أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

شَـكـوتُ مـن الـمـكـانِ الـى زمـانـي

ومن زمَـنـي شـكـوتُ الـى مـكـانـي

*

وفي الـحـالـيـن كـنـتُ أســأتُ ظـنـاً

فـمـا جـاوزتُ في الـشـكـوى لـساني

*

أرانـي لـو طـلـبـتُ سـوى نـصـيـبـي

مــن الأيــامِ لــم أُضِــفِ الــثــوانـي

*

ومَـنْ ســألَ  الـورى تـغـيـيـرَ حـال ٍ

كـمَـنْ ســألَ الــمـزيـدَ مـن الـهَـوان ِ

***

أربعة ابيات لا أكثر حملت هما كبيرا وتمثل شكوى وجودية عميقة، تنضح بالتأمل والحيرة والتسليم في آنٍ معًا. وهي على قصرها تنطوي على ثنائية فنية ثرية تجمع بين الزمان والمكان، وبين الداخل والخارج، وبين الشكوى والرضا.

البيت الأول:

"شكوت من المكان إلى زماني

ومن زمني شكوت إلى مكاني"

يبدأ الشاعر شكواه بعنصرين ثابتين في الوجود الإنساني: المكان والزمان. وهما في جوهرهما ليسا مذنبَين ولا واعيَين، لكن الإنسان حين يعاني يفتش عن مشجب يعلّق عليه ألمه، حتى لو كان ذلك المشجب هو الإطار الذي يحتوي حياته كلها.

الشكوى من "المكان" إلى "الزمان" تعني أن البيئة أو الواقع المحيط (المكان) أصبح ضيقًا كئيبًا، فيستنجد بالزمن علّه يحمل التغيير.

ثم تتكرر الشكوى بشكل عكسي: من "الزمن" إلى "المكان"، ما يعبّر عن دورة معاناة لا تنتهي، كأن الوجود كله تواطأ على الألم.

وهذا البيت يحمل طابعًا فلسفيًا سوداويًا يعكس حيرة الوجود، وكأن لا مهرب من المعاناة، سواء في البعد الزمني أو المكاني.

البيت الثاني:

"وفي الحالين كدت أسأت ظنّا

فما جاوزت بالشكوى لساني"

يضع الشاعر نفسه في موضع المحاسبة، وكأنه خشي أن يكون قد أخطأ مع الله أو مع القدر حين أطلق شكواه.

لكنه يُخفف من وطأة تلك الإساءة بأنه لم يتجاوز القول باللسان، أي لم يكن في قلبه اعتراض، بل هي مجرد أنين إنساني لفظي.

هذا البيت يمثل لحظة تأمل أخلاقي، فيها حسّ ديني رقيق، وحرص على ألا تكون الشكوى تمردًا، بل تنفيسًا.

البيت الثالث:

"أراني لو طلبت سوى نصيبي

من الأيام ولم أضف الثواني"

هنا تتجلى قناعة ضمنية يعبّر عنها الشاعر بتواضع بالغ. فهو لا يطلب إلا نصيبه المقدّر من الحياة، من "الأيام"، بل يؤكد زهده حتى في "الثواني" الزائدة.

هذا التصوير البسيط فيه تجريد جميل، حيث تتحول الثواني إلى رمز للجشع أو الطمع. وفيه أيضًا نقد مبطن لمن يسأل فوق ما قُسِم له، بما يشير إلى حكمة الرضا والتسليم.

البيت الرابع:

"ومن سأل الورى تغيّر حالٍ

كمن سأل المزيد من الهوان"

هذا البيت يحمل حكمة قاسية تستند إلى تجربة: أن طلب العون من الناس أو التماس التغيير من البشر غالبًا ما يؤدي إلى ذل أو خيبة.

فالشاعر يشبّه من يسأل الناس بتحصيل "الهوان" نفسه. هنا نبرة تشاؤمية ممزوجة بنزعة زهدية، وربما تصوفية، فيها انكفاء إلى النفس والاعتماد على الله لا على الخلق.

السمات الأسلوبية والفنية:

التوازي التركيبي في الشطرين الأول والثاني من البيت الأول، أعطى إيقاعًا دائريًا يعكس فكرة الدوران في الألم.

استخدام المقابلات (مكان/زمان، قول/فعل، أيام/ثواني، الورى/الهوان) منح النص عمقًا فكريًا وديناميكية فنية.

اللغة تتسم بالرقة والإيجاز، لكنها مشبعة بالدلالة. كل بيت كأنه حكمة مستقلة.

غلبة التجربة التأملية والوجدانية على الشكل الخطابي، ما يجعل القصيدة أقرب إلى المونولوج الداخلي منه إلى الخطاب للغير.

وأخيرا فإن شاعرنا المبدع رسم  هنا لوحة شاعرٍ حكيم، واجه صراعه الوجودي بالتأمل لا بالسخط، وبالشكوى المهذبة لا بالتمرّد. تتجلى فيها فلسفة الرضا والزهد، ممزوجة بألم إنساني شفيف، مما يمنحها قيمة وجدانية وفكرية كبيرة.

***

قراءة: عبد العزيز الناصري

هي ورقة، لكننا لو أبحرنا في رمزيتها، وتعمّقنا في إيحاءاتها، وتفكرنا في ظلالها لوجدناها تحمل الكثير المثير الخطير.

هي ورقة نقلّبها كل يوم، وبعضنا يمزقها، والآخر يستخدمها مسودة للكتابة عليها، وتسجيل مهامه اليومية.

هي ورقة نقطعها يوميا، لنقطع معها ذكرياتنا وأحلامنا، وآلامنا وآمالنا، وإنجازاتنا، وإخفاقاتنا، ومشاريعنا وبرامجنا، وحركاتنا وسكناتنا.

هي ورقة صمّاء، لكنها لو نطقتْ لحدثتْنا بما استودعناه، وإن تكلمت فستشهد بما اقترفنا فيها.

هي ورقة تكوّن مع أخواتها اللائي يزدن عن ثلاث مئة وستين، بقيتْ هي الأخيرة، لكنها ستُقطع كما قُطعت سابقاتها، وتُرمى، أو تُقلب بلا اكتراث، أو بعنف، وتعلم هي كبقية الأوراق أنها أُكلت يوم أكل الثور الأبيض، لكنها لم تحرك ساكنا، فأصابها ما أصاب أخواتها، ثم نأتي بحزمة أخرى؛ لنمارس هواية القطع والتمزيق والقلب فيها.

مضى عام 1446، وبدأ عام 1447

جعله الله عام خير وبركة ورزق وفلاح وتوفيق

***

طارق يسن الطاهر

 

قبل غروب الشمس بقليل وهو الوقت الذي تزداد فيه حركة العائدين من الحقول ودوابهم محملة بما جلبوه في مختلف بساتينهم من خضروات... وحشائش لأبقارهم، الكثير منهم يلقي بالتحية على بضعة من الكهول والعجزة الطاعنين في السن وهم ينتظرون آذان المغرب، البعض منهم أنهى  قليل من حبات لب القرع [بذور اليقطين]  المحمصة، وبعضهم هي فرصته الثمينة ليملأ غليونه بمسحوق طابا، وبعد إيقاد النار في رأس الغليون ومصه بعناية، يخرج من شدقه زوبعة سوداء من الدخان الأسود، يحملها الهواء معه  نحو الأعلى، البعض الآخر منهم اكتفى بتمرير حبات سبحته بين يديه، أحيانا تحيل سبحته بينه وبين الانخراط في القيل والقال مع الحاضرين، وأحيانا ينخرط في الكلام ويعرض عن تمرير حبات سبحته الخشبية،  وإذا بأحد الجالسين دون غيره قد أقبل على تقشير بضعة جرادات مسلوقة ومجففة قد تم اصطحابها معه إلى عين المكان مخبأة  بعناية داخل محفظته[شكارته]1 الجلدية المتدلية على جانبه الأيمن، من خلال حزامها المفتول بخيوط حريرية على كتبه الأيسر، وهي تصاحبه أينما حل وارتحل ولا تفارقه إلا عند النوم... ها هو يقشر الجرادة تلوى الأخرى  بعناية، دون أن يبالي بمن حوله، إذ يلف رأس الجرادة ويفصله عن جسمها، وبعدها يرفع القشرة العلوية لصدر الجرادة لتظهر طبقة رقيقة من لحكم الجراد، ومرة أخرى  يمسك بذيل الجرادة بعناية ويضغط عليه من كلا الجانبين حتى تنكسر القشرة  التي يختفي من تحتها قليل من اللحم...أما أرجل الجرادة فيكسرها ويتم إزالة قليل اللحم العالق بها بأسنانه...  مشهد هذا الرجل ورجلاه ممددتان على الأرض وقد انفلتت منه إحدى نعاله... وساقيه تلمعان تحت ما تبقى من أشعة غروب الشمس نتيجة انسدال جلبابه نحو فخديه... عمامته بشكلها المكور مثبتة بشكل جيد من أعلى رأسه وبالقرب منه بالجانب الأيمن [عكازه] أي العصى التي يتوكأ عليها، وهي على شكل هلال من الجانب الذي يمسكها به... الرجل غارق في وجبته الدسمة في أكل الجراد، مشهد يبدوا من خلاله  هذا الرجل الذي لا يبالي بمن حوله وبالمارة الذين يلقون التحية بين الحين والآخر أنه رجل بارع في تقشير الجراد، فهو لا ينفلت منه أي شيء يمكن أكله من جسم الجرادة... لا شك أنه اعتاد على هذا الأمر منذ زمن بعيد...

قال الذي يأكل حبات القرع للذي يقشر الجراد بنبرة صوت لا يخلوا من السخرية الممزوجة بنوع من الجد، لا عليك يا صاحبي بوادر وصول أسراب الجراد بدت للعيان وقد ازداد منسوب الجرادات التي تطير هنا وهناك في كل مكان ولا شك أن الجراد سيحل بيننا قريبا المسلوق والمشوي منه... حينها ستسأل عني لأمنحك بعض من حبات لب القرع [بذور اليقطين] نتيجة التخمة التي تحل بك وأنت تقشر الجراد... وقد عرف عنك منذ الصبا، بأنك من أكبر آكلي الجراد إلى درجة الشبه الذي حل بسيقان أرجلك النحيفة التي سارت شبيهة بأرجل الجراد...

عندما تهجم أسراب الجراد يكون أهل الواحة في حيرة من أمرهم، وفي حالة من الخوف والهلع فأسراب الجراد إن تمكنت من المبيت لليلة واحدة داخل مختلف حقول الواحة وهي تعتلي جريد النخيل وأغصان مختلف الأشجار وأوراق مختلف النباتات فذلك يعني لأهل الواحة كارثة كبيرة، لأن سرب الجراد سيأتي على الأخضر واليابس ولا يترك شيئا إلا جذوع النخيل والأشجار التي لا يقوى على أكلها... وقد يأتي على سعف جريد النخيل وعلى أوراق مختلف الأشجار... وإذا بهم طيلة النهار وقبل غروب الشمس يقصدون مختلف حقولهم لمطاردة الجراد بمختلف الأصوات التي تصدرها معاولهم وفؤوسهم وهم يضربون بها على مختلف الأحجار اعتقادا منهم أن أصوات الحديد تطارد الجراد ومنهم من يضرب على مختلف الطبول والبنادر... وهم يرددون "هُوس..هُوس.. أللا مُلك الله" وفي الليل ينتهزون فرصة صيد الجراد الملتصق على مختلف النباتات الأرضية وسط الحقول.

في الوقت الذي اقتربت فيه الشمس  نحو الغروب بشكل أكبر، وهي تظهر على شكل نصف قرص من وراء جريد النخيل،  حلت قافلة صغيرة  في عين المكان، فحالة أصحابها توحي بأنهم قادمون من مكان بعيد، وبأنهم قطعوا طريقا طويلا في جوف الصحراء بين مختلف الواحات، وصول القافلة كان سببا في أن ينفض مجمع الجالسين إذ التفوا واقفين من كل جانب حول القافلة ومنهم من مد يد العون في فك حبال حمولة العير والدواب بعد أن تبادلوا التحية والسلام، فرجال القافلة ليسوا غرباء عن المكان، وقد تعودوا عبوره ويعرفون البعض من أهله... كان هم الجالسين الذين فضوا مجمعهم وحاموا حول القافلة ورجالها من كل جانب وقد انفرد بعضهم ببعض رجالها، يدور حول استقصاء ومعرفة ما بحوزة الرجال من أخبار ومستجدات قد علموا بها وهم في طريقهم... وقد عمت المكان ضجة من الأصوات والتحيا والضحكات... فبعد أن حط الرجال رحيلهم قصدوا الساحة الخلفية التي من وراء الباب الرئيسي للقصبة، وقد أشار بعضهم بأنهم تركوا من ورائهم أسربا قادمة من الجراد فوصولها من عدمه يتوقف على حركة الرياح، فمن يدري هل لحسن الحظ أو لسوئه أن تقذف الرياح بأسراب الجراد في البراري البعيدة عن الواحة، والكل يعلم أن حركة أسراب الجراد تتوقف بالليل وتحط على سطح أي مكان حلت به،  والخبر اليقين أن مبيتها قريب من عين المكان وهي فرصة ثمينة لأهل الواحة بهدف اصطياد الجراد، وقد علمتهم الأيام أن اصطياده يكون بالليل عندما يكون الجراد مكدس بعضه فوق بعض على الأرض.

انتشر خبر احتمال أن تحط أسراب كبيرة من الجراد بالقرب من القصبة، بين الناس وقد أكد أحد رجال القافلة للجميع أن بعض أسرابه قد حجبت عنهم أشعة الشمس عند الظهيرة، لكن هبوب رياح معاكسة لطريق القافلة جعلت الجراد يتجه في اتجاه معاكس ولا شك أن بداية الليل ستجعلها تفترش الأرض ومختلف النباتات القصيرة في البراري القريبة من الواحة ... وهي فرصة ثمينة لصيد الجراد.

قبل آذان العشاء، تجمع الشباب والكهول وبعض الأطفال، وقد اتجهوا نحو البراري المجاورة و رافقهم أحد الرجال الذين قدموا مع القافلة ليدلهم على اتجاه المكان الذي من المحتمل أن تفترشه أسراب الجراد وهي مهمة ليست بالسهلة... وقد تاه الجميع في ظلام الليل لبعض من الوقت وسط البراري المنبسطة التي تنتهي بهضاب منعرجة قبل وصول سفح الجبل، وهم على يقين أن المكان المناسب لصيد الجراد هو البراري المنبسطة، أما سفوح الجبال فيتعذر معها أمر الصيد إن لم يكن مستحيلا في بعض من جنباته الوعرة ... اختار الكهول ومعهم بعض الأطفال أن يتجمعوا في وسط البرية على سطح مرتفع منبسط من الأرض، وتركوا مهمة البحث إلى الشباب في أجواء المكان المتسعة، في انتظار أن يبصروا  شعاع شعلة لهيب النار الذي يوقده من ظفر بالهدف... لوقت ليس بالقصير عم الصمت في المكان ويكسره بين الحين والآخر عويل ابن آوى القادم من بعيد لترد عليه الكلاب بالنباح ... وقد أخذ النوم يدب في جفون الكهول أما الأطفال فقد استسلم بعضهم وغرق في نومه وأحلامه التي تحدثه أنه يطير في الهواء مع الجراد ويمسكه بكلتا يديه...

في الوقت ذاته بالقرب من عشرات شجيرات السدر والطلح في أحد شعاب البرية التي تتجمع فيها مياه السيول لوقت طويل، ولا تنفد إلا مع مرور أشهر طويلة... وقد يحيط بها نبات [الديس وأم ركبة وسمار...] تفاجأ أحد الشباب وهو يقرب المصباح ليبصر الشجيرات التي تحول لونها من اللون الأخضر إلى لون شبيه بلون التراب، بفعل أسراب الجراد الذي غطاها من كل جانب... وإذا به ينظر إلى الأرض ووجد نفسه يسير فوق طبقات من الجراد المكدس بعضه فوق بعض... ابتعد قليلا وإذا به يوقد النار علامة بأنه قد أصاب الهدف ليلحق به الآخرون ...

انغمس الجميع في عملية كنس الجراد وسحبه من على سطح الأرض ومن أعلى شجيرات السدر والطلح المليئة بالأشواك وإقحامه داخل مختلف الأكياس والقفف وسلال القصب التي تغلق بإحكام ولا تترك منفذا لهروب الجراد... فعملية السحب هذه قد تصحب معها بعض الأعشاب الملقاة على الأرض وأحيانا تصحب معها بعض الكائنات التي تتغدى على الجراد نتيجة سرعة السحب التي تتطلبها عملية الصيد، فالجراد سريع القفز من نقطة إلى أخرى، فعليك أن تستبق قفزاته... إنه ينتظر نفاذ الليل ليطير أسرابا في السماء...عندما تسحل الجراد من أعلى سطح الأرض وأنت تدفع به داخل الكيس تجد نفسك  محتجزا داخل زوبعة من الجراد وهو يحط  على رأسك وظهرك وكل جسدك وقد يصطدم بوجهك أحيانا... وهي حالة تفقدك التركيز في عملية الصيد التي تعتمد على سحل الجراد ودفعه بداخل قعر الكيس أو القفة أو السلة... في أسرع وقت ممكن.

قبل طلوع الفجر عاد صيادو الجراد محملين بأكياسهم على ظهورهم، وسلالهم وقففهم المحكمة من أعلى رؤوسهم، فضلا على ما حملوه على ظهور دوابهم... إنها لحظة رخاء صيد الجراد وقد حالفهم الحظ إذ عثروا على أسراب مكدسة بعضها فوق بعض في مجال ضيق... مع شروق الشمس بقليل دخلوا القصبة وكل منهم عينه على بيته وعلى قدر الماء الساخن من فوق النار لسلق الجراد مع الملح...وهي مهمة تتولاها النساء والفتيات.

وقد عمت الدروب والأزقة وأسطح القصبة رائحة الجراد فضلا على بضعة من الجرادات التي تطير هنا وهناك ومن أعلى أسطح القصبة وداخل أزقتها، إذ تمكنت من الهرب من داخل الأكياس... لقد تكررت حالة الصيد هاته لأيام، وبعدها حلت أسراب الجراد بالواحة، لتصطاد بدورها النباتات والأشجار التي كد أهل الواحة من أجل اخضرارها وقد ازداد أهل الواحة خوفا من أنها ستعمر طويلا لكن لحسن عجلت في الرحيل... وبعد أسابيع من رحيلها ظهر في الواحة من يبيع الجراد الذي يزداد سعره شهرا بعد شهر من لحظة رحيل أسرابه.

حالة انتشار الجراد ووفرته بين أيدي الناس حفزت ذاكرة الجدات لتحكي للأطفال عن حكاية الجرادة المالحة[2] وهي تحدثهم عن رعيها في بستان السيدة الصالحة، عما أكلت فيه وما شربت وما شمته من روائح طيبة... وكيف كانت علاقة صاحبة البستان بالقبيلة التي تنتمي إليها، وعن طبيعة وما واجهته من مكر وحيل من لدن السحرة الأشرار، وفي الأخير تغلب خيرها وصلاحها عن كل ما تسبب فيه الأشرار...

بعد أيام التقي مجددا الذي يأكل حبات لب القرع مع صاحبه الذي اعتاد تقشير الجراد وقد ادعى أن مجيء الجراد يجلب معه الخير للواحة وأهلها... أي خير يا آكل الجراد وأنت ترى أن الجراد لأيام قليلة قد أتى على كل شيء بما فيه سعف النخيل ولم ينجو منه إلا القليل... وقد تعبنا من مطاردته صباح مساء وقد اصدنا منه الكثير... قشر جرادتك التي بين يديك وألزم الصمت...

 ***

بقلم: د. صابر مولاي أحمد

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

.......................

[1] الشْكارة: وعاء جلدي لنقل وخزن الأشياء تصنع من جلد ناعم، غالبا من جلد الضأن، ارتبطت قديما بحمل المال والنقود، ومختلف المستلزمات الضرورية الخفيفة جدا مثل المنْقاش لإزالة الشوكة إذا دخلت في الرجل... كلمة شكارة قريبة فعل "شكر" وهي تدل على الشكر والخير والنعمة والبركة.

 [2] أجْـــرَادَة مَـــالْــحَــــــة

فِــي كُـنْـتـِـي سَـارْحَـــة

فِـي جْـنَـانْ الصَالْـحَـــة

آشْ كْلِيتِي آشْ شْرَبْتِـي

غِيرْ التْـفَـاحْ وْالنَّـفـَـاحْ

وْالحَـكْـمَـة بإِيــدِيـــكْ

يَاالْقَـاضِي يَا بُـو مْفْتَـاحْ

 

يُقال إن سبعة من كل عشرة أشخاص يعيشون حياة لا تُشبههم.

لكن، متى تبدأ الحياة التي تُشبهك حقًا؟

تبدأ حين تتوافق أقوالك مع قناعاتك، وأفعالك مع ما تؤمن به.

حين ينسجم ظاهرك مع باطنك، وتصبح الحقيقة التي تعيشها امتدادًا لصوتك الداخلي، لا صدى لما حولك.

تعيش حياة تشبهك عندما لا تُغفل ذائقتك الخاصة، ولا تذوب في الذوق العام.

حين تذوق الأشياء بروحك، لا بما يُملى عليك، وتختار ما يُبهرك أنت، لا ما يُبهر الآخرين.

تسكن بيتًا صممته بذوقك، كل زاوية فيه تحمل أثر روحك، كل لون ولمسة وتفصيل يُشبهك،

لا لأنه يثير إعجاب الناس، بل لأنه يُلامس عمقك ويُعبّر عنك.

تعمل ما يُحرّك شغفك، وتختار ما يعبّر عن غايتك،

فتتجلّى رؤيتك من خلال أدقّ تفاصيله، وتُرى بصمتك الخاصة رغم كل التشابهات من حولك.

تخون روحك حين تمرّ في رحلتك بالدنيا مرور الكرام،

مرورًا باهتًا لا تتجلّى فيه حقيقتك، ولا تظهر فيه مواهبك، ولا تُرسم فيه ملامحك بما تحبّ ويلامس قلبك.

تخونها حين تهمّش نداءها، وتغفل إشراقاتها، وتمنعها من أن تكون كما خُلقت لتكون.

وتخونها أكثر…

حين تختفي عفويتك، ويموت الطفل بداخلك، وتبتعد كثيرًا عن فطرتك النقيّة.

حين تغترب عن نفسك وأنت تحاول أن تُرضي العالم، وتخسر نفسك الأصلية على طريق الزيف والتكيّف المفرِط.

الحياة التي تُشبهك…

هي الحياة التي لا تُخضِع فيها روحك لإرضاء الآخرين،

ولا تُفرِّط في ملامحك لتنال قبولهم.

هي الحياة التي تكون فيها أنت… انعكاسك الحقيقي، وتجلياتك الصادقة.

***

د. حميدة القحطاني

 

تنبيه أول.. (هذا وجهي، لا أعرفه، لا يُرى بوضوح إلاّ من بعيد)

قبل أن تدخل غمار هذه الشذرات/المتاهة، وتجتاز عتبتها، عليك أن تنظر إلى وجْهِكَ في المرآة أوَّلاً، فلستُ مسؤولا إنْ أنْتَ خرجتَ من هذه المتاهة بوجهٍ غير الذي به دخَلْتَ، أو بوجهٍ لا تعرفه، فوجهي، أنا الذي عشتُ هذه المتاهة، لا يُرى بوضوحٍ إلاّ من بعيد، لهذا فأنا لا أعرفه.

تنبيه ثاني.. (لا تقل إنّك تعرفُ وجهك الذي تحمله)

هل تؤمن بقولهم: «يخلق من الشبه أربعين»؟ أنا شخصيا لا أومن بهذا، إذ لا يوجد أساس علمي يُثبتُ صحّته، لكنّ بوجوهي المتعدّدة التي ستراني بها، والّتي تلاحقني وأُلاحقها، والتي لا تشبهني ولا أُشْبِهُها، بدأتُ لا أعرفني كأنّما وجهي قناع.

كأنّي قارئُ وجوه، تتبدّل لكلّ غاية مفيدة، حتّى أنّي نسيت وجهي الأصل، نسيت هويته حين اعتاد على التّخفّي وراء الوجوه الأخرى، ولم يَعْتَدْ على الظّهور المكشوف، فهل بعد تبديل الوجوه فرصة للعودة إلى الوجه الأصل؟ أمارس عادات اكتسبتها من فرط الوجوه التي أحملها وتحملني؛ كالبكاء بلا دموع، والضّحك بلا تهاليل؛ أمارسُ طقوسَ التّصنُّع والاختباء. الوجه كما يقول الكاتب والروائي المصري سعيد مكاوي «دائما ملتبس، غالبا ما يعكس خلاف مكنونه، في قسوته مُحيّر، وفي براءته مزيّف، وذمامته جمال مستتر، الوجه الإنساني بمفهومه المتّفق عليه هو الذي لم نعرفه بعد» .

تنبيه ثالث.. (الوجوه متاهات مُضَلِّلَة)

من كثرة ما قلَّبْتُ الوُجوه وتقلَّبتُ فيها؛ أعتقد، غير جازم، أني فهمتها، أو على الأقل فهمت وجوهي التي أحمل، أو هكذا يُخيّل إليّ حين أنظر إلى معرض الوجوه وهي تمر أمامي مرَّ الهواجس والشُّكوك التي تعتريني، وتوقظ في داخلي أسئلة تتعدّد بتعدُّد الوجوه الضّاحكة والباكية، المكشّرة والمُنْفرجة، الحالمة واليائسة، المُتعقّبة للعورات والسّاكنة همومها.

تنبيه أخير..       (وجوهٌ كالمتاهة لا تُشْبهُني)

هذه الوجوه التي سأعرضها، تخصُّني، رغم أنّها لا تشبهني، لا أتنَكّر لها، هي ليست وجوهاً لأُناس أعرفهم أو أُنكر معرفتهم، هي وجوهي مهما تعدّدت، تحملني وأحملها، تواجِهُني وأُواجِهُها، لكنّنا نعرف بعضنا عزَّ المعرفة. ليستْ مَسْخاً، ولكنّها حقيقية رغم تعدّدها؛ فأنا هنا، لا أقصد مَسْخَ «كافكا» حين تحدّث عن انمساخ «سامسا» بطل قصته، ولكنه هنا، المسخ الذي يعجُّ به الواقع المعيش، من خداع وكذب وظلم وإقصاء. قد يكون لك، أيّها الدّاخل إلى هذه المتاهة، من هذه الوجوه نصيب؛ لذا فالرّجاء، الدّخول إليها بحذر شديد.

الوجوهُ المتاهة..

1ـ وجهٌ تائه..

استيقظت هذا الصباح ولم أجد وجهي، تِهْتُ أبحث عنهُ.. وجدته هو الآخر تائها يبحث عنّي. حملته بين يدي، نظرت إليه مليا وقلت له: ماذا أصابك، أين كنت؟ لمْ يُحر جواباً.

أعدته إلى وجهي وأنا أشك في أنه لي.

2ـ وجهٌ لقناع..

قلتُ: ما هذا التجهّم الذي يغطي محياك يا وجهي؟

قال وجهي غاضبا: سئمت هذه الملامح التي أحملها رغما عني مُذْ عرفتك؟

قلت وأنا أمد له قناعا: خذ، غيّرْ ملامحك واسترِحْ..

3ـ وجهٌ للبيع..

حملتُ وجهي بين يديّ، تهتُ به في الشوارع والأسواق أريدُ بَيْعه... لم يلتفت إليَّ أحد ولم يساومني أحد... نظرت إلى وجهي وقد سالت من عينيه دمْعة..

4ـ من دون وجه

كعادتي كل صباح، فتحت الدولاب لأختار وجهاً لهذا اليوم ... احترت، كلّ الوجوه جربتها، تعبت منها. قرّرت أن أخرج هذا اليوم من دون وجه.

5ـ وجه يضحك..

نظرتُ مليّاً إلى وجهي، نظر إليّ مليّاً وقال: من أنت؟

قلتُ: أنتَ، أنا أنتَ. نظر إليَّ مليّاً، ثم انفجر ضاحكاً.

6ـ انتهت صلاحيته..

اعترض طريقي وجهي الذي ألفتُ أن أحمله بين يديَّ كلّ صباح، وصاح في وجهي: ألم تلاحظ أن صلاحيتك انتهت...؟

نظرت إليه مستغرباً وقلت: هذا يعني أن صلاحيتنا انتهت نحن الاثنين. فغر وجهي فاه حين أدرك الحقيقة، غير أنه ابتسم ابتسامةً عرفت مغزاها حين وضعت يدي على قناع قديم مهترئ، كنت عند الحاجة، أستعمله.

7ـ وجهٌ بالتّقسيط..

عرضتُ وجهي للبيْع مرّة، وبالتّقسيط..

لا أحد ساومني..

عدتُ به كسلعة بارَتْ.

8ـ وجهٌ وقناع..

قال القناع: سئمتُ من هذه الصورة التي أنا عليها، ما تَغيَّرَتْ منذ خُلِقْتُ.. قال الوجه: اصنع ما أصنع، البسْ لكل مقام وجهاً، أقصد قناعاً. رد القناع مندهشا: إذاً أنافق!

9ـ وجه لا يشبهني..

كعادتي كل صباح أقف أمام المرآة أُصفِّفُ شعري فارتسمت على وجهي علامة استفهام كبيرة غطَّت مساحة المرآة.

لمن هذا الوجه؟

حملقْتُ جيدا في الوجه الذي أمامي، تأكدتُ أنّه ليس وجهي، هذا الذي يُطِلُّ عليَّ من الجهة الأخرى من المرآة..

لفتت نظري أدوات التجميل التي تستعملها زوجتي.. لِمَ لا أستعمل بعض المساحيق لأعيد إلى وجهي وجهه الذي ألِفَهُ النّاس..

10ـ عملية تجميل..

قصدتُ عيادة طبيب التجميل وكُلّي عزمٌ على تغيير وجهي الذي أحمله رغماً عنّي..

هذا الأنف الأفطس، وهذه الزبيبة التي تحْتلُّ نصف الوجه، وهذان الخدان غير المتناسقين.. هكذا كنتُ أظُنّ إذا نظرتُ في المرآة. أما إذا نظر إليَّ أحدٌ أشيحُ بوجهي ظنّاً مني أنه يتفحص وجهاً غريباً من كوكب غريب.

جلستُ أمام الطبيب وكلّي أملٌ في أن يصلح هذه التشوهات.

ـ وجهك لا يحتاج إلى تعديل أو تجميل...

ـ انظر جيدا يا دكتور إلى هذا الوجه.. سأدفع لك الثمن الذي تتطلبه العملية.

ـ هذا الوجه يناسبك جيداً، قال الطبيب.

خرجتُ منْطرداً أجوب ممرّات غابة قريبة، عند بركة ماءٍ، خلّفتها أمطارٌ مفاجئة، نظرتُ فيها، فرأيتُ وجهاً، استحسنتُ تفاصيله وقسماته، وهمست حتى لا يسمعني وجهي وأنا أردّد قول الجاحظ، «قبح الله هذا الوجه وقُبّح حامله».

11ـ نهايةُ المتاهة..

لم أجد وجها يلائمُني، ولن تجدوا وجوهاً تلائمكم، فمتى يحين الوقت ونكفّ عن تسوّل وجوهٍ غير التي نحملها!؟ ...

***

عبد الهادي عبد المطّلب

المغرب/الدار البيضاء في: 14 يونيو/حزيران 2025

هل تفهم معنى أن تغترب دون أن تخطو خطوة واحدة من مكانك؟!. أعتقد بأن الغربة لم تعد تقتصر على شنطة سفر وتذكرة طيران فحسب، فإن الواقع تخطى الحدود الجغرافية بمراحل. هي زمن غير زمنك، وجوه تشبه ملامحك وأنت لا تشبه باطنها، وأفكار تجبرك على التأقلم معها وأنت أبعد ما يكون عن منطقها.. إن الغربة ليست في تغيير خريطة الوطن وتعديل ساعتك البيولوجية، فقد تشعر بها وأنت على أرضك!

إليكم كيف تسير الأمور معي.. ومع الكثير منكم.

تشغلني أحيانًا كلمة ما على غلاف مجلة ممزق، "سوبر ميكي" على سبيل الطفولة، يراها البعض عادية جدًا، لا تعبر عن أي مضمون ولا تستحق إثارة الجدل، ولكنها ألهمتنى بقوة، وضعتني على أول الطريق لاكتشاف يُبدد جهلي به وبجانب آخر في تكويني الذي يتشكل بالأيام رويدًا رويدًا، إنها لحظات فارقة في تاريخك تلك التي تخلع فيها ثوب المجهول عن الأشياء بجهودك الذاتية، والمؤسف أن إنجازي لم يكتمل بعلمي أن الصعوبة تكمن في المواجهة لا الفهم، فأغدو بكلماتي مرتبكة الحواس!

أنطقها أم أحفظها في نفسي بمأمن عن ردود البشر المزعجة؟

هل يستقبلها إدراكهم أصلًا؟!

وإذا.. كيف سيكون أثرها عليهم؟

عادية كما هي، أم فيها النجاة لنا؟

وتمر ساعات وأنا أشكو من اضطراب وجداني حاد.. بلا علاج!

يؤرقني التردد بين أن أشرح ما يشتعل بخاطري، أو أختار ذلك الكتمان البارد.

بحسب خبرتي المتواضعة في الدنيا، أيقنت بأن السكوت ليس علامة على تمام الرضا كما يزعم البعض، فهو بنسبة كبيرة احتماء من الهجوم اللاذع وتحطيم الشغف، والبشر الآن أصبحت في ذروة توحشها!

فكرت اليوم كثيرًا قبل أن أعلنها، وقراري الأخير أنني سأتنازل عن سكوتي الليلة وأعترف بأنني تعبت من الاغتراب عن العقول، لقد سئمت حقًا من الاختباء وراء جدران الصمت القسري!

ألا يود أحدكم مشاركة ضوضائي ولو للحظات ومن باب المواساة؟!

حتى النظرة تُعاني من أوجاع الغربة!

فمن ينتبه أن لمعة العين تبوح بما تعجز الشفاه عن سرده؟

يعتبرني البعض خجولة إن حجبت نظراتي عنهم أثناء الحوار، بينما أنا غارقة بكل حرف وأنصهر فيما بين السطور انصهارًا يحرقني، ورغم ذلك، كنت أحس بهمساتهم ينعتوني بالانطوائية أو الفاشلة في التواصل البصري أو حتى بالفتاة ذات النوايا الثعبانية الخبيثة! لدرجة أني طالني الشك حيال سلوكي مع المجتمع، حيال "نورا" التي أعرفها، فغرقت بين جدران غرفتي بلا إرادة مني!

ليتهم يعلمون أن روحي تتجلى فيها، فإن إنسانيتي تعشق الحرية، ودواخلي مكشوفة بالكامل لمن يتأملها بصدق، أحزاني وقلقي وهمومي وحبي وكل أسراري تفضحها النظرات الطويلة، بشرط أن تكون جديرة بالثقة، ولذلك ألوذ بالفرار ممن يقتنصها ويعرف كيف تُنسج اللغة مع شخصي الغريب.

وأما اليوم، أصبح من يتفاعل معي بهذه الطريقة بمثابة إبرة في كومة قش! للحد الذي دفعني إلى تسجيلهم بالأسماء في دفتر ملاحظاتي كي أعود إليهم من نوبة غربة لأخرى.. نكتة سخيفة أليس كذلك؟!

الأولوية اليوم تميل لأذن تسمع قشور الأبجدية، وصوت مُقيد عن تجسيد نبضنا، وأما عن رسائل العيون، فلا تعليق.. كم هو مؤلم أن تُهمل حقيقتنا!

وذلك الإحساس.. أول ما يدق ناقوس الخطر ويُنذر باغتراب جديد!

يقولون: "أشعر بك، أعرفك تمامًا، قلبي انقسم عليك"

على أي أساس تلك الادعاءات؟

هل أبكتهم الأقدار مثلما فعلت بضلوعنا؟

قلبك ينقسم! تبدو في ظاهرها مجاملة طيبة، ولكنها على الأرجح شفقة غير مقبولة.

فكم من مرة أطلقوا على دموع ألهبت جفوني "دموع الفرحة" وهي صرخات ضاق صبرها وكل ما فعلته هو أنني أطلقت سراحها فحسب!

وأخرى يحسبونها كارثة حكمت بالإعدام على ابتسامتي، وسرعان ما يفتعلون التضامن معي لإزاحة الشجن عن كاهلي، فأصعقهم بأنها دموع "تقطيع بصل" ليس أكثر!

مهزلة بكل المقاييس!

إنهم لا يُفرقون بين قطرات دافئة، فأين الدليل على معرفتهم بما يضج في رأسي؟!

المُضحك أنني وبعد كل شيء أُعاقب على غيابي بينهم!

هيامي باللون الأسود = كئيبة

حديثي مع أفكاري = غريبة الأطوار

تلقائية أفعالي = ساذجة لم تنضج بأواخر العشرينات

حرصي على التفاصيل = "موسوسة" وقلبها في خفة الريشة

فماذا أصنع وأنا أمقت التبريرات؟

الإجابة باتت واضحة الآن.. غربة.

وفي جلسات اللوم أتراجع عن غطرستي وأقول: ربما أنا كل المشكلة!

لعل البشرية بريئة مما يعوق تدفق خطواتي ويحرمني من الانغماس وسط الزحام، وعليه فيلزمني إعادة ترتيب لأوراقي في أقرب وقت ممكن، وهي ورطة بالطبع.. فكيف نتفق وحبل الوصال بيننا مقطوع منذ الأزل؟!

أصدقائي، أنا هُنا، معكم، بشحمي ولحمي، أُرحب بالجميع ويمكنكم كسب مودتي بعقد فل وياسمين، الأزمة كلها أنني بنصف انتماء!

ولكن، ثمة أمل في نهاية المطاف، وهو الخبر السعيد في قصتي وقصة أمثالي.. انفراجة كنت أنتظرها وأنتم كذلك.

ربما بدون من لمست أناملهم أعماقي وعرفوني حق المعرفة كنت سأفقد صوابي في وضع لا يُمثلني على الإطلاق، لقد أنقذتني تلك الأرواح من ظلامي ووحدتي، وهي نعمة عظيمة أن تنتشلني في اللحظة المناسبة قبل انهياري الأبدي.

أرواح شفافة، تسمع التنهيدة بدلًا من الثرثرة، تحتويني وتُلملم بقايا اتزاني بمنتهى اللطف والرحمة، ليس تفضلًا منها، وإنما انعكاس لما تمر به أيضًا، فأنا وهي في مركب الوجود نُصارع دوامات العدم، لقد اجتمعنا من أجل هدف بعينه.. الخلاص.

نحن لم نطلب المعجزات، أحلامنا تتلخص في سلام واستقرار وتناغم، وحين تقهرنا العزلة نجد من يحتضن ضعفنا ويتشرب معنا الرفض والملل وكل مخاوفنا التافهة وكلماتنا العبثية، بل ونطمئن برفقته أننا بخير، ولو أصابنا الجنون في مقتل!

أنا لا أتحايل على الحقائق، أعي جيدًا أن الوجع لن يختلف اختلافًا جذريًا بأي مؤثرات خارجية، إنه العذاب يا سادة، لقد تبين لي أن انسحابه مُهلك كحضوره، ولكنه يهون إن تقاسمه معنا من احترق به، على الأقل سنهدأ إن افترسنا السؤال عن المعنى.. مجرد السؤال.

فأي فرحة تُعادل أن ينجذب إليك من واجه مصيرك!

من يحتضن غليانك وحرارة كلماتك وصمتك وضعفك وغضبك.. باختصار.. هو ثوراتك التي لم تجرؤ على إعلانها قط.

ستندهش من فرط التوافق بينكما!

أخطر منعطفاتك عاش مثلها ونجا منها بأعجوبة تمامًا كما نجوت، حتى يتهيأ لك أنك تقف أمام نسخة استثنائية منك، تجربته خاصة به، صحيح، ولكن أطرافها تتشابك معك، وهو ما افتقدته معهم!

لقد أرشدك الله لمن ينقذك من شرودك، وبدورك تمد له يدك، فتتعاقب الأيام والفصول بأقل الخسائر، ليتضح لك أنك في النهاية.. لست وحدك.

دعوني أُكررها لنلتقط أنفاسنا المتمردة.. بمذاق النصر.

في مكان ما، يرتجف جسد آخر، يبحث عن نظيره في عالم متناقض، وبمجرد أن يعثر عليه يُشاركه الهذيان ويتراقص معه على الأشواك ويُقيم له سهرة الأنين.

هكذا تستمر الغربة بلا اغتراب، وهكذا نقاوم بشرف.

هل فهمت الآن؟

***

بقلم: نورا حنفي

في غمرة واقع يعتصر القلوب، وتثقل فيه المحن كاهل الأرواح، وبينما ترخي سحائب الحرب الثّقال بظلالها الكئيبة على أرجاء أوطاننا، يأتي يوم الأب العالميّ ليبرز لنا قيمة آبائنا الأماجد، فهم أعمدة الصّمود الرّاسخة الّتي لا تهن، وقناديل الأمل الوضّاءة الّتي تبدّد ظلمات اليأس، فالأب هو السّند المتين الّذي لا يميل، والحضن الدّافئ الّذي يضمّنا في غمرات الشّدّة، واليد الحانية الّتي تمتدّ لترفعنا كلّما تعثّرت خطانا.

نبعث بأصدق الأمنيات وأرقّ الدّعوات بالخير والسّلامة للجميع، وللآباء الأجلّاء أيّنما حلّوا وارتحلوا، متمنّين لهم دوام القوّة وعظيم الصّبر، ليظلّوا ينبوعا فيّاضا بالإلهام، يروي ظمأ عائلاتهم، وليبقوا نجوما ساطعة في سماء أُسَرِهم، مضيئين بيوتهم بنور المحبّة وعمق الحكمة.

وبينما نفيض تقديرا للآباء الّذين ما زالوا بيننا، لا تملك أرواحنا إلّا أن تستذكر أرواحا عزيزة فارقتنا، لكنّها أبقت حضورها الخالد في حنايا أرواحنا، فوالدي الّذي رحل عن دنيانا قبل ما يزيد عن ثلاثة أعوام، ما زال يسكن أعماق قلبي، نبضا لا يهدأ وذكرى لا تضمحلّ، روحه ما برحت تحلّق حولي، وابتسامته الطيّبة محفورة في ذاكرتي كوشمٍ لا يمحى.

وليشهد العالم أجمع، أنّني قد حططتُ رحالي في كنف أعظم أب؛ رجل فاق الوصف جودا وعطاء، وعلّم الحياة كيف تكون معاني السّند والعشق.

فسلام على روحه الطّاهرة، وخلّد الدّهر ذكراه في صحائف الذّاكرة، وليبقَ أنشودة تتجدّد، أردّدها ما بقي بي من نبض.

رحم الله كلّ أب غاب عن دنيانا، وجعل ذكراه العطرة باقية، تذكّرنا دوما بقوّة الأبوّة الّتي لا يطويها الفراق، فقد خلّفوا وراءهم إرثا من العطاء، يتجاوز حدود الزّمان، محفورا في صحائف الأيّام بمدادٍ من نور.

على أريج هذه الذّكريات الّتي تتجلّى في أرواحنا كنجوم لا يأفل نورها، نحلم بأبصار القلب إلى فجر وشيك، يحمل بين طيّاته وعدا بسلام ينسج خيوطه من وشوشة الأماني الصّادقة، يُسكَبُ على الأرض كالمطر؛ ليروي ظمأ القلوب، فيُزهِر الأمن في كلّ درب، وتتعانق الأرواح تحت ظلال الوئام، وتشرق شمس الطّمأنينة على هذا الكون؛ لننعم جميعا بفيض من السّكينة الأبديّة.

*** 

صباح بشير

........................

– هذه الصّورة هي ما خطّته يدي إهداء لأبي في مؤلّفي "شذرات نقديّة".1601 sabah

كانت ذاكرتي تستعيد بضع صور ولوحات من البدايات ومن البدايات شكل البنفسج والأزرق انطباعاتي عن فنان حركي شفاف في أسلوب معالجته للمساحة وعاشق متصوف تربطه علاقة حميمة مع الموضوع لم يغادر البحر (موضوع بداياته) إلا حين شكل غيمته من بخاره وامتطاها راحلاً نحو تلك الجبال ليهطل على تلك الوديان والسفوح وليكشفها ويكتشفها وليصير الشاهد على أسراراها في كافة أعماله اللاحقة.

هو الفنان علي مقوص وتلك هي مقالتي التي تأخرت عنه لأسباب لست بصددها الآن .. فأن تصل ولو متأخراً خير من ألا تصل أبداً .. وأخيراً وصلت .. وصلت إلى حيث البداية وعند أبواب مرسمه الفسيح أسرد لكم الحكاية وقبل كل حكاية وجب علينا الوضوء فرحلة سبر أغوار الطبيعة هي صلاة وهي المدخل للتسليم بعظمة الخالق في خلقه وهي المدخل أيضاً لفهم الذات وفلسفة الحياة.1599 saqour

وُلد علي مقوَّص في مدينة اللاذقية عام 1955 وتخرّج من قسم التصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق عام 1978. وأصبح أستاذاً جامعياً مرموقاً في مجال الفنون البصرية، ودرّس في الجزائر والإمارات العربية المتحدة وعُمان وسوريا.

أما بدايته الفعلية تلك التي مهدت لأسلوبيته الحالية فكانت أمام تلك الشجرة العظيمة وحولها إذ صورها مراراً وتكراراً في لوحاته بتقنية الخط والأحبار لتصير رمزاً للحياة ومزارا لتلك الحشود المتماهية مع طقوسها ضمن حفلات رقص ودبكات

 أمام تلك الشجرة وقف مقوص متأملا تفاصيلها حد الإشباع الذي مده بتلك الروح المثابرة لتتحول فوق صفحات لوحته لوسيط ما بينه وبين المتلقي يترجم نفحات الروح ويعكس نفساً طويلاً في المعالجة التي ستسطر لاحقاً  لفلسفة العمل الأكثر خصوصية والذي سيقدمه الفنان  عبر تكنيكه الخاص المنبثق عن رؤية غرافيكية الإيحاء ضبابية المشهد للطبيعة الساحلية بكل ما تتسم به من جروف وسفوح وصخور وأعشاب ... وحضور متماهي للشكل الإنساني عبر كافة طقوسه ليصير جزءاً لا يتجزأ من تلك الطبيعة المشغولة بتقنيات تراكمية تبدأ بالرسم والتكثيف عبر الأحبار والأسود وتنتهي بالتوشيح الشفاف للون وما بين وبين تشهد معركته مع اللوحة حالات الهدم والبناء والحف والحك الذي يعطي لعمله ذلك الإيحاء الغرافيكي بالجروف الصخرية وغيرها1600 saqour

ويبقى أن أشير لبورصة اللوحة والفنان علي مقوص في قضايا تسويقها خبير الخطورة تكمن هنا حين تأسرنا رغبة السوق حينها ستتحول تلك الرغبة لقيد يربط الفنان بالعمل المباع ليجتر ذاته مراراً وتكراراً في الإعادة التي لا يمكنها أن تجاري الأصل .. وهذا الفخ يقع فيه الكثير من الفنانين بالفعل

وأقول أخيراً أمام هذا الكم من اللوحات المعادة استطيع أن أبرر للفنان عمله هذا طالما كان لا يزال يأمل بالكشف عن أسرار جديدة سواء في قلب الطبيعة أو في ذاته المتماهية معها

***

حسن صقور

 

أولًا: تعريفات وتمهيد نظري

1. الأدب النسوي: هو ذلك الأدب الذي تكتبه المرأة، ويعبر عن قضاياها وتصوراتها للعالم، ويرتبط عادةً بتجربتها الذاتية كامرأة في مجتمع قد يكون ذكوريًا أو مقيدًا.

2. الخطاب الوجداني: هو الخطاب الذي يعكس العاطفة والانفعال الذاتي، ويعتمد على التعبير عن الأحاسيس الداخلية مثل الحب، الألم، الحنين، الغربة، الانكسار، الحلم، الأمل...

 ثانيًا: جماليات الخطاب الوجداني في الأدب النسوي

1. الذاتية الصادقة: الكاتبة النسوية كثيرًا ما تستند إلى تجاربها الخاصة، وتُعبّر عنها بشفافية وصدق، مما يمنح نصها عمقًا وجدانيًا وجمالية إنسانية. لا تتصنع الألم أو الفرح، بل تنقله من الداخل إلى النص.

2. لغة عاطفية شفافة: الخطاب الوجداني النسوي يتميز بلغة ناعمة، رقيقة، أحيانًا شاعرية، لكنها قوية ومشحونة بالمعاني. يتم توظيف المجاز، والاستعارة، والصورة الفنية لنقل الإحساس.

3. التوتر بين الداخل والخارج: الكاتبة تعبّر عن صراعها الداخلي في مواجهة واقع اجتماعي أو ثقافي ضاغط، ما يُنتج خطابًا وجدانيًا يعكس التمزق، والحنين إلى الحرية، أو إلى ذاتها الحقيقية.

4. جماليات الألم والتحول: في الأدب النسوي، كثيرًا ما يتحوّل الألم إلى عنصر جمالي، من خلال تصويره بلغة فنية، وتحوّله إلى قوة دافعة نحو التغيير أو التمرد.

5. صوت الأنوثة الخاص: الخطاب الوجداني النسوي لا يقلّد الذكوري، بل يُبرز خصوصية الأنثى في التعبير عن الحب، الفقد، العلاقة بالجسد، الأمومة، الخيبة، مما يمنح النص فرادة أسلوبية.

6. كسر السرديات التقليدية: الكاتبة النسوية قد تتخذ أسلوبًا غير تقليدي في السرد، من حيث التقطيع، وتعدد الأصوات، والاعتماد على البوح الداخلي، مما يخلق جماليات سردية تعكس الوجدان المُشوَّش أو الثائر.

ثالثًا: نماذج تطبيقية (أمثلة)

يمكن دراسة هذه الجماليات من خلال نصوص لروائيات وشاعرات مثل:

غادة السمان: حيث الخطاب العاطفي ينبثق من تجربة ذاتية ممزوجة بالتمرد والحرية.

مي زيادة: التي عبّرت عن وجدان المرأة المثقفة والباحثة عن الحب والمعنى.

هدى بركات أو أحلام مستغانمي: حيث يتجسد الحب والخذلان والحنين في لغة شعرية.

رابعًا: الإطار النقدي

يمكن تحليل الخطاب الوجداني النسوي من خلال:

نظرية التلقي: كيف يستقبل القارئ هذا الخطاب ويتفاعل معه وجدانيًا؟

التحليل النفسي: كيف تعكس الكاتبة صراعاتها اللاواعية؟

النقد النسوي: كيف يوظف الوجدان لكسر السلطة الذكورية؟

خامسًا: خاتمة

الخطاب الوجداني في الأدب النسوي ليس مجرد بوح ذاتي، بل هو ممارسة فنية وثقافية تعيد تشكيل رؤية المرأة لذاتها والعالم. تكمن جماليته في الصدق والتوتر والعاطفة الشفافة، وفي قدرته على التحول من الألم إلى مقاومة، ومن التجربة الخاصة إلى رسالة إنسانية.

***

ربا رباعي - الاردن

 

تشمل هذه السياحة كبار السن الذين ينضمون إلى مجاميع سياحية خاصة تضم أشخاصا ينتمون إلى هذه الفئة العمرية الذين يحتاجون إلى عناية خاصة واهتمام زائد وتعامل دقيق بحكم وضعهم الصحي المعروف، واحتراما لسنهم وتماشيا مع حاجاتهم ورغباتهم وميولهم. وهي فئة تتوسع يوما بعد يوم على مستوى العالم ولعدة أسباب وبالذات في اليابان وكوريا الجنوبية وإيطاليا، ووفقا للأمم المتحدة من المتوقع أن يزداد عدد الذين يبلغ عمرهم (60) سنة من (810) ملايين شخص في عام 2012 إلى (2) مليار شخص في عام 2050 على مستوى العالم. ويمكن تصنيف (سياحة كبار السن) على أنها من أنواع (سياحة ذوي الاحتياجات الخاصة)، ويمارسا عادة الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين (55 – 60 سنة). وتتولى تنظيم وإدارة معظم هذه المجاميع السياحية شركات سياحية متخصصة، توجد على نحو ملحوظ في البلدان الأوروبية (إسبانيا، اليونان، بلجيكا، البرتغال، إيطاليا) والولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأساس، ولها مواقع الكترونية تروج لمثل هذه السياحة التي تنمو يوما بعد يوم، وتتوسع على نحو ملحوظ في ظل تزايد اهتمام المجتمع والكثير من المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية والصحية والإنسانية بهذه الفئة من المجتمع، وبتنامي حاجات ورغبات كبار السن في الخروج برحلات آمنة ومريحة ومسلية، تساعدهم على تجديد نشاطاتهم البدنية وتريحهم نفسيا، وتتيح لهم الكثير من الفرص للدخول في تجارب وعلاقات وتعاملات اجتماعية جديدة  ومتنوعة مع أشخاص من سنهم وغيرهم من الفئات العمرية المختلفة، ومن مجتمعات مختلفة تبعا للدول التي يقومون بالسفر إليها. وكثيرا ما تختار هذه الشركات تلك المقاصد والوجهات السياحية التي تتمتع بطبيعة جميلة آسرة وغنية بالموارد والعناصر المؤثرة، طبيعية كانت أو ثقافية... الخ. وذلك بهدف تنفيذ برامجها المعلنة سلفا. ومن هذه المقاصد والوجهات السياحية قبرص التي تتمتع بأجواء ربيعية متميزة وخلابة في شهر آذار على وجه الخصوص، وتتيح لهؤلاء فرص ممارسة هذه السياحة بنجاح وأمان، وبالذات في منتجع (بروتاراس) الواقع على الساحل الجنوبي الشرقي لهذه الجزيرة الساحرة من كل النواحي، وبالقرب من قرية (باراليمني) على شاطئ يقع بمحاذاة البحر الأبيض المتوسط وبطول (10) أميال تقريبا. وهو مزدان ب (العلم الأزرق) الممنوح من قبل (مؤسسة التعليم البيئي) لجودة ونظافة مياهه، وحسن إدارة المشاريع والمرافق السياحية والفندقية عليه، ومستوى الخدمات المقدمة فيها. فيتوافد علية السياح من كبار السن، كي ينعموا بالهدوء من أجل ممارسة هوايات محببة إلى نفوسهم بغياب السياح من الفئات العمرية الأخرى تقريبا، والذين يصلون عادة في موسم الصيف، ومن هذه الهوايات السير في الطبيعة ومشاهدة البحر ومراقبة الطيور والتشمس والارتخاء والتأمل في أجواء تلفها السكينة، وأيضا القراءة والكتابة ولعب الورق والمشاركة في لعبة البنغو داخل منشآت الايواء التي يقيمون فيها أو يقومون بزيارة الأصدقاء فيها، والرقص الخفيف ومجالسة الأصدقاء والمعارف من أهل البلد، وتناول الأكلات الصحية والمرطبات وشرب العصائر الطبيعية والخروج برحلات قصيرة في الشوارع شبه الخالية، وفي أحضان الطبيعة الجميلة، ومن ألمانيا وبريطانيا وروسيا على وجه الخصوص وغيرها من البلدان التي لم يغادرها الشتاء بعد وما زالت باردة بالنسبة لهؤلاء. وتكون مشاركة كبار السن هؤلاء في هذه البرامج السياحية إما بمبادرة شخصية ومن ادخاراتهم ورواتبهم التقاعدية، أو كهدايا من أولادهم وأحفادهم بمناسبة ما مثل عيد الميلاد أو عيد الزواج، أو بتعضيد ودعم من مؤسسات وتنظيمات اجتماعية وصحية ودينية وإنسانية وطنية في بلدانهم، تشجع العمل بهذا الاتجاه لما له من آثار إيجابية، تنعكس بوضوح على حياة كبار السن.

***

بنيامين يوخنا دانيال

بروتاراس – قبرص في 25 آذار 2012

في العمل الإبداعي الجميل بين غربتين – الجزء الأول، تنقلنا الكاتبة المبدعة سعاد الراعي إلى فصول من سنوات صعبة تعجّ بالمعاناة والغربة، في رحلة مضنية تتنقل خلالها بين الأماكن والأزمنة، لكنها تبقى مشحونة بالحواس والمشاعر الإنسانية.

ومن رحم هذه الصعاب والجوانب الحياتية القاسية التي واجهتها الكاتبة في سيرة حياتها، يتضح أنها اتبعت نهجًا وجدانيًا غير ملتزم بالترتيب الزمني الصارم، ما منح النص طابعًا عاطفيًا مؤثرًا، وضَمِن للرواية مشاهد ومواقف غنية بالمعلومات عن تجربتها السياسية والعمل العام، والصراع مع السلطة القمعية. وقد كشفت الكاتبة عن شخصية تفاعلية عاطفية، تحفظ الود وتُقدّر الدور الوطني وأهمية النضال الحزبي.

فنّيًا، نجحت الكاتبة في تصوير أحداث الرواية بدقة، خاصة حياة رفاق الحزب في الغربة، بما تحمله من أحلام وآمال وآلام وجوع وغربة. ويمكن القول إن اختيارها للموضوعات والعناوين جاء بناءً على تجاربها الشخصية، أو من منطلق أهمية كل حالة على حدة، لا وفق نظام سردي تقليدي. فهي تقفز من قصة إلى أخرى، ومن موقف حزبي إلى حالة إنسانية وجدانية، ثم إلى وصف مكاني أو شخصية لافتة، متخلّية عن التسلسل الزمني الصارم، ومعتمدة أسلوب التجربة الحرة، متنقلة من الطفولة إلى الجامعة، ثم عائدة إلى مراحل أخرى من حياتها بانفتاح سردي يحرر النص من النمطية.

وهذا بدوره يضع القارئ أمام تجربة شخصية غنية، متشعبة، صارمة أحيانًا، وإنسانية عميقة في كثير من مفاصلها، حيث تُقدَّم الذاكرة كحالة لإنسان جمع بين الاستقلالية الفردية والانخراط في صلب العمل الحزبي الجماعي.

الذائقة الأدبية لدى سعاد ناضجة ومركبة، تعبّر عن ثقافة سياسية وإنسانية، وتمتاز بتجربة غنية تمتزج فيها بلاغة اللغة بمرارة التجربة. ويتبيّن لنا أنها كاتبة مثقفة متعددة المراجع، وذائقتها تدمج بين السياسي والوجداني في قالب تعبيري متناغم، يجعل من حكايتها سيرة تمزج بين التاريخ الشخصي وساحات النضال الحزبي. إنها تجربة امرأة مناضلة لم تكن مجرد شاهدة على زمنها، بل فاعلة فيه، تميزها الصراحة، ولا تتوارى عن مشاعر الحب والانكسار والاعتراف، ما منح الرواية حيوية وأصالة فنية.

أما القيمة التاريخية للرواية فتنطلق من تسجيلها لتطورات الحياة الحزبية في الاغتراب من الداخل، إذ مزجت بين السياسي والحزبي والاجتماعي والثقافي، ما وفر نظرة نقدية معمقة لآليات القرار الحزبي في المنافي.

وقد نجحت الكاتبة في الكشف عن قدراتها في توثيق لحظات الشد والجذب في ظروف الغربة والنضال، وسجّلت بدقة مراحل الصراع مع النظام الديكتاتوري، وقدّمت بأبعاد إنسانية حالات متعدّدة من صعوبات العمل الحزبي، معتمدة على تجربة شخصية مباشرة، ما عكس بوضوح الحالة الحزبية والإنسانية لرفاقها في المهجر خلال تلك الحقبة.

ومن خلال قراءة متأنية للرواية، ندرك أن الأديبة سعاد الراعي لم تكتب سيرتها لمجرد حب الظهور أو طلب الشهرة، بل لتمارس فعل الحضور في ذاكرة العراق، والكشف عن تجربة نضالية حزبية قاسية.

فجاءت حكاياتها مزيجًا من التأمل في مسار الأحداث عبر سرد وجداني، بأسلوب جميل نابض بالمشاعر، تتقاطع فيه الأحداث لتنتج نصًا غنيًا بالمعلومات، يلامس وجدان القارئ ويثير تأملاته. واستطاعت الكاتبة، بذكاء وبشفافية حسها الإنساني، أن تمهّد للحدث القصصي الكامن في بنية الرواية، مما يدفع القارئ إلى متابعة الأحداث بشغف.

***

سالم قبيلات

 

لم يكن «كاظمُ الجادرِ» أستاذًا في اللغةِ فحسب، بل كان تجسيدًا لهيبةِ البيانِ حينَ يَجري على قدمَينِ. في عامِ 1981، حينَ كانت أيّامُ المتوسطةِ تسيرُ ببطءِ الأيامِ التي لم تَكتشفْ بعدُ طعمَ الحياةِ ولا مراراتَها، دخلَ علينا ذلكَ الرجلُ بوجهٍ كأنَّه استيقظَ للتوِّ من دواوينِ العصرِ العبّاسيِّ، يمشي بخُطى موزونةٍ كأنَّ تحتَ قدمَيهِ بيتًا من بحرِ الطويلِ، ويكسو قامتَهُ قميصٌ ناصعٌ لا تعرفُ التجاعيدُ إليهِ سبيلًا.

في تلكَ السنواتِ، كنتُ صبيًّا يلمّ شتاتَ الحروفِ من أطرافِ دفاترَ مهترئةٍ، وأعجزُ عن التفريقِ بينَ "لن" و"لا"، وبينَ الجارِّ والمجرورِ، ولا أفرّقُ بينَ التعجّبِ والسؤالِ، لكنِّي كنتُ أملكُ شيئًا خفيًّا لم أكنْ أعرفُ اسمَهُ حينَها: التوقَ إلى اللغةِ، التوقَ الذي لم يُوقَظْ إلا حينَ نطقَ كاظمُ الجادرُ أولَ كلمةٍ في الصفِّ.

لم يكن يُعلِّمُ، بل يُجري اللغةَ في عروقِنا كما يُجري الرُّقاةُ الماءَ على الجرحِ. كان صوتُهُ إذا قالَ: "إعرِبْ يا ولدي"، يُحوِّلُ الدرسَ من خشبِ الطباشيرِ إلى رخامِ الفصاحةِ. ذاتَ مرّةٍ، استدارَ ليشرحَ بيتًا من المعلّقاتِ، وما زلتُ أذكرُ كيفَ التفتَ إليَّ وقالَ: "إنهم كانوا إذا قالوا بيتًا أحيا ميتًا، وأنتَ؟ ما زلتَ تنظرُ إلى اللغةِ كأنَّها صخرةٌ، بينما هي حديقةٌ سريةٌ."

منذُ تلكَ اللحظةِ، بدأتُ أقرأُ، لا لأفهمَ الكتبَ، بل لأصلَ إليهِ. صرتُ أترصّدُ خطواتِه، أنتبهُ إلى طريقةِ نطقِه، إلى مشيتِه، إلى لمعانِ حذائِه الذي دفعني مرّةً لأن أقولَ لصديقي ونحنُ نضحكُ ببراءةٍ: "هل يُعقَلُ أنّه يَصْبغُ حذاءَهُ بالنيڤيا؟!" كنايةً عن تلكَ اللمعةِ التي لا تبهتُ، وكأنّ حذاءَهُ يلمعُ كما تلمعُ حروفُه.

سنواتٌ مرّتْ، وأخذني الزمنُ في دواليبِه. تخرّجتُ، وعملتُ، وتزوّجتُ، ومضيتُ في الحياةِ كما يمضي سهمٌ في عتمةٍ. لكنّ شيئًا ما في داخلي ظلّ معقودًا في حنجرةِ ذلكَ الأستاذِ. وكلّما قرأتُ بيتًا من الشعرِ، أو كتبتُ مقالةً تزيّنتْ بلغةٍ عتيقةٍ، تذكّرتُهُ، وتذكّرتُ ذلكَ الصفَّ الصغيرَ، وتلكَ اليدَ التي رفعتني من جهلِ اللغةِ إلى محرابِها.

بحثتُ عنهُ طويلًا. سألتُ في المدارسِ، ونقّبتُ في المجلاتِ القديمةِ، وقلّبتُ أرشيفَ نقابةِ المعلّمينَ، دونَ جدوى. كأنّه تلاشى كما تتلاشى الكلمةُ من طرفِ اللسانِ حينَ تودُّ أن تتذكّرَها، فلا تأتي.

وفي عصرِ أحدِ الأيامِ، كان مجلسي الثقافيُّ يعجُّ بالشعراءِ والقرّاءِ وأربابِ الكلمةِ. تحدّثَ أحدُهم عن رجلٍ يدرّسُ العربيةَ في أطرافِ المدينةِ، لا يزالُ يُصرُّ على تدريسِ النحوِ كأنّه يؤدّي صلاةً، ويقولُ عن اللغةِ: "إنّها الحبلُ الوحيدُ الذي لم ينقطعْ بينَنا وبينَ السماءِ."

استوقفتُهُ، وسألتُهُ: ما اسمُهُ؟ فقالَ: "كاظمُ الجادرُ".

... كدتُ أبكي.

لم أُصدّقْ. كأنّ أحدَهم أعادَ لي قطعةً من طفولتِي كنتُ أَحسبُها ضاعتْ. رتّبتُ اللقاءَ في مجلسي، وجهّزتُ المكانَ لا كما يُجهَّزُ لضيفٍ، بل كما تُهيَّأُ المسارحُ للأنبياءِ.

دخلَ كما عهدتُهُ، بذاتِ الأناقةِ، بذاتِ الحذاءِ الذي لا يزالُ يلمعُ، وكأنّ أربعينَ عامًا لم تمرَّ عليهِ. وقفنا جميعًا، لا احترامًا لشيخوختِه، بل تقديسًا لهيبةٍ كانت يومًا ما سببًا في نهضتِنا.

حينَ جلستُ إلى جوارِه، لم أعرفْ من أينَ أبدأْ. لكنّي بدأتُ من قلبي. قلتُ لهُ: "كلُّ ما أنا عليهِ الآنَ، هو ظلُّكَ يا أستاذي. وكلُّ حروفي ليستْ إلا محاولةً لأن أكتبَكَ، لا أن أكتبَ عنكَ."

ثمَّ أنشدتُهُ قصيدةً كنتُ قد نظمتُها على مدى أشهر، قصيدةً في مدحِه لا تكفيها دواوينُ، حملتْ عنوانَ: "أنيقُ الكلامِ"، عددُ أبياتِها اثنانِ وأربعونَ، بعددِ السنينَ التي مرّتْ منذُ وقفتُ أمامَهُ تلميذًا ضائعًا لا يعرفُ أنَّ الحرفَ حياةٌ.

أنشدتُها بيتًا بيتًا،

تَأَنَّقْ فِي حَيَاتِكَ مَا تَشَاءُ

 لِيُغْضـي مِنْ أَنَاقَتِكَ الفَضَاءُ

  *

تَأَنَّقْ فِي كَلَامِكَ ذَاكَ فَخرٌ

لِأَنَّ الْقَوْلَ يَمْحَقُهُ الخَفاءُ

  *

وَمَا هَذَا المَديحُ فُضُولَ قَوْلٍ

 وَلَيْسَ بِمِدحَتي شَكٌّ، مِرَاءُ

  *

يدورُ العُمرُ دورَتَهُ فَيَمضـي

 بَصِيصُ الفَجرِ يَتبَعُهُ الَمسَاءُ

  *

ذَكَرْتُكَ بَعْدَ أربَعَةٍ عُقُودٍ

 وَهَذَا الذِّكرُ جمَّلَهُ اللِّقَاءُ

  *

كَأَنِّي عَادَ بِي طَيْفٌ وَحُلْمٌ

 فَعَادَ بِخَاطِرِي ذَاكَ الصَّفاءُ

 وحينَ بلغتُ نهايتَها، دمعتْ عيناهُ، وقالَ: "لم أكنْ أعلمُ أنّ الكلمةَ حينَ تُزرَعُ في قلبِ صبيٍّ، قد تُزهِرُ بعدَ أربعينَ عامًا بهذا الشكلِ..."

قلتُ: "وأنا لم أكنْ أعلمُ أنَّ الحذاءَ الذي يلمعُ في عيونِ الصغارِ، قد يُصبغُ بمجدٍ أبديٍّ من نيفيا المعنى."

وضحكَ. ثمَّ سادَ الصمتُ.

صمتٌ يشبهُ خشوعَ الحرفِ حينَ يخافُ أن يُنطَقَ.

ذلكَ هو كاظمُ الجادرُ.

ذلكَ هو أستاذي الذي كتبني قبلَ أن أكتبَ شيئًا.

***

د. علي الطائي

 

هذه الخواطر والتأملات "اعتقد" أنها صدرت من عزيز رافقته، وزاملته، وشاركته، في مدرسة عريقة اتخذت نفسها محوراً لتاريخ تلك المدينة التي ينحدر منها كلانا، مؤسسة تعليمية ما زلنا نهيم بها هياماً شديداً، ونعجب بها اعجاباً لا ينقضي، لأنها جعلت الأدب العربي ميسراً، سائغاً، ملائماً لعقولنا ونحن في تلك السن، و تأملات حسن عثمان طه الأدغم، التي يتاح فهمها، ويتاح تذوقها، ويتاح أيضاً تصورها، والاحاطة بمضامينها على اختلافها وتباعد مراميها، لا تكلفنا جهداً، ولا كداً في سبر أغوارها، هي لا تحتاج منا أن ننفق أكثر ساعات الليل، ومعظم ساعات النهار، حتى نجني ثمارها، ونستأثر بأنعامها، لأنها واضحة جلية، لا لبس فيها ولا غموض، ولأنها سهلة يسيرة لا صنعة فيها ولا تكلف، فصاحبها الذي لم يقلد فيها قديماً ولا جديدا، كما لم يذعن في قالبها لبريق اللغة، ويتكلف الاغراب فيها، كما يفعل كاتب هذه السطور، حسن عثمان الشهيرب"شلو" بين لداته وأقرانه، من يقرأ له، سيجد في أدبه هذه الخصلة، خصلة الصدق التي تبرهن أن من سطر هذه الأحرف، لم يكن ينشد من وراء رصد مشاعره تلك، أن ينصرف بها عن واقع حياته المزري، أو يتخذها أداة للتسلية والترويح، كلا، كان حسن الأدغم، ينذرها ويخيرها، بين أن تحسن العناية بوصف ما تجيش به نفسه من غير اغراق أو تهويل، وبين أن تنقطع صلته بها، لأجل ذلك ظل يستحثها لأن تلم به، وتعود إليه، حتى تفهم دقائق نفسه، وتدرك تفاصيل حياته التي لا يعجب بها، ولا يرضى عنها، لا في سفره، ولا في مقامه،

إذن الأدغم، أخرج لنا أدباً دفعه إلى كتابته الحس، والعاطفة، والشوق الجارف لديار يريد أن يهرع إليها، ويستقر في حضنها، واللوعة التي باتت ثابتة في ذوق صاحبها ومؤثلة في عقله، وفي مشاعره، لعل أعظم تبعة، وأثقل مسئولية، أن نطالب من أنفق عمره كله، أو معظمه متغرباً، بعيداً عن عائلته وأولاده، أن يتجرد عن حزنه وشوقه الذي لا يستطيع أن يحجم عنه، أو يرفع نفسه عن   سطوته،فطبيعي إذن أن يشعل الشجى قلبه، وأن تلهب الغصة احساسه.

دعونا أيها السادة نقف وقفة قليلة أو طويلة، عند "بوح الليل"، الليل وسحر الليل، وما أدراك ما ضنك الليل، فالليل الذي تثور فيه الرغائب، وتفور الشهوات، هو نفسه، تلك المساحة الحالكة الشاسعة، التي لا سبيل إلى قطعها، والهوة السحيقة التي سبيل إلى اجتيازها، الليل عابد يتهجد، وشيطان يغري و يوسوس، الليل شهوة تضطرم، وذكرى تتجدد، لتجعل نفسك تتقطع منها حسرات،  وفي الحق نحن معشر البؤساء، نزعم أن الليل لم يوف بنذر قد نذره لنا من قبل، وهو ألا يدركنا حزمه وعزمه، فيضطرنا إلى هذا البكاء الذي يمتد ويطول، البكاء الذي لا تأنف مهجنا من الاذعان لأمره، هو بلا شك أو ريب ثاوياً في تلك الرقعة الشاحبة الحزينة، التي سطرتها حنايا الأديب المرهف حسن عثمان طه، يقول حسن الأدغم فيها، في رقعته تلك التي نصب فيها الأسى راية خفاقة:

"بوح- الليل"

حين يهبط الليل، تسكن المدينة وتخفت الأصوات، لكن هناك صوتًا آخر يتردد في أعماق القلب، همسات لا يسمعها أحد، وأحلام تهمس للنجوم بما عجز النهار عن احتوائه.

