أقلام ثقافية

ضياء نافع: نقاش عراقي حول غوغول

ضياء نافعابتدأ هذا النقاش صدفة، عندما قال (س)، ان غوغول أصبح (رجعيّا)  في سنين حياته الاخيرة، بعد ان كان (تقدميا) في بداية مسيرته الادبية، وقد أصدر في نهاية حياته كتابا يختلف عن افكاره القديمة، بل ويتعارض معها، فاعترض (ص) بقوة على هذه الجملة وقال عنها، انها تجسّد التفكير العراقي المتطرف والمحدود الافق والساذج بكل معنى الكلمة في آن واحد، وانها تذكّر بالموقف المتطرف والساذج والمؤسف جدا من الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب، والذي وصفوه كذلك بنفس تلك المفاهيم، واطلقوا عليه نفس هذه المصطلحات، فالسياب ايضا – كما كانوا يقولون - كان (تقدميا) ثم اصبح (رجعيا) في الساحة الادبية العراقية عندئذ، وكم عانى السياب المسكين من ذلك الموقف في حينه، وكم انعكس هذا الموقف على جمهورنا العراقي آنذاك . انفجر (س) بوجه (ص) عندما سمع تعليقه حول رأيه عن غوغول وهذه المقارنة مع السياب، لكننا تدخلنا جميعا وحاولنا تهدئة هذا الانفجار وايقاف هذا النقاش الحاد اصلا، الذي كاد ان يصل الى الاشتباك بالايدي، وكان (س) يرتجف غضبا، ثم قال بصوت مرتفع - ان غوغول اصبح رجعيّا، ولكنك لا تفقه شيئا في تاريخ الادب الروسي، ولا تريد الاعتراف بذلك، وان السياب خان موقفه السياسي، وترك الحزب الذي انتمى اليه بمحض ارادته، واصبح معاديا لافكاره ومواقفه، وانت تعرف ذلك حق المعرفة ولكنك تتجاهل الوقائع الثابتة في تاريخنا العراقي المعاصر . قلنا ل (س) و(ص) معا ان القضية لا تستحق ردود الفعل المتوترة هذه، وانه يمكن تبادل الافكار بهدوء وسكينة مهما تكن الاختلافات والمواقف المتباينة، فقال (ص) – قولوا ذلك له وليس لي، فانا لم انفجر مثله، وانما أبديت وجهة نظر مختلفة بشأن غوغول، أما هو فقد شاهدتم ردود فعله نتيجة رأيّ ذكرته حول الموضوع يخالف رأيه ليس الا، فصرخ (س) مرة اخرى وهو يكرر – كيف يمكن الاستماع بهدوء وسكينة الى هذا الرأي الخاطئ جدا جدا، الذي يربط بين الكاتب الروسي غوغول في القرن التاسع عشر والشاعر العراقي السياب في القرن العشرين ؟ انك تذكرني بالمثل العراقي الشهير – عرب وين طنبورة وين . ضحكنا جميعا على هذا المثل، لاننا نعرف طبعا قصته الطريفة، واراد احدنا ان يجعل الاجواء مرحة كي يخفف حدة هذا النقاش، فطرح على (س) السؤال الاتي – هل غوغول هو (عرب) والسياب (طنبوره)، ام غوغول (طنبوره) والسياب (عرب)؟ ولكن (س) لم يتوقف عند هذا السؤال ولم يستجب اصلا له، وهكذا بقيت الاجواء متوترة، ولم يعلق أحد بشأن هذا السؤال، وصمتنا جميعا . بعد اكثر من دقيقتين من الصمت قال (ص)، انا لم اقارن نتاجات غوغول الروسي ابن القرن التاسع عشر بنتاجات السياب العراقي ابن القرن العشرين، ولكني تحدثت عن الموقف الفكري منهما ليس الا، عندما سمعت قول (س) حول رجعية غوغول . تدخل (ع) في هذا النقاش وقال، ان بيلينسكي – حسب معلوماتي - لم يكتب في رسالته الشهيرة الى غوغول، ان غوغول اصبح رجعيا، فاجاب (ص)، انا قرأت هذه الوثيقة ايضا ولم أجد فيها اشارة واضحة الى موقف غوغول السياسي، رغم ان بيلينسكي كان ينتقد غوغول طبعا، فعلق (س) قائلا – ولكن بيلينسكي كتب هناك ان غوغول انتقل الى موقف هؤلاء الذين كان يسخر منهم، اي انه اصبح يؤيد موقفهم الفكري، فاجابه (ص)، لكن بيلينسكي لم يستخدم تعابير (رجعي  او تقدمي) كما استخدمتها انت في حديثك عن غوغول، وهي – في الواقع -  تعابير استخدمها العراقيون بالذات في اواسط القرن العشرين فقط، عندما جعلوا السياسة هي المقياس الاساسي للابداع الادبي، وهكذا أخذوا يسمّون الكاتب فلان (تقدمي) لانه يؤيد هذا الاتجاه السياسي المحدد، ويسمّون الكاتب فستان (رجعي) لانه لا يؤيد ذلك الاتجاه السياسي، بغض النظر عن نتاجهم الادبي وقيمته واهميته للمجتمع . تدخلنا جميعا في هذا النقاش، وحاولنا ايقافه، وطلبنا من الآخرين الا يعلقوا او يساهموا بهذا النقاش، كي لا تعود (المعركة !) مرة اخرى، خصوصا واننا نجلس في مكان عام .

مرّ من قربنا أحد المواطنين الروس، والذي كان يجلس مع اصدقائه جنبنا على الطاولة المجاورة لنا، وقال لي، يبدو ان هناك مشكلة كبيرة عندكم، فانتم كنتم تتناقشون حولها بحيوية، فضحكت انا، وقلت له، لا، لا توجد لدينا مشكلة، لقد كنّا نتناقش حول غوغول ليس الا، فقال باندهاش، بينما كنا نعتقد ان لديكم مشكلة كبيرة، ثم أضاف، أنا ايضا أحب غوغول مثلما تحبونه، وغالبا ما اعود لقراءة نتاجاته الرائعة، وقد قرأت قبل فترة قصيرة (يوميات مجنون) وربما للمرة العاشرة، ولا زلت اقهقه، عندما اعيد قراءة هذا الكتاب، واتعجب، كيف استطاع غوغول ان يصف سمات هذا المجنون بدقة متناهية، قلت له، كنا نتناقش حول موقفه السياسي، فقال، الفنان لا يمكن ان يكون سياسيا، اذ انه ينطلق من مواقفه الذاتية الابداعية، اما السياسي، فلا يوجد لديه آراء ابداعية محددة، بل مواقف سياسية تنسجم وتتناغم مع رأي حزبه السياسي، ويجب عليه ان يؤيد رأي حزبه بغض النظر عن موقفه الشخصي، وكل العباقرة من ادباء وفنانين، ومن جملتهم طبعا غوغول، لم يكونوا سياسيين ابدا، ثم ودّعني بلطف وابتسام وذهب ....

 

أ. د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم