أقلام ثقافية

أبو الخير الناصري: الأديب محمد البغوري كما عرفته

ابو الخير الناصري1/ ودعت الساحة الثقافية بالمغرب صباح الجمعة الفاتح من أكتوبر 2021م الأديب والباحث الدكتور محمدا البغوري رحمه الله وأحسن إليه.

وقد عرفته محاورا للأدباء من مختلف بلدان العرب. قرأت اسمه، أول مرة، على صفحات "العَلم الثقافي"، في حوار له مع الروائي فؤاد التكرلي منشور في عدد السبت 30 من أبريل 2005م. وحينما تحقق اللقاء المباشر بالرجل كنت قرأت حوارات عديدة له في منابر أخرى، حوارات جمع عددا منها بين دفتي كتابه "عطر القراءة وإكسير الكتابة" (2014) الذي قدم من خلاله "رؤية بانورامية عن راهن الحراك الأدبي والثقافي في مغرب النصف الثاني من القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة" كما ورد في تقديم د.محمد المسعودي للعمل.

فكّر أديبنا، بعد باكورته الحوارية، في صيغ مغايرة للعمل، فكان من ذلك كتاباه: "شجون الأدب وشؤون النقد: حوارات في القصة القصيرة جدا بالمغرب" (2019) الذي شرفت بتقديمه، وفيه يجمع بين محاورة كتاب القصة القصيرة جدا ونقادها في إشارة منه إلى ضرورة الحوار بين هؤلاء وهؤلاء، وأهميته في تجويد المنجز القصصي وتطوير الدراسات النقدية حوله.

ثم أتبع عمله ذاك بمحاورة مفيدة مع الأديب حسن الرموتي صدرت في كتابه "ولولات الرياح لا تزعج النوارس في الصويرة" (2020)، وكان من حظي الإسهام في تقديمه مساء 29 من يونيو 2021 بمؤسسة الحسن اليوسي بطنجة.

ولم تضم الكتب الثلاثة جميع ما للراحل من حوارات، فلطالما حدثني عن حوارات له منشورة ومخطوطة كان يخطط لجمعها في كتب، وإن نخبة من أدباء المغرب ونقاده يحتفظون برسائل منه تضم أسئلة حوارية طمح الفقيد لاستلام أجوبتها وإعدادها للنشر.

هذا الإلحاح على الحوار في المسير الثقافي للرجل مرآة كاشفة لفضيلة من فضائله؛ فقد عاش يقتطع من وقته ليُعرف بإخوانه من الأدباء والباحثين، وليُطلع الساحة الأدبية والعلمية على أعمالهم، وآرائهم، وتوجهاتهم الفكرية. ولم يكن عمله هذا لينأى عن فضيلة أخرى هي رفع الغبن عن نفوس كثير من المثقفين الذين يعانون التهميش وعدم الاهتمام بما يكتبون وما ينشرون، وكأنما كان يسعى – رحمه الله – لصناعة واقع ثقافي بديل لهذا الذي استهجنه صاحب "مرآة المحاسن"؛ واقع لا يُدفن فيه المثقف في قبور الإهمال واللامبالاة.

2/ إلى استمساكه بعروة الحوار  الفضلى كان صديقنا محمد نبع كرم لا ينضب. ومما أذكره هنا أني كنت في طنجة مساء 15 من يوليوز الماضي أتابع أشغال توقيع "الخطاب الإبداعي للمرأة" لصديقنا الأديب حسن بيريش. وقبيل نهاية اللقاء الذي احتضنته المكتبة الوسائطية اتصل صديقي محمد، وطلب أن نلتقي قبل الرجوع إلى أصيلا، فكان اللقاء في مقهى قريب من منزله. تجاذبنا أطراف الحديث قليلا، وكان يُعد العدة يومئذ للقاء ثقافي في يومين بالعرائش وطنجة يُكرَّم فيه عدد من الأدباء والمبدعين. وحين هممت بركوب سيارتي ودعني العزيز محمد وابنه حسام وهو يهديني كتابين للأستاذين عبد الهادي المهادي ونجيب الخمليشي كنا ذكرناهما عرَضا في بعض أحاديثنا، وعَلِم هو أني لم أكن اطلعت عليهما بعد.

