهو ما عذبه ليتخذ في النهاية قرار العودة إلى روسيا محملا بوعي جديد ونظرة مغايرة عنها، وقد عاوده الحنين إلى قرض الشعر في موسكو والبحث عن جماعة أدبية جديدة تحتضنه، وتوفر له فرص الحياة الناجحة.

حاول الشاعر أن يتخلص من حياته البوهيمية في منتصف عشرينيات القرن الماضي، لاسيما بعد زواجه من صوفيا أندرييفنا تولستايا (حفيدة الكاتب الروسي العظيم تولستوي) التي أدركت استعصاء ترك يسينين للكحول وحاولت مساعدته، بعدما خلقت بارقة أمل في حياته الفوضوية.

 ولكنها ربما جاءت متأخرة لأن شوكة البوهيمية والمرض النفسي كانت قد غاصت حتى النخاع في حياة وفكر يسينين، ليلقى حتفه يوم 27 دسمبر من سنة 1925، وبقي خبر وفاته غامضا ما بين التصفية الجسدية من قبل جهات حانقة عليه وما بين الانتحار. وقد كتب قصيدة الوداع الأخيرة بدمه في إحدى غرف فندق ''أنجلوتير''، تحت عنوان ''وداعا صديقي وداعا''، ودفن في مقبرة فاغانكوف بموسكو ذات يوم خريفي حزين.

إن المتأمل لحياة هذا الشاعر القصيرة يدرك جزءا من عبقريته الشعرية وقد خاض مغامرات كثيرة جمعت بين الانضمام إلى الجيش في فترة قصيرة ومناصرة الثورة البولشوفية وكثرة مغامراته النسائية التي لم تستقر على حال. وقد كان يسينين في كل مرة يفلت من عقال الزواج ويعود إلى التحرر والبوهيمية والشعر والصعلكة التي أعطت منتوجا شعريا رائدا جعله من عمالقة الشعر الحديث في روسيا، لاسيما وقد تمت إعادته لاحقا إلى مكانته التي تليق به، بعدما سبق للرقابة السوفيتيية أن منعت تداول شعره منذ وفاته إلى حدود ستينيات القرن الماضي، ليعود شعره ويحلق من جديد في سماء روسيا باعتباره رمزا من رموزها ومبدعيها الذين ساهموا في تكريس الرأسمال الرمزي والثقافي في بلاد الكرملين.

 

بقلم:  د. محمد الكرافـس

باحث وروائي/ المغرب

 

في المثقف اليوم