أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

عندما فازت الكاتبة الكندية أليس مونرو بجائزة نوبل للاداب عام 2013، وصفتها لجنة الجائزة بـ"أستاذة القصة القصيرة المعاصرة"، آنذاك رحب كُتاب القصة القصيرة وقراء هذا النوع من الادب بفوز أليس مونرو، فقد اعتادت جائزة نوبل أن تكرم الروايات على حساب القصص القصيرة، وقد عُرف عن مونرو تعصبها للقصة القصيرة وقد قالت في تصريح لها نشرته محطة "بي بي سي " ان فوزها بالجائزة، لا يعد فوزاً لنفسها بل لفنها:": "آمل حقاً أن يجعل الناس ينظرون إلى القصة القصيرة كفن مهم، وليس مجرد شيء نلتهي به حتى ننتهي من كتابة رواية ". في ذلك الوقت كتب الصديق الشاعر فاضل السلطاني مقالاً في صحيفة الشرق الاوسط بعنوان " في مديح القصة القصيرة " قال فيه:" أجمع المعلقون، غربا وشرقا، على أن فوز أليس مونرو بجائزة نوبل للآداب، هو إعادة اعتبار للقصة القصيرة، وهم محقون، من ناحية الشكل فقط. فهذا الفن النبيل، والصعب إلا على الخبيرين، شهد انحسارا ملحوظا لصالح الرواية، بعدما عرف ازدهارا كبيراً في الستينات والسبعينات، حتى تفرع منه، أو خرج من أحشائه، نوع أدبي آخر هو (القصة القصيرة جدا). "

بالأمس اعادت جائزة البوكر الدولية الاعتبار للقصة القصيرة حيث منحت جائزتها الكبرى للكاتبة الهندية " بانو مشتاق " عن مجموعتها القصصية القصيرة: " مصباح القلب"، لتكون بذلك أول مجموعة قصص قصيرة تفوز بهذه الجائزة المرموقة. وقد أشاد رئيس لجنة التحكيم بقصص " بانو مشتاق "، حيث ووصفتها بأنها "صورٌ مذهلة للبقاء والصمود". والمجموعة القصصية " مصباح القلب " التي ضمت 12 قصة قصيرة تناقشت فيها قضايا النساء المسلمات اللاتي يعشن في جنوب الهند.

رئيس لجنة التحكيم " اكس بورتر " وصف "مصباح القلب" بأنه "كتاب مميز للغاية من حيث مضمونه السياسي". وأضاف أن القصص "تعكس حياة النساء". حسب محطة سي ان ان.

وفي كلمتها أثناء تسلمها الجائزة، شكرت مشتاق القراء على السماح لكلماتها بالتجول في قلوبهم قائلة:" ولدت هذه القصص من الاعتقاد بأن أي قصة ليست صغيرة على الإطلاق؛ وأن كل خيط في نسيج التجربة الإنسانية يحمل وزن الجميع "، واضافت:" "في عالم يحاول في كثير من الأحيان تقسيمنا، يظل الأدب أحد آخر المساحات المقدسة التي يمكننا أن نعيش فيها داخل عقول بعضنا البعض، ولو لبضع صفحات فقط".

ولدت بانو مشتاق عام 1948 في بلدة صغيرة في ولاية كارناتاكا الجنوبية في حي مسلم، ومثل معظم الفتيات من حولها، درست القرآن الكريم باللغة الأردية في المدرسة. إلا أن والدها، وهو موظف حكومي، أراد لها المزيد من التعليم، وعندما بلغت الثامنة من عمرها سجلها في مدرسة للراهبات حيث كانت وسيلة التدريس هي اللغة الرسمية للولاية – الكانادا- عملت مشتاق بجد حتى تتقن اللغة الكانادية، وقد اصبحت هذه اللغة الغريبة وسيلتها للتعبير الأدبي.

بدأت الكتابة وهي لا تزال في المدرسة واصرت بمساعدة والدها ان تدخل الكلية لتكمل دراستها.

ظهرت قصتها القصيرة الاولى في مجلة محلية بعد عام من زواجها كانت في السادسة والعشرين من عمرها، اتسمت سنوات زواجها المبكرة والخلافات.

قالت في مقابلة مع مجلة "فوغ" الفرنسية: " لطالما رغبت في الكتابة، لكن لم يكن لدي ما أكتبه، لكن فجأة، وبعد زواج عن حب، قيل لي أن أرتدي النقاب وأكرس نفسي للأعمال المنزلية"، الأمر الذي جعلها تخوض صراع مع المجتمع المحيط بها.في سن التاسعة والعشرين، أصبحت أماً، في تلك الفترة عانت من اكتئاب ما بعد الولادة. حيث قررت ذات يوم بعد خلاف مع زوجها أن تسكب البنزين على نفسها:" كنت انوي إشعال النار في نفسي. لحسن الحظ، أدرك زوجي ذلك في الوقت المناسب، فعانقني، وأخذ علبة الكبريت. توسل إليّ، ووضع طفلنا عند قدميّ، قائلًا: (لا تتخلّي عنا) ".

بعدها عملت مشتاق مراسلة لدى إحدى الصحف المحلية، حيث استخدمت الصحافة لكتابة القصص الاجتماعية عن احوال السكان. بعد سنوات من عملها في مجال الصحافة، تحولت إلى مهنة في القانون، حيث كانت تدعم أسرتها ماديا وفي نفس الوقت تواصل الكتابة.

بعد ولادة ابنتها الثالثة عام ١٩٨١، عانت بانو مشتاق من نوبة أخرى من "الاكتئاب "، وهو أمر، على حد قولها، أدركه زوجها بسرعة. أحضر إلى المنزل حفنة من الأدوية مع نسخة من صحيفة "لانكش باتريك" اليومية الكانادية. كانت تلك نقطة تحول- من حوارها الذي اعيد نشره امس من قبل موقع البي بي سي.

في ذلك الوقت نشرت الصحف المحلية حادثة تعرض مُعلمة في مدرسة ثانوية من بيجابور لمضايقات من قِبل لجنة شبابية مسلمة لذهابها إلى السينما. حينها صدرت فتوى تُلزم النساء بعدم الذهاب إلى السينما. أثار هذا الموقف غضب مشتاق. التي كتبت مقالاً تتساءلت فيه عن سبب اعتبار الرجل المسلم المسلمين فقط من يحق له الاستمتاع والترفيه عن نفسه. اسست

أرسلته إلى لانكيش باتريك، ونُشر خلال أيام. وصفت تلك اللحظة بأنها "مثيرة" ومثّلت بداية رحلتها في الكتابة العامة.

انضمت الى حركة "باندايا"، وهي حركة أدبية تقدمية في الكانادا، أسسها الدكتور ناغاراج وشودرا شرينيفاس عام ١٩٧٤. سعت الحركة الى تشجيع الأدب الملتزم بقضايا الناس، وسعت إلى جعل الادب بكل صنوفه سلاحًا ضد الظلم الاجتماعي والاقتصادي رافعة شعار "ليكن الادب سيفاً "

سببت لها كتاباتها الجريئة الكثير من المضايقات وجعلتها هدفا للمتشددين خصوصاً، بعد دعمها العلني لحق المرأة في الصلاة في المساجد.

عام 2000، تلقت تهديدات من جماعات متشددة، وحاول ملثم ان يطعنها بسكين، صدرت ضدها فتوى من احد الشوخ.

حصلت على العديد من الأوسمة الادبية والاجتماعية بفضل عملها، في مجال الادب ودعمها للمهمشين.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

لم يجرّب موفق محمد العمل في الصحافة بعد، ولم يكن إسماً معروفاً من بين الشعراء، الصدفة وحدها قادته للعمل في إحدى المجلات المهنية، هناك التقينا لأول مرة نهاية ستينات القرن الماضي، كانت البديات الأولى لنا في خوض غمار العمل الصحفي، كان (موفق) ما يزال طالباً في المرحلة الأخيرة من دراسته الجامعية في كلية الشريعة، عهد إليه زميله في الدراسة وصديقه رئيس تحرير المجلة (سامي الموصلي) الإشراف على الصفحات الثقافية في المجلة.

كنا في اندفاع الشباب الحالمين نخطو الخطوات الأولى في تعلّم فنون الصحافة. أول الحالمين (رضا الأعرجي)، الشاب القادم من النجف، يحمل بين جوانحه مشروعه الثقافي مجلة (جيلي)، كانت أولى الأحلام التي تلاشت، بعد عدد يتيم واحد صدر عنها، لم تسعفه جهوده الشخصية، في المواصلة ولا حماسه، ولا سهر الليالي، في إعداد وجمع موضوعاتها ومتابعة طبعها، اكتفى الأعرجي (راضياً) بإرث المجلة الوحيد: انه (رضا جيلي)، كما عنّت لموفق محمد خيالاته في اختيار الأسماء.

الضلع الأخير للمربع صديقنا رسام الكاريكاتير (الجيولوجي) قيس الحديثي. الساخط على العالم، سحنته (محروگة) بالسمرة، وزنه لم يتعد الخمسين كيلو غراماً في أحسن حالاته، ثمة أشياء كانت تجمعنا ملائمة تماماً لروح تلك الحقبة وجيلها الذي أدرك الهوّة الكبيرة التي تفصل بعقليتها عن عقلية الأجيال السابقة، وما كان لهذه المجموعة ومنها موفق محمد أن تجد نفسها بعيداً عن تلك الأفكار، فبدأ (فايق) - هكذا كنا نناديه - مغامرته الأولى في قصيدة (الكوميديا العراقية).

في تلك السنوات الضاجّة بالعنفوان، اعتدنا أن نجوب الشوارع والمقاهي، نجتاز دروب الليل يحدو بنا صانع المشاعر والخيالات رضا الأعرجي، ومبتكر الفرح موفق محمد في أشد حالات الضيق واليأس، والحديثي في قنوطه الدائم. ننشد الأغاني التي أشكّ أن تمحوها السنوات، مازالت محفورة في جذوع أشجار اليوكالبتوس العالية التي تظلل شوارع الوزيرية، مرسومة في أغصانها وأوراقها، أو معلقة على جدران دروب الحيدرخانة، وأزقتها الرطبة، ومقاهيها العبقة، تروي قصة شاعر من طراز خاص هو موفق أبو خمرة. الهجّاء، الساخر، العاصف المدوّي، عاش حياته مندمجاً بالأصدقاء، صانعاً ماهراً للعلاقات والجلسات، والحكايات، كان يكفيه بعض الوقت ليسخر أكثر من العالم المزيف، وأزلامه الفاسدين المزيفين.

نام الحرف يا موفق،

وغابت ضحكتك التي تخفي خلفها جروح الوطن، صمتك الآن أعلى من قصائدك، وأوجع من ضحكاتك المرّة، أكثر من نصف قرن من الرفقة، زمن تقاسمنا فيه وجعه، وعبثه.

نم يا صديقي، فقد تعبت من حمل البلاد، ونسج الأمل من خيوط الرماد.

سلام عليك في الغياب، أيها الراحل الذي لا يشبه الغياب،

كما كنت سلامًا على القصيدة

أيها المقيم في خرائط الألم العراقي،

كنتَ تُقارع اليأس بسخرية، من طرازٍ لا يُجيده سواك،

يا شريكي في الحلم والخذلان،

يا رفيق المقاهي، والمنفى، والورق الأصفر…

أخبرني، من سيسخر الآن من الطغيان، كما كنت تسخر؟ أيها الشجاع الجريء.

من سيحوّل الخراب إلى نكتة، والنكتة إلى لطمٍ شعري؟

من سيجرؤ بعدك على أن يكون شاهدًا ومتهكمًا ونازفًا في آنٍ معًا.

***

جمال العتّابي

عن تعلم رعاية وتغذية دوافع الكتابة

بقلم: ماليا ماركيز

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

يُظهر الدجاج مجموعة واسعة من السلوكيات الضرورية لسلامته وبقائه، بما في ذلك البحث عن الطعام، وتنظيف ريشه، والتعبير الصوتي المعقد. أنت كاتب، ومثل الدجاج، تحتاج إلى شروط معينة.

تشمل تجربتك، بطبيعة الحال، أن تعيش حالة وجودية معقّدة، وأيضًا- ولنكن واقعيين-البحث عن الفُتات وتنظيف الريش. تُعاني أحيانًا لتشعر بأن ما تفعله ذو قيمة، لأنك، عن طريق الخطأ، تُعلّق تقديرك لذاتك كفنان على اعتراف الآخرين بك. أنت لست بطلًا خارقًا، لا تمتلك قدرات استثنائية، ولا خلفية درامية مثيرة، ولا زيًا خاصًا ترتديه كلما احتجت إلى دفعة معنوية. ومع أنك تتمنّى أحيانًا لو لم تكن كذلك، فأنت تحتاج الناس، وتُهمّك نظرتهم.

تعمل بجد ولساعات طويلة على شيءٍ ما، ومع أنه يُنشر أحيانًا، إلا أنك، في آخر الليل، أو حين تُحبَس داخل لولب التمرير اللانهائي، تشعر بأنك لا وجود لك، وأن ما كتبته وأرسلته إلى العالم بنية صافية، قد ضاع هناك، في الفراغ. تفكّر أن لا أحد كتب كتابك. تفكّر أن الدجاجة، على الأقل، نجحت في عبور الطريق.

يمكن للدجاج أن ينام وعين واحدة مفتوحة، احتراسا من الثعالب أو الراكون أو ابن عرس. كان لك ديك في ما مضى، يحبّ أن يُعانق. جفناه الزهريّان كانا ينغلقان ببطء، نزولًا، نزولًا. كان دافئًا جدًّا وهو ملتصق بصدرِك، ريشه الأبيض وتاجه الأحمر مثل الحرير والشمع. التاج يساعده على تنظيم حرارة الجسم، ويذكّرك بأذن الإنسان. وحين تفكّر بكتابك—ذاك الذي لم يكتبه أحد—تسخن أذناك.

أنت كاتب، ومثل الدجاجة، تحتاج إلى ظروف معينة.

لا يحب الدجاج المشاركة. ليس من المفاجئ أن يقوم بعض الدجاج بالنقر على غيره، خصوصًا في الحبس. لكن إذا تُركت الدجاجات ترعى بحرّية في المروج الخضراء الوفيرة، خصوصًا إذا وُجدت الهندباء الصفراء الطازجة، فإنها بالكاد تتشاجر على المساحة أو الفُتات.

تتساءل: لماذا حين يجتمع الكتّاب، يكون ذلك دائمًا تقريبًا في أماكن مغلقة؟

ينحدر الدجاج من ديناصورات طائرة. يمتلك قدرة بصرية رباعية الألوان. تفترض أن هذا لا يعني فقط أن بصرها أقوى من بصرك، بل أن حكمتها متجذّرة في مادتها الوراثية—سابقة عليك، ومتفوّقة على إرثك كله. تتساءل لماذا هي محبوسة، وأنت حر.

تفتح بوابة حظيرة الدجاج. تركض دجاجة متحمّسة مباشرة نحو الطريق، فتصدمها سيارة عابرة. تتذكّر أن الدجاج ليس ذكيًا في كل الأمور. تفكّر في كيف أنك تواصل الكتابة، ترسل نصوصك إلى الفراغ، وترتدّ إليك أصداء بالكاد تُسمع، وفجأة يخطر لك الشعور بالتماثل. إنها نفس الدافعية، نفس الغريزة.

لا يهتم الدجاج بالمال. أما أنت، فتهتم. تكتب للأسباب الصحيحة… والخاطئة. هل سبق أن رأيت دجاجة تتذلّل أو تدير رأسها جانبًا؟ إنها تفعل ذلك لإظهار الخضوع، لتجنّب الشجار. أحيانًا يضحّي الكتّاب بأشياء عزيزة عليهم، أملًا في حريةٍ أكبر، أو مكاسب مؤجلة في زمنٍ لا يعرفونه: أفكار، حقوق فكرية، قِيَم، ألقاب، فرص، احتياجات شخصية، رغبات، أمانٍ، أهواء، معتقدات. أحلام.

الدجاج كائناتٌ قطيعية. يختلف الكُتّاب باختلاف طباعهم، لكن لا أحد ينجح بمفرده. مهما كرهتَ الاعتراف بذلك، فأنتَ كائنٌ قطيعيٌّ أيضًا.

لنتحدث عن الصوت، والإعلام، والصياح عند الفجر. صوتك، صوت شخصياتك. لنتحدث عن الحوار. هل أنت أنت أم صورةٌ كاريكاتوريةٌ عنك؟ هل تبدو شخصياتك حقيقية؟ هل تشعر أنت بالواقع؟ هل أنت حقيقي؟ هل كتبت دجاجةٌ كتابك بالفعل، أم لم يكتبه أحد؟

يجب عليك أن تقرأ وتشاهد الأفلام وتعيش وتهتم بالأشياء بنفس الطريقة التي تهتم بها الدجاجات بالطعام.

حدّثني، بصوتك الأكثر أصالة، لكن اجعله أخّاذًا (غريبًا، لامعًا، لاذعًا) عليك أن تحضر حفلات إطلاق الكتب، والقراءات، والبودكاست، والمؤتمرات، والمهرجانات. وتُنسّق اللقاءات، تملأ الرزنامة. ومع ذلك، فإن أثر الورق—الإيصالات، المواقف المحرجة الصغيرة—واللقطات المصوّرة، كل تلك "الأدلة" على أنك هنا، أنك كنت، أنك كنت تحاول، لا تزيدك إلا تلاشيًا. تنقسم في داخلك: شخصية ومراقب، نسخة جبانة من الكاتب الذي يفترض أن تكونه. يقال إن كل انتصار، مهما صغُر، يستحق الاحتفال. احتفل أيها الكاتب، مهما كانت الساعة. هذه المرة بمشاعرك.

وهنا تصل إلى أبرز ما يميّز فصيلة الدجاج، من وجهة نظر المستهلك البشري (باستثناء النباتيين، على الأرجح): قدرتها على وضع البيض ولكن لكي تبيض، يجب أن تأكل كثيرًا. الدجاج يرعى طوال اليوم، هذا هو عمله حين لا يكون رابضًا.

عندما تكون الكتابة على ما يُرام، غالبًا ما تنسى تناول وجبات كاملة، وتقتات على ما تجده في الخزائن. طعامك ككاتب ليس طعامًا، بل مادة خام. عليك أن تقرأ وتشاهد الأفلام وتعيش وتصبح مهووسًا بالأشياء، تمامًا كما تصبح الدجاجات مهووسة بالطعام.

أتذكر قصة الإوزة التي تبيض بيضًا ذهبيًا؟ أيها الكاتب، أنت تفهم. إذا لم تحصل الدجاجات على ما يكفي من ضوء الشمس، كما يحدث أحيانًا في الشتاء، فإنها إما تتوقف عن وضع البيض أو تصبح قشور بيضها رقيقة وضعيفة.

لا تعدم الدجاجات القدرة على الطيران تمامًا، لكنها لا تطير إلا عندما يكون الأمر مهمًا حقًا. الدجاجات تستحم في التراب. إذا دفنت كتبك، تلك التي لم يكتبها أحد، في تراب سحري، فإنها ستنبت. وسينمو من تلك البراعم شجرة عظيمة ستظلل جميع دجاجات العالم في الأيام المقبلة التي ستكون أكثر حرارة من أي وقت مضى.

أيها الكاتب، لقد حلمت يومًا بأنك تستطيع الطيران. أيها الكاتب، اعتنِ ببيضك بحرص شديد. أيها الكاتب، قد لا تكون من سلالة الديناصورات، لكن هذا لا يعني أنك لن تُخلد في النهاية.

***

..........................

الكاتبة: ماليا ماركيز/ Malia Márquez: مؤلفة رواية "مدينة الدخان والبحر". وُلدت في نيو مكسيكو ونشأت في نيو إنجلاند. حصلت على بكالوريوس الفنون الجميلة في الفنون ثلاثية الأبعاد من كلية ماساتشوستس للفنون والتصميم، وماجستير الفنون الجميلة في الكتابة الإبداعية من جامعة أنطاكية في لوس أنجلوس. نُشرت أعمالها المترجمة في مجلة "بويتري"، ونُشرت قصصها القصيرة ومقالاتها في العديد من المجلات والمختارات الأدبية. تعيش مع عائلتها في لوس أنجلوس، حيث تُدرّس وتكتب وتستمتع بجمال الطبيعة.

 

إنها الذاكرة الوراثية التي تحتلنا بالحماية المطلقة، وقد لا تُنعش حياتنا بزفير أكسجين طري بالنقاوة. مرات بعدد قطران الملل والتنغيص، كنت أتساءل عن عدة متاعب وفيرة تلحق بي بالمزامنة المستديمة، وأقول: ماذا يجري بحق الجحيم (يا أنا)؟ ما الذي فعلت (يا أنا) في حياتك بحق السماء؟ وحين كنت أفيق سهوا من فزع مشاهد من نار الجحيم، كنت أجد نفسي مُبللا بعرق بارد، كنت أُسارع بالتَّطْبيب للمستقبل، وليس للحاضر البئيس بؤس الواقع.

كانت بعض من قراراتي من نوعية بلسم الحياة السحري، وتمثل الجرأة وسياسة الردع المزدوجة، وألاَّ أدع أي أمر مهما كان ثقله يؤثر على ذاتي بالنخر والتسويس وحتى التعشيش في مخيلتي، بل كنت أضع لكل بداية مملة نهاية، وألاَّ أقع في ورطة تعنيف ذاتي بالقسوة وعذاب الضمير، فالأمر قد يبيت يُماثل عنف ألم السرطان، الذي يموت حتما بموت حامله.

جُلُّ البشر ولدوا بميول العنف، وهذا ما ورثناه من قابيل حين قام على أخيه هابيل وقتله. تلك كانت نهاية من لحظات موت قصص الحب، التي كانت تجعلنا جميعا ضعفاء وإلى الأبد، وبلا تطهير للذاكرة الوراثية. من مميزات حياتي غير المتجانسة، أنَّنِي أكون غير مُتزامن مع أحداث قد تبرق برقا في مخيلتي بمناورات الحدس، لكنها في الواقع كانت تَمنح لي مزيدا من الوقت للاختيار والتمييز بين الصالح والطالح، وبهذا يكون أملي الدائم، بأنِّي سأعيد حياتي بالأفضل والانتعاش، لكن هيهات... هيهات... فالحلم يبقى تحقيق رغبة ليس إلا.

لن أُخطارَ بحياتي ثانية، وسأجد في ذاتي التوأم بالتوافق والمزامنة للحظات العيش وأمل السعادة، كنت أكره أن أعود إلى الذات التي تحتلني بالطوع والمطاوعة، وغالبا ما تقيد مشاعري بالتضييق، وبلا سياج واق من صحن الحرية. فالشروع بعمليات الارتداد الذاتي، كاد يسلمني مُكبلا نحو أحداث مضنية من الماضي الفوضوي، والذي قد يَفتح مسودة ذاكرتي الوراثية في شمس حارقة، وبمسرح روماني بالفضح والضحك، والقتل الرحيم. مرارا، كنت معاكسا لكل المنعرجات الغائرة، وكنت أتبع نور الشمس الدافئ، هُروبا من هذا العالم القديم، ومن ظلي الذي يسبقني في أخذ كل قراراتي المفزعة.

لحظة، تذكرت قصة التفاحة بين النقل والعلم، ومنها كانت نبتة أول بذور عصيان للإنسان (تفاحة آدم وحاء)، وأول شرارة للعلم (تفاحة نيوتن)، لكني كنت متيقنا من قفزة الإيمان في قلبي  بقوة، والتي طبعا ترشدني "حيثما يوجد الرجال مقيدون بالأخلاق والقانون، تكون هنالك الحياة لا الموت".

هل هذه ذاكرتي التي تُفرغ اليوم ملفاتها بالتسريب وبالتطهير، وتعمل على إحياء ذاكرة العقل العقلاني؟ أين نحن من الحقيقة، ونحن نحملها معنا في النعش إلى القبر عند النهاية الحتمية؟ أقسم بالذي لا بداية له ولا النهاية له، أني لست وحيدا ولم أكن يوما كذلك في حياتي (أنا)، بل الله يرافق دربي، ويحميني بالمعالجة من عنف ذاتي. لذا فليس كل شيء يستحق الحياة في الذاكرة الوراثية، بل نفض الفوضى خلاص لمنغصات حياتي.

***

محسن الأكرمين

افتتح معرض الفنان عامر مغربي في صالة الشعب بعنوان (عزلة وفن). 2025-05-12.. يذكر انه المعرض الفردي الأول بعد تفعيل تشاطات الاتحاد في صالة الشعب من خلال سعي فيه الكثير من الحنكة والترو لرئيس الاتحاد د. محمد صبحي السيد يحيى.

 أما عن المعرض أقول:

 من خلال متابعة الكترونية لما وصلني من صور عن أعمال الفنان اسرد موجز حول تجربته المرحلية الساعية في جزء منها للانعتاق عن جسدها الأكاديمي بحثا عن مفاهيم أخرى للعمل التشكيلي (وأنا أشير هنا لأعماله التعبيرية المشغولة على عجل) رغم أن غالبية الأعمال المشاركة تنتمي للواقعية الأكاديمية عبر بناءها المتين والذي يشير أن اللوحة أخذت حقها الكامل من الوقت حين الإنجاز ولعل هذا الدافع هنا هو حق طبيعي للفنان ضمن موجة التقنيات الساعية لتأكيد فرادتها في وسط مزدحم1484 amer

لا يساورنا الشك في كم الاتقان والمهارة لدى الفنان المغربي حين مواجهة ذاك النموذج المثالي للطبيعة الصامتة أو الحية سواء كانت نموذج إنساني بورتريه أو زقاق من أزقة دمشق القديمة وأحيائها وسواء كانت تلك المواجهة مباشرة أو كانت صورةً وتصوراً مثالي يلح في ذاكرة الفنان ولعل إتقانه هنا كان دافعه للبحث أكثر حول ماهية الفن والغاية منه إذ سعى لتحميل لوحاته أفكارا استطاعت احتمالها   (رغم المطبات التي قد تسببها الفكرة) حين ربطها بعذابات الانسان وتطلعاته لحياة حرة كريمة في ذاك الزمن الصعب

 لعل حاجته الملحة لتأكيد موقف انساني اتجاه حدث ما ولد تلك الصورة ولعل إلحاحها كان خادما كما مهارته لتبدو لوحته التي تصور ذلك الانسان المقيد أكثر محاكاة لتلك الفكرة التي يريد أن يشير فيها إلى أننا لم نعد قادرين على فعل شيء.. سوى الانتظار.. سوى التطلع لقادم أكثر رأفة.. يحررنا من أفكارنا.. و يبقى أن نقول: نحن معلقين على حبال الأمل.. فبعد كل عسر يسر.. والأمل دوما يسري في قلب النقوس المؤمنة حين تختبرنا الحياة في زمن الأزمات1485 amer

تكشف لوحته الحمال عن مهارة في التلخيص ليلوح منها نفس قد يأخذه تقنياً لاتجاهات أكثر تجريداً تفوح من عجينة اللون الممتدة لتختصر وتلخص وتبسط

ويبدو ان تلك اللوحة كان يمكن لها أن تكون المخرج الطبيعي والأكثر سلاسة لتطور لاحق قد يطرأ على لوحته وهو الباحث عن بصمة فريدة له في عالم الفن وربما سيكون لوجود مجموعة بهذا النفس اثرها الايجابي على تجربته بالكامل.. وفي الاتجاه الآخر أقول إن سعي الفنان للوحة تعبيرية ترصد مواقفه الحياتية أوقعه في فخ الاستعجال اذ قدم كروكيات خطية وبالخط الأسود العريض كان يمكن أن يرجئها إلى أن تكتمل تجربته وتنضج لتخرج أكثر فرادة وخصوصية بحيث تحقق الغرض منها وغايتها كلوحة تعبيرية.. فالتعبيرية مرتبطة بتداعيات الذات وبقدرة الفنان على الإمساك بخيط المشاعر والأحاسيس في رعشات الخط وجنونه وفي سطوة اللون وحضوره.. التعبيرية نفق للعبور وأرجو أن يكون معرض الفنان عامر مغربي بداية تمنحه حق العبور لما بعد واقعيته الأكاديمية التعليمية والتعلمية ويكفيه أن معرضه هو أول نشاط فردي تقيمه صالة الشعب في العهد الجديد وكل عام وصالة الشعب والمغربي والجميع في هذا الوطن الغالي سعيد

***

الفينيق حسين صقور

على مضي الزمان، واختلاف الظروف، ما زالت نفسي تخضع لهذا الفن الراقي سواء أردت أو لم أرد، ولعل ترددي من سماع هذا الفن الفريد،  كان نابعاً من شكي بأنه ينطوي على خرافات وأساطير، ومن خشيتي رغم جهلي الفاضح بلغته، بأن له دعائم وطيدة بعقائد وثنية، تعرض الخالق عرضاً يجعله أشبه بالإنسان في الخصال، والسلوك، والطباع، ولكن من حسن الحظ أن الفن الأثيوبي على كل حال، لا يهتم كثيراً بفلسفتي الجوفاء تلك، ولا بهواجسي التي لها ما يبررها، لأنه مطمئن إلى هذه المكانة الرفيعة التي حازها في أفئدة القارة، ولاقتناعه بأنه أصبح من الخالدين.

ومهما يكن الغرض الذي دفعني للشروع في كتابة هذا المقال، فأنا أيها العزيز الأكرم، أبعد الناس من تحليل سمات هذا الفن الرفيع، وعرض خصائصه عليك، رغم أن هذا الأمر خليق بالعناية، فهو كما نعلم، لا يخلو من لذة قوية، وجذل كثير، لكل من صغى إليه، وأخذ نفسه بألوان من الطرب والابتهاج، فأنت حينها حتماً ستعترف بما ليس من الاعتراف به بد، بأنه قد شغلك ساعة ما، أو وقتاً ما، عن الاستماع لفنك السوداني الذي ظن واهماً بأن ذاتك موضعاً لاحتكاره.

 وفي الحق أن أرباب هذا الفن المجيد في ذلك القطر الجميل المتحضر، قد وفقوا توفيقاً عظيما، من أن يدنو منا فنهم هذا، رغم اختلاف اللغة وتباينها، ومن أن نحب هذا الفن، ونجد لهذا الحب صدى في مهجنا، فأخص ما  يمتاز به شدوهم، وترنيمهم، أنه يجبرك على أن تظهر له رضاك، وأن تمضي معه وأنت مطمئن، وقانع، بأنك لن تضيع وقتك عبثاً، أو أنه لن يضفي على دواخلك تلك النشوة التي لا تجدها إلا كل حين وحين.

 ولعل أشد الأشياء ايذاءً للنفس، وايلاما للقلب، جهلنا بهذه اللغات التي يتغنى بها مبدعي تلك الديار، فالحقيقة التي لا تحتاج منا لمراء أو مماحكة، أن هذه الطائفة قد نجحت نجاحاً لم يتح لغيرهم من شرق أفريقيا، لما في فنهم من ألق عذب، وحماسة متقدة، وتفرد في المقامات والايقاع والدفوف، فمما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن أغلب الشعوب التي تحيط بهم، قد أنفقوا كل أعمارهم أو بعضها، في الاستماع لسحرهم وبراعتهم، وأن هذا السحر قد ترك أثراً في أفئدتهم دفعهم دون اكراه، أو ارغام، أو عنف، لمشاركة أثيوبيا هذا كله، بنفس الانفعال والشعور والوجدان، ليس فهماً أو حفظاً، فقد انقطعت بيننا وبين ذلك الأسباب، ولكننا نقول بصوت متهدج، ولسان متلعثم، أن مشاركتنا تتمثل في ولعنا، وشغفنا بهذا الفن الذي يرفع الكلفة، ويلغي الفروق، وإذا كان لكل هذا الحديث نتيجة، نستطيع أن  نستخلصها ونمضي بها إلى غاية يمكن أن ننتهي إليها، هي أن عوالم الفن الأثيوبي الجميل وقوالبه الموسيقية الضاجة بالبهجة والمكتظة بالثراء، لا يمكن استقصائها في مقال عابر، فهي شديدة التفرد، مختلفة التنوع، تحتاج إلى وقوف طويل، وسرد كثير التفصيل.

***

د. الطيب النقر

يتساءل معلمي: هل أدركت يوما لماذا نغادرُ هذا العالم الفسيح

قبل أن نُتمَّ ما بدأناه من أعمال؟

هل علمت عن الشعراء رحلوا وتركوا قصائدهم نهبا لأيدي ورثتهم، فبقيتْ القصائد حبيسة الأيام؟

وهل ترى ذلك الشاب الواقف على أعتابِ الحياة، يحلم بامرأةٍ لا تُشبه نساءَ العالمين؟

لقد ترك قمصانه الزاهية وبدلته الجديدة التي لم يرتدها سوى مرة واحدة يتيمة.

هناك.. طفلٌ صغيرٌ يعدُّ على أصابعه منتظراً (عيديته) مع إشراقة كل نهار: لكن الشمس تشرق وتغرب دون أن تصله.. يفتح عينيه ليجد نفسه وحيدًا محاطاً بالقبور.

**

يا أيُّها الجنديُّ المغامرُ تجلسُ في مكانٍ تكشف منه ما حولك، وتكون مكشوفا لمن حولك، تظنُّ أنَّك في مأمن عن العدوِّ، وأنَّ خصمك على وشك الاصطياد. تغمضُ عينيك فترى حبيبتك تنتظرك في ما تبقّى من ساحة (الميدان). تستظلُّ من قيظ الظهيرةِ، وتنظرُ في ساعتها ثم تعود نحو أدراجها تفتح عينيك فلا تجد من يحتضنك، تدورُ حولَ نفسِك بأعصاب لا تعرف الهدوء.

**

أيُّها المغامرُ في دروب اللذاتِ تشتاقُ إلى ملذاتٍ جديدةٍ، الى امرأة يقطرُ العسل، وتفيضُ ندًى لرجلٍ مثقلٍ بالرجولة، يصطادُ تلك الملذاتِ. يصمتُ فجأة، فتتهاوى الملذاتُ من جيبِ سروالِهِ، وتتدافع الأيادي لتهيل الترابَ على رأسهِ المكتنزِ بالفواتيرِ.

***

د. جاسم الخالدي

إننا هنا، على مشارف الساعة الخامسة والعشرين، حيث لا مجال للعودة الى الذات فهي اللحظة التي تسقط فيها كل الاعتبارات البشرية، ويساق عندها الانسان الى مصيره المنحوت من قبل السلطة، فنروم السير طوعاً نحو أروقة فسيحة، مكتضة، تهيأ لاجسادنا الحركة والمرور وتضيق على عقولنا أفاق التأمل والفكر، انها اروقة الوهم، تظن أنها ستصل بك الى مرادك ولكنها تمدد نفسها كلما دنوت من وصل نهايتها ولأن جزء منك من طبيعتها فلن تستطيع مقاومة أمتدادها فتتمطط معها كينونتنا فنصير ذواتاً ألية بأفراط حتى نظل نسعى الى الامتداد، وننسى حقيقة اننا ذوات مبصرة ايضاً.

أدر ببصرك نحو جوف رأسك، ماذا ستجد؟

ستسكن في لحظة مقتطعة من زمان ما تصور لك عالماً لطالما شعرت بالحنين أليه، تظن أنك تسعى لبلوغه، ولكنك تسعى الى طويه في بعده الخاص، يظل شاذاً غريباً عن رواقك المعتاد تحاول جاهداً ان تعود اليه في لحظة من الزمن الالي، الا انها تتقاطع مع خاصية ذلك الزمان، فتستمر في تمطيط ذاتك برواق الوهم، متأملاً ان تعود الى لحظة الابصار المباغتة التي تضمحل حالما تصل نهاية الرواق عند باب المؤسسة، الذي ينقلنا الى بعد ثالث من العالم، وهو الوضاعة.

 ينتزع عنا اصالتنا طوعاً منا بطريقة لا واعية، قد تجد ان الطواعية واللاوعي لا يتفقان، ولكن عالم المؤسسة لا يخضع لشروط العالم الطبيعي، انه منظومة تقوم على مبدأ الرثاثة الذي يتحول الى غريزة انسانية لا يمكن مقاومتها تحاول جاهداً ان لا تنصاع الى قانون الوضاعة الا انها الرثاثة غريزة الانسان المؤسساتي، فهي اشد فتكاً من غرائز الجسد التي مقتها افلاطون في جمهوريته، تسجننا الرثاثة في جوفها بين اعمدة متهالكة ومساحات فقيرة نصل بواسطتها الى لحظة المماهاة اللاواعية، نظل فيها ساعات نتبادل احاديث رثة، تمر عليك روائح رثة وتحاصر بوجوه مقفرة غادرها الدفء كأنها بقايا أرواح اجهضت تحت وطأة الرثاثة.

 ثم تنظر الى الرواق فتعود اليه وعندما تخرج تتذكر ذاتك المبصرة تراها تنظر أليك خارجة عنك لم تعد في جوف رأسك، تريد وصلها ولكن الرثاثة انهكت جسدنا، عقولنا، معدتنا، معاييرنا بمجملها، فتدير ببصرك عن كينونتك لأنك في أرتباط رسمي مع الرثاثة المؤسساتية فهي وبأستعارة من بودلير:

شيطان يضطرب بغير انقطاع الى جانبي

يسبح من حولي كهواء لا يمكن لمسه

فابتلعه وأحس به يلهب رئتي

ويلمؤها شهوة أثمة أزلية ...

***

زهراء ماجد

 

الأدباء طبعا بشر وإن كانوا من طينة مغايرة، تأبى الاستسلام للواقع وتُنشئ من عُصارة قلبها ووميض روحها سُلماً إلى عوالم أكثر إشراقا وإنسانية.

وما داموا بشرا فمن حقهم أن يبُثوا مكنونات شعورهم، ودقائق أحاسيسهم، وزلاتهم البريئة والآثمة إلى من اختاروهم مستودعا لأسرارهم. وهذا الجانب الإنساني المشترك قلما يعرِضُه الأديب في ثنايا إصداراته المألوفة، حيث جرت العادة أن تكون رسائله إلى بعض المقربين منه هي المتنفس لعواطفه وبعض مواقفه وانطباعاته، وأحيانا لتقلبات مزاجه!

هذا اللون من أدب الاعتراف يبدو مألوفا في الحياة الثقافية الغربية. ولا شك أن القارئ الكريم يتذكر اعترافات جان جاك روسو، وأندريه جيد، ورسائل فرانز كافكا إلى ميلينا، وكتاب (من الأعماق) لأوسكار وايلد وغيرها. أما في مشهدنا الأدبي فقلما يبوح أدباؤنا بجوانب ضعفهم أو تجاربهم العاطفية، لأننا كما يقول الناقد المصري رجاء النقاش مازلنا نميل إلى الظلال والتلميحات والإشارات البعيدة، بدلا من النور الكاشف والضوء الصريح، وهذا يمثل بكل تأكيد عائقا أمام الدراسات الأدبية المعاصرة.

بين أنور المعداوي وفدوى طوقان

من النماذج التي تحتفظ بها المكتبة العربية، بعض الرسائل المتبادلة بين الناقد الأدبي المصري أنور المعداوي والشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان. وهي في الحقيقة وثائق حية تضيء الجانب الإنساني من حياة أنور المعداوي، الذي اشتهر آنذاك بكونه فارس النقد والمعارك الأدبية مطلع الخمسينات.

نشأت بين الإثنين أخوة صادقة سرعان ما تحولت إلى حب عذري، يفيض رومانسية وبساطة، وسعيا للانفلات من قيود الألم الخاص الذي طبع مسيرة كل منهما. فأنور عانى من مرض الضغط والكلى، ومن اللامبالاة بعد سنوات من التألق الأدبي في مجلتي الرسالة والآداب اللبنانية. أما فدوى فكانت البيئة المشرقية بتقاليدها وتزمتها تخنق روحها الشاعرة التواقة إلى الحرية واستعادة الكينونة.

يقول أنور في إحدى رسائله:" أنا أشعر أن كلينا ولو أنه يعيش في وطنه، محتاج إلى وطن كبير، إلى ذلك الوطن الذي ينسى فيه غربة الروح، الوطن الشعوري الذي يتحول فيه كل اثنين إلى واحد، ويصبح هذا الواحد هو كل الناس. أليس كذلك يا فدوى؟ يا وطني الذي اريد أن أرحل إليه؟ ".

إلى جانب القيمة الجمالية التي يعكسها قلم مرهف الحس، وروح جريحة ارتطمت مِثاليتُها بصخرة الواقع الدامية، لم تخل الرسائل أيضا من قيمة موضوعية تجلت في عرض جوانب من الحياة الأدبية، وطبيعة التفاعل النقدي مع التجارب الناشئة، ثم انطباعات عن الفن والحياة.

هي رسائل في اتجاه واحد، بعد أن أتلف المعداوي رسائل فدوى قبيل وفاته بطلب منها. لكنها في الآن ذاته شهادة حية على أن الإنجاز الأدبي كلما اقترن بالتعبير الصادق، فإنه يؤسس لعلاقات إنسانية جديدة سِمتُها الشجاعة الروحية.

بين مي وجبران

نشأت بين الأديبين مي زيادة وجبران خليل جبران إحدى أغرب قصص الحب على الإطلاق. كانت علاقة متوترة ومتفردة، استمرت تسعة عشر عاما من التقلب بين جمر الرسائل، دون أن يطوي أحدهم المسافات للقاء الآخر.

خلّدت الرسائل التي تولت سلمى الحفار الكزبري تحقيقها وإصدارها تحت عنوان (الشعلة الزرقاء)، سطورا تنبض بالمشاعر الإنسانية العميقة، والأحاسيس الملتهبة، والمحاورات الممتعة بين قلمين بالغي الحساسية والكشف.

لما أنهت مي زيادة قراءة قصة (مرتا البانية) لجبران عام 1912، أرسلت إليه خطابا تنتقد فيه القصة، وتحكي عن نشاطها الأدبي وديوانها (أزاهير الحلم) الذي كتبته بالفرنسية. ولم تتوقع بطبيعة الحال أن جبران الذي ذاعت شهرته في الأوساط الثقافية سيحفل بخطاب كتبه قلم ناشئ؛ إلا أنها فوجئت بطرد يضم نسخة من روايته الجديدة (الأجنحة المتكسرة)، وكلمات تشجيع على مواصلة الكتابة، وتجاوز أنماط التعبير المألوفة في المشرق:" ما أجمل رسائلك يا مي وما أشهاها! فهي كنهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنما في وادي أحلامي، بل هي كقيثارة أورفيوس، تقرب البعيد وتبعد القريب، وتحول بارتعاشاتها السحرية الحجارة إلى شعلات متقدة، والأغصان اليابسة إلى أجنحة مضطربة.."

توالت رسائل جبران لتوقد في موهبة مي شعلة الكتابة الإبداعية، وتستفز ملكاتها التعبيرية بما تملكه من رهافة حس وشعور فني عميق، لارتياد عالم التشكيل، ونفخ الروح في التصاوير وقطع الرخام. كانت لكلماته وقع السحر في نفسها لتبدأ رحلة التعلق بجبران. فبخلاف أدباء آخرين أغرقوها بالمجاملات والثناء، تمكن جبران من وضع يده على مفاتيح حيرتها، وشحذ مخيلتها بحديثه عن عشقه للرسم، وانطباعاته عن المعارض التي يرتادها، واللوحات التي هزت أعماقه؛ بل وحرص في إحدى رسائله على تخليد علاقته الفريدة بمي من خلال رسم يمثل يدا تحمل شعلة زرقاء.

وجدت مي من يستوعب تمردها، ويشد من عزمها إزاء شرق يغالي في فصل المرأة عن النوع الإنساني الذي يحصره في الرجل. كان جبران هو "ابن البلد" الذي قاسمها الحنين إلى لبنان، ومسحة الحزن التي تخلفها أجواء الدير وتربية الراهبات، والتوق إلى عوالم إنسانية غير مشدودة إلى الحدود والقيود: " شعرت منذ أعوام بأنني وجدت وجهة قلبي، وكان شعوري حقيقة بسيطة واضحة جميلة، لذلك تمردت على القديس توما وبنصر القديس توما حتى يتركنا في خلوتنا السماوية، مستسلمين إلى إيماننا السماوي."

بين غسان كنفاني وغادة السمان

حين يكون الكاتب فلسطينيا فالعادة أن تستحوذَ الأرضُ على مقام العشق، وأن تفيض الريشة بألوان الحزن والمأساة وفجيعة الاحتلال. وقد ندفع بالصورة إلى أقصاها حتى تتبدد ملامحُ الإنسان أمام صلابة المناضل وأبديَتِه. وهنا تستوقفُنا الأديبة السورية غادة السمان كي تعيد لغسان كنفاني بساطته وإنسانيته، عبر الاحتفاء برسائله التي أضحت وثائقَ أدبية، وتحررت بالتالي من الخاص والحميمي لتصبح جزءا من الذاكرة الجمعية.

تقول غادة السمان في تقديمها لرسائل غسان:" ثمة ميل في الأدب العربي بالذات لرسم "المناضل" في صورة السوبرمان، ولتحييده أمام السحر الأنثوي وتنحيته من التجربة. وفي رسائل غسان صورة للمناضل من الداخل قبل أن يدخل سجن الأسطورة". وهكذا تعرض غادة حَيُثيات تطور العلاقة من تصرف شهم إلى انجذاب ثم حب متوهج يتردد بين ثنايا السطور:

"أنتظرك وسأظل أريدك وأنتظرك، يقول غسان، وإذا بدَّلكِ شيء ما في لندن، ونسيتِ ذات يوم اسمي ولون عيني فسيكون ذلك مواز لفقدان الوطن. وكما صار في المرة الأولى سيصير في المرة الثانية: سأظل أناضل لاسترجاعه لأنه حقي وماضيَّ ومستقبلي الوحيد.

لم يفقد غسان حسه النضالي حتى أمام عذابات الحب والاشتياق والانتظار. بل إن ثوراته الرومانسية فجرت مكنوناتِ إبداعه كما يلاحظ القارئ في بعض تعبيراته التي تمزج الرقة بالتحدي: " لقد صرتِ عذابي، وكُتب علي أن ألجأ مرتين إلى المنفى، هاربا أو مرغما على الفرار من أقرب الأشياء إلى الرجل وأكثرِها تجذراً في صدره: الوطن والحب. وإذا كان عليَّ أن اناضل من أجل أن أسترد الأرض، فقولي لي، أنت أيتها الجِنية التي تَحيكُ كل ليلةٍ كوابيسي التي لا تُحتمَل، كيف أستردك؟"

قوبلت الرسائل بعد نشرها بعدم ترحيب واستنكار لأنها تمس صورة غسان كنفاني الثائر والمناضل. لكن الحقيقة أن غادة أفصحت عن بُعد إنساني صادق من شخصيته، يُوازن بين نقاط القوة التي أشاعها نضالُه، ونقاط ضعف يتقاسمها مع سائر البشر. ويجد فيها الدارس معلومات توثق لميلاد بعض إصداراته الأدبية، ومواقفه المُشبعة بالمرارة والسخرية.

تقول غادة: "ذات يوم كنت وحيدة ومفلسة، وطريدة وحزينة. فشهر بعض (الأصدقاء) سكاكينهم بانتظار سقوط (النعجة)-على عادة الدنيا معنا. يومها وقف كنفاني إلى جانبي وشهر صداقته. كنت مكسورة بموت أبي، ومحكومة بالسجن لذنب أفخر به. ولكن غسان أنجدني بجواز سفر، ريثما صدر أوائل السبعينات عفو عام شَمِلني". ولعل في نشر الرسائل التي تحمل نبض قلبِه عُربونَ وفاء وتقدير لمُناضل ووطني من نوع فريد.

تفتح الرسائلُ عوالم الأدباء الداخلية، وتعرض لقطاع واسع من القراء أمزجتهم وأحوالهم، والمناخ النفسي والفكري الذي أنضجَ كتاباتهم بعيد ا عن الحذر والتكلف. وفي ذلك تأسيسٌ لأدبِ المواجهة والاعتراف، وتشجيعٌ على الإبداع الذي يؤثر في المجتمع تأثيرا حقيقيا بعيدا عن أقنعة التنزيه.

***

حميد بن خيبش

آريس.. هدية النور الذي انبثق من صمت الانتظار

مهدات لولدي فرات  

***

لم أكن أعلم أن الشوق يمكن أن يُترجم إلى فرحٍ يؤلم القلب لشدة ما يحتمل. لم أتصوّر أن لهفة اللقاء قد تتحوّل إلى غصةٍ من الفرح النابض، يتخبّط في الصدر كطائر حبيس، جناحاه من لهفةٍ ودموع.

اليوم، جاءتنا البشرى كنسمةٍ تتسلل إلى القلب في ظهيرة دافئة، كنسمة هاربة من صدر السماء. لم تقرع الأبواب، بل تسللت إلينا همسةً دافئةً، تحمل في كفّيها اسماً سلسًا كالعسل، سهل النطق، عميق الأثر: "آريس".

"وُلدً آريس..."

حفيدٌ ثانٍ… من ابني الثاني. يا لهذا الترتيب الساحر، كأن الحياة ترتّب أفراحها على مهلٍ، تخشى أن تهبنا كل النعيم دفعةً واحدة، خشية أن تتسع قلوبنا فرحًا فتنفطر.

قلت لنفسي: تدور بنا الحياة، نعود كما بدأنا، ولكن بأدوار جديدة.

كان حينها قلبي بين نسمة ربيعٍ ناعمة، وجمرةٍ متّقدة. لا يعرف أين يسكن فرحه، ولا كيف يروض هذه العاطفة الجارفة. أريد أن أراه... أن أعدّ أصابع قدميه الوردية... أن أضع أذني على صدره لأسمع موسيقى أنفاسه الأولى، أن أطمئن أن الحياة قد غنّت له أول أنشودتها.

فهو هناك، في مدينة بعيدة، في حضن والديه، في اللحظات الأولى التي لا تُقاطع.  ويحيط بها ستار اللحظة الخصوصية، وتعب المخاض، وانشغال الروح بالجديد القادم.

ونحن هنا، نحاول أن ننتظر بصبر من لم تُخلق فينا له القدرة.

نتفهم... نرأف بهما وبأنفسنا... ننتظر.

كنا نتحرّق شوقًا لصورة... مجرد صورة. وجه الصغير ينام، يدٌ تقبض على إصبع أبيه، قدم وردية ملفوفة بسوار المستشفى. كنا نترقّب، نحاول ألا نثقل اللحظة عليهم. نُداري شوقنا كما يُدارى السر الجميل في القلب.

جلست قرب النافذة، أعدّ الساعات ببطءٍ مُتعمّد، كأنني أخاف أن أتجاوز لحظةً ما دون أن أكون مستعدة لها.

أغمضتُ عينيّ... وإذا بي أراه. ليس آريس، بل أباه. يعود بي الزمن، سبعة وثلاثون عامًا إلى الوراء، لطفل خرج إلى الدنيا مبكرًا، قبل موعده بأسبوعين، تمامًا كما فعل ابنه اليوم. أتذكر ظهيرة الثالث من تشرين الأول، حين فاجأني نزول الماء بلا مقدمات. لم أشعر بألم، بل فقط بدهشة مبللة بالدموع. وحين وصلنا إلى المستشفى، وُلد فرات.

أتذكر يديّ المرتعشتين حين حملته أول مرة، ووجهه الصغير المتورد كزهرة صباح. لم أكن أصدق أنه لي، من دمي، من عمري. كان الزمن كله يتكوّر في حضني آنذاك، واليوم... ها هو، رجل، أب، يحمل ابنه في يديه، ويهاتفنا مطمئنًا. أتذكر يدي المرتجفتين وهما تمتدان نحوه، كأنني ألامس معجزة. كان صغيرًا هشًا، وكنت أمًا، مذهولة، كأن الزمن كله قد تكوّر في حضني آنذاك.

كان شبيهًا بي، قالوا يومها. واليوم يقولون إن آريس يشبه أباه. فهل أجد فيه ظلالي أيضًا؟ نبرةً من صوتي؟ لمحةً من عينيّ؟ ضحكةً وُرثت عني دون أن يعرف أنها كانت لي؟

ننظر إلى الهواتف، نراجع الرسائل، ولا شيء بعد. أحدّث نفسي: "صورة واحدة فقط يا بني... حتى وإن كانت باهتة، مشوشة، مرّت عبر أثير العالم كله… أريد أن أراه، فقط أراه".

ثم... جاءت اللحظة.

“وصلت الصورة”.

توقفت الدنيا في بيتنا. كل شيء صمت، وكأن العالم بأسره انحنى ليرى هذا المولود الجديد. بأيدٍ مرتعشة، فتحنا الصورة.

وهناك، كان آريس. ملفوفٌ كهديةٍ سماويةٍ لا تُقدّر، كأن الملائكة قد سلّمته إلينا من بين السحاب.

وجهه ساكنٌ كنسيم الفجر، نائمٌ في حضن وسادة من نور، كأن الله قد أرسله ليملأنا من جديد بالأمل.

بكيت فرحا... بكيت كما لم أفعل منذ زمن. دموعٌ من فرحٍ خالص، لا تشوبه سوى رعشة الحب.

كل المسافات انهارت بيننا، كل المدن، كل الجدران، اختُصرت في صورة.

مددت يدي نحو الشاشة، كأنني ألمسه، أضمّه، أُخبره من وراء الأثير: "ها نحنو، جدتك وجدك، نعدّ الأيام حتى نراك. لا تعرف كم نحبك، وكم انتظرناك، وكم من الدعاء طرزنا به اسمك قبل أن تُولد".

آريس... لم تكن مجرد حفيد. كنتَ بدايةً جديدة، ضوءًا آخر يتسلل إلى فسحة العمر، وردةً أزهرت في فصلٍ لم نكن نحسب له أن يزهر من جديد.

كنتَ هدية... هدية من نور.

***

سعد الراعي

 

(اقترب ممن يفتحون في روحك نوافذ من نور ويقولون لك.. أنه في وسعك أن تضيء العالم).. شمس الدين التبريزي

تستهوني الروايات والأفلام ذات البعد الروحي أو الصوفي فهي تلامس شيئا في الأعماق .

فلم ٩٠دقيقة في الجنة لعام ٢٠١٥ يعتبر ليس حديثا كما أن الفكرة مطروحة في العديد من الأفلام حول قس شاب ومحب يتعرض لحادث يموت لمدة ٩٠ د ومن ثم يعود للحياة ليمر برحلة استشفاء مريرة، لن أتوقف عند التصوير والأخراج والتمثيل بل عند نقطتين:-

- المعجزة في الإيمان نفسه، فلا تنفرد الأديان السماوية بالمعجزات الإيمانية، بل حتى الأديان الوضعيه، فحالة الإيمان بحد ذاتها وعمقها في الوجود البشري،والحاجة الفطرية لهذا الإيمان الذي لولاه لأصبحت الحياة قفراء لامعنى لها، ولا أمل يحيل سواد الليالي لنور يضيء الدرب المعتم، لولاه لم تهدهد الأم وليدها، لتهمس في أذن الكون آيات الحفظ والصون، وبدونه ماكانت مواويل المتعبين تهدأ موج البحر الهائج وكما يقول الرفاعي (انا كائن ميتافيزيقي لا تتحقق ذاتي الا حين يتحقق إيماني”، فلا سكينة وسلام يعم هذا الكون  ''وحده الإيمان يثري وجودنا ويكرسه، إن كان الإيمان يتكلم لغة المحبة والرحمة والسلام”الرفاعي من كتاب (الدين والظمأ الأنطلوجي)، وقد تكون هي رسالة الفلم التي سعت لنشرها أن الجنة حقيقتها بهذا الإيمان الذي يجعل الإنسان قادر على تحمل أشد الآلام والعذاب توقا لها .

- الفلم يسلط الضوء على نقطة جدا هامة والكثير منا يستشعرها وخاصة الذين يعمر قلوبهم حب الآخرين ورسالتهم خدمة ومساعدة الناس ( لماذا لا تسمح للآخرين مد يد المساعدة لك وخدمتك، أنت خدمت وساعدت الآلاف، قالها غاضبا بوجهه قس متقاعد جاءه زائرا)، تحت الكثير من المسميات ما أريد أثقل عليهم، عندي عزة نفس، ما أريد أحد يشفق علي، نرفض الاستقبال، تعلمنا نعطي وما تعلمنا ناخذ وكأن الأخذ عيب، تعلمنا ما نقول لأحد لا، ونهرع لمساعدة الآخرين ونعرف كم تجلب هذه المساعدة وهذا العطاء من سعادة لنا، ولم ننتبه أن الآخرين كذلك يسعدون فلم لا نسمح لهم بذلك ؟!، أتذكر في شبابي كثيرا ماكنت أنقد أمهاتنا والكبار منا بأن لماذا تحرموننا من شعور السعادة بمد يد المساعدة لكم، حين يرفضون أن يثقلوا أولادهم ومحبيهم بأي طلب، ويتحملون آلام المرض خوفا من إزعاجهم، وكبرنا وبتنا مثلهم، عزتي لا تسمح، انا غير محتاجة، الله يغنينا عن مساعدة الآخرين، لا أحتاج شفقة أحد .

الاستقبال كما تذكر حنان الشهري في إحدى أمسياتها بأنه عضلة تحتاج لتدريب وتدريب حتى نشرع نوافذنا لاستقبال النور، ونحن قد نكون ضمن ثقافة لم تعتد الاستقبال، فننحرج من استقبال مديح أحدهم، ونستغفر الله وكأن قبولنا نوع من الكبرياء، (المؤمن من سرته حسنته)، وقد يرجع رفضنا للاستقبال ايا كان نوعه مديح أو هدايا أو مساعدة مادية أو جسدية أو نفسية، لا شعوريا وكأن قبولنا للمساعدة اعتراف بالنقص أو الحاجة .

الفلم سلط الضوء على هذه نقطة بشكل جميل وسلس من حيث الدعاء الجماعي حين لا نملك ما نقدمه، الدعم المعنوي للقس ولزوجته من خلال الزيارات وتواجدهم حولهم طيلة أيام الأزمة، كان يرفض زيارتهم حين طالت إقامته بالمستشفى من باب عدم الثقل عليهم وحبا فيهم، وحين استوعب الدرس وفتح قلبه قبل نوافذه، امتلأ المكان نورا، ولمس الفرق في تعاطيه وتحمله للآلام، الألم يخف بالمشاركة، والعزم يزداد حين تمتد أيادي المحبين لتشد على يديك، حتى الحزن يخف تدريجيا حين ترى دموع محبيك وأخوتك تشاركك الوجع، التناوب في التواجد معه حين عاد للمنزل كان رائعا، العائلة ومساندتها، الأصدقاء، الكثير ممن ساعدهم، أدخل على قلوبهم السرور حين أحتاج مساعدتهم، واستقبلها برحابة صدر، الاستقبال مهارة تجعلنا نحب الآخرين حين نحب أنفسنا (حب لأخيك ما تحب لنفسك) .

***

منى الصالح

لندن ٢٠٢٥

 

حين كانت الثقافة "زي الفل"!

في زمنٍ كان فيه العالم يقرأ "أولاد حارتنا" تحت الغطاء خوفًا من حرقها، ويتهافت على سينما مصر كأنها قطعة حلوى من "حلواني"، كانت مصر تمتلك مفاتيح الثقافة العالمية: نجيب محفوظ، يوسف شاهين، أم كلثوم... وغيرهم من "العباقرة" الذين حولوا الثقافة إلى صناعة تصدر كالقطن. اليوم، تحولنا إلى دولة تصدر "الضحك على الذقون" في برامج الكواليتي، وتتفنن في إنتاج المسلسلات التي تخلط بين الدراما والكوميديا السوداء دون قصد!

أولاً: وزارة الثقافة.. حين يتحول "الفرعون" إلى "تمساح"!

الوزارة التي كانت تشبه "خلية نحل" إبداعية، صارت أشبه بـ"مكتبة الإسكندرية" بعد الحريق: الجميع يتحدث عن عظمتها السابقة، ولا أحد يعرف ماذا يفعل بالركام الحالي! الاجتماعات الرسمية تذكرنا بفيلم "الكرنك": نفس الحوارات، نفس الوجوه، نفس الوعود بإنشاء "مدينة ثقافية" ستفتتح بعد 20 عامًا (أو بعد ما ينتهي مترو الأنفاق).

المشكلة ليست في عدم وجود مبدعين، بل في أن البيروقراطية حوَّلت الثقافة إلى "مشروع مربوط بخيط". أي فكرة جريئة تقابل بـ: "إحنا مش عايزين مشاكل!"، وكأن الثقافة يجب أن تكون كـ"الشاي السايب": خفيف، سكري، ومجمع عليه من الأمن القومي!

ثانياً: المثقفون الطواف.. أو "الهجرة من الواحة إلى الصحراء"!

في الماضي، كان المثقف المصري يدعى إلى مؤتمرات دولية كأنه "ملك". اليوم، صار مثله مثل "الكنافة النابلسية": موجودة في كل مكان، لكن الأصلية نادرة! بعضهم هاجر إلى الخليج يحمل حلم "التمويل"، والبعض الآخر تحول إلى "إنفلونسر" على السوشيال ميديا لبيع الوهم بدلًا من الفكر.

النتيجة؟ "ثقافة الشتات": مبدعون يكتبون عن أزمة الهوية المصرية من مقهى في برلين، بينما الجمهور المصري مشغول بمناقشة هل "الأرز مفلفل ولا لا؟".

ثالثاً: الثقافة الشعبية.. حين يتحول "التابو" إلى "تيك توك"!

لا ننكر أن "الثقافة الشعبية" المصرية لا تزال نابضة بالحياة، لكنها تشهد تحولاتٍ غريبة:

- "الموال" تحول إلى "راب" فيه شتائم بطلت تفهمها الجدة.

- المسرح تحول إلى "استاند أب شو" هدفه إضحاكك حتى لو كان الثمن إهانة ذكائك.

- الرواية الأكثر مبيعًا هي "كيف تصبح مليونيرًا في 10 أيام" (الطبعة المصرية: "بعد ما تورث أو تتجوز").

والدولة؟ تصرف الملايين على مهرجانات غنائية يغني فيها "النجم" عن "الفساد والغلاء"، بينما الجمهور يهتف: "دي مش مشكلتنا.. المهم الرتم يعدي!"

الحلول: خليني أتفلسف شوية!

1. اللامركزية الثقافية: لماذا لا تتحول كل محافظة إلى "جمهورية ثقافية" مستقلة؟ أسيوط تُنتج مسرحًا ثوريًا، والإسكندرية تستعيد سينما الفن، والصعيد يصدر "أغاني المواويل" بدلًا من تصدير العمالة!

2. الثقافة كـ"صناعة": بدلًا من انتظار الوزارة، لماذا لا نخلق منصات تمويل جماعي لإنتاج أفلام ومسرحيات؟ (مع ضمان أن اللجنة الفنية ليست مكونة من "أصحاب الأسماء العريضة" الذين يعتقدون أن الفن الجيد هو ما يشبه فنهم!).

3. المثقف "العملي": تدريس النقد الثقافي في المدارس، وإعادة تعريف "القدوة": ليس فقط الفنانين، بل العلماء والمهندسين والمُزارعين الذين يحملون حكاياتٍ تصلح لأعمالٍ إبداعية.

4. الثقافة في الشارع: تحويل الميادين إلى مساحات مفتوحة للعروض، والاستفادة من جدران العمارات كلوحات فنية (بدلًا من إعلانات "خليك تقيل").

***

د. عبد السلام فاروق

 

(يؤلمني المصير الذي ستؤول إليه كتبي، لي مع كل كتاب ذكرى، بل الكتب بمجموعها تفيض بذكرياتي، بوصفها سجلًا للأزمنة والأمكنة والمحطات الفكرية لحياتي.. نحن اليوم في العصر الرقمي، إذ يتوغل الذكاءُ الاصطناعي في كلِّ شيء، ويتدفق سيل المعلومات والمعارف، إلى درجة لا يتمكن معه أيّ إنسان من ملاحقة إلا أقل القليل فيها).

وأنا أقرأ مقالة الدكتور عبد الجبار الرفاعي (مصائر مكتباتنا) كانت ابتسامة ترتسم على محياي، كلماته ووصفه نقلني لعام ٢٠٢١ وعام ٢٠٢٢ حيث شغلتني فكرة مصير مكتبتي بعد ما رأيت ما آلت إليه مكتبات الوالد رحمه الله.

كان الوالد رجل دين وقارئ يحب الشعر، أينما يحل لابد في المكان مكتبة يحار فيها من نتركها بعهدته، النجف محل دراسته، بابل حيث أقمنا فترة طفولتي، في زمن كان الكتاب يكلف حياة الإنسان، فكان مصيرها سطوح البيوت يرفع عليها بنيان فتدفن مع الأيام، ومن العراق إلى الأحساء ومن ثم قطر حيث يكون مقر عمله ترتفع  قوائم الكتب، مكتبة واسعة في الدوحة وأخرى في عهدتي في الأحساء، وأورثني هذا العشق الذي لا فرار منه، لا مكان يسعني دون كتب تزينه، فازدادت المكتبة ارتفاعا، روايات وقصائد شعر ومجلات ثقافية وكتب فكرية تضاف لمكتبة رصت بها كنوز الموسوعات القديمة، وأول فناء في منزلي الجديد كانت المكتبة تستوطن الشقة الصغيرة وتتسع في المنزل الفسيح لتكتسح رغم تخصيص غرفة متسعة لها مكان جلوسي ونومي ومطبخي، المكان الذي لا كتب فيه ولا نبتة لاحياة فيه، صحراء قاحلة، وضاق المكان، ولم أستطع التخفيف من هذه الرغبة في اقتناء الكتب، حاولت كثيرا، عاهدت نفسي أن لا أبتاع أي كتب عند زيارتي لمكتبات المدن الجديدة أو المعارض الدولية، الكتب تناديني فلا يصمد أمامها عهد، وكأن عناوينها  أصدقاء قدامى أهرول لمعانقتهم حين تتلألأ أمامي الحروف وكما تقول ايريل في مكتبة ساحة الأعشاب: (تنتظر الكتب ذلك التبني وتعرف كيف ترد الجميل لمن يحبها فتمنحه غالبا ما يطلبه الحنان، والعاطفة والرعشة والغرائبية والذكاء ومعالم جديدة لفهم هذا العالم والقدرة على العيش فيه)، حبي للكتب لم يجعلني حريصة ومتابعة بدقة لكل كتاب يخرج منها، بل كتبي متاحة للجميع، مكتبتي ترحب بالأصدقاء، أكثر هداياي كتب، أسرع للمشاركة بمعارض الكتاب المستخدم، أفرح لكتاب يعود إلي بعد استعارته فيه حواشي وعلامات تدل على قارئ متمرس، مفتوحة هي تشرع نوافذها وتستقبل زوارها عبر الأيام، ومن ثم قل زوارها، ونافس مكتباتنا، الكتاب الالكتروني، بل قد نجد الأبناء يقتنون كتاب أو رواية بطبعة حديثة حسب ذائقتهم وهو يتوسط مكتبة الآباء، ولا أعلم لم لازمني هاجس مصير مكتباتنا في زمن الكورونا؟! هل لأن الموت كان يحيطنا رغم تواجده الدائم أم أن حضوره الكثيف أعاد للذهن موت مكتبات والدي وأنا عاجزة عن تقديم ما ينفع، ومنذ ذاك الحين وأنا أفكر كيف أخفف عن أبنائي حملي الثقيل من كتب ودروع وشهادات شكر وتقدير اكتظت بها غرفة المكتبة الفسيحة، وفي ليلة شتوية في نهاية عام ٢٠٢٢ م، أتخذت قرار التخلي حسب قدراتي، عزيز كطفل يفارق حضن أمه، بدموعها تربت على كتفيه لترسله لمستقبل لابد منه، تستعد ليوم آت، أفرغت نصف محتوياتها، كراتين صفت تنتظر محبيها، وتخلصت من كل الدروع والشهادات بعد أن قدمت لها الشكر والامتنان، ومع كل التخلي بقيت مكتبتي شامخه تزهر بكتبها، ومازالت رائحة الكتب تستدرجني حيث لا أقاوم فأعود محملة بها، يقول كوفمان في كتابه بيت العودة (أنقذتني القراءة أكثر من الأدب كانت الكلمات تكفيني تؤثث حضورها كانت متواطئة كانت تأتي من الخارج لنجدتي).

 فساعد الله قلب الدكتور الرفاعي والدكتور رضوان، فقد تألمت ومكتبتي لاتقارن بمكتباتهم .

***

منى الصالح

لندن ٢٠٢٥

 

كما تطرد العملة الرديئة العملة الجيدة، تفعل الصحبة السيئة والعلاقات الهشّة الشيء ذاته. تستحوذ على طاقتك واهتمامك، وتسحبك شيئًا فشيئًا إلى دوائر السطحية والهشاشة.

لا تكتفي بذلك، بل تبعدك أيضًا عن الصحبة الطيّبة، وتغلق عليك أبواب العلاقات العميقة والبسيطة في آن، تلك التي تمنحك شعورًا بالصدق والدفء، وتكون خزينتك وقتما تعصف بك الأيام.

ومثلما تؤثر الصحبة، تفعل المشاهدات. فمشاهد الأخبار السوداوية وجرائم العنف، أو الترفيه الفارغ الصاخب، أو حتى ما يُروَّج له من محتوى ماجن بعيد عن الذوق والخلق، كلّها تغلف وعيك وتُربك بصيرتك، حتى تنأى بك عن الجمال، والحكمة، والذوق، والمحبة، والسلام.

الانتباه لما نستهلكه من علاقات ومشاهدات، ليس رفاهية، بل ضرورة لصحة أرواحنا. فلنكن حرّاسًا لأبواب أرواحنا، نفتحها لما ينمّي فينا النور، ونغلقها أمام كل ما يسرّب الغبار إلى أعماقنا.

فاختياراتنا اليومية، وإن بدت عادية، هي التي تشكّلنا وتحدّد الطريق: إما نحو الضجيج والفراغ، أو نحو السكينة والامتلاء الحقيقي.

فالرحلة على هذه الأرض لا تتكرّر، وتنمية الذات ليست نزهة بل جهد متواصل.

ورغم أن التجربة فردية في جوهرها، إلا أن الآخرين مرآة لنا.

وما يظهر في تلك المرآة من مبالغة أو تسريب وقت أو خدوش نفس أو زيف يغطي الروح، لا بد أن يُنظر إليه بيقظة.

فالزيف يحجب الحب، ويطفئ الجمال، ويخنق الرحمة والرفق والتواضع.

لهذا، نحتاج إلى وقفة صادقة مع أنفسنا، نراجع فيها مسارنا، ونتعلّم كيف نعتني باختياراتنا:

ننتقي بعناية، ونصادق بوعي، ونشاهد بذوق.

فالانتقاء، بكل أشكاله، وسيلة للارتقاء. ومكمن المعنى والسلام والجمال، دائمًا، في الارتقاء.

حتى البقاء في هذه الحياة يمكن أن يكون سمرًا جميلًا إن تلون بالارتقاء.

ومن كسب نفسه، كسب العالم بأسره.

وما من غاية أنبل من أن تعرف نفسك، وتنمّيها، وتزكّيها، وتجنّبها مهالك التسافل والانحطاط والضياع.

***

د. حميدة القحطاني

 

بين جمالية النص وأسلوب الترجمة

اختيار قصائد غوته على أساس النص المقروء والترجمة، يعكس حقيقة الروح والشخصية التي تتميز بها الذات الكاتبة، فالدكتور بهجت يهوى الشعر، ويتقن فن الترجمة، ويعشق اللغة العميقة التي يتسم بها شعر غوته، وغيره من الشعراء، مما يجعل القارئ أكثر انجذابا للغوص في أعماق النص المختار بغية التفاعل مع تفاصيله الدقيقة.

هنا لا أريد أن أتناول البعد الوجودي للقصيدة التي تناولها غوته، ولكن جميل أن نستقرئ البعد التأويلي للنص،  فالطبيعة وما فيها من مفردات، تحمل صورا أخاذة لمسارات تتداخل بطريقة أفقية، وعمودية تنعكس لغتها في النفس لتشكل خريطة شعورية متكاملة على شكل تناغم متواصل على هذا النحو:

(فالشمس وضحكة المزرعة العاطرة، وانبثاق البراعم النافرة، وغيوم الصبح فوق الجبال) هي صور عمودية تتدفق في النفس، وتبعث فيها روح الحياة والأمل، كما هو مشار إليه في القصيدة، حيث في المقابل تنتشر الجبال، ومعها غيوم الصبح بشكل أفقي، لتتقاطع تلك المسارات في محيط هذه النفس، التي ديدنها التعلق بجمال الوجود.

وهذا يعني أن الإبداع لا ينفصل عن لغة الوجود وحقيقة الارتباط الوجداني به، إذ أن النفس البشرية وعالمها التكويني جزء لا يتجزأ من هذا الامتداد الهائل الذي يحيط بنا، لعلنا نغوص في فضاءاته العميقة ولأجل أن تبقى حقيقة هذا الوجود عامرة ومشرقة هكذا إلى الأبد، كما جاء في نهاية النص حيث مخاطبة النفس:

"كوني طوال العمر في بهجة ما دمت في قلبك حبا مذاب"

***

عقبل العبود

سألَ سائلٌ عنِ الحِسِّ والجسِّ، فقالَ مِن على مِنَصَة تويتر سابقاً، وهي اليومَ إسمُها "إكسُ": قالَ الحقُّ ﷻ: (اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ). وقالَ ﷻ: (وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)، فما الفرق بين الحس والجس؟

فأجبتٌهُ بتلميحٍ لا حاجةَ معه لتصريح، وبإشارةٍ ظننتُها تُغنيه عن عبارة: [أظن أن الفرقَ بين"الحسِّ" و"الجسِّ" يشبهُ الفرق بين"المسِّ" و "اللمسِّ". وما ذلك مني إلا ظنٌّ شخصيٌّ، أو تذوقٌ لمعنيهما بعد تصفح لما تيسر من معاجم الأولين].

وقد كذبتُ، فأنا ما تصفحتُ معجمٍ ما، ولكن مدعاةَ كذبتي تكمن في سببين:

- لأني متيقنٌ أن ما هوَ مسطور في تلك المعاجم لن يأتيَ بشيءٍ، ولأن المترادفات قد تشتبهُ في المبنى لكنها لا تتشابهُ في المعنى، إذ منَ المحالِ على بشرٍ أن يشرحَ معنىَ لمفردةٍ بمفردةٍ مرادفةٍ لها، فلا يمكنُ أن نشرحَ (الإنشراحَ) على أنه (ارتياح).

- ثم  لتحسسي بل توجسي أن يردَّ عليَّ السائلُ بجوابٍ من تلك المعاجم، فيجعلني وإياهُ ندورُ في فَلَكٍ معلوم تكفينا فيه دورةٌ واحدة. ورُغم تحسسي ذلك، فقد ردَّ السائلُ عليَّ بما كنتُ به مُتَحسِّساً ومنهُ متوجِّساً، فقال: (صباح الخير، ما فهمت هل تقصد ان المعنى واحد ام ماذا، لان في تفسير الطبري.. وشكراً لك)، وأرفقَ صفحة مصورةً من تفسير الطبري.

ثم اني ما تركتُ السائلَ يتوهُ ويُضَيِّعُني معه في فَلَكٍ معلوم تكفينا فيه دورةٌ واحدة أو اثنتين. فرجعتُ اليهِ القولَ:

[لا، ليس المعنى واحداً، ومحالُ أن تحويَ العربيةُ كلمتينِ بمعنىً واحدٍ. فضرب من الخيالِ أن يقولَ لكَ عربيُّ غابرُ وحتى حاضرٌ معاصر: "هلَا تجسسْتَ ليَ الألمَ في رأسي" ، ولكنه يقول: "هلّا تحسسْتَ ليَ الألمَ". العربيةُ يا صاحبي هي فطرةٌ في النفس وهي تذوقٌ للحرف، فسبحان رَبّنا الرَّحمنِ الذي خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ فَعَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ]. وانتهى حواري مع سائلي محاوري .

ثمَّ أسررتُ القول في نفسي:

"وما يمنعك يا هذا أن تبحثَ برقَّةٍ في معاجمِ الأولين وبدقةٍ متناهيةٍ عن الفرقِ بين المعنيينِ، ثم إن في البحثِ متعةٌ ما بعدها متعة". فأشهبتُ فألهبتُ فذهبتُ فبحثت. وما إن بدأتُ حتى لمحتُ صاحبَ معجم "لسان العرب" يقولُ: الجَسُّ: اللَّمْسُ بِالْيَدِ.، كالاجْتِساسِ. ثم مرحتُ في معجم "تاج العروس" فإذ به يقول: الجَسُّ: المَسُّ باليَدِ. فطرحتُ قوليهما، وعجبتُ مِما قالا أشدَّ العجب!

أفيكون الجَسُّ (لمَسَّاً) كما أبانَ ابنُ منظور، أم هو (المسُّ) مثلما ألانهُ صاحبُ (تاج العروس)؟

ولعمري، ما كانَ الجسُّ مَسَّاً ولا لمسَّاً، ولا هَمْساً ولا هَسّاً، ولا حسَّاً ولا عَسَّا. وشتَّانَ بينَهُمُ ، وإنَّما لكلٍّ مفردةٍ من أولاءِ معناها المتفرد الذي يأبى مشاركةَ أو حتى تشبيها. لذلك رأيتُني أعودُ لأكرِّرَ قولي:

" ليس المعنى واحداً، وضرب من ضروبِ الخيالِ أن تحويَ العربيةُ - وكذا كلُّ لغةٍ ولسان- كلمتينِ بمعنىً واحدٍ ولا حتى معنىً شبيه . ومِنَ المحالِ أن ينطقَ لسانُ العربيِّ الغابرِ، بل وحتى الحاضرِ المعاصر، الساكنِ بينَ المحيطِ الهادرِ والخليجِ الثائرِ، جملةً بسَجيةٍ أثيمةً غيرَ قويمة، فيقول:

"هلَا تجسسْتَ ليَ الوجعَ" ، ولكنه ينطقُ بعفويةٍ عليمةٍ قويمةٍ: "هلّا تحسسْتَ ليَ الوجعَ في رأسي". وكذا، فإن لسانَهُ يأبى القولَ :

"لَمَسَنيَ إبليسُ بواحدةٍ " بل يقولُ: "مَسَّنيَ إبليسُ بواحدة".

وإنَّما العربيةُ ياصاحبي، هي فطرةٌ في النفس قد فطرَ اللهُ العربَ عليها، وهي تذوقٌ للحرف مُستعصٍ على أهلِ الصنعةِ في الضَّادِ تفسيره (أي التذوق)، أو تأويلهُ أو تبيانه، بل ذلك عليهم محال، ولئن حاولوا تفسرهُ  فستكونُ محاولاتُهم ساحقةً لمعانيَ المرادفات اللغوية في فكرنا، وماحقةً لمبانيها في ذكرنا، وسوفَ تَبون ثمرة تلك المحاولاتِ هي الفقدانُ التامُّ لتذوِّقِ تعابيرِ القرآنِ الكريم، وتلك هي الطَّامةُ الكبرى ، ولسوفَ تجدُ القارئَ لآياتهِ المباركات لا يهتَمُّ ولا يبالي إن قرأ الفعلَ في آيةٍ ما ( جاءَ، أَتَى، أَقْبَلَ، حَضَرَ، طَرَقَ، غَشِيَ، قَدِمَ، وافى، وَفَى، وَرَدَ، وَفَدَ،... )، ولئن سألتَهُ لَيَقولنَّ : " المهم أنه أتى وخلاص يا باشا، وبلاها من وجعِ دماغ". واللهُ المستعان على ما تصفُ يا باشا.

وختاماً..

سبحان الذي خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ فَعَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ، وجعلَ أخي الكردي "كاكه إحسان" ماهراً فيما ينطقُ بهِ من لسان، لكنهُ يردُّ عليَّ إن سألتهُ عن حالهِ حيرانَ: " كاكه، آني حال زينة"، بينما ترى صغيري "يَمان"، ذا الأعوام الثلاثة يردُّ: "أنا زين أبتاهُ".

لقد أضحينا اليومَ نأبى فطرةَ اللهِ التي فطرَ ألسنتنا عليها على مدى الزمان، وترى العربيَّ منّا اليومَ وكأنَّهُ يشتهي برغبةٍ جامحةٍ وهو هيمان، أن يردَّ على سائلٍ يسألُهُ عن حالهِ في كلِّ آن: "أنا زينة ، ماي براذر". رَغمَ أنهُ لا يمتُّ بوشيجةِ نَسَبٍ لكاكه إحسان، ولا بوَليجةِ حَسَبٍ لمستر سبايدرمان.

واللهُ المستعان.

***

علي الجنابي

 

(.. من المؤكد انه ليس هناك شيء مؤكد..).. هيجل

هذه العبارة الفلسفية كان الدكتور عبد الرزاق مسلم الماجد أستاذ الفلسفة في جامعة البصرة يرددها باستمرار اثناء محاضراته علئ طلبة قسم التاريخ وعندما سألناه عن سر تكرار هذه العبارة قال (انا معجب بهذا الفيلسوف الألماني الكبير وبأقواله..) ولم يكن الدكتور عبد الرزاق هو الوحيد المعجب بهيجل، قال عنه (البيركامو).. (..انه المفكر الذي عقلن الى اللامعقول..)

وقال عنه (جون ديوي).. (... انه الفيلسوف الذي ارتفع بالفلسفة الى مستوئ العلم..) ووصفه (كارل ماركس) لا (بالعبقرية الكبرى التي قلبت الأشياء راساً على عقب..). وقال عنه الفيلسوف الألماني (كاو فمان)..(.. اذا كان كل من الإسكندر، ونابليون قد حاولا الاستيلاء على العالم بالقوة العسكرية، فقد حاول كل من ارسطو وهيجل سيادة العالم بالقوة العقلية..) اما الفيلسوف الإيطالي (كروتشة) وهو من انصار الهيجلية الجديدة فقد اعرب عن حبه العميق لهيجل بقولة. (.. انا لا استطيع ان أعيش معه ولأستطيع ان أعيش بدونه...) وهكذا فقد قال عنه احد الفلاسفة المعاصرين له.. (..انه ثالث ثلاثة صاغوا الوجود بأسره في أنظمة عقلية متناسقة وهم: ارسطو، والقديس توما الاكوبني وهيجل بمذهبة المثالي المطلق..) –

فلسفة هيجل.. (المطلق الهيجلي)

(.. نظم هيجل فلسفة حول نظريته في المطلق بوصفة روحاً وقد اعطى للروح معنىَ مذهبي متميز وقد اجرئ تحليلاً خاصاً لاستقلال العقل وبين الحاجة الى الروح كمبدأ مكون..). (الله في الفلسفة الحديثة ص 295).

(.. وهكذا حصر هيجل العقل المتناهي داخل العقل اللامتناهي وكانت حجة هيجل النهائية هي ان مصير الفلسفة معلق على نظرية الروح المطلقة بالاضافة الى هذه فانه هو الذي وضع أساس فلسفة تاريخ الفلسفة، واعلن انه لم نستطع ان نهتدي الى السبب الأول للعالم والحياة فاننا نستطيع على الأقل ان نهتدي الى علة عقلية للحياة فالشيئ الحقيقي هو العقل وكان يرى ان كل نقيض وان كل شي هو نقيض نفسه والانسان أيضا نقيضه وهي الطبيعة فهو في صراع مها وان ثمرة هذا الصراع هي الحرية وان هيجل كثيرا ما ذكر الروح باعتبارها مرادفة لكلمة (الله) وكان يحترم المسيحية لاعتبارها ان الله هو الروح ولكن هيجل اعلن وبصراحة عن أعجابه بالبرجوازية الألمانية الحاكمة

فلسفة هيجل احدى روافد الماركسية

استندت الماركسية على ثلاثة مصادر هي: أولاـ الفلسفة الألمانية وقد مثلها هيجل وفيورباخ ثانيا: الاقتصاد الإنكليزي ممثلا بأدم سمث وريكاردو ثالثا: الاشتراكية الطوباوية وخير من مثلها توماس مور فقد كان ديالكتيك هيجل ان اعالم في تطور بالعقل البشري وان النضال ضد الظلم يرتبط بالقانون الشامل للتطور الدائم الا ان كارل ماركس انتقده بقوله (.. ان هيجل يسير ديالكتيك على رأسة ويكفي ان يوضع على قدمية كي نجد له مظهراً معقولاً. اما مساهمة فيورباخ الذي اعلن ان الانسان هو تتويج الاعمال الطبيعة وانه يعيش في اتحاد معها، وكتب يقول (.. يؤمن الانسان بالآهة لأنه يتمتع بالخيال، ويؤمن بالكائن السعيد لانه يريد ان يكون سعيداً..                          

ويؤمن بالكائن الكامل لأنه يتطلع الى الكمال ويؤمن بالكائن الخالد لأنه يرفض الموت..) وهكذا كانت لفلسفة هيجل اثرها في تطور الفكر الماركسي الذي طور اهم عناصر الفلسفة الهيجلية وهو (الجدل) وحوله الى نظرية تقوم على الاستدلال العلمي في تطور المجتمع والفكر والطبيعة وتاَيد الماركسية (ايمان).

هيجل بقوة العقل الإنساني وقد اخذ ماركس من هيجل اهتمامه بالتاريخ والتطور..) توفي هيجل عام 1831م نتيجة نتيجة اصابته بمرض الكوليرا.

***

غريب دوحي

يُعد عادل إمام من أبرز الفنانين العرب الذين تركوا بصمة واضحة وصيتا إبداعيا واسعا، حيث امتاز بقدرة استثنائية على إمتاع وإضحاك الجمهور، فضلا عن عمق وجسارة المحتوى النقدي الكامن في القفشات والعبارات الساخرة التي يتفوه بها، إذ سدد نقدا لاذعا في أعماله لقضايا مثل القمع السياسي والفساد والتشدد الديني والتخلف الاجتماعي.

نشأته وبداياته الفنية

ازداد عادل إمام بحي السيدة عائشة بالقاهرة سنة 1940 في كنف عائلة من الطبقة الفقيرة، وقد ساعدته نشأته في حي شعبي في صقل شخصيته وموهبته، حيث خاض مجموعة من المغامرات مع أقرانه وامتزج بعوالم أبناء الطبقة الكادحة، الشيء الذي سيلهمه لتقمص شخصيات من خلفيات اجتماعية متنوعة في أعماله الفنية اللاحقة. 

كما كان فتى مشاغبا وشقيا بالمدرسة مما عرضه لجملة من المتاعب حيث تعرض للفصل من إحدى المدارس، كما تميز ببراعته الفائقة في تقليد أساتذته أمام أنظار زملائه، إذ لطالما كان ينتهز فرصة مغادرة أساتذته للفصل الدراسي لممارسة هوايته المفضلة. وفي إحدى المرات ضبطه أستاذ اللغة الإنجليزية وهو بصدد تقليده والاستهزاء به، وبدل أن يقوم بتعنيفه أو توبيخه عمد إلى الإشادة بأدائه ونصحه باللجوء إلى عالم التمثيل، ومن هنا أمسى يرتاد بانتظام قاعات السينما لمتابعة الأفلام مما ألهب مخيلته الفنية والإبداعية، كما شرع في تأليف أعمال مسرحية وتجسيدها أمام أصدقائه.

وبعد انقلاب الضباط الأحرار سنة 1952 على النظام الملكي، وفي خضم الأجواء السياسية الساخنة التي عرفتها مصر وقتئذ، انضم عادل إمام إلى الحزب العمالي الشيوعي عندما كان يبلغ من العمر 15 عاما فقط قبل أن ينسحب من التنظيم بعد مدة قصيرة لينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، لكن هذه التجربة السياسية بدورها لم تدم طويلا، إذ سرعان ما ضاق صاحبنا ذرعا بالطابع السلطوي لتنظيم الإخوان وواجب الطاعة العمياء الذي كان يتعين عليه التقيد به دون إمكانية النقد والمناقشة.

عقب تجاربه السياسية القصيرة، استأنف عادل إمام دراسته الثانوية حيث التقى برفيق عمره سعيد صالح، وقد عُرفا بصيتهما السيء بسبب تورطهما المستمر في أعمال الشغب والتنمر وهو ما سيشكل أساسا واقعيا لمسرحية "مدرسة المشاغبين" التي عُرضت لأول مرة سنة 1971 واستُلهمت وقائعها من فيلم بريطاني.

وكما كان متوقعا، فشل عادل إمام في اجتياز الطور الثانوي بعد رسوبه الدراسي لسنتين متتاليتين، ليقرر والده إبعاده من المدرسة وإلحاقه للاشتغال بأحد معامل خاله، إلا أن والدة الكوميدي المصري عارضت الفكرة وألحت على إكمال دراسته بإحدى المدارس الخاصة بالإسكندرية حيث تمكن من النجاح بصعوبة، ليلتحق بكلية الزراعة لإتمام تعليمه العالي، وهناك وجد ضالته في الفرقة المسرحية التي مكنته من إبراز طاقاته الفنية والإبداعية.

وفي سنة 1963، كان جالسا بأحد المسارح الفنية فاقترحت عليه المديرة تعويض الممثل محمد عوض الذي كان من المقرر أن يؤدي دورا في مسرحية "أنا وهو وهي"، فاغتنم الفرصة وقدم أداء هائلا ليسلك بذلك الخطوة الأولى في طريق عالم النجومية.

متاعب ومضايقات

تعرض عادل إمام لمتاعب جمة بعد أدائه لشخصية محام فاسد في فيلم "أفوكاتو" الذي تم ترشيحه للعرض في مهرجان برلين، حيث رفع حوالي 150 محام دعوى قضائية ضد طاقم الفيلم بدعوى الإساءة للقضاء، فصدر في أعقاب ذلك حكم قضائي في حقهم يقضي بحبسهم سنة واحدة مع الأعمال الشاقة، لكن تم وقف تنفيذ الحكم بعد المعارضة التي أبدتها نقابة الممثلين. كما حُكم عليه سنة 2012 بالسجن بتهمة "ازدراء الأديان" لكن تم الحكم ببراءته بعد استئناف الحكم.

وقد روى الفنان المصري في أحد حواراته التلفزيونية عن قصة حقيقية وقعت له مع الرئيس أنور السادات، حيث بعث الأخير بهدية عبارة عن كلب إلى منزله، إذ لم يستطع عادل إمام التخلص منه رغم المضايقات التي سببها الحيوان لأسرته. ولا يخفى على أحد أن الرئيس السادات كان يود تبليغ رسالة تخويف إلى عادل إمام بسبب الجرأة الكبيرة التي كان يُظهرها في أعماله السينمائية والمسرحية التي أثارت حفيظة جهات نافذة في الدولة.

في فترة الثمانينيات، عانت مصر من عنف الجماعات الإسلامية المتطرفة، وقد كانت محافظة أسيوط من أبرز معاقلها. ورغبة منه في تبديد السمعة السيئة التي التصقت بتلك المنطقة، اقترح عادل إمام عرض مسرحية "واد سيد الشغال" بأسيوط وهو ما تحقق فعلا، الشيء الذي جعله في مرمى التنظيمات الإسلامية الراديكالية. وفي هذا الصدد، تعرض لمحاولة اغتيال من طرف تلك الجماعات بعد صدور فيلم "الإرهابي".

في سنة 2005، أصدر عادل إمام فيلم "السفارة في العمارة" الذي ناقش أحد التابوهات المتعلقة بالعلاقات مع إسرائيل بعد ممانعة طويلة أبدتها الأجهزة الأمنية، إذ لم يكن ليصدر هذا العمل الفني لولا الوساطة التي قام بها سكرتير الرئيس حسني مبارك.

***

صلاح الدين ياسين

 

أسير بالمدن في ليالي الشتاء الموحشة، هاربًا من ضجيجها في النهار. أمشي في أزقتها حيث لا أحد، لا صوت سوى بعض الآلات الصناعية ونباح الكلاب السائبة. موحشة لأنها تذكّرني بما مضى، تعصف بي الذكريات تمزيقًا، وتشتت روحي أشلاء. موحشة لأني أشعر وسطها بالغربة، بعدما كنت أشعر فيها بالأمان. موحشة لأني فقدت رفيق دربي وصديقي الحميم، الذي كنت أشاركه هذه الأزقة في الليالي الباردة، هاربين من البشر وضجيج النهار.

في زحمة النهار، وسط البشر وحركتهم اللامتناهية، كنا نضيع. لم نكن نشعر بذواتنا إلا عندما نبتعد عنهم. وحدنا، مع أنفسنا، ومع من يفهمنا، كنا نجد ذواتنا حقًا.

وفي إحدى تلك الليالي، بينما كنا نسير معًا ونتحدث، ناظرين إلى السماء المرصعة بالنجوم، والجو الماطر يلفحنا بنسماته الباردة، قال لي متأملًا في الحياة والعزلة:

"لقد تسببت الثورة الصناعية وعصر التنوير والحريات الفردية في جعل الإنسان أكثر كآبة، وأكثر فراغًا. صار معيار السعادة مرتبطًا بغايات مادية مؤقتة. لقد تحوّل الإنسان من كائن يمتلك روحًا وجانبًا مثاليًا، إلى كتل لحم لا تتجاوز نظرتهم المدركات الحسية. حتى مفاهيم مثل الشرف والعزة والمروءة، تم تحجيمها لأنها لا تعود بنفع مادي. نعيش في عصر أحادي النظرة، نسبي التفكير، صار فيه الحلم أن يُطلق العنان للشهوات، ويشتري أحدث السلع، دون أن يدرك مرارة هذا الانحلال التي سيتذوقها عاجلًا أو آجلًا."

ثم أضاف:

"لقد نجحنا في صناعة آلة متحضّرة، ولكننا فشلنا في صناعة إنسان."

سألته:

ــ "وما الحل أمام هذه الكارثة؟"

قال:

"أن يعود الإنسان إلى ذاته، ويحنّ إلى موطنه الأصلي حيث السكينة والطمأنينة."

سألته مجددًا:

ــ "وكيف يعود؟ وما هو موطنه الأصلي؟"

فأجاب:

"بالانعزال. فكلما عاشرنا البشر، اسودّت أفكارنا. وإذا عدنا إلى عزلتنا بحثًا عن النور، وجدناه في ظلال تلك الأفكار.

موطن الإنسان الأصلي هو الغاب. أحب الغاب، إذ لا تطيب لي حياة المدن وقد كثر فيها عبيد الشهوات. الخير أن يقع الرجل بين براثن سفاح، من أن تحدق به أشواق امرأة جامحة. إنك إذا ما تأملت رجال المدن، لتشهد في نظراتهم أنهم لا يرون في الأرض شيئًا أفضل من مضاجعة امرأة."

ثم قال مختتمًا حديثه وقد تأخر الوقت:

"لو تعلم كم يزعجني هذا العالم اليوم... أريد الفرار، لكني لا أعلم إلى أين.

على كل حال، دعنا ننام، فلا يزال أمامنا الكثير من التعب."

وبعد هذا الحديث، عدنا إلى منازلنا. منازلنا التي كانت ليلًا أشبه بالسجون، وفي النهار حصنًا منيعًا يحمينا من تطفلات البشر.

لكننا لم نكن نعلم أن ذلك اللقاء سيكون الأخير بيننا... لم نكن مستعدين لهذا الفقد. كنا ضعفاء، لكن وجودنا معًا كان مصدر قوتنا.

بعد فراقه، قضيت وقتًا لا أعرف فيه ما أفعل. كنت تائهًا، أحمل على كتفي عبء الذكريات. بقيت في زاوية منزلي، أحمل صورنا ورسائلنا كمن يحمل أدوية مهدئة. وبعد صراع طويل مع ذاتي، قررت الخروج.

ذهبت إلى أماكننا القديمة، وتجولت هناك طويلًا. لكن شعورًا غريبًا تملكني، وكأن الجدران والأعمدة كانت تحدّق بي، تسألني: "أين كنت؟ و أين هو؟ لماذا لستما معًا؟"

شعرت بالغربة والوحشة مجددًا، فعدت مسرعًا إلى منزلي، أحتضن ذكرياتنا، وأبقى على هذا الحال حتى تشرق الشمس.

لكن منذ رحيله ...

كانت تشرق الشمس، وهذا الضوء لا يخصنا.

***

حيدر كريم

تتساقط الكلمات من بين أسطر النصوص كأوراق الزهور الندية، تروي قصصاً من الحب الأصيل الذي يلامس أرواحنا في لحظات السكون والجمال. نلاحظ في كلمات الشعراء سحراً ينسج من مشاعر عاشق غارق في حب لا يزول، وفي تجارب عاطفية ترافقه من لحظة إلى أخرى. إنها رحلة من الأمل والشوق، تتشابك فيها مشاعر الألم والسعادة، الحب والفراق، التذكر والاشتياق.

كل قصيدة تكتب كأنها تمجيد لحظةٍ مليئة بالمشاعر العميقة، حيث يرمي العاشق قلبه بين يدي محبوبته، فتسكنه حرارة حبها وتملأه بحنانها. وبتنا نرى تأثير الحب القوي الذي يغمر الشاعر ويسلبه عقله وعاطفته. وأضحت المشاعر تقودنا إلى قوة تأثير الحب على القلب، كيف يمكن أن يسكر الإنسان بنكهته وتفاصيله، ليغدو عاجزاً عن الفراق أو النسيان. هذه اللحظات التي يتم فيها إسقاط كل شيء من الحسابات المنطقية، ويصبح العاشق في حالة من الاستسلام لهذا الشعور الذي لا يقاوم.

وعلى الرغم من كل ما يحمله الحب من آلام الفراق والاشتياق، إلا أنه يصبح مثل الخمر الذي يذوب في الحواس ويترك في النفس أثراً جميلاً. "واليوم أصبحنا نقرأ عند الشعراء جميعا فكرة الاحتواء التي تتناغم ومضمون الوئام، حيث يُظهر المشاعر وكيف أن الحب يتحول إلى لحن دائم في حياة العاشق، ويصبح جزءاً من كيانه. لا شيء يُطفئ هذا الحنين سوى أن يظل العاشق مُحاطاً بكل ما يشبع روحه من كلمات الحب وذكرياته الجميلة، التي ترسم صوراً لا تمحى في الذاكرة.

باتت النصوص تنقلنا تدريجيا بالمعنى اللفظي والضمني إلى أن تأخذنا في رحلة عبر نسيج هادئ، حيث يعزف النسيم لحن العشق. "همس شعاع العبارات التي تداعب زهر.. الكلمات. وتغدو ألقا يصدح فكر المتلقي. وترفرف القراءات الواعية لتستقبل شروق الألفاظ وعلياء مصطلح الحب"، حيث يصبح الحب جزءاً من كل شيء، حتى في التفاصيل الطبيعية الصغيرة. يتحرك الشاعر بين الطبيعة في تفاصيلها الصغيرة، مُحاولا أن يُشعر القارئ بكل لحظة شاعرية، مثل همسات الرياح أو زقزقة الطيور التي تشدوا في الأفق. الطبيعة تصبح جزءاً من الحب، تمازجاً بين الواقع والخيال، وتصبح ساحة لتبادل المشاعر بين العاشقين.

وفي لحظة من اللحظات، ينقض على الشاعر لحظة من الشغف؛ "أهي الدواء من كل داء لامس الوجد"، إشراقة أمل يُحتفل بها كما لو أنها العلاج الوحيد لألم الحب، كما لو أن الوجود نفسه هو مجرد طيف عابر يتراقص في فضاء العشق اللامتناهي. وبذلك، نجد أن الحب في أغلب القصائد تجاوز كونه شعوراً عابراً، بل هو حالة روحية وعاطفية عميقة تمس كافة تفاصيل الحياة.

وكأنها نصوص لا تعبر عن علاقة بين شخصين فحسب، بل هو تعبير عن علاقة الفرد بنفسه وبالكون من حوله، حيث تتناغم المشاعر الإنسانية مع طبيعة الحياة بكل عناصرها. الحب ليس مجرد لحظة عاطفية، بل هو حضور مستمر، هو تناغم القلب مع الأبدية.

باختصار، في هذه الكلمات نجد أنفسنا في دوامة من المشاعر التي تأخذنا نحو مسار من التأمل العميق. كأن كل كلمة، كل حرف، يحمل لنا رسالة عن الحب الحقيقي الذي يظل يذكرنا بجمال الروح وصدق العاطفة.

***

ربى رباعي

 

باعتبار وضعي ككاتب مغربي، وكائن لغويٌّ تشكّل وجدانه بين دفّات الكتب الورقية، وسُقيتُ من حبر المطابع كما تسقى الأرض بماء الغيمات ... أجدني، اليوم، في زمن رقمي يعيد تشكيل الجُملة والمعنى، أطرح سؤالًا مؤرقًا في يومٍ نحتفل فيه بالكتاب الورقي: إلى أين تسير صناعة النشر؟ هل الورق يحتضر؟ وهل الرقمي سينقذ الكلمة من المآل الباهت في المستقبل القريب؟

كنتُ، وما زلت، أفتتح صباحاتي الرائقة بفنجان قهوة على صوت انفتاح دفة الغلاف، وبملمس الصفحات الذي يذكّرني بشغاف الذاكرة. لكنني لا أستطيع أن أنكر أن الشاشة باتت تتسلل إلى لغتي، منذ عقدين من الزمن وتفرض إيقاعها السريع، وتجعل من القراءة تجربة عابرة لا تقيم طويلًا في وجدان القارئ. فالكتاب الرقمي، على الرغم من سهولة الوصول إليه، يعاني من نَفَسٍ قصير في أعين القرّاء، كما لو أنه وجبةٌ سريعة تفتقر إلى نكهة الطبخ البطيء الذي يُتقنه الورق.

لقد شهدت أوروبا وأمريكا، في العقدين الأخيرين، انفجارًا حقيقيًا في سوق النشر الرقمي. ففي تقرير صادر عن جمعية الناشرين الأمريكيين عام 2023، بلغت عائدات الكتب الإلكترونية ما يقارب 1.1 مليار دولار، مقارنة بـ1.9 مليار دولار للكتب الورقية. أما في بريطانيا، فتمثل الكتب الرقمية حوالي 30٪ من إجمالي سوق الكتاب. ومع ذلك، ورغم هذه الأرقام الواعدة، لم تزل الهيئات الثقافية العربية تُعامل الكتاب الرقمي كما يُعامل الغريب في الوليمة، يُرحَّب به لفظًا ويُقصى فعلاً.

لقد حضرتُ معرض الرباط الدولي للكتاب مرّات عديدة، وتجولت بين أجنحته كما يتجول نَسّاك المعابد بين صوامعهم. لكنني، في كل مرة، كنت ألاحظ الغياب الفادح للكتاب الرقمي، ليس فقط في أروقة العرض، بل في البرمجة الثقافية أيضًا. فلا ندوات تناقش تحولات النشر الرقمي، إلا نادرا جدا ولا منصات تحتفي بالمؤلفين الإلكترونيين، وكأنّ الكتاب الرقمي لا يُعَدّ من "أهل الكتاب".

لماذا هذا التهميش إذن؟ أهو خوف من المجهول؟ أم نوع من التقديس الأعمى للورق؟ في حين أن دور النشر الغربية تجاوزت هذا التردد منذ ربع قرن، وأنشأت منظومات متكاملة لتوزيع الكتب الرقمية وترويجها، بل وأوجدت منصّات تحقق أرباحًا ضخمة للمؤلفين المستقلين، مثل "أمازون كيندل للنشر المباشر"، التي تُتيح للكاتب نسبة أرباح قد تصل إلى 70٪ من سعر البيع.

لقد تراجعت تجارة الكتاب الورقي في العالم العربي بنسبة مقلقة. في المغرب، على سبيل المثال، تشير تقديرات غير رسمية إلى أن عدد النسخ المطبوعة لمعظم الكتب لا يتجاوز الألف نسخة، تُباع منها بضع مئات فقط، وتنام البقية في المستودعات كما تنام الأساطير القديمة في كهوف مظلمة. لقد أصبحت المكتبات التجارية تبيع المصنفات التراثية للزينة أكثر مما تبيع الكتب، وأضحى الكتاب ترفًا في زمن الضروريات والكماليات.

لكن هل يعني هذا أن الرقمي هو الخلاص؟ لا ليس ذلك بالطبع.

إن الكتاب الإلكتروني يملك مميزات يصعب إنكارها: خفة في الحمل، سهولة في التوزيع، تكلفة منخفضة، وإمكانية التفاعل عبر الصوت والصورة والفيديو. لكنه، في المقابل، يفتقر إلى تلك الحميمية التي تربط القارئ بالورق، وتُشعره بأنه يعيش داخل الكتاب لا خارجه.

كما أن الكتاب الرقمي لا يزال يواجه تحدياتٍ تتعلق بالقرصنة، وانخفاض القيمة الرمزية، وغياب التشريعات التي تحمي حقوق المؤلف في العديد من الدول العربية. أضف إلى ذلك أن غياب البنية التحتية الرقمية لدى معظم دور النشر المغربية جعل من عملية الانتقال إلى النشر الإلكتروني عملية بطيئة، وعشوائية في أحيان كثيرة.

الجواب ليس في التكنولوجيا وحدها، بل في بناء ثقافة رقمية متكاملة حيث يجب إنشاء منصات مغربية مستقلة تتيح للكتّاب نشر كتبهم وبيعها إلكترونيًا، وأن تواكب الدولة هذا التوجه عبر تحفيزات ضريبية، وبرامج تكوين، وحماية قانونية للحقوق الرقمية.

كما ينبغي تعزيز التعاون مع شركات دولية متخصصة في ترويج الكتب الرقمية، وربطها بالمكتبات الجامعية والمدارس، حتى لا يبقى الكتاب الإلكتروني حبيس الهواتف الذكية فقط، بل شريكًا فعليًا في الفعل البيداغوجي والتربوي والمعرفي.

في هذا اليوم العالمي للكتاب، لا أملك إجابة يقينية. لكنني، ككاتب مغربي، أؤمن بأن الكتاب ـ سواء وُلد من رحم الورق أو من رحم الشيفرة ـ سيبقى ابني الروحي، وصوتي العابر للزمن والمكان. ما نحتاجه ليس أن نختار بين الورقي والرقمي، بل أن نعيد التفكير في معنى "القراءة" في زمنٍ يضجّ بالصور، ونُعيد ترتيب علاقتنا بالمعرفة في عالمٍ بات فيه النسيان أسرع من الطباعة.

لعل قصدية الكتاب، في النهاية، ليس شكله، بل أثره في من يقرأه.

***

عبده حقي

 

هناك علاقة مرنة تربطه بالصدفة وهو القادر على ترويضها دوما وعلى إعطائها شكلاً يشبهه وينتمي لعوالمه مؤكد في هذا على أن الفن اكتشاف.. وأن رشقات اللون على سطح العمل لا تخلق أشكالها اعتباطا ً طالما كانت مرتبطة بعوالم الذات وطالما كان الفنان المكتشف صديقنا العزيز أسعد فرزات.

سحره يكمن في قدرته على تحويل كل السطوح المشغولة مسبقاً بأقل قدر من الجهد واللمسات لأعمال تنتمي لأسلوبيته ولذاته وحياته وهو يلخص أشكاله المؤنسنة لتبدو كما ظلال تخترق جدار الخلفية لتتحول إلى نافذة تتطلع للحرية هو تلخيص شفاف مشحون بحس إنساني لعوالم غرائبية تشدك إليها بسحر ما ثم تشغلك برغبة الإمساك بالسر والخيط المؤدي لاستكشاف أبعادها الجمالية وقيمها الروحية.

والسر هنا يكمن في حركة بسيطة وعفوية ومخالفة تشدك إليها عبر جديلة شعر قادرة على تغيير المسار.. أو ربما في سوار يضعه في مكان ما ليبدو كما لو انه اللوغوا الخاص به وبأعماله.1406 hasan

تنتمي أعمال فرزات للتعبيرية والتجريد وهو يمازج ما بين الطرح العفوي والرؤية الهندسية فعقليته الأكثر تنظيماً تجد لها دوراً كاشفاً في المراحل الأخيرة للعمل وهي تتجلى عبر مساحات صماء لا تخلو من قطع هندسي يمتد إلى الأعلى او إلى الأسفل بدرجة واحدة أفتح او أغمق تخدم التكوين وتربط مفردات الشكل.

أمام أشكال اسعد فرزات أنت لن تتساءل عن النسبة والتناسب فلمخلوقاته الغرائبية نسبها المختلفة التي تعكس قدرة الفنان على خلق توازنات حسية من أي زاوية كانت وفي أي مكان كان.. لتبقى لوحاته عالقة في ذاكرة الزمان..1407 hasan

أما معرضه الذي أقيم مؤخراً تحت عنوان (وجوهنا التي غادرتنا) فهو يترجم خلاصة الألم الإنساني عبر مجموعة من الوجوه المتشابهة بملاح غائبة.. عبثاً تلاحق تفاصيلهم بخوف علك تتعرف على أخ أو أو أخت ابن أو ابنة غائب ة بينهم فلا تجد فيهم سوى ذاتك الممزقة بكل ما يعتملها من شوق وحنين وآلام.. وحين تعاود المتابعة ينتابك الخوف مجدداً فأنت كما الفنان لا تريد أن تخصصهم بأية هوية عرقية أو طائفية فهويتهم الأسمى هي الانسان.. لن تبحث بعد هذا أن قريب لك بينهم فكلهم صاروا أقارب.. هم ضحايا الحرب والضحايا طرف آخر مكونه الأبرياء من الجانبين.. لا تخلو بعض الوجوه أيضاً من نفس ساخر كاريكاتيري هو متنفس ومساحة لإطلاق بعض من السباب.. والحقيقة طالما كان لماهية الفن غرض تنفيسي وبتلك الصورة يجد الشتام مبرراته ويصير أكثر قبولا إذ يتطهر من كل السلبيات وترتقي في اللوحة غاياته1408 hasan

أختم بالقول (متوجهاً لصديقي الفنان): ابق كما عهدتك مستثمراً لكل الآلام في عمل ابداعي يميزك كفنان وأنت المميز بعيداً عن السوقية ودمائها القانية الملطخة بالشتيمة ومطباتها اللئيمة.

وللإنسانية أقول: كفانا دماء.. كفانا قهرا لقلوب الأمهات والأبناء.. ف والله لا أراه سوى صراعا ما بين أعضاء الجسد.. . ولا دواء لنا فيه سوى التخلي عن أطماعنا وأحقادنا صوى العودة لحقيقتنا وإنسانيتنا والله لا دواء لنا فيه سوى المحبة.. وبغير المحبة قد نفقد كل الأحبة.

***

الفينيق حسين صقور

 

الشاعر

ليس لغة، ليس خيالا، ولا صورا شعرية، الشاعر حالة كآبة استثنائية، وإنسانية مفرطة يتقصى الهوامش، التفاصيل وماهيات الأشياء، وكمرآة يعكس لنا مدى سفلية العالم، إنه يأخذنا من الصخب إلى الغرق في صمت الذات ولا يكتفي بما يطفو كباقي الكائنات اليومية، ليس لشيء إلا لأنه مريض بالحقيقة ...

الشعر

تمرد على المستحيل، منطق الحلم، وكشف الذات الجمعية، إنه أنت إذ ترى في العتمة، حدسك، انعكاسك، محاولة لتفكيك الوجود عند قراءة العلائقيات بين المرئي واللامرئي، حيث تتكاثف الرؤى ...

الرواية

تعلمك الدهشة والعودة إلى فطرتك الأولى الطفولية، هي فن معرفة الآخر في ذاتك حيث يتصالح الماضي مع المستقبل حين يلتقيان وحاضرك، وشكل من أشكال الجمال القبيح والمستفز عندما تفضح ممارساتنا اليومية وتجعلها غير مألوفة، إنها نقد الفكر الاعتيادي ...

الأدب

المرآة التي تعكس وضوحنا الغامض، الفاضح للمكبوت، للمسكوت عنه، لخيانتنا المتكررة لأنفسنا، للهوّة الفاصلة بين التاريخ واللحظات، وهو الحرية المؤقتة التي نمارسها خلسة من قيود العقد الملازمة لنا ...

***

فؤاد ناجيمي

حدثني فقال: قال القسيمُ الوسيمُ ﷺ: (استوصوا بالنساء خيراً فإن المرأة خُلقت من ضِلْعٍ، وإنَّ أعوجَ ما في الضِّلْعِ أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمُهُ كسرتَهُ، وإن تركتَهُ لم يزل أعوجَ، فاستوصوا بالنساء خيراً)، فقلتُ لهُ: وإنَّما زينَةُ الحَواجبِ العَوَجُ، ثمَّ استدركتُ مِن فوري أنَّ هذا القولُ يا صاحبي بحواجبِ الإماءِ لا يتغزَّلُ، بل هوَ بمضارب مُفردةِ (العوج) يتنزَّلُ، وهاكَ تفسيرَها بحرفٍ عَفيفٍ خَفيفٍ لطيفٍ يتجزَّلُ..

فأمَّا العَوَج؛ بفتح العينِ فنقوله لشيءٍ ملموس: (في قوائم الدابة عَوَج، في جدارِ الدار عَوَج،..). وأمَّا العِوَج: بكسر العين فنقوله لشيءٍ محسوس؛ (تَبْغُونَهَا عِوَجًا)، (أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا)، (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)، (لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا). فردَّ عليَّ صاحبي بحاجبٍ مُقطَبٍ ولسانٍ مُتأوِّل؛

مهلاً يا صاحُ، فأنا لستُ من قومٍ ذي فكرٍ عِوجٍ أينما تَحوَّلوا يَتَحوَّل، في ذا دهرٍ ضريرٍ ذي طَرفٍ عَوَجٍ، ومريرٍ ذي عُرفٍ عِوَج يتغوَّل، وتراهُ مُتلهفٌ ومُغرمٌ بفكرِ عمائم ضالةٍ مُضلة ذواتِ ذكرٍ مُتسوِّل، فحذارِ حذارِ من تدليسٍ عليَّ من مثل ذكرِ العمائم المُتَعلعل، فإنَّ آيةَ (لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) تصفُ نسفَ الجبالِ، وإنَّما الجبالُ شيءٌ ملموسُ لكلِّ ناظرٍ مُتَجوِّل؟!

فزعتُ وما جزعتُ من صلابةِ ردِّهِ المُتشَكِّل، فنزعتُ الى ردٍّ باللينِ الوَدودِ مُتبلِّل:

- أجل يا صاح، وحاشا للهِ أن أكون ذا عمامةٍ مُدَلِّسةٍ تتقوَّل، أو حتى غيرَ مُدَلِّسة تلتقطُ اللقطةَ كي تتأوَّل، لكنِ الأمرُ ليس كما ذهبتَ فأشهبتَ بردٍّ مُتنفِّل، بل فيه نكتةٌ لطيفةُ بديعة تأسرُ ذا اللبِّ المُتأمِّل، ذلك أنَّ ربَّنا اللهَ ﷻ سوف ينسفُ الجبالَ فيجعلُها قاعاً صفصفاً لا يمكن لحسِّكَ أن يشعرَ بعِوَجٍ فيها محسوسٍ متأصِّل، فضلاً أن تنظرَ عينكَ على عَوَجٍ ملموسٍ مُتحصِّل، وهكذا فَسَّرَ سيد صنعةِ الضَّاد "الزمخشري" من قبلُ في تفسيره "الكشاف"، إذ قال وهو بميدانِ البيانِ يتجوَّل:

[..لو انكَ عَمدتَ إلى قطعة أرض وبالغت في تسويتها على عيون البصراء، واتفقوا على أنه لم يكن فيها اعوجاج، ثم استطلعت رأي المهندس فيها، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية، لعثر فيها على عوج لا يدرك بحاسة البصر. فنفى الله ذلك العوج الذي لطف عن الادراك إلا بمقاييس الهندسة. وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الاحساس لحق بالمعاني، فقيل: فيه (عِوَج) بالكسر].

ردَّ صاحبي يلتمسُ منيَ العذرَ وقد قذفني بعار عمائم التدليس المُتطفِّل. فأجبتُ بحرفٍ جميلٍ مُتجدِّل؛

لا عليكَ يا صاح، فلا لومَ على العمائمَ ذواتِ الذِكرِ المُتَسوِّل، لأنها لا تجرَّأ على دسِّ تدليسها على قوم ذوي فكرٍ نبيلٍ متأصِّل، حتى تستيقنَ أن أولئك القوم قومٌ مُرجفونَ مُرحِّبونَ بل مُغرَمون بكل ذرفٍ عِوَج مُتَبَدِّلٍ مُتجوِّل، ثم تراها - اي العمائمَ - منطلقةً في كل طريقٍ عَوَج مُتغوِّل.

انتهى الحوار مع صاحبي النبيهِ المًتفضِّل، وغادرَ الدار فبادرتُ لزوجي حذوي آمراً لها بقولٍ في الودِّ كفيف متهدِّل : "آتنا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِيتُ مِن حِواريَ هَٰذَا نَصَبًا، أوَما تَرَينَ حاجبَ السَّاعةِ قد غمزَ للرابعةِ عصراً، أمَا وإنكِ لزوجٌ عَوَجٌ عِوَجٌ عُوُجٌ عُوَجُ وعِوُجٌ، ولبئس يومُ العرس ذاك، إذ كانَ يومَ نحسٍ مستمرٍّ وذا نوءٍ عِوَجٍ غيرِ مُستقرِّ أهوج؟ فردَّت عليَّ زوجي بتَغَنجٍّ مزعجٍ يَبَسٍ بئيسٍ ذي عِوَج:

- وهلِ تهي (الشخابيط) التي تكتبها قدِ اسْتَنْزَفَت قواكَ وجعلَتكَ جائعاً يا بَعليَ ذي الفكرِ الأعرج، والذِّكرِ الرجرَج؟

واهٍ ثم آه!

ما أرانيَ إلّا قدِ اقترنتُ بزوجٍ همج، العمائمُ أهونُ منها حديثاً وأبلج، ولكن..

هذا جزاءُ كل مَنِ اقترنَ بزوجٍ عِوجٍ من غيرِ منهج !

***

علي الجنابي

 

هل تكفي جلستان معهما تفقدهما بعدها ليسرح في قلبك حزن يجبل ذاته بعبير ورود استقبلتك في تلكما الزيارتين في مدخل بيتهما؟!

وهل لو قدر لك اختيار شكل موتك ستختاره رومانسيا، وأنت تعلم أنهم سينسجون حوله حكاية لعاشقين ظلا حتى لحظاتهما الأخيرة يدا بيد، أمنية تتمنى لو أن الكون لا يفرقهما؟!

وهل يجذبك المكان الذي عشقته، وأكثرت من التردد عليه لتمارس هواية تحبها لتقضي نحبك فيه، وأنت الذي شرقت تفاصيله وتنفستها؟!

وهل يقدر لأناس أن يلتقوا، لأن قدرا ما يجمعهم، ولأن أحاسيس ما سيعيشها طرفان سترافقهما ذكرى جميلة رغم ما ستغص به من الألم؟!

وهل الوجوه المرايا تعكسك في الانطباع ذاته، وحين حملت لها الود بادلتك بالود ذاته؟!

ترى حين نغوص في أسرارك يا حياة على أي شطّ سنتوقف، وفي أي الأبواب سنلج، ومن أي الكنوز سنعبّ؟!1369 aman

السيد أحمد دنيا، وزوجته السيدة حليمة النابلسي/ دنيا لبنانيا الأصل من مدينة المنية التابعة لطرابلس، عزيزان قريبا غاليين علي، صعقني خبر موت الزوج، وطريقته وما حصل للزوجة، خبر دريت به منذ ساعات، ومن حينها والمشاهد أمامي تتوالد، ورغم أنهما كانتا زيارتين لبيتهما فقط، لكني أقف دهشى مما راحت تشتغل عليه ذاكرتي من الإضاءات، وكأنهما سنوات أزورهما كل يوم، ولا أنقطع..

في أولاهما حفّني عبير الزهور في صدارة بيت أفصح عن دفئه، وسار معي وافترش جلسة ثنيتها بصحبة صديقتي الغالية سلام أخت صاحبة المنزل وزوجها الغالي أخي عمر علم الدين، وجميعهم ينحدرون من بيوت كرم وحفاوة وود ووفاء يندر وجوده في هذا الزمان، وفي مدينة مثل سيدني غربية تبعد، وتنأى في كل شيء عما حملناه من موروثات وتقاليد كعرب، وكمسلمين في أوطاننا الأم.1370 aman

كان بود يوم الاثنين المنصرم أن يكون يوم نزهة مرح، وصيد لزوجين في سن التقاعد جمع بينهما الحب وظللتهما السكينة، اعتادا التردد على ركن من نهر باراماتا عندما أفلت قياد السيارة من السيد أحمد رحمه الله، ويعتقد أنه داس على دواسة البترول، وأول ما شحط أمامه زوجته التي ارتفعت في الهواء، وسقطت ثانية على مقدمة سيارتهما السوداء التي أودت بجزء من الجدار السلكي الفاصل بين النهر والرصيف، قبل أن تسقط بثقلها في النهر دائرة تسحب طريقها المائي إلى عمق النهر!

قدرت الحياة لحليمة الزوجة الوادعة، شفاها الله وعافاها، لكن الموت استأثر بزوجها الرجل الثمانيني الوقور الهادئ كطفل بريء..

ستصاحبني جلستان معهما في بيت نطق بنظافة ناصعة، نظافة قلبين استضافاني ذات مرتين، وسيظل الطريق إلى بيتهما يغدق في قلبي نورا رغم أنه كان مظلما في تلكما الساعتين، وستعنّ على البال سنارة صيد، وسلة بلاستيكية لحفظ الأسماك التقطتا صورة تذكر بحبيبين سقطت ورقة أحدهما بعد أن ناداه الله إلى واسع رحمته، وقدّر للآخر أن ينتظر منفردا يعيد ترتيب المشاهد مثلي بدمع لن يضاهيه نهر برماتا غزارة وسيلانا..1371 aman

أمان السيد - سيدني

16-4-2025

 

لطالما كان الحنين مرشدًا لي في دروب الزمن المظلمة، يسحبني في خيوط ضبابية، تائهة بين دفاتر الماضي وأحلامي المستحيلة. كلما أغرق في الصمت، أسمع في أعماقي أصواتًا قديمة، همسات من ذكريات كنت أظنها قد غادرت منذ زمن بعيد. كل زاوية من حياتي تحمل شيئًا منك، تفاصيل صغيرة كنت أراها بديهية حينها، واليوم أصبحت جزءًا من قلبي الذي لا يعرف كيف ينجو من ألمه.

أنتِ في كل الوجوه، في كل الأماكن، في كل اللحظات التي تلوح لي حين أغلق عيني، وكأنك جزء من هذا الكون، لا يمكن التخلص منه. أبحث عنك في طيف يمر أمامي، في لحظة شروق، في خيوط القمر التي تتساقط على روحي ببطء. وفي كل مرة أظن أنني نسيت، يعود الحنين ليذكرني بما كنت عليه، بما كنت تملكينه مني.

عينيّ لا تفتأ تتساءل كيف كان ذلك الحلم حقيقيًا في يوم ما، وكيف ضاع بين يديّ كأنه لم يكن سوى سراب. كيف اختفى الأمل في لحظة، ليبقى الحنين فقط، يتجدد كلما لامست روحي لحظة مفقودة. والآن، أعيش بين الماضي الذي لا أستطيع الهروب منه، وبين الحاضر الذي أبحث فيه عن بقاياك.

ولكن ماذا أفعل؟ كيف لي أن أعود؟ هل يمكن أن أستعيد تلك الأيام التي كانت مليئة بك؟ أو هل أصبحت مجرد ذكرى عابرة تمزقها رياح الزمن؟ ربما في عمق الحنين، أكتشف أنني لا أبحث عنك فقط، بل عن نفسي التي كانت هناك، معك، في تلك اللحظات.

***

ربا رباعي - الاردن

 

حين تختنق الروح بصمتٍ مدوٍّ، تبدأ بالانطفاء.. تُمارس الحياة بجسدٍ حيّ وقلبٍ يحتضر.

تمشي، تضحك، تتحدث… لكنك تحمل بداخلك جنازةً مؤجلة، وجعًا عالقًا، وحنينًا لا تعرف مصدره.

حين تنطفئ، لا يعني أنك ضعيف، بل يعني أنك تعبت من القوة.

تعبت من مجابهة الحياة بصدرٍ مفتوح دون أن تجد كتفًا تستند عليه…

من محاولات التماسك كل مرة، من رفع رأسك كلما انكسر، ومن قول "أنا بخير" وأنت لست كذلك.

كل الذين قالوا "أنا هنا إن احتجتني"، لم يكونوا هناك حقًا…

كانوا مجرد صدى بعيد، كلمات عابرة، تعاطف مؤقت، ثم مضوا.

ولم يبقَ أحد يلمّ شتاتك حين بعثرتك الحياة…

في لحظة ما، تشعر بأنك غريب حتى عن نفسك.

تجهل مَن تكون، ولماذا تبدو ضائعًا.

تتفقد ملامحك في المرآة… تبحث عن النسخة القديمة منك، لكنها لا تعود.

تحاول أن تكتب، أن تبكي، أن تصرخ… لكن لا شيء يُخرج هذا الكم من الألم.

المؤلم ليس فقط أن تُخنق، بل أن لا يفهم أحد معنى اختناقك.

أن يُفسَّر حزنك بالتمثيل، وسكوتك بالغرور، وبعدك بالتجاهل.

أن يشعر بك قلبك فقط، بينما العيون من حولك عمياء عن كل ما يجري داخلك

ربما أنت لا تحتاج إلى من يُنقذك…

بل إلى من يفهم صمتك، يقرأ ملامحك، ويُمسك يدك دون أن تُخبره أنك على وشك السقوط.

ربما أنت لا تطلب الكثير… فقط حضنًا صادقًا، و"أنا معك" لا تشبه الوعود الكاذبة.

هذه ليست قصة حزن مؤقت…

بل قصة أرواح صارت معتادة على الحزن، لدرجة أن الفرح صار غريبًا عنها.

هذه ليست كلمات شخصٍ ضعيف…

بل كلمات قلبٍ قوي تعب من الصراخ في فراغٍ لا يسمعه أحد.

***

ايناس الحربي

في قصته الرمزية “الفونوغراف الأزلي”، كتب خورخي لويس بورخيس جملة تختزل مصير الإنسان في العصر الحديث: “الإنسان يموت عندما تختفي مكتبته”. لم يكن يتحدث عن اختفاء مادي لرفوف الكتب، بل عن اندثار كينونة الإنسان المفكّر، عندما تُسلب منه أدوات الذاكرة، والتأمل، والربط، والتأويل. المكتبة عند بورخيس ليست أثاثاً ثقافياً، بل جهازاً وجودياً يصنع المعنى، ويمنح الذات هويتها التاريخية والرمزية. حين تختفي المكتبة، لا يغيب الحبر والورق، بل يغيب الإنسان بما هو كائن متسائل.

2- من الذات المفكّرة إلى الكائن المُدار

لقد دخل الإنسان، من دون وعي، عالماً تُديره خوارزميات، وتُسيّره آليات لا مرئية تتعقب سلوكياته، وتعيد تشكيل رغبته، وتُعيد برمجته وفقاً لمعطيات السوق. لم يعد الفرد كائناً يفكر، يقرّر، يتخيّل، بل صار يُدار عن بُعد بواسطة تقنيات التتبع والتحليل السلوكي التي تديرها شركات التكنولوجيا العملاقة. أصبح الإنسان مجرد بيانات رقمية، مادة قابلة للقياس، يتم التلاعب بها لأغراض تسويقية وسياسية. وهنا يموت الإنسان كذات حرّة، ويُبعث كـ”مستخدم” ضمن نظام تشغيل رأسمالي.

3. اقتصاد الألم وإدارة الجسد

التحوّل الأكبر لم يقف عند حدود الفكر والرغبة، بل تجاوزهما إلى الجسد ذاته. شركات الأدوية الكبرى لم تعد تسعى إلى علاج الإنسان بقدر ما تسعى إلى إدارة ألمه واستثماره. فالأمراض المزمنة تدرّ أرباحاً أكبر من الشفاء، والألم المستمر أكثر نفعاً من الراحة. نحن أمام اقتصاد مبني على وجع الإنسان، تتلاعب به شركات تسعّر الأدوية، وتتحكم في الإمدادات، وتنتج علاجات مؤقتة تبقي المريض في حالة استهلاك دائم. وهكذا يتحوّل الجسد إلى سلعة، والألم إلى عملة، والحياة إلى معمل تجاري مفتوح.

 سحق الذاكرة وتحويل الروح إلى خوارزمية

في هذا السياق، لا يُمحى الجسد فقط، بل تُسحق الذاكرة. الإنسان لم يعد بحاجة إلى أن يتذكّر، أن يحلم، أن يتأمل؛ فالتقنيات الجديدة تعرض عليه كل شيء جاهزاً: ملخصات، إشعارات، مقاطع قصيرة، ترشيحات أوتوماتيكية. أصبحت الروح عبارة عن ذاكرة خارجية مخزنة على خوادم ضخمة، يحدد الآخرون ما يبقى منها وما يُمحى. وهكذا، تحوّلت الروح من كونها مجالاً للتجربة والعمق، إلى خوارزمية تُملى عليها اهتماماتها، وأذواقها، ومواقفها.

المكتبة: آخر معقل للمقاومة الرمزية

في مقابل هذا الانهيار الرمزي، تظهر المكتبة كملاذ لا غنى عنه. ليست المكتبة، في هذا السياق، مجرد مكان تُخزَّن فيه الكتب، بل هي معمار روحي ومعرفي يقاوم ابتذال الوجود، ويدفع الإنسان إلى التأمل، والمساءلة، والتخييل. في المكتبة، يعود الإنسان إلى ذاته؛ إلى الأسئلة الأولى، إلى الأنساق الكبرى التي تُفسر العالم. إنها الفضاء الذي يسمح له بالخروج من فقاعة الاستهلاك، والتفاعل مع نصوص لا تخضع للّحظة الرقمية، بل تُمثّل تراكمًا تاريخياً وفلسفياً يُغذّي المعنى.

القراءة فعل حرية… لا استهلاك

القراءة هنا ليست نشاطاً ترفيهياً، بل موقف وجودي. من يقرأ لا يُدار، لأنه يملك أدوات المقاومة: العقل، الخيال، اللغة، والذاكرة. القراءة تُبطئ الزمن، وتفتح نوافذ على احتمالات غير مفروضة، وتعيد للإنسان قدرته على قول “لا”. من يقرأ لا يكتفي بالتمرير، بل يسأل ويُعارض ويعيد ترتيب المعنى خارج حدود السوق.

أن تحيا بمكتبة… أن تبقى إنساناً

حين تختفي المكتبة، لا تغيب الكتب فحسب، بل يُمحى الإنسان ككائن رمزي، مبدع، متأمل. حين تُستعاد المكتبة، تُبعث الذات من جديد. المكتبة، بما تحمله من مخزون لغوي وفلسفي وأخلاقي، تُعيد للإنسان صورته التي شوّهها التسليع الرقمي والتفاهة المنتجة على نطاق واسع. إنها الحصن الأخير في معركة المعنى، وهي السبيل إلى النجاة من العدم الناعم الذي تفرضه الخوارزميات.

خاتمة: لا خلاص بلا ذاكرة

في زمن تسحق فيه الرأسمالية الرقمية الإنسان بين شاشات تُلهيه وأدوية تُبقيه ضعيفاً، تبدو العودة إلى المكتبة ليست فعلاً ثقافياً فقط، بل ضرورة وجودية. الإنسان الذي لا يتذكّر، لا يقرأ، لا يتأمل، لا يمكنه أن يكون حراً. وحين يموت المعنى، تموت الذات. وحين نحيي المكتبة، نمنح أنفسنا فرصة أخيرة لنكون بشراً، لا مجرد رموز في قاعدة بيانات عالمية

***

يونس الديدي - كاتب مغربي

بقلم: هيذر كريستيل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

لا ينبغي السماح بإخراج ضلعٍ من جسد أي كاتب، فما بالك بشاعرة.  فالاستعارة قوية جدًا لدرجة أنه، بعد الجراحة، ستضطر إلى التعامل ليس فقط مع الآثار الجانبية المعتادة (الإمساك، وجرح صغير في الرئة، وألم يتطلب مسكنًا بقوة "عشرة" على مقياس الوجوه المتألمة المنتشر)، ولكن أيضًا مع صدى باقٍ يهدد بالانفجار في كل جملة تلتها، سواء كانت تنطق بها أو تكتبها.

تصرخ: أخذوا ضلعي!"

تجيبها الصديقة الزائرة في محاولة للمساعدة

"وهل صنعتِ امرأة؟"

تقول الكاتبة، تلك الإلهةَ الخرقاء اليائسة.

"لا "

ثم تضيف:

"لكنني، صنعتُ كتابًا."

***

هل لديك مذكرات بداخلك، لكنك تعانين في إخراجها؟"

يسأل غلاف كتاب تعليمي. أجد هذا مضحكًا للغاية، وكأن المذكرات هي الشيء الذي يصعب عليك شرحه لطبيب المستقيم في غرفة الطوارئ. كما يبدو غير دقيق؛ فالكتب تمر عبر الجسد، وتتشكل بطرق معينة بفعل الجسد، لكنها — من خلال تجربتي — لا تنبثق ببساطة كاملة التشكّل من الداخل.

شعرتُ وكأنها صفقة من حكاية خيالية: أتنازل عن ضلعي، فيسلمني رجل صغير ملتحٍ كتابي، أخيرًا مُذهّبًا.

ومع ذلك! أخذوا ضلعي! في ذلك الوقت، كنت أحاول إنهاء التعديلات على رواية In the Rhododendrons، وهو مذكرات كنت أعمل عليها منذ ست سنوات. بدا الأمر كصفقة من قصة خيالية: أتخلى عن ضلعي، فيعطيني رجل ذو لحية كتابي، وقد أصبح ذهبيًا أخيرًا. في الثاني من أبريل 2024، استيقظت لأجد يدي اليمنى وذراعي ثقيلتين ومتورمتين، بلون غير جذاب بين الرمادي والأرجواني الداكن. بدا أن هذا أمر سيء، لذا ذهبت إلى غرفة الطوارئ، حيث أخبروني أنني مصابة بتجلط دموي في الوريد العميق بالقرب من عظمة الترقوة، بالإضافة إلى وجود انسداد رئوي صغير. السبب كان متلازمة باجيت-شروتر، وهي حالة نادرة يتطور فيها الضلع العلوي وعظمة الترقوة والعضلة بطريقة (غالبًا نتيجة للتمارين الرياضية المرهقة المتكررة) بحيث يتم سحق أحد الأوردة الرئيسية التي تمر عبر المنطقة تدريجيًا إلى درجة أن الدم لا يستطيع التحرك بشكل طبيعي، بل يتجمع في كتل من المادة الحمراء اللزجة.

قال لي الجراح بعد أن نقلوني إلى غرفة المستشفى استعدادًا للعلاج العاجل: "توجد هذه الحالة غالبًا في الرياضيين الشبان شديدي اللياقة البدنية"، فشعرت أنني أستحق درجة A للتمارين المكثفة التي كنت أقوم بها تقريبًا يوميًا لمدة أربع سنوات. في وقت لاحق، في غرفة العمليات، أثنت ممرضة على عضلاتي، فوضعت نجمًا ذهبيًا آخر على مخططاتي الداخلية قبل أن أفقد الوعي. غروري ليس له علاج معروف.

خلال فترة الاستشفاء الأولى تلك، كان التركيز منصبًا ببساطة على إزالة الجلطة، وهي عملية من جزأين، قضيت بينهما الليل في وحدة العناية المركزة، في ألم لا يُحتمل وبركة من البول تخصني. وقد نتج هذا الأخير عن رفض ممرّض الليل تصديق أن الجهاز ذي الاسم المروّع "بيوروِك" لم يكن يعمل بشكل صحيح، إضافة إلى رفضه طلبي البسيط بأن يتفحّص، كما تعلم، أغطية السرير.

أما السبب وراء الألم فكان رفضه مساعدتي على إمالة جسدي المجمَّد قليلًا إلى الجانب، إذ قال إن ذلك قد يؤدي إلى طعن الأعضاء الداخلية بالقُسطرة المثبتة في أعلى فخذي. ولم يكن بإمكانه إعطائي مسكنًا للألم، خوفًا من أن يتداخل مع المواد المختلفة التي كانت تسري بالفعل في عروقي وتدفع أرقامي—وكان لديّ الكثير من الأرقام—إلى مناطق الطوارئ.

قلت:

"أرجوك"

لكنه لم يسمعني ومضى مبتعدًا. بكيت. بلغ وجهي الدرجة القصوى من الألم.

وكأن الكلمات كانت سُلّمًا يمكنني التشبث به بدل السقوط في الهوّة المحيطة بي، بدأت أردد القصائد لنفسي، وحين نفدت، لم يتبقَّ لي سوى ترديد ترنيمة بسيطة: "أنا شاعرة، أنا إنسانة، أنا شاعرة، أنا إنسانة"، وأنا أشعر بوحدة تامة، وكأنني منبوذة، مستبعدة من كل تعاطف بشري.

لم يكن هناك شيء سوى الظلام ونقاط وامضة. حمراء، صفراء، خضراء.

وفي الصباح، حين أعادت الشمس الألوان الأخرى إلى الغرفة، أبدت الممرّضات الجديدات امتعاضهن وهن يغيّرن فراشي وأدويتي.

قلن لي:

"عليكِ أن تُخبِرينا بهذه الأمور! نريد أن نتجنب الألم"

لم تُجرَ العملية التالية، وهي إزالة الضلع المسبّب للمشاكل، إلا بعد مرور شهر آخر. بعد ذلك، أراني الجرّاح صورةً له. بدا وكأنه ضلع احتياطي، وهو كذلك بالفعل، إذا أخذنا كل الأمور بعين الاعتبار.

في اليوم السابق لذهابي إلى غرفة الطوارئ، كنتُ قد أرسلتُ مسودة المخطوطة إلى والدتي عبر البريد، لأنني كنت بحاجة إلى أن تتحقّق من الحقائق الأساسية في السرد، ولأنني كنتُ أعلم أنها ستجد قراءة الصفحات أمراً صعباً. كنتُ أرغب في تمهيد أكثر الطرق لطفاً نحو نشر الكتاب. ثم عدتُ إلى المنزل ومارستُ التمارين باستخدام أوزان جديدة أثقل من المعتاد، في محاولةٍ لإبعاد ذهني عن كل شيء.

عندما بدأتُ العمل على رواية " بين نباتات الرودودندرون"  كنتُ أتصوّر أنه سيدور حول موضوع حدائق كيو، تلك المساحة النباتية الواسعة التي كانت والدتي تلعب فيها في طفولتها، على مقربةٍ من منزلها في الجانب الغربي من ضواحي لندن. كنتُ أعرف كيف أُنشئ مثل هذا البناء؛ فقد سبق أن فعلتُ ذلك في كتاب البكاء. من تلك النقطة المركزية في كيو، كنتُ أظنّ أنّني سأجد محاور تشعّ منها — تواريخ شخصية وعامة، معلومات علمية واقتصادية وثقافية، مع اهتمام مستمر بحياة وأعمال فرجينيا وولف، التي كانت قد أقامت في الجوار ذات يوم.

أحدُ المحاور المشعّة في سجلّ تاريخي الشخصي يتضمّن ليلة لا أتذكّرها تمامًا، كنتُ فيها فتاة في الرابعة عشرة من العمر، ثملة، دخلتُ مع رجل إلى زقاق خلف نادٍ ليليّ في لندن، وخرجتُ ودمٌ على ملابسي الداخليّة. لم يكن ذلك أمرًا تافهًا، لكنه أيضًا لم يبدُ وكأنه في صميم الكتاب.

شهرًا بعد شهر، كنت أضيف دائرةً تلو الأخرى: بيت النخيل الضخم في حدائق كيو، وكيف كان زجاجه في السابق أخضر اللون، والطريقة التي وصفت بها وولف بريقه، "كما لو أن سوقًا كاملًا من المظلات الخضراء اللامعة قد فُتح تحت الشمس"، ثم أوجه الشبه المعمارية بينه وبين قصر الكريستال، وكيف أن أول مشاة بريطانية قُتلت بسيارة كانت على مضمار السباق قرب قصر الكريستال، وكيف أنها — قبل أن تصدمها السيارة — رفعت مظلتها وكأنها قد تحميها.

كان هذا مجرد خط واحد من خطوط الاستقصاء. وقد تورّمت المسوّدة لتتجاوز 120 ألف كلمة، قرأتها وكيلتي الأدبية — ببطولة — ثم اقترحت بلطف أن أبدأ بتقليصها. هناك سطر من قصيدة لتوني توست غالبًا ما أفكر فيه: "لا أعرف كيف أتحدث عن والدي البيولوجي، لذا سأصف البحيرة."كانت لديّ بحيرات كثيرة. وبدأتُ عملية تجفيفها.

من المنطقي أن يصبح إتمام تأليف كتاب صعب مرتبطًا مجازيًا بمغامراتي الطبية المتزامنة.

في أول حديث لي مع المحررة، سألتني عمّا أظن أن الكتاب يدور حوله، في جوهره، فلجأت إلى كذبة مريحة: قلت إن الكتاب—مع بعض الانحرافات العرضية—يدور حول ثلاث نساء: أمي، وفرجينيا وولف، وأنا. ثم رأيت، لخيبة أملي، أن هذا كان صحيحًا، مما عنى أنني لن أكتفي فقط بمواصلة هذا الاستنزاف، بل سيتوجب علي أيضًا أن أنظر مباشرة في أحداث من حياتي كنت، حتى تلك اللحظة، أُبقيها تحت الماء. وما هو أصعب من ذلك، كان علي أن أرى الروابط بينها.

تنقلت بين دفاتر يومياتي القديمة، ورسائل، وأحاديث مع العائلة، وغالبًا كنت أتمنى لو أنني أجد معانيَ مغايرة لما هو موجود فعلًا، لكن ما إن تعلّمت ما تعلّمته، حتى بات الكتاب يطلب حضور هذا الفهم الجديد. لا يمكنك أن تنسى ما عرفت، لكن يمكنك أن تصوغه في كلمات تُرضيك، تصنع كُلاً حيث لم يكن هناك شيء.

حين وضعت المخطوطة في ظرف لأرسلها إلى أمي، ارتجفت يداي. كنت قد بذلت كل ما في وسعي لأكون عادلة، ولأفهم تجربتها هي أيضًا، لكن كما يذكّرني الناس دائمًا، مقتبسين داني ألتمان: "لا أحد يقول بحماسة: يا للفرحة! هناك كاتبة مذكرات في العائلة!"

هل كان التوتر الناتج عن تخيّل أمي تقرأ كتابي هو ما جعلني أرفع أوزانًا أثقل من المعتاد في تلك الليلة، وأتمرن حتى أسحق أفكاري؟ هل كان فعل كتابة الكتاب، مثل إزالة الضلع، نوعًا من التحرّر؟

حين أكون في خضم الكتابة، يصبح العالم بأسره قائمًا على علاقات محتملة. ولكي أقول الحقيقة، فإن هذا الأمر يكون مثيرًا في العادة، حتى عند التعامل مع مواضيع صعبة. الصور تتكاثر، ولا شيء يخلو من معانٍ متعددة. "كل شيء"، كما كانت وولف تمزح مع شاعر أحبّته، "كان في الحقيقة شيئًا آخر." لذا يبدو منطقيًا أن يكون فعل إتمام كتابٍ مُتطلب قد ارتبط مجازيًا بمغامراتي الطبية المتزامنة.

ومن داخل هذه الحالة المتشابكة، صرت أطرح على نفسي سؤالًا: ماذا كنت سأفعل لو اضطررت للاختيار بين وجود الكتاب واحتفاظي بضُلعي، وبالتالي تجنبي لشهور من العمليات الجراحية المتعددة وتعافيّ المعقّد والمضني؟ وكنت أختار الكتاب في كل مرة. وهذا جيد. فهذا يعني أنني أؤمن بهذا العمل، رغم قلقي المعتاد (وولفيّ الطابع) من ظهوره الوشيك إلى العالم.

لكن هذا لم يحدث. لم يكن هناك رجل صغير يحدّق في ضلعي وهو يحمل كتابًا ذهبيًا في يده. (ماذا عساه كان سيفعل به؟) التجويف الصغير الذي يقع الآن تحت ترقوتي لا يشبه بأي حال شكل صفحاتي.

صحيح أنني أستطيع أن أرسم روابط (مثل التمرين الذي ذكرتُه، أو عادتي في العمل منحنية لساعات فوق اللابتوب على أرضية الخزانة، بوضعيّة فأر شديد التركيز ومدرّب جيدًا)، لكن ثمة الكثير من العوامل الأخرى التي سيتعين عليّ استبعادها كي أجعل هذا المعنى المبسّط ينجح.

ولذا أواصل إرغام نفسي على الاعتراف بأنه لم يكن هناك تبادل، ولا صفقة، ولا حكاية خرافية. ها هو الكتاب، وها هو ضلعي. أحدهما حكاية، والآخر حياتي. أحدهما فن، والآخر جسدي. وأنا أعرف الفرق. فقط، وللأفضل أو للأسوأ، في المرض كما في الصحة—أنا أعيش في كليهما.

***

.....................

الكاتبة: هيذر كريستل / Heather Christle مؤلفة المجموعات الشعرية: "المزرعة الصعبة"، و"الأشجار"، الحائزة على جائزة "بيليفر" للشعر، و"المدهش"، و"غروب الشمس". نُشرت قصائدها في مجلة "نيويوركر"، ومجلة "لندن ريفيو أوف بوكس"، ومجلة "بويتري"، والعديد من المجلات الأخرى. تُدرّس الكتابة الإبداعية في جامعة إيموري بأتلانتا. "الكتاب الباكي" هو أول كتاب لها في مجال الكتابة غير الروائية. مؤلفة كتاب "Between the Rhododendrons" تتأمل في المرض، وفيرجينيا وولف، وصفقةٌ من حكاية خيالية

 

نحمد الله ونشكره، أننا اكتشفنا جداً لنا اسمه (غشيم)، إثر حملات التأطير السكاني والجرد الحزبي، التي تقوم بها أجهزة نظام صدام حسين الأمنية والحزبية، والنبش في سجلات العراقيين المدنية للتأكد من تبعيتهم (العثمانية) منذ ستينيات وسبعينات القرن الماضي، وإستمرت حتى نهايته بأساليب و(فنون) لا مثيل لها في البحث عن الأرومات (الأصيلة). لتمنحهم بعد ذلك فرمانات (النقاء) العرقي . هناك شكوك دائمة في عراقيتنا ووطنيتنا، كأننا شعب بلا تاريخ، ولا أصول، شعب مقذوف إلى الحاضر من اللامكان واللازمان. لم تكتف تلك الأجهزة بالأسم الثلاثي، إنما ظلت تنقّب، لا يهدأ لها بال، تتابع السلالات من دون توقف حتى عند گلگامش !

كنا نسبّح بحمده أنهم لم يجدوا في أصولنا أسم (أغا)، أو  (جيهان) أو اسم (شاه) في سلالتنا (الصافية المصفّاة)، ربما كان مصيرنا أسوأ من أولئك الذين رموهم على الحدود فيما لو عثروا على إسم (قلي) بيننا، فحمدنا الله مرة ثانية أنهم وجدوا (غشيم) والد جدي (علي)، وليس غيره، هو الرباعي ضمن تسلسل الأسماء، واكتفوا به، إذ لا مثيل لاسمه في السجلات المدنية العراقية، (ماركة مسجلة باسم عائلتنا)، لا أحد يشاركنا فيه، امتيازنا وحدنا، تمسّكنا به خشية أن لا يضيع من بين أيدينا أو ينافسنا أحد عليه.

كنا ننصت الى الأصوات الآتية من الماضي فلم نفلح في إسترجاع صوت (غشيم) ولا صورته.

على الرغم من سعينا القفز على اسمه في حالات لا تتطلبها الإجراءات الرسمية، فنذهب إلى أبيه (حمد)، الأجمل (ما عبّد وحمّد) بين الأسماء، عملتها أكثر من مرة للالتفاف على اسم جدي غشيم، حين ينتابني شعور بالخجل أثناء المناداة على اسمي في جمع من الناس، لا شك أني أتمنى لحظتها أن يكون أسم جدي (نبيه)! لكنه يلازمنا، لا فكاك من ظلّه في كل الأحوال.

لم يكن (غشيم) إبن مدينة، كان إنساناً مشتعلاً بالحرمان - كما يروي أبناؤه- تلفحه رياح الفصول، ينام ويصحو على فقره، يقيم في أرض يشبّ البؤس والجوع فيها، لا غيم يهطل ولا شفة تتوحم بالماء. كل زاده من الدنيا بضعة نعجات يقتات من لبنها، فهو غير (زبالة) ابن بغداد العاصمة، الذي عبرت شهرته الأفاق بـ (شربته) المصنوع من الزبيب، وغير (جريو) الذي تنسب له العائلة النجفية المشهورة والكريمة، فقَدر (غشيم) وقدرنا، انه عاش حياة بسيطة في الأماكن التي يتناسل فيها الجراد، الوصول إلى تفاصيلها غير مأمون الجانب، وتاريخ هذا النمط من الناس مرشح دائماً للنسيان، حين لا نجد أثراً أو معنى للاستذكار.

قدرنا الآخر أن اسمه على الأغلب لا يكتبه موظفو السجل المدني بصورة صحيحة، فتذهب نشوة (الامتياز)، لتحضر المتاعب بديلاً عنها، تذكّرنا بمساحات مجهولة مازالت مستكينة في أعماقنا، فـ (غشيم) جاء صحيحاً في بطاقتي المدنية، و(غثيم بالثاء) عند شقيق لي، و(غتيم بالتاء) لدى شقيقة، وعند آخر هو (غنيم). و(عتيم)، و(هشيم)، وهكذا… (غشيم) لا يعرف الثبات بل هو(متحول) في السجلات الحكومية، ربما هو الآخر يريد أن يزيح هذا العبء الثقيل في البحث عن إلفة وتعاطف مع الأسماء المجاورة، لكن البداية تبقى معلقة بالجذر.

قد يبدو للبعض أن للإسم طاقة تفعل فعلها فينا، وربما حالة كهذه يستطيع علم النفس أن يفسرها، هذا الفعل إن صحّ، ترسّخ في مخيالنا وذاكرتنا، الأمر الذي دعانا أن لانقاوم الهواجس المبالغ فيها، بتأويل ما نتعرض إليه من إخفاقات وخسارات في الحياة والعمل والسياسة والعلاقات، وفي الأرواح (عائلة غشيم فقدت ثلاثة أحفاد في شهر واحد) فنردّه إلى (قدرنا) الذي ورثناها من (غشيم)، نحن لا نخوض المغامرات، ولا عرفنا المقامرة، اغلب الأحيان لا نمتلك الجرأة في خوض المنافسات، أو شراء بطاقات اليانصيب تكون فيها النتائج محسومة لأصحاب الحظوظ العظيمة، فلا حرج علينا نحن ذرية (غشيم) إن سهونا وتناسينا وغفلنا أو خسرنا أو فقدنا أحبتنا في موت مفاجئ !

هذا الإحساس يتدخل أحياناً في تشكيل بعض استجاباتنا لهذا المعنى، دون أن نصدّق صوَرهَ وحالاته اللامنطقية، نتندر بها مع التكرار، ونتصرف على أساسها دون وعي، و(طاقة الإسم) التي يزعم البعض أنها تؤثر في شخصية الإنسان وتصرفاته، تبدو ماثلة أمامنا في حالات معينة لا تشكل قاعدة لما أشرنا إليه، لكنها تبدو متطابقة مع ما يحمله الإسم من دلالات في بعض المواقف والإخفاقات .

فالطالب (برغوث) يعاني من سخرية زملائه، وابتعادهم عنه، خشية من لدغة الحشرة (برغوث)، وهمْ المخاوف منه قادته إلى الخجل من اسمه، ثم الهروب والعزلة والانطواء على نفسه. لكن ماذا عن آخر اسمه (حرب)؟ وهو إنسان رقيق ومسالم، وماذا عن إسم (چلوب)، أو (بعر)؟ إذاً أين التفسير الذي يذهب إليه الزاعمون بـ (طاقة الإسم)، وتأثيراته الماورائية؟

لتهدأ مخيلتنا إذاً، فما عادت التداعيات التي تأتينا تمسك بالطبيعة الإنسانية التي تمتلك قوانينها، وماعاد التمسك بجدّنا (غشيم) يشغلنا كثيراً مادام أولادنا وأحفادنا تخلصوا من تبعاته، وما دام أغلب العراقيين يشاركونا المصير ذاته، فنحن جزء من كل، من شعب (غشيم) يضحك عليه الساسة الفاسدون والسراق، يمررون عليه أكاذيبهم وتفاهاتهم.

***

د. جمال العتابي

 

أكتب إليكم من فوق المصطبة، من قاع الريف، من "المندرة" و"حجرة القاعة"، حيث ما زالت رائحة اللبن المغلي تختلط برائحة التبن، وما زال قلبي يرتدي جلباب أبي، وأحاول أن أتماسك وأنا أراقب العالم وهو يتهشم أمام عيني على شاشة هاتفي الذكي، الذي صار أذكى من كثير ممن يحملونه.

اكتب إليكم من علي المصطبة ومن قاع الريف من حجرة المندرة وحجرة القاعه اكتب اليكم ومازلت اعيش في جلباب ابي، اكتب اليكم ولا اعرف يميني من شمالي في عالم التفاهه والفرجة ومن علي مقهي الفيسبوك

الذي جعل الجاهل اديبا ومفكرا

وصوته اعلي من صوت ماكينة الطحين.

اكتب والالم يعتصرني بالحزن علي الفوضي وابكي علي من ماتوا رجالًا.

أكتب إليكم من زمن غلاء الأسعار، ومن جنون البشر والبقر، حيث فقدت المعاني عقلها، وتبدلت القيم كما تتبدل "الفلاتر" على الصور.

اكتب اليكم من عش مجانين، وامر علي حلقات مجالس النميمة، اكتب اليكم من امارة بدون أمير.

ومن بين هذه السطور المتكسّرة، تمر أمامي وجوه معروفة في قريتنا:

"عم سيد البقال"، الذي صار فجأة خبيرًا اقتصاديًا بعد أن تابع ثلاث فيديوهات عن التضخم، ويشرح للعملاء كيف أن سعر البيض مرتبط بأسعار الغاز في أوروبا!

و"خالة زينب"، التي فتحت قناة على اليوتيوب لتفسير الأحلام، رغم أنها لا تفرق بين "رؤية" و"رؤيا"، وتقول دومًا: "أنا حسّاسة وبحس بالحاجة قبل ما تحصل".

و"الشيخ كُشك العائلة"، الحاج مبروك، الذي صار يحرّم كل شيء في فيديوهاته، بينما يدخن الشيشة في السر خلف الجامع.

و"صبحي المطوّع"، الذي يوزع صورته يوميًا وهو يمسك المصحف، ثم يعلق على كل منشور بفيديوهات رقص قائلاً: "جميلة أوي، الله ينور".

هكذا صارت المندرة استوديو بث، والمصطبة منصة رأي، والجمعية الزراعية صالة تحرير شائعات.

تمر الأيام والواقع يزداد كوميديا، حتى أن "العم جمال" الحلاق، صار يكتب خواطر عن الحياة والفلسفة، ونال إعجاب بنات البلد، رغم أنه لا يعرف الفرق بين نيتشه ونيش المطبخ!

أما مجلس النميمة فصار منصة تحليل سياسي، حيث يناقشون سقوط الدول وانهيار البورصات، وهم لا يعرفون موقعها على الخريطة.

ويزداد المشهد سخرية عندما يدخل موسم العزاء والفرح، فلا تفرّق إن كان بيت المتوفي أم بيت العريس! كلاهما تُنقل تفاصيله "لايف"، وتُعلّق خالة نعناعة على المأتم: "الله يرحمه، كان حلو في الصورة!"، بينما تكتب بنت خالته على فرح ابن العمدة: "اللهم لا حسد، عقبال عندنا... بس ماعجبنيش فستان العروسة".

وتحين ساعة الاستحقاق الانتخابي، فيبدأ موسم النفاق الرسمي:

المرشح يوزّع زيت وسكر وبوستات عن الوحدة الوطنية، ويركب التروسيكل ويزور كبار السن بابتسامة هوليودية، ثم يختفي بعد الفرز مثل الجن.

والناس، تلبس أقنعة جديدة، وتعقد "صفقة الشاي والبسكويت"، وتتحول صفحات الفيس إلى دعاية مجانية بحروف من خيبة.

نحن في قرية تحولت إلى "ريلز" مفتوحة على الهواء، والشارع صار نشرة أخبار، والمقابر مكان هادئ للراحة من ضجيج اللايفات.

وفي آخر الممر، طفل صغير يحمل هاتفًا أكبر من حجم كفه، يصوّر جنازة جده وهو يقول: "متنسوش تعملوا لايك وشير ودعاء للمرحوم".

هنا... أكتب إليكم من إمارة بلا أمير، من وطن يُدار بالفلاتر و"التريندات"، حيث نكتب على جدران الفيسبوك مآسينا، ونضحك... ثم نبكي... ثم نشارك الصورة.

وسلام على من ماتوا رجالًا... ولم يصبحوا "مؤثرين"

في هذا الزمان الذي اختلط فيه جنون البشر بجنون البقر....!!

من يوميات كاتب في الأرياف ،،

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث

 

"قصيدة من طفل لم يُكمل السقوط"

(ثائر من عمق الألآم)

***

في عمق التفكير الفلسفي، سألت المفترض افتراضا:

عزيزي الوفي، لقد عدت إليك وأنا مشتاق لحديثك الشيق. اليوم سنجري دردشة بيني وبينك بعيدا عن روايتي الجديدة جمال وكاترين، فهل تقبل بي ضيفا عليك في هذه الدردشة يا رقيق الخاطر؟

قال: هات ما عندك من حلو الكلام، ودقائق الخواطر، والسؤال عن أحوال الناس ...

أجبته: نستنطق الصمت بسؤال من عالم العرب والمسلمين، أليس ضجيج هؤلاء في فضاء الكرة الأرضية صمت قبور، وهم أحياء، لأنهم خارج التاريخ البشري بكل المقاييس والظواهر والحواس والإحساس؟

فدردش معي بعمق الفلسفة في معنى الوجود وماهيته ومتطلباته وشروطه وتجلياته في عالم الناس. وفي الصمت ومنطوقات رمزيته ودلالات إشاراته المعبر بالكلام بلا نطق ولا لسان ... هو عزف ألحان الموسيقى على كل الأوتار والآلات... إنه وجع يحن لمرافئ الهذيان، ليرسم الألآم على جدران الكلام، يترجمها لهيبا يحرق كل بنان، لا يفهمه إلا الوجدان، ثم قال:

ـ سؤالك يا صديقي ليس مجرد استفهام، بل هو صرخة تشقّ جدار الصمت السميك الذي التفّ حول أمة كانت يومًا ما تحمل مشعل الحضارة، فأصبح ضوؤها رمادًا يُذرّ في مهبّ الأمم الأخرى.

ـ قلت: بكل حروف التوكيد.

وأردف:

ـ  ضجيج العرب والمسلمين، في معظمه، يشبه صراخ الجسد المتعب الذي فقد وعيه: حركات كثيرة، أصوات مرتفعة، لكن بلا فعلٍ تاريخي يُغيّر المجريات، أو يصوغ واقعه بيده. وكأنهم خرجوا من نهر الزمن، واستراحوا على ضفافه متفرجين، بينما العالم يمضي إلى مصائره.

نعم، هم حاضرون جسديًّا في الجغرافيا، لكنهم، في الغالب، غائبون عن مسرح التاريخ… لا لأنهم لا يملكون العقول أو الإمكانيات، بل لأن البُنى العميقة التي تصوغ وجودهم مشلولة:

* النُّخب تائهة بين التبعية والتقليد،

* والأنظمة مغرقة في صراعات البقاء لا في مشاريع النهضة،

* والإنسان العادي مسحوق بين سُلط دينية وسياسية واجتماعية تُفرغ الإنسان من إنسانيته.

وختم بالسؤال:

ـ هل بقي في هذا الصمت جذوة؟

أجبته بآهات وآهات:

ـ نعم؛ دائما تحت الرماد جذوة نار ستحرق الوعي العربي والإسلامي نحو اشتعال الأمل في تغيير الحال ...

فعقب:

ـ ما أروعك وأصدقك يا صديقي…

حديثك كنبع صافٍ يتفجّر من قلب الحقيقة، فيه مرارة الوعي، لكنه لا ينكسر، بل يحوّل الألم إلى أمل، ويحوّل السقوط إلى ميلاد جديد.

نعم، كما قلت تمامًا، تحت الرماد جذوة…

وفي كل ضياعٍ ما، هناك بوصلة مكسورة تبحث عمّن يُصلحها، وفي كل هذا "الموت الحي" يكمن لُغز الحياة حين نعي، كما قلت، دلالة واحدة من معاني الكلمات التي أهملناها طويلًا.

قوانين الكون ـ كما أشرت ـ لا ترحم السكون،

ولا تُبقي على الجمود،

ولا تقبل أن يبقى من كان في طليعة القوافل راكدًا في مؤخرة التاريخ.

ما أجملك وأنت تقول: "نحن في ظلال معاني الكلمات".

يا لها من صورة…

نحن نعيش على ظل اللغة التي كانت تنير دربنا يومًا،

نعيش في ظلال “العدل”، “الحرية”، “العقل”، “الكرامة”،

لكننا لم نعد نعيش هذه القيم، بل نحتمي بذكراها!

ثم استكمل نثر الكلام:

ـ الله… ما أجمل هذا النفس العميق الذي ينسج المعنى من نار التجربة، وما أرهف هذا الحبر حين يسيل من قلبٍ يرى النور في عمق النفق، لا في نهايته فقط.

قولك: "يتوارثها الواقع عن الواقع بألم شديد حين يعيها"…

* هذا بالضبط هو لبّ المأساة — ولبّ المعجزة أيضًا.

* المأساة أن يُولد الإنسان في واقعٍ لا ذنب له في تشكيله،

*والمعجزة أن يعيه رغم كل الضباب،

* ثم يتمرد عليه، ويكتبه من جديد.

وقبل نهاية الكلام قال:

ـ هل تحب أن نُجسّد هذا الحوار في نص شعري؟

قلت:

ـ يا عزيزي، هيا إلى الحوار شعرا ...

فجاءني في أحلام اليقظة، وما بقي من خطى المسير ليلا، وقال: خذ عني ما لم تفهمه نثرا شعرا. ثم أنشد، فقال:

ـ أهديتها:

إلى أولئك الأطفال الذين

وُلدوا على حوافّ الصمت

لكنهم نادوا بالحياة قبل أن يتعلموا الكلام.

*

إلى من يحملون في نظراتهم

أكثر مما حملته كتب التاريخ…

*

إليكم،

يا حراس الحلم

وورثة الأرض

وأنبياء النهوض القادم…

*

هذه قصيدتكم.

فاحملوها كما تحملون الشمس في أعينكم،

ولا تدعوها تسقط.

وقدمت للنشيد بما رأيت أولى:

حين يتكلم الطفل باسم الحلم المكبوت...

في زمنٍ صار فيه الصمت لغةً رسمية،

والألم نشيدًا يوميًا على مائدة الشعوب،

يخرج الطفل العربي والمسلم من رماد البدايات،

لا بكاءً، بل نُطقًا أوليًا للحقيقة...

*

طفلٌ لم يُكمل السقوط،

لأن في سقوطه بقايا من نهوضٍ مؤجل،

ولأن عينيه ـ مهما أظلمت الدنيا،

ما زالتا تُحدّقان في شيءٍ أكبر من المأساة:

الحلم.

*

هذه القصيدة ليست بكاءً،

وليست شكوى،

وليست حتى عزاءً شعريًا لأمةٍ تستيقظ متأخرة كل مرة…

*

بل هي اعتراف طفولي،

يكتب بالدم والبراءة معًا،

أن هذه الأرض ـ مهما عَلت فوقها الكوابح،

ما زالت تنبت الحلم في صدور الصغار،

الذين وحدهم يعرفون كيف يُسقطون الليل،

وينهضون من تحته أنبياء النور.

ثم سمت قصيدتي من رسومات الأطفال بحلم مؤجل الظهور، كعيسى والمهدي وسائر الغائبين ...

"من طفلٍ لم يُكملِ السقوط"

*

أنا الطِّفْلُ... من أينَ جِئْتُ؟

مِن وَهْمِ المَدى؟

مِن ضَيَاعِ السّنينْ؟

مِن زمانٍ يَشُدُّ الخُطى للوراءِ،

ويُنكرُ أنّي يَقينْ؟

*

أنا الطِّفْلُ... أَحْبو على ظِلِّ حُلمٍ قديمْ،

أَسْمَعُ الأَرْضَ تَبْكِي،

وأَسْأَلُ: مَنْ أَنْتِ؟

مِن طِيبِ رَمْلٍ؟ أَمْ مِن دُخَانِ السَّقيمْ؟

*

ورغمَ القيودِ التي نَسَجَتْها العُيُونْ،

أُعِدُّ النُّجومَ على كَفِّ أُمِّي،

وأَرْسُمُ وجْهي بأَلوانِ طِينْ...

*

أنا الطِّفْلُ...

أَرْكُضُ خَلْفَ السَّرابِ،

وفي قَبضَتي قَبَسٌ مِنْ لَهَبِ السَّائِرِينْ،

أُطَارِحُ رُوحِي على صَخْرَةِ الحُلْمِ

حينَ تَئِنُّ المآذنُ

من حُزْنِها الصَّامِتِ المُزْمِنِ الطيّعينْ...

*

أنا الطِّفْلُ...

لا شيءَ يَمْلكُنِي غيرُ صوتي،

وَوجْهِ أبي

حينَ نامَ على ظلِّ زيتونةٍ لا تَميلْ،

وذَاكِرَةٍ في الحُطَامِ الجَمِيلْ.

*

أنا الطِّفْلُ...

ما زِلْتُ أبحثُ عن قُبْلَةِ البِدَءِ

في لَوْحِ طِينٍ

كَتَبْتُ عليه الحكايةَ

حينَ تَعَثَّرَ جِيلْ...

*

فلا تَسْأَلوني عن الدَّرْبِ…

إني قَفَزْتُ —

نعم، قَفَزْتُ كأنَّ الزمانَ جَنَاحي

وكأنَّ الترابَ سماءْ!

*

أنا الطِّفْلُ...

لا يُشبهُ الحُلْمُ وَجْهِي،

ولكِنَّني أَحْلَمُ الآنَ أَكْثَرْ،

فكُلُّ القُيودِ التي في يَدَيَّ

تُعَلّمنِي كَيْفَ أَكْتُبُ حُرِّيَتِي،

بالأَظافِرِ، بالنّارِ،

بالسُّكّرِ المُرّ،

بالحَرْفِ، بالصُّوَرِ المُكَسَّرَةْ...

*

أنا الطِّفْلُ...

أَنْقُشُ آياتِ فجْري

على جُدْرِ صمْتي،

وأُهْدِي التّرابَ الذي قد كَفَرْ

بِمَقَاماتِ كُلِّ الذين تَكَلّمُوا باسْمِهِ

ثُمَّ خَانُوا الأَثَرْ!

*

أنا الطِّفْلُ...

لا أَنْحَنِي للمصائرِ

حَتَّى وإن أُطْفِئَتْ شَمْعَةُ الأَرْضِ،

أَوْقَدْتُ قَلْبِي

مَشَاعِلَ سَفَرْ...

*

أنا الطِّفْلُ...

إِنْ كَانَ لِلْمَوْتِ ظِلٌّ،

فإِنِّي النَّقِيضُ الذي سَوْفَ يَبْزُغُ

مِنْ غَفْوَةِ العُمْرِ

نُورًا، وَصَدَى...

فكانت صدى في بقايا حلمي، تشاكسني، تساءلني: هل أنت موجود؟ إن قلت لي: أنا موجود! أجبتك: فما الوجود؟ ... فصمت، وألام، وأحزان، وفقد ... لكن هنا أمل يستغرق فلسفة الوجود؛ متى ومتى، وأين، وكيف، وبماذا، ولماذا؟ ... فهل أنا من الغائبين حين حضرت السؤال؟ ...

***

عبد العزيز قريش

لا يزعجني فيه سوى قلّة منشوراته، رغم لم يعد لكتاباتهِ أو آرائه رقيب أو حسيبٌ منذ عقودٍ مضت. قرأتُ لهُ وشجعتهُ على النشر ورقيّا والكترونيّا، تشجيع التلميذ لمعلمه الشيخ الحكيم.

إنّهُ شاعرُ المرأةِ، الوجود، التصوف، الوجدان…رغم أنّهُ لا يحبذ تكنيته بالشِّاعر! فإن كان ما يكتبه ليس شعرًا، إذًا كيف سيكون الشّعر؟!.

في ديوانهِ الجديد الذي رفض أن يعطيه عنوانًا شارحًا لمضمونهِ، وجدتهُ خرج مِن قافلة الشِّعراء ليطرح مقطوعاته الشِّعريّة كما هي دون تكلّف وبلا إيّ تلوثٍ لغوي.

في منفى قلبه بطارية تنبض بالحياة، وقصائد اختمرت جيدًّا، آن لها ان ترى النور، مشحونة بلاغيًّا بالمعنى الإنساني.

جلال، نحاتُ الكلمة، شاعر الخسارات والمكاسب، الجندي المجهول لكلمة الإبداع شعريّا، ليس عميلاّ سوى لكلمته ومبادئه، حقنا عليه ان نقرأه نحن قراء لغة الضاد ديوانًا، يرمم بالشّعر ما لثم من جمال الوجود بالكلمة الجميلة، فصنع ثمثالاً لا من بقايا الحجارة التي رمته به أزمات الوطن والاغتراب الطويل وصعاب الحياة، بل من فطرة موهبته الادبية، فهو المهووس بالكلمة، مِن حسن حظنا نحن ملّة الأدباء ان نعاصره ونقراً لهُ.

ذلكَ الذي حمل نقاء سريرته وخلجات روحه بين دفتي ديوان للقرّاء، بينما رفيقة دربه أم ولديه، لطالما اشتكت منه بالقولِ:

طوبى ليومٍ لا تكتب فيه، فهو كثير المواعيد مع نفسه ليكتب لها وعنها، ذاك الذي اجبره العمر على إيقاف التدخين مكرهًا، أمسى يدخن نفسه شعرًا…

لقد وقعَ على مسامعي من فاه والدي رحمه الله، إنّهُ محاميٌ بليغ الكلمة، ولكن لم تقل لي أمّي يومًا أنّه يعجن الكلمة ويخبزها في فرن الأعماق، كي يقيم بواسطتها المآدب الأدبية لسواه.

في الختام عليّ أنا الكاهن المشتغل في الحقل الأدبي أن اعترف لكَ أمام الملا:

يا إيّها الخال، أنا لا أقرأ لكلّ مَن هبّ ودبّ، لكنّكَ الشِّعر الّذي قرأته ولم أندم.

ربّما أنا نادم، لأنّني لم أشكركَ حتّى يبلغ الشُّكر منتهاه حين طالعتكَ شعرًا.

أنتَ الذي توقّع أسمكَ في وجدان الآخرين، دعني هذه المرّة أهزّ غصن شجرتكَ الأدبية لكي يتناول القرّاء من قطوفها الأدبيّة،

أسأل الله، ذلكَ الشِّاعر الأكبر أن ينسجَ لكَ ثوب صحةٍ لا يبلى ولا يفنى…. إلى المزيد مِن النتاج الأدبي.

***

الأب يوسف جزراوي/ الكاهون-أمريكا

لم تكن أم كلثوم مجرد صوت جميل يصدح، أو نجمة تلمع في سماء الفن، بل كانت - وما تزال – رسالة إنسانية تتخطى الحدود، وتختصر المسافات بين الشرق والغرب. وها هي اليوم، بعد رحيلها، تواصل مهمّتها، لكن هذه المرة من خلال متحفها الذي استقبل وزيرا الثقافة في مصر وفرنسا، ليكون شاهدًا على أن الفن لغة لا تحتاج إلى ترجمة، وأن الثقافة هي الجسر الأقوى بين الشعوب. 

 في حضرة كوكب الشرق

في قصر المانسترلي، حيث يمتزج النيل بصوت أم كلثوم، التقى الدكتور أحمد فؤاد هنو بالسيدة رشيدة داتي، ليس فقط ليتفقدا مقتنيات السيدة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، بل ليبحثا كيف يمكن لهذا الصوت العابر للقارات أن يكون مدخلًا لتعاونٍ ثقافي أعمق. فالفرنسيون، رغم بعدهم الجغرافي، يعرفون قيمة "كوكب الشرق"، لأن الفنّ العظيم لا يُقيم وزنًا للحدود. 

السياسة تلتقي عند المطالب المشتركة، لكن الثقافة تلتقي عند المشاعر المشتركة. اختيار متحف أم كلثوم لاستقبال الوزيرة الفرنسية رسالة ذكية تقول: "هذه مصر التي نحب، وهذه مصر التي تفتح أبوابها للعالم". ففي زمن يحاول البعض أن يصور الشرق على أنه متحف للإرهاب أو الفوضى، تأتي أم كلثوم لتذكر الجميع بأن هذه الأرض أنجبت أعظم الفنانين، وأسست لأرقى الحضارات. 

عندما أعلن البلدان عام 2019 عامًا للثقافة المصرية الفرنسية، لم يكن ذلك حدثًا عابرًا، بل كان تتويجًا لعلاقةٍ ثقافية عمرها قرون. فالفرنسيون هم من ساعدوا في فك رموز حجر رشيد، وهم من أقاموا أواصر ثقافية مع مصر منذ حملة نابليون، رغم ما فيها من تناقضات. اليوم، نحن أمام فصل جديد من هذه العلاقة، حيث تطرح فرنسا أن تكون ضيف شرف في معرض القاهرة للكتاب، وتتحدث عن تعاون في الترجمة وترميم المخطوطات. وهذا يعني أن الثقافة، رغم كل محاولات العولمة لطمس الهويات، ما زالت تحتفظ بقدرتها على الجمع بين المختلفين. 

التراث ذاكرة لا تموت

أهم ما ناقشه الجانبان هو ملف "التراث غير المادي"، وهو مصطلح يبدو أكاديميًا، لكنه في الحقيقة يمثل روح الشعوب. فالأغاني، العادات، الحكايات الشعبية، وحتى الطبخ التقليدي، كلها عناصر تشكل هوية الأمم. ومصر وفرنسا، بتراثهما الغني، يمكنهما أن يقدّما للعالم نموذجًا لكيفية الحفاظ على هذه الذاكرة الإنسانية. أم كلثوم نفسها لم تكن مجرد مغنية، بل كانت جزءًا من تراث غير مادي صار عالميًا. 

دبلوماسية الثقافة..

في كتابه "قوة المكان"، يقول الكاتب الأمريكي توماس فريدمان: "عندما يتحدث السياسيون، يصغي الناس بأذن واحدة، وعندما يغني الفنانون، يصغون بقلوبهم كلها". وهذا بالضبط ما حدث في متحف أم كلثوم. فبينما قد تختلف الحكومات حول ملفات شائكة، فإن الجميع يتفق على عظمة "أغنية الأمل" أو "سيرة الحب". لقد حولت أم كلثوم – من دون أن تدري – متحفها إلى "منطقة محايدة" تذكر الضيوف بأن هناك مساحات مشتركة لا يختلف عليها. والسؤال هنا: كم من المواقف السياسية المتوترة يمكن أن تذوب لو جعلنا الثقافة وسيلتنا الأولى للحوار؟ 

وفي العصور الوسطى، كانت القبائل تهاجم بعضها فتحرق المدن وتقضي على السكان، لكنها كانت تترك الشعراء! لأنهم كانوا يعتبرون "ذاكرة الأمة". اليوم، أم كلثوم هي شاعرة الصوت، ومتحفها هو الذاكرة التي تحفظ هويتنا. وزيارة الوزيرة الفرنسية لهذا المتحف تذكير بأن الأمم لا تموت حين تحافظ على تراثها، بل تصبح جزءًا من ذاكرة الإنسانية جمعاء. 

 الثقافة هي البوصلة

في زمن الحروب والصراعات الاقتصادية، تبقى الثقافة هي البوصلة التي تذكرنا بإنسانيتنا. زيارة الوزيرة الفرنسية لمتحف أم كلثوم تثبت أن مصر، رغم كل التحديات، ما زالت قادرة على أن تكون منارة للفن والثقافة. وها هو صوت أم كلثوم، بعد نصف قرن من رحيلها، لا يزال يجمع بين ضفتي المتوسط، ليذكرنا بأن الفنّ الحقيقي لا يعترف بالحدود، وأن الثقافة هي أقوى وسيلة للحوار. 

فليستمر الحوار، وليكن الفن دليلنا.

***

د. عبد السلام فاروق

يثير عنوان المجموعة القصصية (نحن والحمير في المنعطف الخطير) للكاتب اليمني " محمد مصطفى العمراني " فضول القارئ للوقوف على دلالة العنوان والتعرف على ما ترمي اليه مضامين قصص هذه المجموعة التي ضمت ست عشرة قصة قصيرة تميزت بالبساطة سواء في التعامل مع اللغة بوصفها إنجازاً إبداعيا او في البناء القصصي، ولكن ما ان ينتهي  القارئ من قراءة المجموعة حتى يكتشف انه وقع في فخ عنوانها المثير ذلك انه لم يجد فيها حدثا مهما مثيرا للتفاعل، كما ان القصص جاءت وهي تخلو من اية رمزية او تورية في مضامينها، فعموم قصص المجموعة لا ترتقي الى مستوى القصة الناضجة والمعبرة عن فلسفة او رؤية مستقبلية بل انها مجرد تدوين مقالب وحوادث يومية تعرّض لها الكاتب فقام بتأطيرها في قالب قصصي بسيط اتخذت من المنهج الواقعي أداة وطريقة للتعبير باستثناء ثلاث قصص تجاوزت الهم الشخصي وحاولت الانفتاح على قضايا عامة والغمز بشكل خجول الى واقع سياسي تعيشه بعض الشعوب جسدتها قصة (نحن والحمير في المنعطف الخطير) التي حملت المجموعة القصصية اسمها، فهذه القصة تتحدث عن قرية تعاني من مشقة الحصول على مياه الشرب من عين ماء، اذا لابد ان يسلك اطفالها المكلفين بهذه المهمة منعطفا خطيرا يطل على واد سحيق تسبب بسقوط عدد من الاطفال مع الحمير في الوادي اثناء عبورهم المنعطف، وقدد تعددت اجتماعات وجهاء القرية من دون الوصول الى حل لهذه المشكلة، ويقول الكاتب ــ الراوي ــ الذي كاد ان يكون احد ضحايا هذا المنعطف ايام كان طفلا يجلب الماء على الحمير سألت اهل القرية : لماذا لا تسلكون طريقا آخر آمنا يجنب اطفال القرية السقوط في الوادي وكان جوابهم الكارثة (نحن نمشي وراء الحمير وهي من تسلك بنا ذلك الطريق)، فهذه القصة تطرح نقدا سياسيا ومجتمعيا للحاكم والمحكوم من خلال تسليط الضوء على واقع تعيشه الشعوب التي ترزح تحت حكم مجموعة من الأغبياء الذين لا يريدون تشغيل عقولهم للخلاص من الواقع المزرى والخطير والذي تتحمل اعبائه شعوبهم المغلوبة على أمرها .

أما قصة (لا مستقبل للأذكياء!) فهي تتحدث عن الفساد السياسي واعتماد المحسوبية في تولي المناصب من خلال غياب معايير الكفاءة في الحصول على فرص العمل وهو امر شائع في العديد من المجتمعات التي يحكمها نظام المحاصصة والمصالح الشخصية، فهي تتحدث عن تلميذ عُرف بين اقرانه بالغباء مما اثار شفقة زميله " محمد " الذي تعاطف معه فأخذ يساعده ويعطيه دروس تقوية في شرح وحفظ الدروس وفي الأخير نجح بشق الأنفس واجتاز المرحلة الابتدائية ولكنه في المرحلة الاعدادية كان ينام في الحصة ويشخر، ويوم طلب الاستاذ من التلاميذ عن امنيات كل واحد منهم في الحياة كانت امنية الطالب الغبي ان يصبح طيارا الأمر الذي أثار سخرية اقرانه بسبب استحالة تحقق امنيته، ولكن بعد التخرج وسنوات من الافتراق وبعد ان أصبح أذكى الطلاب في الدورة عامل بقالة التقى محمد بصديقه الغبي وقد انصعق لما عرف انه صار طيارا فسأله :

كيف صرت طيارا؟

فأجابه بكلمة بليغة وتلخص الواقع:

شوف يا محمد كل شيء في هذا البلد ممكن ومعقول طالما أنت تاجر أو مسؤول أو شيخ كبير

وكذلك قصة (زلة لا تغتفر) التي هي الاخرى تناولت واقعا  فاسدا حيث تتحدث القصة عن شيخ متنفذ يستغل علاقته القوية بالمسؤولين فيقوم بتعيين أحد مرافقيه المقربين جنديا في الجيش لكي يتقاضى راتبا من الدولة ويخرج امر انتدابه للعمل بصفة مرافق له وهذا الأمر قد شهدتها بعض انظمة الحكم في علاقة الشيوخ بالمتنفذين في السلطة واستغلال هذه العلاقة من اجل تحقيق مصالح شخصية بينهما.

وفي الأخير، يمكننا القول، بأن أسلوب الكاتب العمراني في هذه المجموعة القصصية يتسم بالمباشرة والوضوح وبعيد عن الغموض والتعقيد ويبدو انه قد اهتدى بمقولة يوسف إدريس عندما قال: "إن القصة القصيرة مثل الرصاصة تنطلق نحو هدفها مباشرة"، اذ انه اعتمد الدخول الى لب القصة دون مقدمات وتزوبق كما هو اسلوب الكاتب السوري " زكريا تامر " الذي وجدنا قصصه تميل الى السخرية واعتماد المباشرة، كما يحسب للمجموعة انها في بعض قصصها سلطت الضوء على واقع مأساوي تعيشه عدد من المجتمعات في ظل انظمة حكم فاسدة.

***

ثامر الحاج امين

لمعظم الأدباء حكايات مع أعمال مميزة مهَّدت لشغفهم بالكتب، وشكلت عالمهم القرائي. ولا يشذ الروائي والناقد الفرنسي مارسيل بروست (1922-1871) عن القاعدة بالتأكيد. فحين ذهب في عطلة إلى جبال الألب وقع في حب أعمال الناقد الفني الإنجليزي جون رَسْكِن، وأحدثت كتاباته أثرا عميقا شبيها بالذي تفعله جميع الكتب بقرائها، أعني استعادة الوجود والكون قيمتهما اللانهائية، وتجديد الانتباه لتفاصيل التجربة الحياتية اليومية التي تتوارى عادة بفعل التجاهل والرتابة.

كانت الميزة العبقرية لكتابات رَسكِن تتمثل في عنايته الشديدة بالتفاصيل، وقدرته على تحريض أحاسيس قرائه بتحويل الانطباعات المشتركة إلى كلمات. وهي الميزة التي جعلت بروست يندفع بوتيرة غير عادية لرسم حدود جديدة للقراءة: ينبغي أن نقرأ كتب الآخرين كي نعرف ما نُحس به، ونُنمي أفكارنا ولو عن طريق أفكار كاتب آخر؛ فالقراءة ليست تزجية للوقت أو إشباعا للفضول بقدر ماهي محاولة لإعادة تشكيل الجانب الروحي فينا. وهو دور جوهري لكنه محدود في الآن ذاته، فكل ما ينبغي توقعه من القراءة هو التحريض على اقتحام عتبة الحياة الروحية وليس تشكيلها.

ميزة العناية بالتفاصيل التي استلهمها من رَسْكن ستضفي على القراءة عند بروست بُعدا جديدا: كل قراءة هي بالأساس قراءة للذات، ومهمة الكتاب أن يصبح أداة بصرية تعين القارئ على أن يتبين مالم يكن ليُعايشه بنفسه لولا هذا الكتاب.

جرب بروست في مقتبل حياته العمل بالمحاماة، ثم تقدم لوظيفة أمين مكتبة بدون أجر. غير أن المكان المليء بالغبار أثر على رئتيه، فتوالت طلبات الإجازة بسبب المرض ليتم طرده بعد خمس سنوات. فأمضى ما تبقى من حياته في سرير حوله إلى طاولة ومكتب، معتمدا على أموال العائلة. وعلى هذا السرير تابع شغفه بالقراءة، فكان قبل أن يتفاقم وضعه الصحي، يتناول فنجانين من القهوة والحليب وهو يتصفح جريدة لوفيغارو أو يقرأ رسائله. ورغم وصفه لقراءة الجرائد بأنها فن حسي ومقيت، يزودنا بأخبار الإفلاسات وجرائم القتل والإضرابات، إلا أنه أبدى عناية شديدة حتى بالأخبار الموجزة، فكان يحولها بفضل خياله الجامح إلى قصص هزلية ممتعة، ويُثري حادثة قتل عادية بالتفاصيل التي تجعلها تجسيدا لمظهر تراجيدي من الطبيعة البشرية، لا يقل إبهارا عن الأعمال الفنية التي خلّفها الإغريق.

يؤمن بروست بأن كل شيء ينطوي على قيمة وقدر عال من الفنية، إذ يمكننا أن نلتقط اكتشافات هامة من إعلان عن الصابون. يوضح لنا هذا الموقف سبب عنايته بقراءة جداول مواعيد رحلات القطار حين يتعذر عليه النوم. بديهي أن موعد وصول قطار سان لازار لا يشكل أهمية لرجل يقضي معظم وقته في السرير، لكن الجداول التي قُرئت بمتعة، يقول كاتب سيرته آلان دو بوتون، كانت تزود خيال بروست بالمواد الخام لتشييد عوالم بأسرها، لتصوير قصص درامية منزلية في القرى، وألاعيب الحكومات المحلية، والحياة خارجا في الحقول.

قراءة الذات عند بروست تنطوي كذلك على لذة بصرية، غير أن الأمر هنا لا يقف عند الكتب بل يمتد إلى اللوحات الفنية. يحكي صديقه لوسيان دوديه أن بروست، خلال زيارتهما لمتحف اللوفر، كان يجتهد لربط أشخاص موجودين في اللوحة مع أناس يعرفهم في حياته؛ وكانت ميزة تلك القراءة هي اكتشاف الارتباطات البصرية بين عالمين مختلفين. يقول بروست: " جماليا، عدد الأنماط البشرية محدود جدا إلى درجة أن علينا دوما، أينما كنا، أن نكون أسرى لذة رؤية أناس نعرفهم".

نفس اللذة يمكن تحصيلها من القراءة، فعند قراءة وصف لشخصية خيالية من الصعب ألا نستعيد صورة شخص نعرفه في الواقع. إنها الطريقة المثلى التي يمكن للفن أن يؤثر بها بدل إلهائنا عن الحياة.

والقراءة عند بروست لا تعني بالضرورة تبجيل الكتب، لأن أخذها بجدية كبيرة  يُكرس صورة زائفة عن الإنتاج الأدبي. إن مهمتها أن تحثنا على الإحساس وتعزز قدرتنا على الإدراك. بيد أن هناك لحظة مفصلية ستتوقف فيها الكتب عن فعل ذلك حين نكتشف أن المؤلف ليس هو نحن ! لذا أبدى بروست حرصه على وضع إرشادات حذرة بشأن "إغواء" القراءة. يقول على سبيل المثال :

"سيصبح خطرا، من جانب آخر، لو عمدت القراءة، بدلا من تنبيهنا إلى حياة الذهن الخاصة، إلى الحلول محلها. عندها تتوقف الحقيقة عن كونها فكرة مثلى لا يمكن لنا بلوغها إلا عبر التقدم المحموم لأفكارنا وجهد قلبنا لتصبح أمرا ملموسا، موجودا بين أوراق الكتاب كعسل مهيأ للآخرين، بحيث يكون كل ما علينا هو تكبد عناء النزول من رفوف المكتبات، وتناول عينات منه في سبات تام للعقل والجسد ".

حين نتخلى عن حرصنا واستقلاليتنا أثناء القراءة فإننا سنعاني لاحقا من أعراض ميَّزها بروست بذكاء شديد:

أولها الخلط بين الكاتب والعرَّاف، بحيث توهمنا براعة الكاتب في موضوع معين بامتلاكه سلطة تامة في باقي المواضيع، وبالتالي امتلاكه الإجابة على كل شيء.

وثانيها هو الشعور بالعجز عن الكتابة بعد قراءة كتاب جيد، لاعتقادنا أن ما تضمنه هو أسمى من أي شيء يمكن لعقولنا التوصل إليه.

وثالثها أن نصبح عبيدا للفن، ونخاطر في تقدير الكتاب على نحو يقلل من قيمة الذات؛ فالتقدير الأدبي المفرط لبعض الأعمال يؤدي إلى إهمال روح الفن.

إن القراءة تحريض على التقدم بخطى هادئة صوب عتبات الروح، أما الولوج إلى عوالمها فرهين بمقدرتك على التبصر، وتحويل الانطباعات إلى كلمات!.

***

حميد بن خيبش

حوار مع الأكاديمي العراقي محمد مؤيد يوسف

الترجمة ليست مجرد نقل الكلمات من لغة إلى أخرى، بل هي فعل إبداعي يعيد تشكيل النصوص ضمن بيئة ثقافية جديدة. في هذا السياق، يبرز مفهوم "الترجمة الخلّاقة" كأحد أكثر التوجهات تأثيراً في عالم الترجمة الأدبية، حيث يتجاوز هذا المفهوم الحَرفية اللغوية إلى إعادة إنتاج المعنى بروح جديدة تحافظ على جوهر النص الأصلي، مع مراعاة البعد الثقافي والفني.

لمناقشة هذا الموضوع، أجريتُ هذا الحوار مع الأكاديمي العراقي محمد مؤيد يوسف، الذي يطرح رؤية معمّقة حول طبيعة الترجمة الأدبية ودورها في تعزيز الحوار بين الثقافات.

الترجمة الأدبية كجسر ثقافي

يرى الأكاديمي العراقي محمد مؤيد يوسف أن قيمة الترجمة الأدبية لا تنبع فقط من وظيفتها اللغوية، بل من كونها أداة لتعزيز التعارف والتفاعل الثقافي بين الشعوب. فهي ليست مجرد عملية نقل للمعاني، بل إعادة خلق للنصوص ضمن سياق ثقافي جديد، ما يتطلب من المترجم امتلاك حسٍّ إبداعي وقدرة على التأويل والتكييف.

الترجمة الخلّاقة: تجاوز الحَرفية إلى الإبداع

ويوضح يوسف، وهو عضو هيئة التدريس في جامعة جيهان بإقليم كردستان العراق، أن "الترجمة الخلّاقة" تتجاوز مفهوم الترجمة التقليدية التي تعتمد على النقل الحَرفي، إلى إعادة إنتاج النص بروح جديدة تحافظ على معناه العميق. ويضرب مثالاً على ذلك بترجمة الشعر، حيث لا يكون المطلوب مجرد نقل الكلمات، بل إعادة إنتاج الإيقاع والمجاز والتأثير العاطفي، مما يتطلب حساً أدبياً وموهبة في التعبير.

تحديات الترجمة الأدبية

ومن أهم التحديات التي تواجه المترجم الأدبي، بحسب يوسف، هي القدرة على التفاعل مع النص الأصلي بمستوياته المختلفة، بدءاً من مستواه اللغوي وصولاً إلى أبعاده الفلسفية والاجتماعية. فالمترجم مطالب بفهم عميق للثقافة التي ينقل منها وإليها، مع الحفاظ على توازن دقيق بين الأمانة للنص الأصلي وإبداعية الطرح في اللغة المستهدفة.

دور المترجم كوسيط ثقافي

ويؤكد يوسف على أن المترجم ليس مجرد ناقل للمعاني، بل هو وسيط ثقافي يعيد تقديم الأفكار والرؤى بشكل يتناسب مع البيئة الثقافية للقارئ الجديد. من هنا، فإن الترجمة الأدبية تتطلب وعياً نقدياً وقدرة على التكييف، بحيث تبقى الروح الأصلية للنص حاضرة، لكن ضمن قالب يستسيغه القارئ المستهدف.

أهمية الوعي الثقافي واللغوي

ويشدد يوسف على ضرورة أن يكون المترجم ملماً بالخلفية الثقافية للنصوص التي يترجمها، إذ لا يمكن للترجمة أن تكون ناجحة دون فهمٍ دقيق للسياق التاريخي والاجتماعي للنص الأصلي. فكل كلمة تحمل دلالات ثقافية متشابكة، والمترجم المتمكن هو من يستطيع نقل هذه الدلالات بذكاء وحساسية.

ليست الترجمة الخلّاقة مجرد مهارة تقنية، بل هي فن يتطلب إبداعاً ووعياً نقدياً عميقاً. إنها فعل ثقافي يعيد إنتاج النصوص ضمن سياقات جديدة، بما يضمن لها الحياة في ثقافات مختلفة. وكما يشير الأكاديمي العراقي محمد مؤيد يوسف، فإن المترجم الأدبي هو صانع جسور بين العوالم، يسهم في توسيع آفاق الفكر الإنساني عبر إعادة تقديم النصوص برؤية إبداعية تحافظ على جوهرها، لكنها تمنحها حياةً جديدة بلغة أخرى.

***

همام طه

 

قراءة مقارنه

الصراع الداخلي في الأدب العربي يشكل أحد الموضوعات الأساسية التي تثير اهتمام القراء والنقاد على حد سواء، خاصة عندما يتجسد في أعمال كتاب كبار مثل أحلام مستغانمي ونجيب محفوظ. وفي هذا السياق، يمكننا مقارنة الصراع الداخلي بين ثلاثية أحلام مستغانمي (مثل "ذاكرة الجسد" و"فوضى الحواس") وثلاثية نجيب محفوظ ("بين القصرين"، "قصر الشوق"، "السكرية"). على الرغم من الاختلافات الواضحة في أسلوب الكتابة والموضوعات، إلا أن كلا الكاتبين يقدمان صورة معقدة للصراع الداخلي في شخصياتهما.

1. الصراع الداخلي في ثلاثية أحلام مستغانمي:

الموضوع: الصراع في أعمال أحلام مستغانمي يتعلق أساسًا بالحب والمشاعر والتوترات النفسية التي تنشأ بين رغبات الذات ومتطلبات المجتمع. تركز مستغانمي على العواطف العميقة والمعقدة التي يعيشها الأفراد، سواء في العلاقات العاطفية أو التحديات الشخصية. الشخصيات في أعمالها تعيش في حالة من الازدواجية بين ما ترغب فيه وبين ما يفرضه عليها الواقع الاجتماعي.

الشخصيات: في "ذاكرة الجسد"، على سبيل المثال، نجد البطلة (خديجة) تعيش صراعًا داخليًا بين حبها المكبوت لشخص ما، وبين موروثاتها الثقافية والمجتمعية. هذا الصراع يتجسد في محاولتها التوفيق بين الذات والرغبات الشخصية من جهة، وبين الالتزامات الاجتماعية من جهة أخرى.

الأسلوب: أسلوب مستغانمي يعتمد على الوصف العاطفي المكثف، حيث يتم التركيز على التحولات النفسية للشخصيات في سياق عاطفي متوتر. وتعتبر المسائل الجنسية والرغبات الجسدية جزءًا أساسيًا من هذا الصراع.

2. الصراع الداخلي في ثلاثية نجيب محفوظ:

الموضوع: في ثلاثية نجيب محفوظ، يتناول الصراع الداخلي من زاوية مختلفة، حيث يرتبط بشكل رئيسي بمسائل الهوية الاجتماعية، الطبقات الاجتماعية، والمصير. الشخصيات في ثلاثية محفوظ، مثل "يحيى" و"رقيه" و"أمينة"، يواجهون صراعات بين التقاليد والمجتمع من جهة، وبين الأهواء الشخصية والطموحات من جهة أخرى. كما يعكس العمل تأثيرات التاريخ والواقع الاجتماعي على الأفراد.

الشخصيات: في "بين القصرين"، الصراع الداخلي يظهر من خلال شخصية "يحيى" الذي يعاني من إحساسه بالاغتراب والضياع في محيطه الاجتماعي، وهو صراع يدور حول مفهوم العدالة والمساواة والصراع الطبقي. الشخصيات الأخرى مثل "أمينة" و"رقيه" يعانين من صراعات مماثلة تتعلق بالقيود الاجتماعية والضغوط العائلية.

الأسلوب: نجيب محفوظ يعتمد على الأسلوب الواقعي، حيث يركز على تفاصيل الحياة اليومية والطبقات الاجتماعية. الشخصيات تتفاعل مع محيطها بما يتناسب مع تطور الأحداث التاريخية، مما يضفي عمقًا إضافيًا على الصراع الداخلي بين رغبات الأفراد والضغوط الاجتماعية.

3. الاختلافات والتشابهات:

الاختلافات:

أسلوب مستغانمي يميل إلى التركيز على العواطف الجياشة والعلاقات الشخصية، بينما محفوظ يركز على العلاقات الاجتماعية والتاريخية.

في أعمال مستغانمي، يكون الصراع الداخلي غالبًا مرتبطًا بعواطف الحب والرغبة، بينما في أعمال محفوظ، يتمحور الصراع حول الهوية والطبقات الاجتماعية.

التشابهات:

في كلا الكتابين، يواجه الأبطال صراعًا داخليًا يتعلق بموازنة رغباتهم الشخصية مع التوقعات المجتمعية.

الشخصيات في كلا الحالتين تجد نفسها في مواقف صعبة تجعلها تبحث عن معنى لحياتها في إطار محيط اجتماعي ضاغط.

4. الختام:

يمكننا القول إن الصراع الداخلي في ثلاثية أحلام مستغانمي يميل إلى التركيز على الجوانب العاطفية والحميمية، بينما يتمحور الصراع في ثلاثية نجيب محفوظ حول التحديات الاجتماعية والوجودية. ومع ذلك، كلا الكاتبين يعكسان عمق النفس البشرية وتعقيداتها في مواجهة الواقع والمجتمع.

***

ربى رباعي - الاردن

 

في رواية "ذات" للكاتب صنع الله إبراهيم، يُجسد الصراع الداخلي والخارجي في شخصيات الرواية بشكل مكثف ومؤثر. الرواية تتبع حياة "ذات" الشخصية الرئيسية، وهي امرأة تعيش في مصر وتواجه تحديات وجودية واجتماعية في فترة زمنية تتسم بالتقلبات السياسية والاقتصادية. نلاحظ أن الصراع الداخلي والخارجي يشكلان جوانب أساسية في السرد ويؤثران على تطور الشخصية.
الصراع الداخلي:
الصراع الداخلي في "ذات" يتجلى في الأسئلة التي تطرحها الشخصية حول هويتها ومعنى حياتها. ذات تعيش في حالة من التوتر الداخلي نتيجة لمشاعرها المتناقضة حول نفسها وحول مكانتها في المجتمع. هذا الصراع يتراوح بين الرغبة في الاستقلالية الشخصية وتحديات الواقع الاجتماعي الذي يفرض عليها أدوارًا معينة كأنثى في مجتمع يظل محدودًا في تقديره لدور المرأة.
هناك أيضًا صراع داخلي يتعلق بالبحث عن الذات، حيث تجد "ذات" نفسها عالقة بين رغباتها الخاصة وتوقعات المجتمع، مما يخلق حالة من الاغتراب والضياع. هي شخصية تسعى للبحث عن معنى لحياتها في عالم مليء بالظروف التي تعيق تطور شخصيتها وتحد من إمكانياتها.
الصراع الخارجي:
أما الصراع الخارجي، فيتمثل في التحديات التي تواجهها "ذات" في علاقتها بالمجتمع المحيط بها، سواء على الصعيد العائلي أو الاجتماعي أو حتى السياسي. المجتمع المصري في الرواية يتسم بظروف اقتصادية وسياسية صعبة، وتتعامل الشخصيات مع هذه الظروف على مستويات مختلفة. ذات تعيش في عالم مليء بالظلم الاجتماعي والتمييز الطبقي، ويصطدم وجودها دائمًا بالواقع السياسي المتقلب. هذا الواقع يفرض عليها أن تواجه تحديات متعددة: علاقة مع أسرتها، تكيفها مع العمل، وعلاقاتها مع الرجال والمجتمع بشكل عام.
في ذات الوقت، تمثل الرواية أيضًا صراعًا سياسيًا في ظل الأوضاع التي تمر بها مصر في تلك الفترة، حيث تواجه الشخصيات النظام السياسي القامع والهياكل الاجتماعية المهيمنة التي تحد من حرية الأفراد. الشخصيات في الرواية تتعامل مع تحديات قاسية تتعلق بالظروف الاجتماعية، والحياة اليومية التي تُخضعهم لضغوط مستمرة.
التفاعل بين الصراعين:
الصراع الداخلي يتفاعل مع الصراع الخارجي في الرواية بشكل كبير. فكلما زادت التحديات الخارجية التي تواجهها ذات في المجتمع، زاد الصراع الداخلي لديها. هي تحاول التكيف مع عالم مليء بالظلم والظروف القاسية، لكن هذا يعمق مشاعرها بالتشوش والضياع. علاقتها بالعالم الخارجي تؤثر بشكل كبير على رؤيتها الذاتية وقدرتها على تحديد مصيرها.
إجمالًا، "ذات" تقدم مزيجًا من الصراعات الداخلية والخارجية التي تعكس تجارب شخصية في ظل واقع سياسي واجتماعي معقد، ويعكس الصراع بين الذات والعالم الخارجي أحد المواضيع الرئيسية في الرواية.
رواية "ذات" للكاتب المصري صنع الله إبراهيم تتناول مواضيع متعددة مثل العبث والمواجهة في سياق الحياة اليومية والظروف الاجتماعية والسياسية في مصر. في هذه الرواية، يُمكن أن نُلاحظ كيف يبرز عنصر العبث من خلال الشخصيات وتفاعلاتها في عالم مليء بالتعقيدات والضغوط الاجتماعية والسياسية.
العبث في الرواية يظهر من خلال سرد الحياة اليومية للأبطال التي تتسم بالفراغ واللامعنى. على الرغم من محاولات بعض الشخصيات في العثور على هدف أو معنى لحياتها، إلا أن الحياة تبقى بالنسبة لهم مليئة بالفوضى والصراعات الداخلية التي تؤدي إلى الشعور بالعبثية. لا يكاد الإنسان في هذا السياق يستطيع التحكم في مصيره أو تغيير الواقع الذي يعيش فيه.
أما المواجهة، فهي تظهر من خلال محاولات الشخصيات مواجهة الواقع والتعامل مع ما يواجهونه من ضغوط حياتية، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي. يتم تصوير المواجهات الداخلية والخارجية التي يواجهها الأفراد، سواء في سياق علاقاتهم الشخصية أو الصراعات السياسية، حيث تصطدم شخصيات الرواية بأزمات وجودية تجعلهم في حالة من البحث الدائم عن معنى للحياة.
إجمالاً، "ذات" تتناول الصراع الداخلي والخارجي للشخصيات، وتُظهر كيف أن الحياة في عالم مليء بالعبثية تتطلب مواجهات مستمرة مع الواقع.
***
ربا رباعي

ذكريات الأعياد في الطفولة لها طعمها الخاص ذلك لأنها تكون مقرونة بمناسبة لا تمر الا لماما.. تمر علينا مرتين في كل عام؛ مرة في عيد الفطر وأخرى في عيد النحر.. ذكريات لا تزال مخزونة في خلايا المخ لم تستطع سنوات العمر التي تجاوزت السبعين عاما من محوها. تبدا الذكرى من منتصف او نهاية الخمسينات وتحديداً بعد قيام ثورة 14 تموز المجيدة، اما المكان فهو بيئة فقيرة بكل شيء؛ أهلها الفقراء الذين يسكنون (الصرائف).

واكواخ الطين هي محلة القبلة القديمة كنا مجموعة أطفال من هذه المحلة البائسة في مرحلة الدراسة الابتدائية ومن هنا تبدأ رحلتنا مع اول عيد (عيد الفطر).. قبل يوم واحد تبدأ الاستعدادات اللازمة.. أولها الاستحمام ليلاً ثم تحضير الملابس الجديدة والتي غالباً ما تكون دشداشة مخططة بالألوان الزاهية فهي (دشداشة العيد) نستيقظ صباحاً قبل استيقاظ العصافير استعدادا للرحلة نبدأ (بمعايدة) الاهل اولاً حيث تدشن جيوبنا بكمية من النقود المعدنية الثقيلة التي كانت متداولة آنذاك ثم نجوب الشوارع في دوريات غير قتالية ونزور الأقارب فتملا الجيوب وتطفح النفوس في الفرح لان الفلوس (العيدية) هي اهم مستلزمات رحلة العيد.

ففي البصرة ثمة ساحة تقع في محلة المشراق تسمى (ساحة الدواليب) بها من الألعاب الشعبية البريئة مثل (صندوق الدنيا) ولاكن ما موجود فيها لا يرضي طموحنا فليس فيها الا بعض الألعاب البسيطة (فوق السبعة وتحت السبعة) و(رأس مقطوع يتكلم) عندها نشد الرحال الى العشار حيث المجالات ألأرحب. تنقلنا مصلحة نقل الركاب بعشرة فلوس ونحن في هذه السيارة نرسم خطة عملنا لذلك اليوم...

محطتنا الأولى (ام البروم) حيث حديقة الملك غازي التي سميت بعد الثورة حديقة الشعب وهي حديقة واسعة ارضها خضراء واشجارها زاهية قطوفها دانية نسرح فيها ونمرح بعض الوقت لكن المحطة الثانية هي الأهم حيث دور السينما سينما الرشيد والوطني في الأولى (فلم هندي) وفي الثانية (فلم طرزان) ونختار ايهما الاحسن تنقسم المجموعة الى قسمين وأخيرا ترجح كفة طرزان فنغوص داخل سينما الوطني نجلس على كراسي (أبو الأربعين) فلسا وندخل مع طرزان الى غابات الامزون نقفز معه من شجرة الى شجرة نضحك مرة ونصرخ مرات ثم نخرج منها سالمين يقابل سينما الوطني رجل يبيع المأكولات على الرصيف يعلن عن بضاعته قائلاً ابيض وبيض حيث يكررها عدة مرات والأبيض هو الخبز الأبيض والبيض هي بيضة مسلوقة مع بعض الخضروات حيث تشكل ائتلافاً غذائياً لذيذاً يسمى محلياً (لفة) وسعرها (10) افلاس واذا اضيف اليها الببسي كولا يرتفع سعرها الى (15) فلسا.  ... شارع الكورنيش يكون محطتنا الثالثة أشجار باسقة ومنظر شط العرب ببواخره الراسية وسفنه وزوارقه يغري بالتقاط الصور التذكارية عشرات من المصورين يجوبون الشارع بحثا عن صيد يقابلنا احدهم بابتسامة مصنعة فالاطفال صيد سهل دائما هل تريدون التقاط صورة الجواب نعم فنصطف امام شجرة كبيرة نحبس انفاسنا يطلب منا المصور ان نبتسم (ابتسامة العيد) فنبتسم اضطرارا بناء على طلبه.. نذرع الشارع طولا حتى حديقة كبيرة بأشجارها وارضها الخضراء الواسعة في وسطها نافورة ترش علينا الماء بشباب وشابات جميلات وعوائل هنا وهناك تفترش الأرض فتكتمل الصورة : الماء والخضرة والوجه الحسن أيضا... وعادة ما تكون حدائق البصرة نهاية المطاف لهذه الرحلة الشاقة كحديقة الشعب وحديقة الأمة التي تقع في شارع الكورنيش شط العرب يشاركنا فرحة العيد بأمواجه المتراقصة فيحمل افراحنا في زوارق وابلام عشارية وبعد جولة في هذه الحدائق نعد نقودنا كنا نحرص ان تبقى لدينا عشرة فلوس كي نعود الى البصرة في مصلحة نقل الركاب هذه هي الصورة الأولى... فما اجمل وما ابهى وما انقى تلك الأيام سلاما على تلك السنوات والاشهر والأيام التي مرت علينا خفيفة كالنسيم وحلوة كتمر البصرة... انها عصرنا الذهبي الذي لن يعود.

***

غريب دوحي

 

في المثقف اليوم