هكذا كان في تعامله معي؛ كلما علم أني لم أطلع على كتاب ما فاجأني بنسخة منه هديةً دالة على كرمه، أو إعارة مُخبرةً بحرصه على إفادة صديقه ونفعه. في مكتبتي كتب ومجلات من إهدائه شاهدة على كرمه، وحسن رعايته لصداقتنا، واهتمامه الصادق بمضمون ما كان بيننا من أحاديث في شؤون الأدب والفكر.

3/ أمر آخر كان لافتا للانتباه في شخصية العزيز الراحل، وهو أبوته الحانية، وصداقته الرائعة مع ابنه اللطيف الودود حسام الذي اتخذه صديقا ورفيقا دائما له في جولاته، وأسفاره، وجلساته مع أصدقائه، ولقاءاته الثقافية العديدة.

هكذا جال حسام مدن الغرب وقراه، وحضر أمسيات ومهرجانات ثقافية، ونسج صداقات مع كثير من الأدباء؛ فأثمر ذلك كله ثمارا طيبة، من أبرزها عشق البغوري الابن للعربية، وشغفه بالقراءة، وولعه بالقصة القصيرة، وسعيه للانتساب إلى شجرة أنساب الأدباء.

ولكم فرحت وأنا أحادث هذا الفتى الوسيم بالفصحى أو أتابع أحاديثه الفصيحة مع أبيه في جلساتنا بأصيلا وطنجة والقصر الكبير.

ولكم عظمت فرحتي يوم أخبرني الفقيد أن لابنه مجموعة قصصية، وأنه يعدها للطباعة والنشر. ومن أسفٍ أن أخانا العزيز مات دون أن تكتحل عيناه بصدور مجموعة ابنه التي سعدت بكتابة تقديم لها تحفيزا له وتشجيعا لغيره من الأطفال على الكتابة.

4/ وصديقنا البغوري، أيضا، عاشق كبير لمدينة أصيلا، تعرفه دروبها، وشوارعها، وساحاتها، وحدائقها، ومقاهيها، ومطاعمها، وناسها.

ما أكثر ما كان يزور المحروسة مصحوبا بأصدقائه مرات، وبأسرته الصغيرة أغلب المرات. يأتي لارتشاف لحظات من  سكينة النفس، مثلما يأتي لمجالسة إخوان وخلان أصيليين يشاركونه المشي في دروب الكلمة: عبد السلام الجباري، زهير الخراز، أسامة الزكاري، عبد المالك عليوي، مصطفى البعليش، شفيق الزكاري، فاطمة الزهراء المرابط، حسن الوسيني، صخر المهيف، حكيم غيلان، أبو الخير الناصري...ما من أحد من هؤلاء وسواهم إلا جمعته به جلسة  ومحادثة في مقهى، أو شارع، أو ساحة،أو قاعة..صديق الجميع هو، يعانق الناس كافة بقلبه الكبير الودود.

ومن رحم عشقه للمدينة كان حرصه على تنظيم "ملتقى أصيلة الثالث للقصة القصيرة" الذي دعا إليه كتاب القصة من مختلف المراكز والهوامش الثقافية. كان في مكنته أن ينظم الملتقى في طنجة حيث مستقره، أو في العرائش حيث نخبة من إخوانه وخلانه، غير أن "الهوى الزيلاشي" غلاب..

ومن دلائل غلبة الهوى الزيلاشي أن عزيزنا الراحل أفرد عشيقته أصيلا بكتاب جمع فيه ما خطه عنها على امتداد أعوام، وقد دعاني مرة إلى مشاركته التفكير في عنوان مناسب لمحتويات الكتاب المتنوعة، ثم أخبرني ونحن جلوس بمقهى الأميرة، ذات مساء، أن رأيه استقر على العنوان: "أصيلة: العندلة المشتهاة".

رحل صديقنا محمد البغوري دون أن يصدر كتابه عن أصيلا، وكتاب ابنه حسام، وكتابا عن التصوف المغربي، وأطروحته لنيل الدكتوراه، وكتابا يضم الرسائل المتبادلة بينه وبين الأدباء، وغير ذلك من الأعمال التي كان يحدثني عنها بكثير من الحبّ والشوق لرؤيتها منشورة متداولة...

رحمك الله أيها الصديق العزيز، وأسكنك فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

أبو الخير الناصري

أصيلا في 04 من أكتوبر 2021م.

 

في المثقف اليوم