الليل ظلام يمتد في الأفق، لكنه رفيقٌ لمن أثقلتهم الحياة، ملاذٌ لمَن تاهت خطاهم بين تقاطع الأمل واليأس.

إنه المساحة الوحيدة التي لا تخون المشاعر، حيث تنكشف الأوجاع في الصمت، وتبوح الأرواح بما لم تستطع قوله بين ضجيج النهار.

- أيتها الحياة، أما آن لك أن تهدأي قليلًا؟

لقد مضت السنوات، وأخذت معها أكثر مِما منحت، تأرجحنا بين الخيبات والإنتظار، بين الحُلم الذي يتلاشى والواقع الذي لا يكترث لأوجاعنا.

لم نعد كما كُنا، فقد سرقتِ مِنا بعضًا من بريقنا، وأرهقتِ أرواحنا حتى باتت مُتعبة لا تقوى على الركض خلف الأمل.

- إبتساماتنا خفتت، والفرح صار بعيدًا، كأنه سرابٌ نحاول الإمساك به فلا نجده‍.

صار الحُزن يسكن أعماقنا بلا استئذان، ونظراتنا تحكي قصصًا لا تُقال، وأصواتنا تحمل رجفةً لا يفهمها إلا مَن إقترب بما يكفي ليقرأ ما وراء الكلمات.

- نتظاهر بالقوة، نردد كلماتٍ تحفظ كبرياءنا أمام الآخرين : "أنا بخير"، بينما الحقيقة عكس ذلك تمامًا.

- نخفي وجعًا تحت ستار الصمت، ونغلفه بعزة نفس تأبى الإنكسار، لكن مَن يفهم؟

- تبًا لِعزة النفس حين تصبح حاجزًا يمنعنا عن البوح، وسحقًا لواقعٍ يخلو من الاحتواء، يجعلنا نكتم الألم حتى حين يكون البوح هو المخرج الوحيد.

- بعض الأوجاع لا تُكتب، لكنها تظهر في لمعة العين المنطفئة، في تلك الرجفة التي تعبر الصوت حين يحاول صاحبه أن يبدو قويًا، لكنها تبقى، عالقة بين القلب والذاكرة، تثقل الأيام وتجعلها أكثر قسوة.

- ورغم كل شيء، يبقى الأمل حاضرًا، هشًا لكنه موجود، ضعيفًا لكنه لا ينطفئ تمامًا.

- وربما يأتي يومٌ يحتضن فيه الواقع أحلامنا بدل أن يسحقها، وربما نجد ذلك الدفء الذي يجعل الحياة أقل قسوة، وأكثر رحمة مِمَا عهدناها.

#ختام- البوح..

وفي نهاية بوح الليل، يبقى القلب رغم كل شيء متمسكًا بشيء من الأمل، حتى لو كان هشًا، حتى لو كان بعيدًا.

فالأيام قد تأخذ مِنا الكثير، لكنها لا تستطيع أن تطفئ ذلك الضوء الصغير الذي يسكن أعماقنا، ذلك الإيمان بأن الغد قد يحمل لنا شيئًا مختلفًا، أكثر دفئًا، أقل قسوة.

لعلّ الليل كان شاهدًا على أوجاعنا، لكنه أيضًا يهمس لنا بأن الفجر قريب، وبأن ما يبدو الآن ظلامًا دامسًا، قد يكون مجرد صفحة أخيرة في فصل سينتهي قريبًا.

فليكن الليل مرفأً للبوح، لا مستقرًا للألم، ولتبقَ قلوبنا رغم كل شيء، متمسكة بذلك الخيط الرفيع الذي

يقودها نحو ضوء جديد".انتهى

حسن عثمان الأدغم الذي تزدحم على نفسه الهموم، عن وتتعبه هذه العاطفة التي يصغي لها، ولا يعرض عنها، ويمجه الصدى الذي يتردد في ردهات نفسه، يتحدث عن الحزن الذي أمعن في تحقيقه وفي تصويره، وعن الاخفاق الذي يحدثنا عنه في ألفاظ ضخام، حتى تصل صلصلة هذه الأصوات إلى سمعك فتتعاطف معه،  وتشعر حياله بالعطف والشفقة، الاخفاق الذي يغري بالاحباط، ويدفع إلى القنوط، ظل ملازماً لحسن ملازمة الفصيل لأمه، ولعل هذا الفشل الذي روض حسن جموحه بالصبر، وسعى أن يلطف حميا شبابة الدائم بالاذعان، كان بالفعل طويل، باق، شاق، وقد تحمله حسن في كثير من المشقة، وكثيراً من العنت، فلم يكن بدعاً أن يلجأ من باب التخفيف من حدته، إلى الكتابة التي تصيب صاحبها بالرعدة والاضطراب، إذا خلى يومه من ثبت حافل من الرسائل والمتون التي تعبر عن دخيلة نفسه.

والأديب حسن الأدغم يحدثنا عن تاريخ نفسه الملتاعة، التي تبددت أيامها، وهي حبيسة في دهاليز الألم والخوف والرجاء، فالشقاء في تفصيله وجملته

يتمثل عنده في كظم الغيظ، وحبس الدموع، والتشبث بالأمل.

وبوح الليل عند الأدغم، طابعه الشذوذ والتناقض، لأنه مترعاً بتيارات النفس الخفية، التي لا يؤثر القلب التوغل بين طياتها ولججها الكثيفة، لأنها تستغرق جهده وتؤذيه، وتجعل الكمد يتحرك ويتساير بين جنباته، فلا عجب إذا هاجت هذه التيارات في كل حركة، وأزرت بكل خفقة، وأودت بالحس والشعور، إن النزعة التي تصاحب حسن الأدغم، وتصاحب غيره من الناس، في هدأة كل ليل، هي الجوى الذي يشيع في حنايا الضلوع، الجوى الذي يرغم الوجدان أن يجتر أحزانه، ويتوه في هذه النواحي التي كان من المفترض أن يهجرها عن عمد، ويتركها عن اعتقاد، فالأحرى والأجدر، أن يسعى لكتمها وقهرها بككل ما أوتي من سبل، حتى يعيش هانئاً آمناً من ضراوتها وويلاتها.

يخبرنا الأدغم، الذي أخذ يجود بالبقية الباقية من أنفاسه، في الهزيع الأخير من الليل، بأن الأمل ما زال معقوداً بأن تنقشغ ظلمة حياته التي لا شكل لها ولا قوام، وتلوح أخياف الفجر الصادق الذي يسيره نحوه بقدم ثابته، وصدر مفتوح، ورأس مرفوع، لينشله من وهدة اليأس، ويتحفه بالشعور الذي لا يشتري بمال، الشعور الذي يجعل ذاته التي تراخى فيها وأهملها، من أهل الكفاية والترف، شعور يبهره بجماله البارع، وحسنه الوضاء، ويدفعه لأن يجمع شتات أمره، ويستفيض في هذه الحياة التي كان أمله فيها يمضي دون غاية.

***

د. الطيب النقر

الأحد 15/6/2025

يا يوسف، أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا في ثلاث بقراتٍ سمانٍ أكلنَ سبعَ سنبلاتٍ خضرٍ وأربعٍ يابساتٍ فما أبقَينَ شيئا من أخضر أو يابس؟!.

يا يوسف: إن كانت مصيبتك بامرأة واحدة فمصيبتنا بنساء كيدهنّ أقبح من وجوههنَ، وان كان عزيزك راوده الشك، فعزيزنا كان أظلم، وقذفنا بما ليس فينا، واستخدم ضدنا الحيلة والمكيدة والخِسة، ولسان حالنا يقول: أليس منكم رجل رشيد، أو امرأة صالحة؟ فسولت لكم انفسكم وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ.

وصحيح أننا لا نمتلك صفات يوسف النبيلة وَلسنا بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ لكنكم انتم ايضا لستم بأحسن حالٍ من أخوة يوسف وأصحاب الافك ونساءكم لم يكنّ بجمال وصفات امرأة العزيز بل هُنّ بسلوكهن المشين أقرب لأم جميل، زوجة أبي لهب، فهنّ الحقودات المتسلطات الجاحدات المسترجلات، لا يعجبهنّ الرجل إلا إذا كان قوي الجسم ضعيف العقل، لتتلاعب بعقله، وتتحكم بفعله، وهكذا إذا ضعف القوَّامُ، فسدَ الأقوام وكنا نأمل ان تسعفنا فطنة الحاكم فلا ينخدع بحيل المتظلمين بالباطل ولا يتبع هواه فيكون أمره فرطا.

يا يوسف لم يأتِنا عام نُغاث فيه كما أتاكم، فأعوامنا كلها جدب وقحط وحصاد، ولم نحظَ بمَلكٍ كريم كما حظيت انت به، فأغلب من تصدروا للحكم فينا كانوا ظالمين مستبدين.

 يا يوسف .. لما استدعانا العزيز وسألنا عن أخوتك ونسائهم، لم نُبدها له، وأعرضنا عن الأمر وانتظرنا الشاهدُ الذي رأى كلَ شئ ولكنه لم يكن من أهلها وتأملنا أن يكون العزيز ذو عقل فيفهما ولكنه لم يفهم، ولم يحاول الفهم ولم يستدرك ولم يتفكر أو يتأمل، بل أغمض عينيه ووضع اصابعه في أذنيه حتى لا يرَ الحقيقة ولا يسمعها، وأصرّ أن يتصرف كالأعراب الذين هو منهم، والأَعْرَابُ بطبيعتهم أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا!!.

 لقد رمونا بالجُب يا يوسف دونما جريرة بالرغم من أننا لم نرَ في الرؤيا احد عشر كوكبا والشمس والقمر، لم نرهم لنا ساجدين، ولم نكن أحب الى أبينا من غيرنا ولم نطلب أن نكون على خزائن الارض، ولم نزاحم احدا على كرسيه ولكن ذنبنا أننا نختلف عنهم ولا نخوض معهم فيما هم فيه من ظلال.

 لم يأكلنا الذئب يا يوسف ولكنه كيد البقراتُ السِمان!!، فقد نفشنَ الزرع وأكلنَهُ ولم يُبقين شيئا، وسيأكلن كل شئ حتى العزيز نفسه، لكننا مازلنا نُسِرُها في انفُسِنا ونكظم غيظنا، ولن نقابل الاساءة بالإساءة وما زلنا ننتظر قميصك لِنُلقهِ على وجه المَلِك، لعلهُ يرى ما لم يرهُ العزيز!!.

فمتى سيفهمها سليمان يا يوسف بعد أن عجز عن فهمها داوود؟؟؟

***

دكتور محمد علي شاحوذ

 

يُعد أدب الصعاليك في الجاهلية من أبرز مظاهر التمرّد على القيم الاجتماعية والاقتصادية السائدة، ويحتل البُعد المكاني في هذا الأدب موقعًا محوريًا، كونه ليس مجرد خلفية للأحداث بل يحمل دلالات نفسية واجتماعية وفكرية. وفي هذا السياق، يُعد الشنفرى من أبرز شعراء الصعلكة الذين عبّروا عن علاقتهم المتميزة بالمكان.

أولًا: مفهوم المكان في أدب الصعاليك

المكان في شعر الصعاليك ليس حياديًا أو ساكنًا، بل هو فضاء للحرية، والتمرد، والتحدي، والانفلات من قبضة السلطة الاجتماعية والقبلية. يتخذ المكان عندهم أبعادًا رمزية، ترتبط بالهوية والانتماء والصراع.

ثانيًا: ملامح البعد المكاني في شعر الشنفرى

1. الصحراء كمكان للحرية والتمرد

الشنفرى – كغيره من الصعاليك – اتخذ من الصحراء ملاذًا وفضاءً حرًا يعبر فيه عن رفضه للقيود الاجتماعية. في لامية العرب الشهيرة، تتجلّى الصحراء كعالم بديل عن عالم القبيلة، حيث يعيش الشنفرى مع الوحوش بدلًا من البشر، ويجد فيها ذاته:

وَلَـي دُونَكُمْ أَهْلُـونَ سِيـدٌ عَمَلَّـسٌ

وَرَهْطٌ لَـهُ كَـأْسٌ تُفَيَّـضُ وتُرشَـفُ

هنا، يصف الشنفرى الوحوش البرية بأنهم "أهله"، في إشارة رمزية إلى رفضه للمجتمع البشري وقيمه، واعتناقه لقيم البقاء والقوة في الفضاء الصحراوي.

2. المدينة (القبيلة) كمكان للرفض والنفي

المدينة في شعر الشنفرى ليست مركزًا للاستقرار أو الانتماء، بل مكانًا للغدر والخيانة، ولذلك تمثّل "المكان الطارد"، أو "المكان النفي". فقد لفظته قبيلته، ونبذته الأعراف، مما دفعه إلى الارتحال الدائم، وتحوّل الشاعر إلى "كائن حدودي" يعيش على أطراف المجتمع.

3. المكان المتحوّل / الهامشي

في شعر الشنفرى، لا يوجد مكان ثابت، بل أماكن متنقلة تتغير حسب تنقله وغزواته، كأنما يعيش في حالة من "التيه الوجودي"، تنعكس في حركته المستمرة بين الفيافي والجبال والوديان. وهو لا يرتبط بالمكان بوصفه وطنًا جغرافيًا، بل بوصفه ساحة اختبار لقدراته.

ثالثًا: البعد الرمزي للمكان

المكان عند الشنفرى رمزٌ للهوية الفردية المتمردة، فالابتعاد عن القبيلة والانغماس في فضاء الصحراء والوحشة يعكس نزعة وجودية قائمة على تحدي المصير. المكان لا يُسكن بل يُجتاح، لا يُحب بل يُستغل، وهذا يتماشى مع فلسفة الصعلكة كحالة تمرّد لا فقط اجتماعية، بل أيضًا أنطولوجية.

رابعًا: المكان والهوية

يتماهى الشنفرى مع المكان الصحراوي إلى حد الذوبان فيه. إنّ هويته تتشكّل من خلال علاقته بالمكان القاسي، المتوحش، الخارج عن السيطرة، وهذا ما يمنحه قوة واستقلالية ويجعله ندًّا للمجتمع لا تابعًا

خلاصة

البعد المكاني في شعر الشنفرى يتجاوز الوصف الجغرافي إلى بناء دلالي معقّد، يعبّر عن فلسفة في الحياة قائمة على الحرية، والرفض، والتحدي. الصحراء ليست مجرّد فضاء خارجي، بل تعبير داخلي عن نفس متوثبة، ترفض القيود وتبحث عن ذاتها في أقسى الظروف. بهذا المعنى، يصبح المكان عند الشنفرى عنصرًا بنائيًا حاسمًا في أدبه، لا يقل أهمية عن الموضوع أو اللغه

***

ربى رباعي - الاردن

 

هذا شاعر من نوع خاص، لا يبحث عن الأضواء، بل تبحث الأضواء عنه. إنه الشاعر المصري الشاب محمود نبيل القاضي، ابن قنا، تلك المدينة التي أنجبت عمالقة الشعر مثل: أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي وعبد الرحيم منصور، يأتي إلينا بشعره كالماء العذب، ينساب في وجدان القارئ دون ضجيج، ويترك أثره العميق دون ادعاء. إنه شاعر الحب والوطن، شاعر البساطة والعمق، شاعر القصيدة التي تتسلل إلى القلب كما يتسلل الفجر إلى الليل.

البنية الشعرية: بين البساطة والعمق

ما يميز شعر محمود القاضي هو تلك المفارقة الجميلة بين بساطة اللغة وعمق الدلالة. في ديوانه "السر...الأخير"، نجد قصائد مثل "أسماؤك العشر" التي تبدأ ببساطة ظاهرية:

"أُعطيكِ عشرَ أسماءٍ أنا ..

هذا اسمُكِ الأولُ: "السوسَنة"

لكن هذه البساطة تخفي وراءها عالماً من الدلالات والرموز. الشاعر هنا لا يقدم مجرد أسماء، بل يقدم رؤية كاملة للحبيبة، من خلال رموز طبيعية (السوسنة، الفراشة، الغصن) وفنية (القيثارة) وإنسانية (المستقر، المنتها). إنها لعبة شعرية ذكية، تذكرنا بأسلوب محمود درويش في تحويل العادي إلى استثنائي.

في قصيدة "الحب بالحواس الخمس"، يقدم القاضي رؤية شاملة للحب، من خلال الحواس الخمس، لكنه يفعل ذلك بطريقة غير تقليدية. فهو لا يكتفي بوصف الإحساس، بل يحوله إلى تجربة وجودية:

"ما أشهَى مائدةَ الوَجْدِ السابِحِ فى تيَار الدَم

ما أرْوَعَ أن يُرْوَى ظَـمَأُ القلبِ بقُبلَةِ فَمْ"

هنا يتحول الحب من مجرد عاطفة إلى طقس وجودي، يشبه ما نجده في شعر أمل دنقل الذي كان يحول القضايا الشخصية إلى قضايا وجودية .

اللغة الشعرية: نسيج من الصور والموسيقى

لغة محمود القاضي لغة خاصة، تجمع بين دقة التصوير وعذوبة الإيقاع. في قصيدة "أسماؤك العشر"، نلاحظ كيف ينسج الشاعر علاقة عضوية بين الصورة والموسيقى:

"واسمُكِ الثالثُ: "قيثارَتى"

عَشِقْتُكِ كالــدَنِّ والدَندنة"

هنا تتآلف الصورة (القيثارة) مع الموسيقى (الدندنة) في نسيج واحد، مما يخلق تجربة جمالية متكاملة. هذا الأسلوب يذكرنا بتقنيات عبد الرحمن الأبنودي في دمج العامية بالفصحى بطريقة شعرية رفيعة .

في قصيدة "الحب بالحواس الخمس"، يبرع الشاعر في تحويل الحواس إلى لغة شعرية:

"لَــمْسٌ ..

إذْ يَتَخافَتُ خَدٌّ لِشفاءِ أنامِلَ مَلَكيَّة

ويُلامِسُ كَفِّى كَفَّيْها ..

نَتنَاجَى لًغَةً دوليّة"

هنا يتحول اللمس إلى لغة، واللغة إلى إحساس، في دائرة جمالية لا تنتهي. هذه التقنية تذكرنا بأسلوب محمود درويش في قصيدة "لماذا تركت الحصان وحيداً"، حيث يتحول الجسد إلى لغة واللغة إلى جسد .

الرؤية الشعرية: بين الذاتي والجماعي

ما يميز شعر محمود القاضي هو قدرته على الجمع بين الذاتي والجماعي، بين الحب كتجربة شخصية والحب كقضية إنسانية. في ديوانه "السر...الأخير"، نجد أن الحب ليس مجرد علاقة بين شخصين، بل هو رؤية للعالم:

"وآخرُ أسمائكِ " الـمُـنتَهَى"

كَــعِشْقٍ سَرْمَدِىٍّ بيننا"

هذه الرؤية تتجاوز العلاقة الشخصية إلى علاقة الإنسان بالوجود، وهي سمة نجدها في شعراء كبار مثل أمل دنقل الذي كان يحول القضايا السياسية إلى قضايا وجودية .

في قصيدة "الحب بالحواس الخمس"، يقدم الشاعر رؤية شاملة للحب:

"لا يوجَدُ فى تلك الدنيا ..

مَن قاومَ سِحرَ الخَفَقان"

هنا يتحول الحب من تجربة شخصية إلى قانون كوني، لا يقاوم كما لا تقاوم قوانين الطبيعة. هذه الرؤية الفلسفية تذكرنا بشعراء مثل أدونيس في تحويل الشعر إلى رؤية فلسفية للعالم.

في ضرورة الشعر

في زمن يحاولون فيه قتل الشعر، يأتي محمود القاضي ليذكرنا بأن الشعر ليس ترفاً بل ضرورة وجودية. شعره ليس مجرد كلمات جميلة، بل هو مقاومة للزيف والسطوح. إنه يقدم لنا نموذجاً للشاعر المثقف الذي لا ينفصل عن عصره، ولكنه لا يستسلم لضغوطه أيضاً.

كما قال العقاد: "الشعر الحق هو الذي يقول ما لا يستطيع السياسي قوله". وهذا بالضبط ما يفعله القاضي، فهو يكتب بشعرية عالية دون أن يفقد صلته بالواقع، يغوص في الذات دون أن يغيب عن الجماعة.

إن قراءة شعر محمود القاضي ليست متعة جمالية فحسب، بل هي إعادة اكتشاف لإمكانات اللغة العربية في التعبير عن تعقيدات الوجود المعاصر. إنه شاعر يستحق أن يقرأه كل من لا يزال يؤمن بأن الشعر يمكن أن يغير العالم، ولو ببطء أنسياب الماء الذي ينحت الصخر.

شاعر يستحق الاكتشاف

محمود نبيل القاضي ليس مجرد شاعر، بل هو ظاهرة شعرية تستحق الدراسة والتأمل. إنه شاعر يجمع بين تقاليد الشعر العربي الأصيل وروح الحداثة، بين البساطة والعمق، بين الذاتي والجماعي. في زمن صارت فيه الأضواء تُباع وتُشترى، يأتي محمود القاضي ليذكرنا بأن الشعر الحقيقي لا يحتاج إلى ضجيج، بل يحتاج إلى عمق ورؤية.

كما قال علي بن أبي طالب: "لا تطلب سرعة العمل وأطلب تجويده"، هكذا هو محمود القاضي، لا يسرع نحو الشهرة، بل يأخذ وقته في صقل قصيدته، حتى تخرج لنا كالماء العذب، يتسلل إلى الوجدان دون ضجيج، ويترك أثره دون ادعاء.

في النهاية، يمكننا القول إن محمود القاضي يمثل مدرسة شعرية جديدة، تجمع بين أفضل ما في التراث العربي وأفضل ما في الحداثة الشعرية. إنه شاعر يستحق أن يُقرأ، ويُدرس، ويُحتفى به، ليس لأنه يطلب ذلك، بل لأن شعره يستحق ذلك.

***

د. عبد السلام فاروق

تعريف بالشاعر: أنسي الحاج (1937–2014) شاعر وصحافي لبناني يُعدّ من أبرز رموز الحداثة الشعرية العربية، ومن أوائل من كتبوا قصيدة النثر بالعربية. أسّس مع يوسف الخال ومجايليه مجلة "شعر"، وأصدر أول مجموعة شعرية نثرية بعنوان "لن" سنة 1960، فكانت إعلانًا شعريًا لعصر جديد يُحرر القصيدة من الأوزان والقوافي التقليدية. عُرف بأنسي الحاج انغماسه في الروحانية والتأمل الفلسفي واللغوي، وابتعاده عن المباشرة أو الخطابية، مما جعله أحد أكثر الشعراء العرب تعقيدًا وعمقًا في التعبير عن الذات والوجود.

قصيدة النثر في تجربة أنسي الحاج:

قصيدة النثر عند أنسي الحاج ليست مجرّد تحرّر من الشكل، بل تحرّر من التصنيف كله: من الوزن، من الموضوع، من التقاليد البلاغية. إنها صوت داخلي مشبع بالتوترات الفكرية والروحية، لغة مفتوحة على الغموض الخلّاق الذي يوقظ القارئ لا ليَفهم، بل ليشعر.

لنأخذ مثالاً من مجموعته "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع":

"أحبك أكثر

من تموّج الحقول

من بكاء العشب تحت المطر

من خوف الطفل إذا أغلق الباب وحده

أحبك أكثر من رغبة الكلمات أن تُقال"

التحليل:

هذه المقاطع ليست سردًا عاطفيًا بسيطًا، بل حالة تأملية تمزج الفكر بالروح، والمحسوس بالمجرد. نلاحظ كيف يربط الحب، وهو شعور روحي، بمظاهر حسية دقيقة جدًا: تموّج الحقول، بكاء العشب، خوف الطفل... هنا، الروح تعبر عن ذاتها في صور مادية، وكأن الشعر عند أنسي هو وسيلة ليُحوِّل الباطني إلى مرئي.

روابط الفكر والروح في شعره:

1. الفكر كأداة تفكيك للواقع: في شعره، لا يقدّم أنسي الحاج إجابات بل أسئلة مفتوحة، تنبع من تأملات عميقة في الحياة، الموت، الحب، والوجود. كأنه يكتب من موقع "المندهش الأبدي"، فيقول:

"أصغي إلى الصمت أكثر مما أصغي إلى الكلام، لأن الصمت يُحرّضني على التفكير"

(من "الوليمة")

2. الروح كطاقة كشف ورجاء: شعره مليء بالإشارات الصوفية، لكنها لا تنتمي إلى طريقة تقليدية في التصوف. هي روحانية فردية تبحث عن خلاص داخلي. في قصيدته "الولد الضائع"، يكتب:

"يا إلهي، لماذا تركتني في منتصف الطريق؟

لم أعُد أنا، ولا أنا الآخر."

هنا يمتزج القلق الوجودي مع نبرة روحية تقف على تخوم الإيمان والشك، التسليم والتمرّد.

انعكاسات الفكر والروح على لغته:

لغة إيحائية مشحونة بالرموز:

فبدلاً من الوضوح، يعتمد أنسي الحاج على الغموض كأداة جمالية، لأنه كما قال في أحد لقاءاته:

"الكلمة إن لم تقل شيئًا جديدًا فهي ليست جديرة بالقول."

تفكيك اللغة التقليدية:

اللغة عنده تُغادر المعجم المألوف وتُعيد تشكيل العلاقات بين الكلمات لتوليد دلالات جديدة.

الاقتصاد في العبارة والانفتاح على البياض:

كثير من قصائده تتنفس في الفراغ، تُترك بيضاء من دون علامات ترقيم أو نهايات واضحة، كما في "الرسولة..."، وكأن الشكل نفسه يحمل توتر الروح.

الشواهد والمقارنات:

بالمقارنة مع الشاعر السوري أدونيس، نلاحظ أن كليهما ينتمي إلى الحداثة، لكن أدونيس أكثر فلسفية وتجريدًا، في حين أنسي الحاج أكثر حسيّة وانغماسًا في اللغة كتجربة روحية.

أما مع الشاعر الفرنسي سان جون بيرس، فقد تأثر أنسي الحاج بقدرته على خلق شعر كوني، حيث يقول:

"سان جون بيرس جعلني أفهم أن الشعر قد يكون رياحًا، غبارًا، وانبهارًا لا يُفسَّر."

خاتمة:

أنسي الحاج شاعر تتكثّف في نصوصه تجارب الفكر والروح، في لغة شديدة الذاتية، متجاوزة للوظيفة التقريرية أو الجمالية التقليدية للشعر. إنه شاعر القلق الجميل، والمعنى الذي لا يُقال إلا حين يُلامس الروح مباشرة.

***

ربى رباعي - الاردن

...........................

مراجع ومصادر:

أنسي الحاج، "لن"، دار الجديد، 1960

أنسي الحاج، "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع", دار النهار، 1975

حوارات مع أنسي الحاج في مجلة "الكرمل" ومجلة "النهار"

د. خالدة سعيد، "قراءة في تجربة أنسي الحاج الشعرية", مجلة شعر، العدد 12

بول شاوول، "أنسي الحاج والثورة الصامتة", دار النهار

Jean Starobinski, Poetry and the Inner Voice, Gallimard, 1982

 

تُجسّد رواية "بيت طوفان" فكرة الوطن كذاكرة أكثر من مجرد جغرافيا، حيث يحمل البيت، رمزًا مركزيًا في العمل، تاريخًا متراكمًا من التحولات السياسية والاجتماعية. من خلال شخصيات مثل الراوي خالد وطوفان، ينسج الكاتب سردًا غارقًا في الرمزية، يعكس صراع الهوية والانتماء في مواجهة التغيرات القسرية التي عصفت بالمكان.

"المواصفات الفنية للكتاب:"

- "المقاس:" 14 × 21 سم

- "عدد الصفحات:" 188 صفحة

الرواية تتبع نهجًا سرديًا يعتمد على تداخل الأزمنة والوقائع، حيث يسرد طوفان قصته ليس كمجرد مسيرة فردية، بل كشريط طويل من تاريخ الوطن؛ بكل انعطافاته، وأحلامه المنطفئة، وحلقاته التي تعيد نفسها كدوامة لا تهدأ. **محلة الوردية**، التي نشأ فيها خالد، تمثل رمزًا للوطن المثالي، حيث يسود التآلف والتعاون. ومن هنا تأتي إحدى الإشارات العميقة عندما يشتري طوفان بيتًا في ذات المحلة، البيت الذي كانت تقطنه عائلة يهودية قبل أن تغادره إلى إسرائيل بسبب المضايقات، في انعكاس لتبدّل الأوطان وتداخل المصائر.

إحدى أقوى اللحظات الرمزية تتجلى عندما يبدأ خالد بالتقرب إلى طوفان بعد سنوات من العزلة، في مرحلة تجاوز فيها الأخير المئة عام. عندما وجد خالد طوفان على وشك الموت في منزله، أنقذه واعتنى به في المستشفى، ثم استمر برعايته حتى وفاته. لكن المفاجأة الكبرى كانت عندما اكتشف خالد قبرًا داخل غرفة طوفان، يضم رفات زوجته التي فارقت الحياة حسرةً إثر حرب الخليج عام 1991. وعندما استفسر خالد عن سبب دفنها هنا بدلًا من مقابر العامة، أجابه طوفان بأن هذا البيت هو مكانها الصحيح، وأنه يود أن يُدفن بجوارها، إذ كان "بيت طوفان" تجسيدًا لوطنه، وأراد أن يموت فيه لا خارجه. وفي النهاية، دُفن طوفان بجوار زوجته، ولم يبع خالد المنزل رغم حاجته إلى المال، محافظًا بذلك على الدلالة الرمزية التي حملها البيت كجزء من الهوية الوطنية.

الرواية تُبرز بذكاء الفوارق بين المجتمعات المتقدمة ونظرتها للحياة، حيث يتجدد الإدراك ويُساءَل التاريخ، على عكس واقعنا، الذي يعيد السرد كما تفعل الببغاء، دون أن يخترق الجوهر أو يتساءل عن معنى ما يردّده. وحين يستيقظ الإنسان من هذه الدوامة، تصدمه الحقيقة، ليكتشف أنه كان عالقًا في فراغ ممتد، لا يرى إلا ظلاله المتكسرة، وأن اللحظة التي ظنها يقينًا ليست سوى كذبة مريحة.

عندما يصل طوفان إلى هذا الإدراك، لا يجد ملجأ سوى الغوص في ذاته، حيث يعيش اضطرابًا فكريًا يجعل حدوده الشخصية أكثر تداخلًا وغموضًا. ولكن بينما تتعمق عزلته، تنفجر الحرب على الوطن، وتبدأ القذائف في هدم المدن، ويحتضر طوفان تحت وطأة الدمار، كما لو أن سقوطه يجسّد انهيار بغداد نفسها. في هذه اللحظة، يُطوى فصلٌ من التاريخ، ويبدأ آخر يُكتب على رماد المرحلة السابقة، ممهِّدًا لزمن جديد تتشكل فيه الهوية من بين الركام.

الاسترسال في السرد رائع، والأسلوب ينبض بالحياة، مما يمنح الرواية ديناميكية تمسّ القارئ فكريًا وعاطفيًا. الرمزية متقنة، والصور السردية تنسجم مع عمق الفكرة، مما يجعل الترجمة الأدبية للأحداث وسيلة فعّالة لإيصال رؤية الكاتب بمهارة وحرفية عالية. وهكذا، تصبح الرواية ليست فقط توثيقًا لتجربة فردية، بل شهادة على مرحلة تُعيد تشكيل التاريخ.

***

كفاح الزهاوي

مع أوّل خيط ذهبيّ نسجه صباح هذا اليوم في سماء القدس، شعرت بالمدينة تستيقظ على همسات قديمة، كأنّها صلوات سرمديّة تلامس الرّوح، إذ ينهض الصّباح فيها متوشّحا بعبق التّاريخ وأريج البلسم، فيمتزج نداء المآذن بأصوات أجراس الكنائس مع زقزقة العصافير الّتي تتراقص على غصون أشجار الزّيتون المعمّرة أمام البيوت.

تتنفّس القدس صباحها بعمق، فيفوح من أزقّتها رائحة الخبز السّاخن، وزيت الزيتون البكر، وحبّات التّوابل الّتي تطحن ببطء، لتبعث في النّفس انتعاشا يشبه نسيما عليلا يحمل معه عبق الزّعتر البريّ، وتتسلّل إلى الوجود رائحة القهوة الّتي تنسج خيوطها في أرجاء المكان كلّه، كأنّها عطر أزليّ يوقظ الحواسّ ويبعثر الهموم، كقصيدة عطريّة ترتّلها حبّات البنّ المحمّصة، لتعانق نسمات النّهار، وتعلن بداية يوم بعبق جديد، يمتزج فيه الدّفء بالحياة والأمل، فتغدو كلّ زاوية وكلّ ركن، مسرحا لهذا العطر الّذي يأسر القلوب وينعش الأرواح، فكلّ حجر في المدينة يروي حكاية، وكلّ زاوية تخبئ سرّا.

أمّا نكهة الكعك المقدسيّ فهي حكاية بحدّ ذاتها، تختزل عبق المكان وروحه، فهو يُعجَن بحبّ الأرض ويخبز بلون القمح.

هو رفيق الجلسات الصباحيّة، حيث يختلط عبيره الزّكيّ بضحكات الأهل ودفء الأحاديث، هو جزء لا يتجزّأ من طقوس الحياة المقدسيّة، ورسالة محبّة تقدّم من قلب المدينة إلى كلّ من يتوق إلى طعم الأصالة.

في الصّباح الباكر، تتجلّى هذه الأسرار كلوحات فنّيّة، رسمتها أيادٍ خفيّة على مرّ العصور.

ترى الباعة يتأهّبون، وتسمع ضحكات الأطفال وهي تتناثر في الهواء كأنّها حبّات لؤلؤ.

وما إن اكتمل ضوء الصّباح حتّى وجدت نفسي أسير في أزقّة القدس، لا تائهة بل مفتونة بكلّ تفصيلة تحت نور شمسها المشعّة.

هي ليست أشعّة شمس تلوح في الأفق، بل هي قناديل نور توقد في دروب القلب، تضيء الأزقّة الحجريّة العتيقة، وتقبّل جدرانها الّتي شهدت قصصا لا تحصى من الصّمود والعشق.

توقّفت عند زاوية مهملة، حيث تتدلّى أغصان شجرة تين عتيقة، نضجت قبل أوانها، فحمَلَت ثمارا بنفسجيّة ناضجة، لم يمدّ إليها أحد يده، قطفت ثلاث حبّات تين بحذر، وحملتها بين كفّيّ كأنّها جواهر نادرة، وأكملت طريقي نحو السّوق القديم، وهناك.. جلست بجوار رجل عجوز يبيع الأزهار ، وجهه محفور بتجاعيد الزّمن، قدّمت له حبّة تين مبتسمة، فأشرَقت أساريره بابتسامة تشبه نور المكان، وأهداني غصنا من ياسمين فوّاح.

ثمّ واصلت طريقي، لأجد طفلين يلعبان بجوار الطّريق، أحدهما فقد كُرَته الصّغيرة، فأعطيت كلّ واحد منهما حبّة تين، وأخبرتهما أنّهما سحر يجلب الفرح.

تفتّحت عيناهما بالبهجة، وتعالت ضحكاتهما البريئة الّتي غمرت المكان بالجمال.

بعد ذلك، توجّهت إلى مقهى أنيق؛ لأحتسي فنجانا من القهوة السّاخنة المعتّقة بالهيل، وأنا أتأمّل جمال الشّوارع وأصوات المارّة.

هذه الأشياء البسيطة الّتي شاركتكم بها، أشعلت في نفسي جذوة الفرح، وجعلت هذا الصّباح بداية ليوم جديد بهيج، فهذه المدينة تحتضن في قلبها أرواحا تعلّقت بها، وتشتاق إلى ترابها.

شعرت أنّ هذا النّهار زاخر بالرّوحانيّة، حيث يعانق فيه المكان أبديّة الزّمان، ليعلن للعالم أنّ فيه من السّحر ما لا يمحوه ليل ولا يدركه وصف، ففي كلّ ومضة فجر، تعيد القدس اكتشاف ذاتها ببهجة، وتلقي على محبّيها تحيّة من نور وسكينة، وكأنّها تهمس وتقول: ها أنا ذا، أشرق من جديد، ومعي قصص لم تُروَ بعد، وأمل لا ينتهي.

وتظلّ في توق دائم لسلام يعانق قبابها، وهدوء ينساب بين أزقّتها، لتشفى جراحها وتزهر فيها الحياة بصفاء أبديّ.

***

صباح بشير

 

عرف التاريخ أدباء كثيرين، ولكن قل بينهم من جعل من محنته منجماً لإبداعه، ومن سجنه مدرسة لفكره، ومن منفاه وطناً لروحه. ذلك هو جمعة اللامي، الرجل الذي لم يعرف الأدب طريقاً إليه إلا عبر ظلمة الزنزانة، ولم يكتشف صوته الإبداعي إلا بعد أن صمتت حوله كل الأصوات. إن تجربة هذا الرجل لتذكرنا بحقيقة جلية: أن العبقرية قد تولد في أحضان المعاناة، وأن الحرية الحقيقية هي حرية الروح قبل حرية الجسد.

لقد كان اللامي – كما يروي لنا معاصروه – غريباً عن عالم الكتابة قبل سجنه، وكأن تلك السنوات القاسية التي قضاها خلف القضبان كانت بمثابة بوتقة انصهرت فيها مواهبه الكامنة، ليفاجئ الجميع عند خروجه بأديبٍ مكتمل الأجنحة، وصحفي يمتلك رؤية فريدة. أليس هذا التحول العجيب دليلاً على أن الإبداع الحقيقي لا يورث ولا يكتسب بالدراسة وحدها، بل هو وليد التجربة الحية والمعاناة الصادقة؟

 فهم اللامي أن السجن ليس نهاية المطاف، بل هو بداية لرحلة جديدة، رحلة البحث عن الذات عبر اللغة. وكما يقولون: "إن بعض النفوس تصنع من الحجر سلماً، بينما يصنع منها الآخرون حاجزاً". فاللامي صنع من محنته سلماً يعتلي به قمم الإبداع، جاعلاً من تجربة السجن مادة دسمة لأدبه، ومن ألم الغربة وقوداً لإبداعه.

تأتي روايته الشهيرة "من قتل حكمة الشامي؟" لتكون شاهدة على رؤيته الفريدة للأدب. فهي ليست مجرد رواية بوليسية تقليدية، بل هي مغامرة وجودية تطرح أسئلة جوهرية عن الحياة والموت والهوية. لقد تجاوز اللامي في هذه الرواية حدود الشكل التقليدي، مازجاً بين الواقعي وما وراء الواقعي، بين التاريخي والراهن، بين الذاتي والجماعي.

إن السؤال الذي تطرحه الرواية في عنوانها ليس سؤالاً بوليسياً فحسب، بل هو سؤال وجودي يمس كل عربي وكل إنسان: من يقتل الحكمة فينا؟ من يذبح طموحنا إلى الحرية؟ من يقضي على أحلامنا في التغيير؟ إنها رواية تفضح الزيف وتكشف الأقنعة، وتكاد تكون صرخة مدوية في وجه كل أشكال القمع والاستبداد.

الصحافة مشروع ثقافي

ولم يكتفِ اللامي بالأدب الإبداعي، بل جعل من الصحافة مشروعاً ثقافياً متكاملاً. لقد أراد أن يحرر الصحافة مما أسماه "تقريرية الكتابة"، جاعلاً منها فضاء للتأمل والتفكير، ومزجاً فيها بين العام والشخصي، بين اليقظة والحلم، بين المادية والروحانية. ألا يذكرنا هذا بروح طه حسين نفسه الذي جعل من المقال الصحفي عملاً إبداعياً راقياً؟

لقد فهم اللامي أن الصحافة الحقيقية ليست مجرد نقل للأخبار، بل هي مشاركة في تشكيل الوعي الجمعي، وهي مساءلةٌ دائمةٌ للواقع، وهي أيضاً بحث عن الحقيقة مهما كانت مريرة. وهذا ما جعل "عموده" الصحفي مميزاً ومثيراً، لأنه كان يخترق المألوف ويهز الثوابت، ويطرح الأسئلة المحرجة التي يتهرب منها الآخرون.

وعندما اختار اللامي المنفى، لم يكن هروبا من الواقع، بل كان بحثا عن فضاء أكثر رحابة للإبداع. لقد أدرك أن الكاتب الحقيقي قد يكون مضطراً أحياناً لأن يبتعد جسدياً عن وطنه ليكون أقرب إليه روحاً وفكراً. وفي الإمارات، وجد الرعاية التي مكنته من مواصلة مشروعه الإبداعي، فكانت كتاباته من المنفى أشبه برسائل حب موجهة إلى العراق، وإلى الإنسان العربي في كل مكان.

لقد عاش اللامي المنفى بكل تناقضاته: ألمه وحنينه، وحريته واغترابه. وكما قال أحد النقاد: "ظل العراق حاضراً في كل ما كتب، حتى عندما كان يكتب عن أبعد الأشياء عنه". وهذا هو قدر المبدع الحقيقي: أن يحمل وطنه في قلبه أينما حل وارتحل.

لقد رحل جمعة اللامي جسداً، لكنه بقي حاضراً في أعماله التي تشكل علامة فارقة في الأدب العراقي والعربي الحديث. إنه نموذج للمثقف العضوي الذي لم يفصل بين الأدب والحياة، بين الإبداع والالتزام، بين الفكر والممارسة. لقد كان صوتاً حراً في زمن القيود، وشاهداً على عصره بكل تحولاته وتناقضاته.

واليوم، ونحن نودع هذا الرجل الاستثنائي، علينا أن نستلهم من سيرته الدرس الأهم: أن الإبداع الحقيقي هو ذلك الذي ينبع من التجربة الحية، والذي يتحول فيه الألم إلى طاقة خلاقة، والسجن إلى فضاء للحرية، والمنفى إلى وطن بديل. وهكذا يكون الأدب الحقيقي: شهادة على العصر، وصرخة في وجه الظلم، وأملاً في غد أفضل.

"سيبقى ذكر جمعة اللامي علامة بارزة في أرشيف الذاكرة العراقية والعربية الحية".

***

د. عبد السلام فاروق

 

رغم أن الشقيقتين «الرواية والسيناريو» تعتمدان على السرد وتقديم شخصيات وأحداث، إلا أن بينهما فروقًا جوهرية تتعلق بالشكل والمضمون، وهدف كل منهما وطريقة تلقيه من الجمهور. فالرواية تُقرأ، أما السيناريو فيُشاهد. وهذا الفارق الجوهري يُفضي إلى تباينات كبيرة في البناء والأسلوب. وكنت قد تحدثت في مقال سابق عن ذاتية الكاتب والتأثير النفسي وأشرت إلى أن الكتابة الروائية يمكن أن يظهر بها الذاتية أكثر من كتابة السيناريو لأن السيناريو يعتمد على ورشة كتابة، تسعى إلى إلغاء الذاتية، والطرح الشخصي إلى أن يكون العمل حيادياً ويقدم الشخصية بمختلف أبعادها قدر الإمكان، وهنا سوف أشير إلى أهم الفروق بين الكتابة الروائية وكتابة السيناريو، والسيناريو يُكتب ليتحوّل إلى صورة مرئية ومسموعة تُعرض على الشاشة، مما يعني أن الكاتب لا يخاطب القارئ مباشرة، بل يخاطب صنّاع الفيلم المخرج، الممثلين، المصور.. كما أن الرواية تعجّ بالوصف النفسي والداخلي والمكاني، وتغوص في مشاعر الشخصيات وأفكارها، وقد تمتد صفحات في تأمل مشهد أو انفعال،، السيناريو يتجنّب الحشو، ويكتب فقط ما يمكن تصويره أو سماعه، فالمشاعر تُعبر عنها الصورة أو الأداء، لا الكلمات المكتوبة فيما الحوار في الرواية فهو جزء من النسيج السردي، يمكن أن يتداخل مع الوصف أو يطول دون أن يُشعر بالملل، ويكون الحوار في السيناريو هو إحدى الأدوات الأساسية لتحريك الأحداث والكشف عن الشخصية، ويُكتب بتركيز وإيجاز وواقعية لأنه سيُقال على لسان الممثل

يقول كاتب السيناريو العراقي سعدي صالح المقيم في الشارقة، ان القصة بمثابة السيناريو بوصفهما جنسين أدبيين لكن الاختلاف الأساسي بينهما هو أن القصة هي منتج أدبي مكتمل بوصفها جنسا أدبيا راسخا فيما السيناريو هو مرحلة أولى من ثلاث مراحل تبدأ بكتابة السيناريو ثم التصوير والإخراج فالمونتاج والتقطيع الذي هو تجهيز الفيلم أو المادة الفيلمية للعرض على الشاشة. وأوضح أن السيناريو غير جاهز، بوصفه مرحلة أولى في صناعة السينما، لأفق التلقي مثلما هي حال القصة القصيرة رغم ما فيه من حوارات داخلية وكتابة للصورة بتفاصيلها المادية والنفسية والشخصيات الحاضرة على المستوى التخييلي. وفي السياق ذاته قال -- لا شعرية أبداً في لغة السيناريو بل ينبغي أن يكون هناك وضوح في اللغة التي لا تحتمل أي لبس أو معنى آخر وينبغي أن تكون الحوارات في السيناريو قصيرة ومكثفة وواضحة وأقرب إلى الكلام العادي ضمن أسلوب السهل الممتنع». وأضاف / مع ذلك فالسيناريو جنس أدبي بالمطلق لكنه لا يحتاج من اللغة إلا ما يمكن فهمه من قبل الآخرين في مراحل أخرى لترجمة الصورة المكتوبة بواسطة الكاميرا إلى مشهد سينمائي، وقال أيضا تدور القصة في مكان واحد غالبا بينما يمكن للسيناريو أن يجري الحدث فيه في أكثر من مكان بوجود شخصيات تتسم بالتفاعل مع المحيط والبيئة من حولها، وهي شخصيات مكثفة ومكتوبة بعناية وتركيز». ثم عرض لطريقتين في التقنية الكتابية التي يجري من خلالهما إنتاج السيناريو وهما ما يعرف بالطريقة الأميركية حيث يجري استغلال الصفحة البيضاء كاملة على نحو أفقي وعمودي كما هي الحال في القصة القصيرة عندما يستغل القاص بياض الورقة كله، أما الطريقة الأخيرة فتُعرف أحيانا بالطريقة الشرقية التي يجري فيها تقطيع الصفحة عموديا إلى قسمين يحتوي القسم الأول منهما، أي الذي إلى اليمين، على وصف الشخصيات المادي والنفسي بينما يكون الحوار في الجانب الأيسر. موضحا أن ينبغي تحديد الزمان والمكان بالنسبة للمشهد فهو إما داخلي أو خارجي وإما ليلي أو نهاري فضلا عن تحديد لجهة الفئة العمرية

***

نهاد الحديثي

كثير منَّا يَحضرُ عنده مرات عديدة سؤال: كيف يمكن التحرر من حيثيات أحداث الماضي المبعثرة، والمتراكمة على هامة الذات؟ كيف يمكن القفز عن العقبات المزمنة، وتلك التعلقات النفسية القهرية؟ هنا تكون الأجوبة متناقضة نحو امتلاك مُحفزات التخفيف من ردة الفعل، والتنقيص من التوتر، والزيادة في الوعي البيني، وهذا كله لن يستقيم إلا عبر تقنية حديثة من التسليم والتصديق والثقة في المستقبل، ومعرفة القيود الكابحة، والسماح لها من برحيل التحرر(الثاني) مما علق في المشاعر النفسية السلبية.

ما نوعية المشكلات الضاغطة بالتكرار؟ قد تتنوع مشكلاتنا بالاختلاف والتوزيع والحدة، لكنها في نفس الوقت تبقى مشكلات تتعلق بالذات وبالآخر، أو بفواصل وتعلقات المحيط. من زينة الحياة بالفرحة المفبركة، حين نقدر على تفكيك مشكلة ما بالحلول الإجرائية، حينها نعيش قد فسحة من الأمل، وشعور براحة يقصر بريقها أو قد يطول، لكن تبقى جميع المشاكل تجارب (إكلينيكية) لا تنتهي، بانتهاء المشكلة الأولى،  بل قد تخرج الثانية للوجود وتتطلب حتى هي حلولا أخرى أكثر دقة.

أين نجد الأجوبة الشافية من الألم والمواجع بالإحاطة والتصويب؟ هي ثرثرة العقل لن تجدينا نفعا مهما أينعت. هي ثرثرة من علماء وخبراء نفس واجتماع كثيرة، ولن تكون الحد الفصل من كسب رهانات السعادة وجودة الحياة. حينها قد تكون حلول الخبراء وغيرهم طوباوية ولن ينفعها التعميم المفرط في التنميط (الجغرافي)، وقد تستند وقوفا نحو التعويم، بينما الحل الأمثل يتمكن في إيجاد مسالك قارة وآمنة للسعادة، وبلا متممات هامشية، أي بتواجد مقاربة صريحة تنفض كل المشكلات مهما كانت بالحلول، وتتسم بالعدالة الاجتماعية، والكرامة، والواقعية، والثقة في فن صناعة المستقبل.

لماذا لا نقدر على حُسن امتلاك آليات السعادة، وتجويد أنماط الحياة الفردية والجماعية؟ إن ساعات الانكسارات هي التي تتكلم علانية، بينما تبقى دقائق السعادة المعدودة في الزمن والمكان تستر وراء الشكوى المبحوحة وراء اللثام (المرابطي)، وتتموج بين الشد على لحظات ثوان من البهجة، والارتماء في أحضان المشاكل غير المنتهية بالتمام. فالتحرر الجزئي، لن يتم بحمل سلاح الغضب علانية،  والثورة على الذات والآخر، وبهذا الفعل التهوري  قد تحدث الفوضى ويتم الانتقام المزدوج بالانعكاس.

كيف يمكن التحرر الجزئي من الألم والوجع؟ لن يتم الأمر بالفتنة، ولا برؤية الحلول التنظيرية المعيارية بنهاية (أحبك وجعي). ولكن، نقول أن الأمر: لا يستقيم البتة مع واقع الحال (المستفز)، وتلك الوضعيات المشكلة الممتدة برحم توالد المصفوفة (Matrix)، وكذا المخصية بالنهايات الحتمية (اللاعقلانية). فالألم، يعيش فينا بمتلازمة (ادفع)، ولن ينتهي بالتلقيح الاصطناعي، ولا بالمسكنات المبنجة وأخذ المنشطات، بل قد ينتهي حتميا بالموت، والذي حتى هو (الموت) ينتقم منه، ويجعل له نهاية.

إن البحث عن حلول للمعاناة الفردية والجماعية، يجعل من الجميع يتحدث عن حلول آتية من الأمل، والعيش في إنتاج الأحلام، وبالعمل على إنهاء تكسير مرايا الماضي الضاغطة بآهاتها المتدنية، بل تبقى الحلول من بديهيات نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)، حيث لا يتواجد هنالك مستطيل متحرك الأشكال يحتوي على إجابات معرفية مطلقة وتامة ونهائية.

فمن المستحيل أن نُسقط ذكريات الحياة الماضية من سلة الأعمار المتراكمة بالكم، ومن الصعب إنشاء وضعية الانقلاب (قلب الطاولة على المشاكل الكلية)، وفسخ عقود مناورات الذاكرة المتفحمة، والتي توثق لكل أحداث الماضي. لكن من وسائل التحرر الأنيقة، الفصل بين وضعيات أرشيف نفس الماضي، وكسب حلول منطقية عند كل من كان سببا في تدميل الألم والمواجع، كل من كانت له علاقة بالمآسي التي يمكن عيشها في الحاضر، ولما لا حتى المستقبل.

هنا قد يصبح إنتاج حلم المستقبل الغائر من أولويات التحقيق، ونحن جميعا نبحث عن الواقع الجيد لتحقيق سعادة حلم حياة، وبلا منغصات أفسدت الماضي، وقد تفسد الحاضر والمستقبل. إنه وجه أنيق من التحرر، وخيارات من تعلم حسن الاختيارات ومعاودة كرة النهوض وقوفا، والتي تتأصل على أفكار (ما بعد الحداثة)، بالموازاة السليمة مع ثوابت الماضي، وتفجير ألغام منافذ الآلام.

***

محسن الأكرمين

عندما سأل امبرتو إيكو عن تجربته في كتابة روايته " اسم الوردة " أجاب كنت أحاول أن أمزج بطريقة هوجاء بين الأفكار الأكثر غرابة. كنت أقول مازحاً، ما فعله نيتشه في هكذا تكلم زرادشت، أو ما فعله جيمس جويس في يوليسيس، أحاول أن أفعله في رواية فلسفية مشوقة. ولكني اكتشفت بعد ذلك إن علينا أن نترك العظماء فوق عروشهم دون أزعاجهم "

يعلمنا فردريك نيتشه المولود عام 1844، أن علينا ان لا نقرأ الأدب والفلسفة على إنهما نوع من أنواع الكتابة، وإنما أن نقرأ كلا الأمرين على إنهما شكل من أشكال الحياة.. يوصف كتاب " هكذا تكلم زرادشت " الذي نشر ما بين عام 1883 و 1885، بأنه رحلة روحية في العالم الحديث، ونيتشه نفسه قد دعاه " دعوة صادرة من أعماق نفسي ". فالكتاب يقدم آراء نيتشه الفلسفية في قالب فني، ويمثل الإتجاه الصوفي الذي اتخذه في أواخر حياته.يكتب نيتشه في " هذا هو الإنسان " إن: " الفكرة الرئيسة في كتاب هكذا تكلم زرادشت هي فكرة العود الأبدي، لقد دونت تلك الفكرة في مذكرة سريعة على ورقة مع حاشية تقول: ستة الآف قدم وراء الإنسان والزمن، في يوم من عام 1881، كنت أتمشى عبر الغابات وتوقفت بجانب صخرة ضخمة مرتفعة على شكل هرم، وهناك طرأت لي الفكرة. حيث اكتشفت علامة تحذير على شكل تغير فجائي وعميق طرأ على ذوقي – وخاصة في مجال الموسيقى. وربما يمكن توصيف كتابي ( هكذا تكلم زرادشت ) بالكامل على انه موسيقى – فأنا متأكد من أن ولادة جديدة، نوع من عصر النهضة في داخلي عن فن الانصات كان شرطاً لازماً لهذا الكتاب."

منذ صدوره اعتبر كتاب (هكذا تكلم زرادشت) من اكثر الكتب  إثارة للجدل، حاول نيتشه أن يقدمه الى المطبعة باكثر من جزء ، وقد تأخر صدور الجزء الأول بسبب انشغال المطبعة بطبع نسخ من التراتيل الدينية، وعندما أرسل الجزء الثاني الى الطبع رفض صاحب المطبعة، طباعته بدعوى انه كتاب فاشل، وكان كلام الناشر صحيحاً، فلم يبع من الجزء الاول سوى أربعين نسخة، حيث استقبِل الكتاب ببرود قاتل من قبل المهتمين بالفلسفة، فلم يُرحب به أحد بل حتى زملائه السابقين في الجامعة اعتبروا الكتاب فاشلاً لأنه يريد أن يقتل جميع الأديان والآلهة:"لأنني عشت جميع الأخطار، فسأدفنكم بيدي أنا، لقد ماتت الآلهة القديمة منذ زمن بعيد، ولقد كانت نهايتها حسنة وفرحة". ويذهب نيتشه أبعد من ذلك حين يعلن " إن الضعفاء والعجزة يجب أن يفنوا، هذا أول مبدأ من مبادئ حبنا للإنسانية "، تلك هي القيم التي بشر بها زرادشت نيتشه فليس الوجود إلا "الحياة"، وليست الحياة إلا "الإرادة"، وليست هذه الإرادة إلا "إرادة القوة". بعد ذلك نسمع زرادشت وهو يقول واعظاً:"عيشوا حياة الأخطار وأقيموا مدنكم الى جانب الأقوياء، وابعثوا بسفنكم الى البحار المجهولة، ثم عيشوا حالة حرب ".

يؤكد نيتشه إنه ما من أحد قادر على انتاج عمل فني عظيم من دون تجربة، أو تحقيق مكانة دنيوية متميزة، ولهذا نجده معجباً بالفيلسوف الاغريقي ابيقور الذي اعتبره " مسكن الارواح " و " أحد أعظم البشر، مبتكر اسلوب بطولي – رعوي من التفلسف "، لم يكن كتاب هكذا تكلم زرادشت إلا حلماً من الأحلام التي تسجلها العقول العظيمة وكما اعترف نيتشه:" إنها روح طغت على كل ما يحدها ".

***

علي حسين

ذات مرّة، قرأت مقولة بليغة مفادها: إنّ قيمة أيّ عمل تكمن في وشائج العلاقة الّتي تنمو وتزهر بين اللّغة والتّجربة الشّعوريّة، وإنّ الفروقات الدّقيقة الّتي تتخلّق عن هذا التّآلف، هي بذاتها ما تصوغ التّفاوت الجليّ بين الأدباء، وبين نتاجاتهم الأدبيّة الخالدة أو الزائلة، وهذا القول، هو قول صدق، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فكم من حروف خطّها قلم، ظنّها صاحبها آيات بيّنات، وما هي إلا رماد تتطاير به الرّياح، لأنّها جرّدت من روح التّجربة الشّعوريّة الصّادقة، ولم تسقَ بماء اللّغة الحيّة الّتي تتنفّس وتنبض بالحياة، وكم من كلمات قليلة، تركت في النّفوس أثرا عميقا، لأنّها انسجمت مع نبض القلب، فكانت كالنّهر الجاري يروي ظمأ الرّوح، أو كالبدر السّاطع يهدي الحائر في الظّلمات.

إنّ الكاتب الحقيقيّ هو من يملك مفتاح هذه العلاقة السّرّيّة، يغوص في أعماق ذاته ويستخرج لآلئ التّجربة الإنسانيّة، ثمّ يشكّلها في قوالب لغويّة بديعة، تتراقص فيها الحروف كالنّغم، وتتجلّى فيها المعاني كالبدر في ليلة تمامه. هو من لا يخشى أن يكشف عن جراحاته وأن يبوح بأسراره، وأن يمزج دمعته أو فرحته بمداده؛ ليصنع عملا أدبيّا حقيقيّا، يصدح بالحياة ويضيء دروب الأجيال.

إنّه ذلك الّذي يحوّل الأنين إلى لحن، والشّوق إلى قصيدة، والانتظار إلى حكاية؛ لتغدو سطوره جسورا من نور بين القلوب والعقول، فتخلّد ذكرى صاحبها، وتبقى شهادة على عظمة الكلمة الصّادقة، إذا ما عانقت الرّوح الملهمة. وليس عجيبا أن نرى نصوصا كتبت بمداد الوجع، أو بريشة الأمل، أو بأنامل الشّوق، فكيف تبقى عصيّة على الزّوال، تحاكي أرواحا عبر الأزمان، كأنّها كتبت لتوّها في لحظة الآن؟

في الحقيقة، هي لم تكن رصفا لحروف جوفاء، بل كانت نبضا من حياة، وهمسا من روح، وصوتا يتردّد في صميم الوجود.

إنّها تلك الرّوح الكامنة في طيّات الحرف، وتلك المصداقيّة النّابعة من حوافّ القلب، هي من يمنح العمل الأدبيّ قوة لا تقهر، وبهاء لا يخبو، وخلودا يتجاوز الفناء؛ ليصبح الأديب رسولا للجمال برسالته، وفنّانا يخطّ على صحائف الوجود لوحات أبديّة من الفكر والشّعور، شاهدا على عصره، ومنيرا دروب الأجيال بعمق بصيرته، فيظلّ صوته يتردّد عبر الأزمان، حاملا معه إرثا من الحقيقة والجمال، لا يمحوه تقادم الأيّام.

نعم، إنّ الزّمان يمضي حثيثا، ويلهث الإنسان خلف سراب لحظة عابرة، ما تلبث أن تذوي، تاركة خلفها عجزا موجعا عن استبقائها، وكما قيل في حكمة بالغة: "إنّ أوهن الحبر لأقدر على البقاء من أقوى ذاكرة".

من هنا، لا يجد الكاتب حصنا من جبروت الفناء وزوال اللّحظات إلّا في حبره المسفوك على بياض الورق.

هكذا، يصارع الزّمن، ويخلّد اللّحظة؛ يصوغ بكلماته ما اختلج في أعماقه من تأمّلات وأحاسيس، ويبثّ بين السّطور ما أشرق في دواخله من أفكار وجدانيّات، فإن كان ما خطّه أصيلا، بقيت روح اللّحظة فيه حيّة نابضة، لا يطويها النّسيان، ولا يذيبها مرور الأيّام.

بهذا، ينهض الكاتب منتصرا على حتميّة الزّوال، مسجّلا للوجود خلودا سرمديّا عبر ما نَزَفه قلمه من إلهام، يشعل به قناديل الفكر في دروب الظّلام، ويهمس للحياة بلسان لا يعييه مرّ الأعوام.

***

صباح بشير – أديبة وناقدة

 

مرات عديدة نعشق العيش بكل أريحية في المنطقة المفتوحة (الأبواب المفتوحة)، وذلك من خلال استعراض كل إمكانياتنا الذاتية والخارجية، والكشف عن كل الأوراق بلا مواربة ولا خوف من ردود أفعال. في المنطقة المفتوحة نحس بالشفافية والطمأنينة والأمن، نحس أننا نعشق ذواتنا بالمكاشفة والبيان والتبيين (للجاحظ). كثيرة هي المرات، التي نجد فيها أنفسنا محاصرين بأسئلة تكبلنا وتجعل منا رهائن لمزيد من الكشف عن حياتنا بالتعري والفضح، وركوب موجة (هذه حياتي ندير بها لي بغيت) وما أسوأ الاختيار الفوضوي.

وبعدها عند رفضنا مسايرة المكاشفة الفاضحة، ونفض أغبرة حياتنا الخفية والبينة، نسقط في المنطقة المخفية بستائر سيدنا سليمان، والتي تتلون بألوان الظل الرمادية القاتمة، فلا هي مثيرة للإقتحام القسري، ولا هي مُغرية بملونات الحياة الفاتنة. منطقة تجعلنا نتلون مثل الحرباء في فصول السنة بالسعادة، ونرتدي القبعات والقناعات المتنوعة منها المخيفة والمسالمة، حيث نخفي ما نعرفه عن ذواتنا بالأنانية والسرية، ونسوغ قانون (حمو رابي) الوضعي والذي يوازي في العقاب بين الذات والآخر بنفس شكل التعدي والظلم.

من عاداتنا التي تماثل نزعة النحلة الشغالة غير الملكة، والتي تتنقل بين زهرة ووردة بدون سبب غير البحث عن نفس الرحيق والذي بقي متواجدا في الزهرة ذاتها وفي الوردة نفسها. ننتقل إلى المنطقة العمياء حماية وأمانا، والتي تحمل نوعا من الغباء الطوعي والبلاهة التي لا توازي الفطنة وحاضنات الذكاء الفطري أو الصناعي منه. منطقة عمياء لا نور فيها ولا ألوان غير حلم بالأسود والأبيض، وتحقيق رغبة مستحيلة في النصب والتشوير.

منطقة عمياء، نجد فيها أنفسنا داخل سياج من الحدود الشائكة، وسجن طوعي/ اختياري بلا تلك العقوبات البديلة الحديثة. مرات نعشق هذه المنطقة العمياء مثل (سي ضو) كفيف كان من حي الزيتون (رحمه الله) والذي كان يعرفنا من خلال أصواتنا بنباهة ذاكرة. منطقة عمياء نسجن فيها كل الصفات (الكريهة) والتي لا تحمل الموازنة ولا المواءمة مع أخلاقيات المجتمع العليا، ففي فك الحصار عن تلك الصفات نكون قد أحدثنا ثورة من الفوضى العارمة والخلاقة في ذواتنا، وعند مشارف دوائر علاقاتنا الاجتماعية الوسيطية.

و من سوء الاختيارات حين نتقمص بالحذر المنطقة المجهولة (وهي المنطقة الغائرة)، ونجعل منها ذاك المشجب الذي نخفي فيه مآسينا وأوجاعنا بتمامها. وهو فعل ارتدادي للجزء الباطني من النفس التي لا تأبى الخروج والمراهنة على الانزياح بالمنحدر القاتل، المنطقة الغائرة تقتل بلا رحمة، مثل السمك الذي يموت حتما عند خروجه من الماء. المنطقة المجهولة، هي المنطقة المنزوعة السلاح بقرار أممي ذاتي، تلامس قوانا الروحية والنفسية، ولكن تبقى الأكثر غموض ولا يراها أحد غير (الله يرانا) وصدق النص القرائي للمرحوم أحمد بوكماخ.

***

محسن الأكرمين

هناك لحظة ما، لا تُعلن عن قدومها بوضوح، لكنها تُفهم من نظرات الآخرين، من نبرة الصوت حين يقول لك أحدهم "يا عم"، أو حين تسمعين لأول مرة "يا خالة"... لحظة تُشعرك أن شيئًا ما تغير، ليس فيك، بل في أعين الناس نحوك. وكأنك تخطيت فجأة جسر الزمن إلى الضفة الأخرى، حيث الشباب أصبح ماضي وذكرى، والشيخوخة باتت لقبًا منٌح لك مبكرًا، لا بحكم العمر، بل بحكم نظرتهم أليك.

ليس من السهل أن تنتهي بتلك الألقاب. أن تُنادى بـ"يا عم"، أو "يا حاج"، أو "يا خالة"، لا لأنك بلغت أرذل العمر، بل لأنهم افترضوا أنك كبرت، وكأن الكرامة  والاحترام في الشيخوخة، تكمن في وضعك على الرفّ مبكرًا. أو بعدها  ربما سيهملك المجتمع بل ويتناساك.

والغريب أن أولئك الذين ينادونك بهذه الألقاب، لا يقصدون أذيتك، بل يظنون أنهم يمنحونك وسام احترام! لا يدركون أن في نبراتهم طعنة ناعمة، تُشعرك أن شبابك لم يعد يُرى، وإن كان لا يزال حيًّا في داخلك، يركض، يضحك، يحلم، ويشعر.

كم من رجل في الأربعين، يحمل في قلبه روح شاب عشريني، لا تزال الموسيقى تحرّكه، والركض في الحقول يستهويه، والنجاح يتراءى أمامه، لكن حين يُنادونه بـ"يا عم"، يتوقّف قليلاً، كمن يتذكّر فجأة أنه لم يعد يُنظر إليه كما كان.

وكم من امرأة، ما زالت عيناها تلمعان كبنت العشرين عاما، تحبّ الحياة، وتشتري العطر نفسه، وأحمر الشفاه، او تنتظر رسالة من حبيب، لكن حين تسمع "يا خالة"، تنكمش بداخلها، لا حزنًا فقط، بل لأن الآخرين قرروا أنها لم تعد مرئية كأنثى... بل مجرد لقب مر بها في طريق العمر.

لا أحد يسأل: ماذا يشعر من نناديه هكذا؟ المهم أن من ينادينا  يشعر بلحظة انتصار، وكأنه أكبر من الآخر بخطوة، حتى لو كانت خطوة زائفة. كأن اللقب يُمنح له ليُفرغ نقصه فيه، لا ليكرم من يناديه.

ليس الكِبر في عدد السنين، بل في انطفاء الروح. وليس التقدير في الألقاب، بل في أن نرى الآخر كما يرى هو نفسه، لا كما نتخيله نحن.

فلنتعلّم أن نمنح الناس احترامًا لا يجرح، وكلماتٍ لا تؤلم. أن ننظر في عيونهم قبل أن نناديهم، فكثيرا ما نجد فيها ومضة شباب، لم يطفئها الزمن بعد، بل فقط غلفها غبار العُرف والعادات.

بعض الكلمات قد تكون ثقيلة، لا لأن حروفها قاسية، بل لأن وقعها على القلب عميق... فلنختر كلماتنا كما نختار الهدايا: بلطف، وبذوق، وبقلب مفتوح على الآخر.

***

نضال البدري – قاصة وكاتبة

خليل حاوي منتحراً

(يموت الشاعر: منفيا ً او مجنوناً او منتحراً) عبد الوهاب البياتي

في ليلة من ليالي حزيران وبيروت كعادتها لا يطبق لها جفن ولا تغمض لها عين فهي كما يردد أهلها عبارتهم الشهيرة (بيروت لا تنام) لم تكن نائمة بالفعل في تلك الليلة، فهي لا تعرف النوم في لياليها العادية فكيف ها وقد اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان وتحول الجنوب اللبناني بين ليلة وضحاها إلى أرض تصبغها الدماء وتتناثر فوقها أشلاء الضحايا.

 لقد تحولت بيروت في هذه الليلة إلى ساحة قتال وقد تعالت دوي الانفجارات وأصوات الرصاص الذي أخذ يعلو على كل شيء في المدينة، وفي منتصف تلك الليلة من عام ۱۹۸۲ حيث تعانقت عقارب الساعات في البنان لتعلن انتهاء النصف الأول من الليل تناول الشاعر خليل حاوي بندقية صيد وخرج بها إلى شرفة منزله وأطلق على رأسه رصاصة واحدة اختزل بها حياته، لقد ضاع صوت هذه الرصاصة مع أصوات الرصاص الذي كان يلعلع في سماء بيروت، في صباح اليوم الثاني استطاع احد جيرانه من مشاهدته وهو ملقى على الشرفة جثة هامدة، لقد كان الشاعر وحيداً لأنه لم يتزوج ولم ينجب، ولم يترك مؤشراً يشير إلى أسباب انتحاره غير احتجاجه على الاجتياح الإسرائيلي مما دعا البعض إلى اعتبار انتحاره بطولة وطنية بينما اعتبره البعض الآخر بأنه مجرد خلاص مما كان يعانيه الشاعر من أحاسيس مفرطة في التشاؤم كما انه حاول الانتحار قبل انتحاره هذا التي تم في السادس من حزيران ۱۹۸۲ ولكن محاولته الأولى فشلت، ويصفه معاصروه من الأدباء والنقاد اللبنانيين والعرب بأنه كان مقرطا في الحساسية وذو قلق دائم و توتر مستمر، فعندما دخل الجيش الإسرائيلي إلى لبنان الجنوبي شوهد خليل حاوي في شوارع بيروت وهو يهتف ] من بإمكانه أن يخلصني من العار الذي وقعت فيه  [أي انه اعتبر الغزو الإسرائيلي اهانة شخصيه له، وقبل ذلك بأيام كان مسلحون مجهولون قد دخلوا إلى منزله وسرقوا ما فيه.

 وفي مقابلة مع شقيقه إيليا حاوي نشرت في حينها في الصحافة اللبنانية قال : انه كان عصبا جدا في تصرفاته وتحولت هذه العصبية إلى مرض نفسي وعقلي وارجع سبب انفصام العلاقة بين خليل وخطيبته ديزي الأمير الى سبب هذا التوتر العصبي الذي لم تتحمله خطيبته وعاش الشاعر بعد ذلك حياة الوحدة والعزلة، ورغم ذلك فانه أكمل دراسته في جامعة بيروت الأمريكية وحصل على درجة الماجستير في الفلسفة وبعد ذلك حاز على الدكتوراه عن جبران خليل جبران وأصبح احد أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت ومن المعروف عنه انه كان يرفض المقابلات الصحفية والتلفزيونية .

كما انه كان يرفض قصيدة النثر ويعد قصيدة النثر مجرد بدعة أدبيه وكان يعتز بنفسه ويعتبر نفسه كما صرح عدة مرات بهذا الصدد بأنه (شاعر القيامة العربية)

 لقد طبق الشاعر خليل حاوي المقولة التي رددها الفيلسوف الألماني (نيتشه) والتي قال فيها : على الإنسان أن يختار مكان وزمان موته بنفسه.. وذلك هي مينة الشجعان إذن لقد مات خليل حاوي ميتة الشجعان حيث اختار بنفسه المكان المناسب في مكان ببيروت يطل على البحر المتوسط وفي شرفة منزله التي كانت الشاهد الوحيد على انتحاره واختار الزمان حيث الاجتياح الإسرائيلي الجنوب بلاده الذي طالما اعتز به وتغنى به بأشعاره وأحاسيسه المرهفة.

فترة الصمت في حياة خليل حاوي

لقد عانى الشاعر فترة ركود وصمت ففي مقابلة أجراها معه محيي الدين صبحي نشرت في مجلة (المعرفة) السورية وجه إليه سؤالا " جاء فيه : إن صمتكم أثار الانتباه خاصة بعد قصيدة (العازر) فعزاه البعض إلى صدمة شخصيه وعزاه البعض الآخر إلى موقف سياسي قومي أجاب الشاعر : يرجع صمتي الذي استمر سنوات إلى أزمة حضارية والى موقفي منها، وليس إلى انطفاء نهضة الشعر في نفسي أو عدم قدرتي على تطويره في مجال التعبير والبناء، والواقع أني كنت قد عانيت في تطويري مرحلة من الرفض الجارف أدت إلى اكتشاف قيم الحضارة من جديد وكانت تجربة شبيهة بالإشراق الصوفي تجلى منها الحاضر ماضيا والانبعاث المقبل حاضرا يقوم بمسح الحاضر، وكان بعض النقاد قد وصفني بشاعر الانبعاث الأول , بهذه الأجواء النفسية الغارقة في الكتابة والإحباط وتحت هذه الضغوط الآنية من كل مكان وقف الشاعر في حالة اعتزال تشبه اعتزال أبو العلاء المعري ويبدو انه كان متأثرا" بهذا الشاعر عندما قال: أن العبث الذي يتحدث عنه الوجوديون يكمن في رسالة الغفران فنهاية الحضارات تثير الشعور بالعبثية المطلقة. لقد كان خليل حاوي وجوديا ً

خليل حاوي كان وفيا للقيم التي كان يؤمن بها قيم الرجولة والبطولة والتضحية ولم يكن انتحاره ناجما عن ضعف في نفسيته أو شخصه أو رد فعل نجم عن الفعل الإسرائيلي وإنما جاء نتيجة إرهاصات فكرية كانت تكفن الواقع اللبناني خاصة والعربي عامة تركت آثارها السلبية على مجرى حياته وأوصلته إلى حالة اليأس المطلق الذي أدى في النهاية إلى اختلال في حالة التوازن في حالة كحالته المرهفة المشبعة بالإيحاءات المتنافرة التي تركت بصماتها على إنتاجه الشعري والفكري مثلما أثرت على شخصه وعلاقاته مع الآخرين. كانت قصائده تنبض بنفس شاعر مأساوي درامي وجودي الهوى لقد ذكر كلمة (الانتحار) في قصائده الأولى وفي قصيدة ليالي بيروت حيث يقول:

آه من نومي وكابوسي الذي

ينفض الرعب بوجهي وجحيمه

مخدعي ظل جدار يتداعى

ثم ينهار على صدري الجدار

وغريقاً ميتاً اطفو على دوامة

 حرى ويعميني الدوار

 آه والحقد بقلبي مصهر

 امتص، أجتر سمومه

 ويدي تمسك في خذلانها

خنجر الغدر، وسم الانتحار

 ردلي يا صبح وجهي المستعار

 رد لي، لا، أي وجه

 وجحيمي في دمي كيف القرار

 وأنا في الصبح عبد للطواغيت الكبار

وأنا في الصبح شيء تافه، آه من الصبح وجبروت النهار

وختاماً "فقد ترك ابن التاسعة والخمسين عاما" قبل انتحاره في ٦/٦/١٩٨٢ ثلاثة دواوين من الشعر هي نهر الرماد، بيادر الجوع، و، الناي والريح

***

غريب دوحي

 

من أوراق الذاكرة

فجأة وبين وسط غابات البلوط الكثيفة تظهر أمامك هناك بناء قديم تعود إلى نهايات القرن العشرين وكانت مصحة لذوي العاهات النفسية كمستشفى كبير ذو جناحين وبناية قريبة استخدم كإدارة للمصحة. غرف المصحة كبيرة جدا في يعيش فيها عدد من لاجئين ومنً جميعً أنحاء العالم. وصلت الى مكان سوق اللاجئين في مركز استقبال اللاجئين في العاصمة السويدية ستوكهولم بمعية بعض الأصدقاء حيث كنت قد سكنت عدده أسابيع في بيت صديقي الكركوكي النبيل هونر جلال الذي اعرفه منذ بداية الثمانينات حيث جاء لاجئا الى اوربا وصديق اخر من المسرحيين الكورد الأستاذ طه الباراوي.

وصلنا إلى مجمع اخر في صباح يوم قبل ٣٨ عاما في حافلة صغير وكنا تسعة شباب من اللاجئين من مختلف الدول. لم يتحدث احد طوال السفرة وصلنا إلى المكان استقبلتنا مدير المعسكر وسيدة قدمت نفسها كمترجم اسمها كما أتذكر (جزائر) تتحدث العربية والكوردية. سلمونا كارتون فيه بعض أدوات الطبخ وهذا يعني انتم مسولون عن طبخ غذائكم تتمكنون من الذهاب إلى مدينة (اورابرو) القريبة بالحافلة الذي تأتي مرة واحدة في اليوم واحذروا ان يفوتكم الباص عند العودة. يمكنكم شراء المواد الغذائية وكافة احتياجاتكم هناك. ممرات البناية كانت طويلة وعلى احدى جهاتها غرف كبيرة ذكرتني بمستشفى كركوك الملكي الذي تغير اسمه إلى الجمهوري بعد عام ١٩٥٨.

دخلت احدى تلك الغرف فتقدم لي ثلاثة من العراقيين وقدموا انفسهم ليصافحني:

حكمت، الدكتور علي و محمود الخانقيني واخرون لم يتحركوا من مكانهم، جالسين في صمت، هكذا كانت أسمائهم وهي على الأغلب أسماء مستعارة. خيروني في السرير الذي ارغب ان ارقد عليه. جلست على احدى الأسرة وبدا الحديث لنتعارف وكلهم طبعا كانوا عراقيين ولم تمر الا دقائق معدودة فأصبحنا كأننا أصدقاء منذ سنين.

كانت الحرب العراقية الإيرانية على اشدها ومعظم العراقيين كانوا قادمين من إيران إلا احدهم كان حزينا جدا ولم يتفوه بكلمة عرفت لاحقا انه فقد عائلته في انفجار لغم وهم يهمون بعبور الحدود العراقية التركية. بصورة عامة كانوا جميعا كئيبين رغم قهقهتهم. والابتسامة على وجوههم. كان حكمت من ملالي الحوزة النجفية وعلي واسمه الحقيقي اعتقد سمير يدعي بانه حاصل على الدكتوراه من هنغاريا ولديه جنطة (دبلوماسية) يأخذه معه دائما ويستهزئ به حكمت دائما قائلا:

الجنطه مليانه كلينكس (مناديل ورقية) ثم يضحك طويلا.

 كان علي ذو السمحة الصحراوية السمراء طيبا للغاية وهادئا وكمن أخذ دور مختار الحي يقدم النصح للجميع. يروي للجميع كيف وصل وجاء لاجئا بقارب صغير من بولندا يمتلكها شابين سويديين اضطر ان يتناول الأدوية المسكنة خلال عبوره لبحر بلطيق. وخلال ايام كان يجمع علب المشروبات الغازية في شوارع العاصمة ستوكهولم كي يتمكن من شراء الأكل اليومي إلى ان التقى بأخذهم من العراقيين ساعده في تقديم طلب اللجوء في الشرطة.

كان القاطع الذي سكناه مليئا بالأفارقة والتصادم الثقافي كان من ميزات العلاقة الاجتماعية. في اليوم التالي جاءت الحافلة وذهبنا إلى المدينة لشراء بعض الحاجيات والتبضع وفرحت حين وجدت مكتبة المدينة فقلت لأصحابي هذا وطني. كان المحل الوحيد الذي يبيع المواد الغذائية الشرقية في مركز المدينة قرب الحصن القديم الذي يتوسط قناة مائية يحيطهما كل الجوانب. المحل كان يديرها عائلة من الأكراد الفيلية محبوبين من الجميع لا أتذكر أسمائهم.

بعد أيام بعد مجيئ انتقل حكمت والدكتور علي الى مدينة أخرى في الشمال فيها معسكر يديرها الصليب الأحمر السويدي.  بقيت وحيدا في الغرفة وأنقذتني كتب المكتبة من الضجر ومن وحدتي فطلبت من اخي طارق الذي كان قد جاء قبلي للسويد ويقيم في مدينة (سودرهام) في الشمال أن يأخذني لأقيم معه وكنا ونأتي كل أسبوعين لاستلام المعونة من المعسكر.

لكن ذلك لم يستمر طويلا لان الدكتور علي صعب عليه ان يفرقني فذهب إلى مدير المعسكر وطلب منه نقلي. وبعد موافقة المدير اعتقد كان اسمه (أرنه) ارسل لي رسالة طلب مني الحضور إلى مدينة (ساندڤيكن) والى مقر المعسكر في حي (أيك سترا).

تلك الأيام لها طعم الحنظل لان نقلي أدى إلى تأخر حصولي على الإقامة حوالي سنتين لأنه وببساطة لم يتم إجراءات النقل بصورة صحيحة ولذا كتب على إضبارتي عنوان المتقدم الطلب مجهول. كان اللاجئين يأتون إلى المعسكر وبعد اشهر يحصلون على الإقامة ويتم تثبيتهم في بلديات المدن يبدئون بالحياة الطبيعية وتعلم اللغة والبحث عن العمل.

 إلى ان راجعت بنفسي الشرطة المحلية بعد ان تعلمت لغة البلاد التي درستها في الجامعة الشعبية في مدينة (يڤلا) وتحدثت معهم وأجابوني بان ملفي مغلوق لان عنواني مجهول او يعتقدون باني ربما تركت البلاد وتلك رواية أخرى.

هناك صفحات أخرى من دفتر الذكريات سأرويها لكم تباعا بإذن الله.

***

د. توفيق رفيق التونجي

 

الأُنس ليس فعلًا منفصلًا، بل هو ثمرة تواصلٍ عميق مع الآخر. ذاك النوع من التواصل الذي ينسج الألفة بخيوط غير مرئية: تشابه في القيم حتى تكاد تتطابق، انسجام في الرؤى، وتجانس في الأفكار والقناعات. هو ما يحدث حين تلامس الروح روحًا، حين تُفهم دون شرح، ويُفهم عالمك الداخلي دون أن تبذل جهدًا في ترجمته.

أن تجلس مع شخص لا تحتاج أن تشرح له من أنت، ولا أن تبرر له ما فيك، فقط تكون… فيشعرك حضوره بالأمان والسكينة. أن تبوح له بما يثقل صدرك دون أن يخطر ببالك أنه سيحاكمك أو يصدر حكمًا عليك… ذاك هو الأُنس الحقيقي.

لكن التواصل في أيامنا صار هشًا، سطحيًا، يملؤه الانشغال بالمظاهر، وتثقل كاهله الأحكام. بات المعنى غائبًا عن كثير من اللقاءات، وغاب العمق في الحديث إلا عن القلائل… أولئك النادرين الذين يشبهون العملات الثمينة، قِلّة لكنهم يُغنونك عن العالم كله.

هم وحدهم من يمنحونك الإيمان، والبهجة، والإشراق. معهم لا تشعر أنك فرد تائه، بل كأنك أُمّة تواجه تحديات الحياة بثقة وسند. في هذا النوع من التواصل تكمن السعادة… ويولد المعنى.

وإن لم تجد هذا التواصل مع شخص، ستجده مع وردةٍ تنبض بالحياة، أو شجرةٍ تخاطبك بصمتها، مع لوحةٍ فنية تنفتح لها نوافذ روحك لالتقاط أدق التفاصيل الكامنة فيها، أو مع فكرةٍ مثمرة تحرّك جوارحك وتهزّ قلبك. وربما مع طيف إنسانٍ رحل منذ زمن، لكنه خلّد اسمه في كتاب، أو ترك أثرًا شاهِدًا على قصته مع الله.

حين تنفتح أبواب قلبك في ساعة إخلاصٍ وانقطاعٍ تام، سيحدث هذا التواصل العميق. لا تنتظر أن يأتيك… بل كن أنت المبادر، كن المستعد. وعندها، سيسكن الأُنس في أيامك، ويبهج روحك، ولو من أبسط الأشياء.

***

د. حميدة القحطاني

 

في حي هامشي، منسي يقطنه أناسٌ رُحِّلوا إليه من دور الصفيح التي تكاثرت كالفطر على جنبات السكة الحديدية. هناك في هذا الحي، أثار انتباهي باللون الأسود الغليظ، على جدارٍ متّسخ خربشات ورسوم وكلمات بعضها يحمل من التعابير ما نعفو عن قوله جهاراً، وبعضها الآخر أمنيات لم تتحقّق أو تستعصي على ذلك، فظلّ خطوطا على صفحة الحائط، وأخرى حلمٌ يسبح بصاحبه خلف الحدود: «الغربة حلم».

هذا الفضاء البئيس الذي يختزن الألم والغضب، الحب والكره، المغامرة والتقاعس، يتسكّع فيه شباب نصفهم مخمور ونصفهم الآخر يدور حول نفسه من دون هدف، ناقم على وضعه، يملأُ المقاهي صخبا وحشيشا وصراعا حول كل شيء ولا شيء، تدور بينهم، وبلغة خاصة بهم، يفهمونها هم فقط، كلمات أخذت من وقتهم وسنوات عمرهم، وطاقاتهم وعقولهم الكثير، يمررونها بينهم في حالات خاصة، بينما كلمات أخرى كالهجرة والغربة والبحر والمال وقوارب الموت، وسؤال حياة الترف والغنى تدور بينهم سرا.

للحيطان ألسنً تجيد الكلام، تحمل هموم النّاس المهمومين والمهمّشين، وصراخ من لا يستطيع الصّراخ، وكِتابٌ يحمل شكواهم واحتجاجاتهم المكتومة، كما يحمل خربشاتهم وعبثهم، هي لسانهم يفضح ما هم فيه من ظلم وقهر وإقصاء، رغم هجمة الحيطان الإلكترونية وشساعتها وسرعة وسهولة انتشار محمولها.

للحيطان السنٌ تخاطب العين مباشرة بحكايات كُتبت بالحزن السّاكن عميق القلوب، ونُسجت بخيوطٍ من ألم صامت ينخر ما تبقى من إنسانية الإنسان المقهور، برودة الحيطان تصرخ من الوجع، تُشعل جمر الواقع والغد، الحال والمآل، تحكي من دون أن تُسْأل، ينهار كل شيء من حولها، ويبقى الأمل كلاماً بصيصا من نور، يرفض أن ينطفئ.

قد تكون «الحيطان دفاتر المجانين»، لكنها في نفس الآن، سجلاّت الباحثين عن أقدار غير التي يعيشونها ويحيونها، قد يضيعون في زحمة الحياة بلا أمل، لكن الأثر يبقى، ضدّاً على واقعٍ مُظلم، ظالم مستبد، قاهر متنكّر، أو أمنيات كفقاعات تستعصي على القبض والتّحقّق. يذهب الحالمون والمهمشون، ويبقى الكلام علامة على جدار بارد في زقاق منسي، شاهدا على زمان لم يَرْقَ إلى أحلامهم وأمنياتهم، منهم من حقَّق حلمه ومنهم من ينتظر، ومنهم كثير ضربوا رؤوسهم على نفس الحائط الذي يحمل أحلامهم العصية، ومنهم من ركب الموج أو سقطَ منْ شاهق، أو سكن زنزانة باردة في سجن ، أو غرفة منسية في مشفى للأمراض العقلية يموت ببطء، ومنهم من لا يزال يكتب على الحائط كلاما يحمل كل السّخط الذي يأكله.

«الغربة حلم»، كتبها بأيدٍ واثقةٍ حالمون، وتسمَّر حولها يائسون يحلمون بالسفر والرحيل، على استعداد تام للتضحيّة بحياتهم لتحقيق حلم قد يتحقق وقد يذوب ويخيب في بداية المغامرة، حالمون لم يعد في وطنهم ما يشدّهم إليه، وما يبنون عليه آمالهم وأحلامهم وأمنياتهم، أصبح همّهم الأول والأخير، الهجرة والرحيل والغربة، بحثا عن حياة أفضل يشعرون فيها بكرامتهم وحقوقهم، متناسين أنهم في حلمهم هذا، يبحثون، عن وعي أو من دونه، عن ذلّ مؤبّد مغلّف بانْبِهارِهِمْ بما يجود به العالم الآخر من ديموقراطية ومساواة وعدل وحقوق، عالم يشكّلُ بديلا عن وطنهم الأم.

«الغربة حلم»، وقفتُ أمام هذه العبارة متسائلا، إلى أي حد تُصبح الغربة حلما؟ وهل فعلا، الغُربة حلم؟ وحين تُصبح الغربة بآلامها وصدماتها، وأزماتها وذُلّها حلما، وهي كذلك، فمعنى هذا، أن الإنسان في خضم عالم يعجز عن أن يُقدّم له أبسط الحقوق، عوض أن يطالب بها في وطنه، يضرب رأسه، في حلمه هذا، بالحائط الصلد، لا يهمه الموت الحتمي الذي يتربّص به في كل خطوة، بحرا على قواربه المهترئة التي تُصبح قشّة في عباب موجٍ لا يرحم، ورياح عاتية لا تُبقي ولا تذر، وقد دكّ في رزمة بلاستيكية سوداء ما استطاع من أغراض تبقيه على قيد الحياة والحلم، تحسّباً لفواجع هذا السفر الذي لا أملَ فيه واضح، ومن دون استعداد أو وداع، ليُصبح الحلم في بدايته كابوسا لمن تركهم خلفه يحلمون بالأورو والدولار يبنون قصوراً من وهمٍ حيارى ومهمومين.

«الهجرة يرافقها الحنين، الحنين الدّائم إلى يوتوبيا وطن، والهجرة تأتي بعنوان الهروب من غربة متحقّقة في الوطن بالنسبة للمهاجر، لكنها في الوقت نفسه هجرة من نوع آخر خارج الوطن»[1]، فحين يحلم اليائسُ بالهجرة والاغتراب، وحين يُخطّط لذلك بقلبه وجميع حوّاسه، بعيداً عن العقل والتّعقّل، تُصبح لديه واقعا يُعوّضه عمّا يعيشه في وطنه، متناسٍ أنّه قاصدٌ عالماً سيكون فيه مؤقّتا وطارئا ودخيلا، يُنظر إليه باحتقار وازدراء، وهو الذي «هاجر يحمل معه ما تبقّى منه من أمل»[2] في حياة كريمة، «وقد تجرّأ على تغيير الانتماء، ومن يُغيّر الانتماء يُغيّر أفق الهوية أو يخلعها»[3].

الغُربة، كلمة تحمل حلما يحملُ عري وهشاشة الوجود الإنساني بما أنها كلمة بطعم الذّل والموت الغائر في الحلم الممزوج بالوجع والألم واليأس، والحلم احتجاج وتمرّد على وضع وحياة لا تعتبر الحالم ولا تحفل بوجوده ولا بإنسانيته، ليُصبح براديغم جديد للتّحرّر، وصراع على شكل الحياة التي فُرضت عليه ولا تُشبع أحلامه العديدة والمتجدّدة. كما أنها «تمثل نزعة إنسانية إلى الحرية وتغيير الحال والبحث عن الذات في مكان آخر غير مكان الميلاد»[4] تتوفّر فيه ما لم يتوفّر في مكان الميلاد، اقتصاديا واجتماعيا وثقافياً وسياسياً، وهنا نطرح السؤال الذي يحجبه الحلم عن الحالم، هل فعلا الغربة حرية وتغيير الحال إلى حال أفضل وتحقيقٌ للأحلام؟

لن يستفيق الحالم من حلمه إلا حين تطأ أقدامه أرض ميعاده، إن نجا من قوارب الموت وملاحقة الأمن، فتختفي العاطفة والقلب الذي كان يخطّط بداية الحلم، فيحضر العقل الذي تنتابه لحظة الحقيقة الصّادمة، ويتحول الحلم إلى هزّة مؤلمة واختناق أليم، فتنهمر الأسئلة الحارقة، ويهجم الوهم والسراب، فتمّحي الهوية حين يبحث عن أخرى فلا يجدها، فتُصبح الغربة تفكيرا أو حلما، آخر، إلى هجرة رجوع يصعب تحقيقه، ليحاصره السؤال، هل يمكن أن تُصبح المنافي والمهاجر أوطاناً بديلة؟ وهل فعلا، كما يحلم المغترب، تتبدّى المنافي أرحم من بلاده التي لفظته، والتي «لم يعنيه من الوطن إلا أنه مكان مولده»[5]، والآخر مكان تحقيق حلمه؟ وهل تتبدّى البحار الملاذ الأخير والنّهائي للحالم الذي تحنّ إليه روحه المنهكة واليائسة وأحلامه التي تحطّمت على جدار الانتظار؟

واقع الحلم صدمة، بدءاً بالفكرة، «الغربة حلم»، ثم تتوالى الفواجع، اختناق في الشاحنات المتوجّهة إلى موانئ العبور، أو في حاويات السلع المغلقة، التيه والموت في المضايق الجبلية والصحاري والغابات، قوارب الموت المتهالكة، شواطئ تلفظ جثتا مشوّهة المعالم، كل هذا وغيره يطفو على السطح حين يغيب الحلم وينفجر الواقع المرّ، لتُصبح الفكرة حائطا تنكسر عنده الأحلام الوردية، ويبزغ السؤال، هل سيرى الحالم وطنه مرة أخرى حين فقد هويته، ومزّق جواز سفره وأحرق أوراقه الرسمية؟

هنا الصدمة القاصمة للظهر، حين يقف بين الغربتين، لا حلماً تحقّق ولا معين يعيده إلى وطنه بعد أن بنى، هو وأهله، للحلم سلّما يوصلهم إلى السعادة والغنى، ليتساقط وابل الأسئلة، قطران بلادي ولا عسل بلدان الناس؟ لماذا يخرج الإنسان من إنسانيته ويبحث عنها في بلاد الغير؟ لماذا هذا الحلم من أصله؟

لقد غاصت الفأس في الرأس، وقُضيَ الأمر، أين الحلم الذي أسال اللعاب، واتّسعت بذكره الأحلام؟ أين ما قيل وراج في الصحف والمجلات وتداوله الأصدقاء غبر الوات ساب والفيس بوك؟ أين الحقيقة في كلام الذين حققوا حلمهم وعادو بسياراتهم الفارهة وجيوبهم الممتلئة؟

بعض الحالمين أصبحت غربتهم قبورا، حين أفلتوا من أنياب البحر الهادر، ملفوظين غير مرغوب فيهم، مقزّمين حدّ الغياب واللامبالاة، سلعة تقاد بالأوامر والإملاءات والضّغوطات، ينتظرون معجزة تعيدهم إلى قطران أوطانهم التي تستر عريهم، أحلامهم تشي بمرارة العيش، يأكلهم التّفكير الذي يحفر اخاديد في نفوسهم البئيسة في خوض تجربة معروفة النهاية، رغم مرارتها، أخف ألماً مما يعانونه في بلدانهم، حسب ظنّهم، فأصبحوا ضحايا استفاقوا من الضربة القاضية دائخين، مستعدّين، كما يتوهّمون، للويلات تقاذفهم، فيبدون مقموعين عاجزين قلقين ومتوجّسين، يعيشون كل مظاهر العنف والإقصاء والنفي، مُهدّدين بمحو الهوية والخصوصية والجوهر والوجود نفسه.

«الغربة حلم»، حلم يُعاشُ في الوطن ألماً متواصلا، ويُصبح ألماً مُضاعفاً يصدم الحالم عند أول الخطو نحو المجهول في وطن الغربة.

***

عبد الهادي عبد المطلب – المغرب

الدار البيضاء في: 01 يونيو 2025

..........................

[1]ـ عبود المحمداوي ونهاوند علي محمد. الأبعاد الفلسفية للهجرة "دراسة في جدل الغربة والحنين والإبداع. مجلّة بحوث الشرق الأوسط عدد 67 شتنبر 2021.

[2] فتحي المسكيني. الهجرة إلى الإنسانية. مؤسسة هنداوي. 2024. (ص 207)

[3]ـ نفس المصدر. نفس الصفحة

[4]ـ محمد الشحري. الهجرة والغربة.. استعادة الأوطان بالحنين. جريدة عمان. 24 ماي 2023

[5]ـ محمد الشحري. الهجرة والغربة.. استعادة الأوطان بالحنين. جريدة عمان. 24 ماي 2023

 

يُعتبر نزار قباني من أبرز الشعراء الذين استغلوا المجاز في شعرهم بشكل مبدع، حيث أضاف لهذا العنصر البلاغي بعدًا فنيًا وجماليًا يعكس عمق التجربة الإنسانية التي عاشها. يُعد المجاز أحد الأساليب البلاغية المهمة التي تستخدم في الشعر العربي لتحويل المعنى المباشر إلى معاني غير مباشرة، وذلك من خلال استخدام الكلمات في سياقات غير مألوفة. وفي هذا المقال، سنلقي الضوء على كيفية استخدام نزار قباني للمجاز في شعره وأثر ذلك على جماليات قصائده.

1. المجاز بين الحقيقة والخيال

يستخدم نزار قباني المجاز ليعكس التوتر بين الحقيقة والخيال، ويخلق بذلك عالمًا شعريًا غنيًا ومفعمًا بالصور المجازية التي تجذب القارئ وتثير خياله. ففي قصائده، نجد أن الكلمات تتحول من معانيها المعتادة إلى معانٍ جديدة تجسد مشاعر الحب، الحرية، والانتفاضات الاجتماعية، مما يضفي على قصائده سمة فريدة من نوعها. على سبيل المثال، يمكن أن نجد في قصائد نزار صورة "الورد" التي تُستخدم في سياقات مختلفة كمجاز للمرأة أو للحب.

2. المجاز في التعبير عن الحب والعاطفة

من أبرز ملامح شعر نزار قباني هو تصويره للحب والمشاعر العاطفية من خلال المجاز. ففي قصيدته الشهيرة "أحبكِ حتى تهدّيني"، يعبّر عن الحب المجازي بطرق مبتكرة، حيث يستخدم العبارات المجازية مثل "أنتِ في قلبي ربيعٌ لا ينتهي" أو "أنتِ أمواجٌ في بحرٍ هادر". هذه الصور المجازية تُظهر الحب في صور متعددة، تتراوح بين الرقة والاحتراق، وتتيح للمتلقي الإحساس بكثافة العاطفة التي يحملها الشاعر.

3. المجاز في معركة الحرية والنضال

لا يقتصر استخدام نزار قباني للمجاز على الحب وحده، بل يمتد ليشمل قضايا الحرية والنضال. فقد استخدم المجاز في التعبير عن معاناته الشخصية والجماعية، خاصة في القصائد التي تطرقت إلى القضايا السياسية والاجتماعية. على سبيل المثال، في قصيدته "هوامش على دفتر النكسة"، استخدم نزار المجاز لتصوير الهزيمة والنكسة بطريقة شعرية تُعبّر عن الخيبة والألم باستخدام صور مثل "الظلام في أعيننا"، مما يعكس حالة الانهزام النفسي والجماعي.

4. الأسلوب المجازي كمؤشر على التجديد في الشعر العربي

تعد استخدامات نزار قباني للمجاز في شعره جزءًا من سعيه للتجديد في الشعر العربي. لم يقتصر على الأسلوب التقليدي بل اجتهد في تجاوز حدود اللغة المُعتادة، واستخدم المجاز لخلق صور مبتكرة تعكس الواقع المعقد والخيال الواسع في آن واحد. من خلال المجاز، استطاع نزار أن يعيد تشكيل اللغة الشعرية العربية بأسلوب يتسم بالمرونة والحداثة.

5. خاتمة

في الختام، لا شك أن المجاز في شعر نزار قباني يمثل أحد الأبعاد التي ساهمت في تميز شعره وجعلته يصل إلى قلوب الكثيرين. استخدم المجاز كأداة تعبيرية لتوسيع المعاني وتكثيف الصور الشعرية، مما أضفى على قصائده سحرًا خاصًا. ومن خلال ذلك، أسهم نزار قباني في إثراء الشعر العربي وتطويره، ليصبح واحدًا من أهم شعراء العصر الحديث.

***

ربا رباعي

 

(اجمل القصائد تلك التي لم اكتبها بعد).. ناظم حكمت

الشعر هو قدر الشاعر منذ بداية عمره الى نهايته، فلا يمكنه ان يعيش بلا شعر، قديما كانت الامراض تعالج بالموسيقى فلماذا لا تعالج بالشعر ايضا؟

فقراءة قصيدة تغير احيانا مزاج الانسان وتحوله من الكآبة الى الانشراح وقديما ايضا قال شاعر الغزل قيس ابن الملوح (وما انشد الاشعار الا تداويا) .

ذهب ناظم حكمت في عام 1920 إلى الأناضول بدون إخبار عائلته من أجل المشاركة في النضال الوطني وعمل بالتدريس في مدينة بولو. ذهب ناظم حكمت من أطوسي إلى موسكو ودرس علم الاقتصاد والعلوم السياسية بالجامعة الشيوعية لكادحي الشرق. تعرف ناظم حكمت على مبادئ الشيوعية وأصبح شاهدا على السنوات الأولى لبداية عهدها في موسكو التي رحل إليها في عام 1921.

كان شاعرًا تركيا شهيرًا ولد لعائلة ثرية ذات نفوذ، عارض الإقطاعية التركية وشارك في حركة أتاتورك التجديدية ولكن بعدها عارض النظام الذي أنشأه أتاتورك وسجن في السجون التركية حتى 1950، فر إلى الاتحاد السوفيتي وهو شاعر شيوعي، كانت أشعاره ممنوعة في تركيا إلى أن أعادت له بلده الاعتبار.

توفي في الثالث من حزيران عام 1963. تميز شعره ببساطة ساحرة ومواقف واضحة. جرب ناظم في شعره كل الأشكال الممكنة الحديث منها والموروث وغذى تجربته بكل الثقافات من حوله خاصة أنه له علاقات شخصية مع أبرز الشخصيات الاور الأدبية الروسية والأوروبية والأمريكية وحتى العربية. ولناظم حكمت بصمته في الشعر العربي إذ نجد أصداء من طريقته الشعرية في أثر العديد من الشعراء كعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ونزار قباني . هو الشاعر التركي الذي يعرف أكثر بالشاعر ناظم حكمت، فهو يعرف ككاتب مسرحي وروائي وهو شاعر اتجه اتجاها رومانسيا.

كما أنه يعد أحد الثوار المدافعين عن مذهب الرومانسية. ولقد ترجمت قصائده الشعرية إلى أكثر من خمسين لغة وحصلت أعماله على العديد من الجوائز. ولقد استخدم ناظم حكمت أسماء مستعارة في السنوات الذي كان ممنوعا فيها من الدخول إلى تركيا. كما أنه قد أصدر كتابا بعنوان (الكلاب تعوي والقافلة تسير).

يعد ناظم حكمت هو المؤسس الأول للنظم الحر في تركيا وواحدا من أهم الأسماء البارزة في الشعر التركي المعاصر. ذاع صيته وأصبحت له شهرة عالمية كما أنه يعتبر من بين شعراء القرن ال 20 الأكثر شعبية في العالم 181 وقد حكم على ناظم حكمت في إحدى عشرة قضيه مختلفة ومكث ناظم حكمت في معتقلات إسطنبول وأنقرة لمدة تتجاوز اثني عشر عاما وتم نفيه من تركيا عام 1951.

بعد ذلك تم إصدار أول ديوان شعري له الذي نشر في موسكو في 28 يناير 1924 . وفي ذلك العام عاد إلى تركيا وبدأ العمل في (مجلة التنوير) ولكن بسبب قصائده الشعرية والمقالات التي كتبها بالمجلة ألقى في السجن لمدة خمسة عشر عاما ذهب مرة أخرى إلى الاتحاد السوفيتي وعاد إلى تركيا في عام 1928 مستفيدا من قانون العفو وبدأ بعد ذلك العمل في جريدة (القمر الساطع) ولكن بعد ذلك في عام 1938 عوقب بالسجن لمدة ثمانية وعشرين عاما بعد إثني عشر عاما من اعتقاله ذهب ناظم حكمت في عام 1950 إلى الاتحاد السوفيتي التي كانت في تلك الفترة برئاسة ستالين حاملا ذلك القلق من أنه سوف يُقتل وسوف يؤخذ إلى الجيش. في يونيو عام 1936وافته المنية عن عمر يناهز واحدا وستين عاما بسبب أزمة قلبية .

اجمل قصائد ناظم حكمت

اجمل الايام تلك التي لم نعشها بعد

اجمل البحار تلك التي تم نبحر فيها بعد

اجمل الاطفال هم الذين لم يولدوا بعد

اجمل الزهور تلك التي لم نراها بعد

اجمل الكلمات تلك التي لم اقلها بعد

اجمل القصائد تلك التي لم اقلها بعد

***

غريب دوحي

لم يكن بالمفاجأة موكب التشييع الشعبي والرسمي الذي جرى للشاعر العراقي " موفق محمد " والذي شاركت فيه جموع غفيرة من فئات الشعب وكان أشبه بطوفان بشري من الحزن والدموع والغضب، فـ " موفق محمد " لم يكن شاعرا كغيره من الشعراء التقليديين انما كان صوتا شعريا تفرد بالشجاعة وبالجرأة في نقد الأنظمة الدكتاتورية والحكام الفاسدين، فقد وقف بشعره الى جانب الانسان العراقي في محنته مع السلطات الجائرة، وقصائده كانت خير نصير للفقراء وصرخة قضّت مضاجع الحكام الفاسدين والقت في قلوبهم الرعب وسوطا ظل لسنوات يجلد بها ظهورهم، مثلما كانت اشعاره بلسما لجراح الشعب وأملهم في الخلاص من زمرة البغي والفساد . كان متوقعا هذا الموكب المهيب من محبي الشاعر واصدقائه وابناء مدينته الذين ساروا خلف جنازته، فالشاعر موفق محمد كان جديرا بهذا التكريم الذي شهده في حياته ممثلا بالمحبة التي حظي بها من قطاعات واسعة من الشعب وبالنصب التذكاري الذي كرمه به الحليّون وشيدوه في قلب المدينة، ما جرى في موكب التشييع من مشاركة شعبية يوكد حقيقة هي ان قيمة الانسان ومنزلته بما يقدمه من عطاء ومواقف وبما يترك من إرث إيجابي في المجتمع، ففارق كبير بين انسان يموت والكل يسارع الى نعيه واستذكار نضاله ومواقفه الوطنية والانسانية الجريئة وبين اخر يموت واللعنة تلاحقه جراء عمالته ولصوصيته وفساده ومشاركته في خراب بلده، ربما في الميتة الأولى تموت فقيرا لا مال تتركه خلفك ولكنك ستعيش خالدا بما قدمته لشعبك دون مقابل اما في ميتة الاخر فقد يترك خلفه خزائن من المال والذهب لكنه مالا حراما مغمسا بأنفاس المحرومين وآهاتهم ومن يرث هذا المال السحت سوف يعيش مجلجلا بالعار والفضائح .

لحظات متابعتي لموكب تشييع الشاعر موفق محمد، حضرني قول الشاعر ابو العتاهية (انت اليوم اوعظ منك حيا) فالجموع الغفيرة التي سارت خلف جنازته هي النخب الثقافية واصدقائه ومحبيه ومن قرأ له متأثرا بصرخته وبمفرداته التي كانت حمما من الجمر ينفث بها بوجه الفاسدين، وقبل هذا كان الشاعر قد عاش حياته محاطا بمحبة الشعب واشعاره تتناقلها شرائح مختلفة لما فيها من نصرة للمظلومين ورفعة للوطنيين يضاف الى انها أي حياته اتسمت بالزهد والنزاهة، ففي تسعينيات القرن الماضي وعند اشتداد ظروف الحصار على الشعب العراقي ولكي يبقى الشاعر موفق محمد نظيفا ينعم باللقمة الحلال فانه لجأ الى فتح بسطية شاي في ركن منزو من شارع اربعين في الحلة وكان حينها مدرسا مرموقا وشاعرا معروفا على الساحتين الشعرية العراقية والعربية، وعند تقديمي له وحواري معه في احدى الجلسات الشعرية سألته عن هذه المحطة المؤثرة في حياته فأجابني بكل زهو وتواضع : (بائع الشاي التسعيني الذي هو موفق محمد  جعلني مدرسا مخلصا وأديت التزامي الوظيفي في التدريس بكل اخلاص ولم اتعامل مع طالب) فهو لم يكتفي بدروس المنهج التي كان يعطيها لطلابه انما كان يغذيهم بدروس من الحياة فقد كان يحثهم على النزاهة ناصحا (لا تنطي حتى تنجح، لأنه راح تصير حرامي عمرك كله، لأن بعدين من يصير عندك منصب ما تنطي الا تأخذ) وكان صادقا فيما يقول فقد انهى خدمته الوظيفية نظيف اليد والسمعة، كان يؤمن ان الأداء والمنجز هما من يخلّدان الانسان لذا يقول في حديث لأحدى القنوات (من تكبر .. الفلوس ما تفرحك، يفرحك منجزك الي تركته وراك حقول من الخيرات والثمار ومن العلماء) وشهادة عن زهده بالمناصب والامتيازات يذكر الكاتب ناظم السعود في معرض تقديمه لديوان الشاعر موفق محمد (عبدئيل)  الصادر عام 2000 انه (الشاعر الستيني الوحيد الذي لم يتسلق المناصب ولم ينظم الى احدى الجماعات والشلل او دوائر العلاقات وما أكثرها، كما انه الوحيد من بين ابناء جيله الذي لم يسع الى اصدار مجموعة شعرية) وأُضيف على ما قاله السعود ان موفق محمد هو الشاعر العراقي الوحيد الذي شُيد له تمثال وهو حي يرزق، وقد كتب عن هذا التكريم الشاعر والناقد ريسان الخزعلي  نصا جميلا يقول فيه:

(لا حاجة لك بعد الان

أن تسأل عن:

الخلود وعبدئيل

وسعدي الحلّي وشط الحلَّه

لقد أصبحت حيّا مرّتين

حياتُك وقد رأيتَها

وموتُك .. يُهديك نصْبا يراك

فكم أنت طيّع للحضور ..؟

ترى موتَك حيّا .. وحيّا يراك الموت ..!)

لا شك ان هذه السطور القليلة تمثل بعضا من ملامح سيرة وضاءة لشاعر أحب شعبه وبادله الشعب بحب أرقى وأسمى حين سار وراء جنازته بتلك الجموع الغفيرة وهي تودع شاعرا وانسانا تناهشت جسده المصائب والهموم فلم ينكسر امامهما ولم يهادن ورحل مرفوع الرأس تاركا بصمة مشرقة في ضمير الشعر والتاريخ .

***

ثامر الحاج امين

 

أغلب التّاريخ المدون أصله شفاهيّ وجدَ مَن يدونه، ومفردة «الشَّفاهيّ»، منحوتة مِن الشّفة، «وشافَهَه: أَدْنَى شَفتَه مِنْ شَفته فكلَّمه مُشافَهةً» (ابن منظور، لسان العرب). لذا، مَن ينفي سلاسل السَّند في الرّوايات، ويدعي أنَّها مختلقةٌ كافة، لا يُقدر قيمة الشّفاهي ولا المدون.

فما عدا المذكرات، المدونة بأقلام أصحابها، وما صنفه المؤرخون، كلّ ما نقرؤه في الأصل كان شفاهيَّاً، وكم نقرأ مِن عناوين «الأماليّ» عند الأقدمين، يمليها أصحابها مِن شفاههم، فأصبحت مدونات تُشكل جزءاً مِن التُّراث الثَّقافيّ. حصلتُ على كتاب السّيد موسى الهاشميّ «على دروب أبو ظبيّ مِن البدايات إلى التّحولات» (أبوظبي 2025)، مما اقتنيته مِن معرض أبوظبي للكتاب الأخير.

ترددتُ بأخذه، لنشره على الورق الثَّقيل، يحار المسافر بحمله، لكنني وجدته مِن كتب «الأمالي»، التي أجمع منها، ولي «أمالي السّيد طالب الرّفاعيّ». أعدَّ الكتاب الدّكتور حمد الكعبي وإبراهيم الملا، وملتُ لو كان عنوانه «أمالي السّيد موسى الهاشميّ». عاصر الهاشميّ الزَّمنين: شظف العيش وعسره بمنافحة الرّمال، والعمران والرّفاه.

يقول: «ولدتُ في زمن صعب، لم أجد سوى البحر، رفيقاً لي، ومؤنساً لوحشتي، كان تراب الفريج (الحارة) والمسالك الضّيقة الفاصلة بين بيوتاته المتواضعة هي ملعبي». أغرت الهاشميَّ السّيارات مبكراً، لفت نظره هذا الكائن وهو يجوب الصّحراء، وقد دخلت السّيارة ومدت طرقاتٍ وشوارعَ رمليَّة، خطوطاً عشوائية تائهة، لا تمت بصلة لشوارع ومسالك أبوظبي اليوم المُهندَسة، بعد أنْ كان الهاشمي يقطع المسافات على ظهور الجمال، وبعد الحرب العالمية الثانية أخذ الإنكليز يبيعون السّيارات، فظهرت سوقها، وانتشرت.

ذكر الكتاب كراج تصليح السَّيارات، على قلتها، فتح إلى جانبه ميكانيكي عراقيَّ ورشة للتصليح السّريع. لم يذكر الهاشميّ الاسم، وما جاء به آنذاك في سفينة مِن البصرة، عبر الخليج العربيّ، فكانت أبوظبي محطته الأخيرة؟ وهل ظل مقيماً بها، وورث وجوده أبناءً وأحفاداً، أم أنقرض عقبه، ولم يُعرف له أثر؟ يروي الهاشميَّ صفحة مِن حياة أبوظبي الاجتماعيّة، وما تذكره عن «الحصن» (قصر الحكم)، البناء الشّاخص الوحيد وسط أبوظبي آنذاك، وكان موج البحر يلتطم بجداره، والآن بينهما مسافات، وكاسر أمواج.

تحدث عن الحكام وعلاقتهم بالنَّاس، عن أول إنارة كهرباء، عن صغائر ما يتعلق بالملابس، فالحمدانيَّة التي تعتمر اليوم على الرّؤوس، نسبة إلى الشيخ حمدان بن محمد بن خليفة بن زايد بن خليفة بن شخبوط آل نهيان (الذي توفي عام 1989)، كانت له طريقةٌ بشدها، تذكرَ الدَّقائق عن يوميات مؤسس النَّهضة وبانيها.

قد لا تحفل كتب الرّحالين بما جاء في الكتاب، عصر ما قبل النَّهضة وما بعده. تحدث عن حكايات الغواصين وتجار اللؤلؤ، والشّعراء وما حفظ من أفواههم. ذاق العطش، ذاكراً قيمة الماء العذب، وندرته كالكبريت الأحمر، وعن عيونه داخل البحر التي استدل عليها الغواصون. لذا، لابد مِن تذكير الجيل الجديد بالبدايات، فجيل الهاشمي يُقدر رفاه ما هو فيه الآن، يوم مست الرّمال الحارقة جلودهم.

أرى الكتاب إضافة لكتابة تاريخ المكان وإنسانه، فكم تاريخ صار بحكم المفقود، لعدم التَّدوين، والأيام تجري والأجيال تتعاقب، ووقائع تختفي، بينها ثقافة الأمكنة. لذلك عُقدت مؤتمرات عن التدوين الشّفاهيّ، وخصوصاً بالبوادي، التي ندر فيها القلم والورق، وهي غنية بما في الصّدور، ربّما أبرز النَّاشطين في هذا المضمار الباحث الثبت سعد الصُّويان، أخذ يسابق الزَّمن، لتسجيل ذاكرة الشّفاهيين مِن أهل البادية، فكم مِن تاريخ وعِلم بدأ مِن الشّفةِ ثم الكتاب.

مع سلوتي بالكتاب، لما بذله المدوِّنان مِن جهد، يبقى فضولي عن الميكانيكي العِراقي، لأي سبب ترك نعمة الخمسينيات بعراقه، ليقيم بمكان وزمن قيمه الهاشمي بـ «الصّعب»! أقول: أي برج شاهق نُصب محل ورشته؟

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

الإبداع هو القدرة علي تصور أشياء جديدة، ومحاولة تطبيقها واقعاً، فمن وجهة نظرنا يلعب الخيال المتحرر من القيود الدور الرئيسي في التجربة الإبداعية، فالخيال بمثابة الحبل السُّرّي الذي يغذي جنين الإبداع بالغذاء، ولابد من توافر شروط عملية الإبداع وتوفير المَناخ المناسب له مثل ماذا؟ نستخلص بعض الشروط من وجهة نظرنا وهي:

الشرط الأول الحرية: بمعناها الواسع؛ فلن تنمو نبتة الإبداع في تربة مليئة بثقافة السعي وراء القطيع، وفرض القيود الفكرية، وتمارس علي الإنسان سُلطة التحكم في إتجاهاته الفكرية، فلن يري الإبداع النور في مُجتمعات أخذت ثقافة الإتباع الأعمي مبدأ لها، لإن الإبداع أشبه بطفل متحرر يتميز بخيال خصب، ونفس نقية لم تتلوث بعد من شوائب الحياة الروتينية التقليدية الراكدة .

عرّف الفيلسوف اليوناني سُقراط الحرية بأنها القدرة علي فعل الأفضل، اذن فكرة الأفضل أو الأحسن هو مصطلح جمالي إبداعي يحمل في جوفه فكرة التجديد التي هي الأخري، أصل الإبداع فلا إبداع بلا حرية .

الشرط الثاني: الذاتية فنلاحظ دائماً في شتي الفنون الإنسانية، أنها تتميز بالذاتية وهي قدرة الأفراد المُبدعين علي التعبير عن ذواتهم بطرق مختلفة، فنجد ذلك الإبداع في الفنون، فهو يعكس الذات الإنسانية التي تتميز بطابع التفرد .

الشرط الثالث: النظرة المابعدية أي ما بعد الشيء وهي النظرة المستقبلية، فلن نستطيع ممارسة الإبداع بدون تلك النظرة، فالذي يميز الشيء الجديد عن القديم هو أنه ليس مألوفاً، وهذا ما نجده علي سبيل المثال فكرة الميتاڤيرس في واقعنا المعاصر، وهي محاولة صنع عالم إفتراضي يستطيع فيه الإنسان أن يتحكم في الأشياء من خلال الحاسوب .

فإذا لم تتوافر الشروط السابقة، سيكون مصير المجتمعات هو الركود الفكري والإبداعي، ستجف أنهار الفكر من التجديد والتطوير، ونظل حبيسي شرنقة الإتباع الأعمي وتقديس طريق القطيع.

***

محمد أبو العباس الدسوقي

 

ودعوة لم تصلني!

لماذا لا يدعى الكتاب إلى احتفالات الكتاب؟ سؤال مرير خطر لي وأنا أتصفح صور الاحتفال الذي أقامته مؤسسة الأهرام قبل أيام، ثم تلك الاحتفالية الكبرى للمجلس الأعلى للثقافة.. كل الوجوه كانت هناك، إلا وجهي المتواضع! 

لكني- كما تعودت-  سأصنع من جرحي كلمات، ومن غيابي حضورا. ها أنا ذا أرفع كأسي الوهمية معكم - أيها القراء الأعزاء - لنشرب معا من نبيذ الذكريات: ثمانينيه صديقنا محمد سلماوي، ذلك الساحر الذي علمني - منذ لقائنا الأول في الدور الرابع بجريدة الأهرام - أن الصحافة يمكن أن تكون شعرا، وأن الرواية يجب أن تكون ضميرا. 

كان سلماوي يمر بمكتبي كنسيم هادئ، يرمق أوراقي بنظرة عارف، ثم يهمس: "لا تكتب إلا ما يؤلمك إذا لم تكتبه". اليوم، يؤلمني ألا أكون بين المحتفين به، لكني سأكتب - كما علمني- لأن الكلمة وطننا الأخير حين تغيب عنا الدعوات الرسمية! 

فهل تسمحون لي- أيها الأصدقاء- أن أبدأ هذه المقالة التي هي احتفال خاص بنا نحن المغضوب علينا من بروتوكولات التكريم؟!

لا شيء يمنح الأمم شرعية البقاء مثل ذاكرتها الثقافية. حين تضيء الدولة مصابيح التكريم حول أحد أبنائها، فهي لا تهدي وساما لشخص بقدر ما تعلق جرس إنذار على جدار النسيان. محمد سلماوي، الكاتب الذي حول الحروف إلى مرايا تعكس نبض الشارع المصري، لم يكن يوما مجرد حروف تقرأ، بل كان جسرا بين زمنين: زمن الصحافة الحرة التي تنير العقول قبل الصفحات، وزمن الرواية التي تحفر في جسد المجتمع بحثا عن الجوهر الإنساني. 

يخطئ من يظن أن الاحتفاء بالرموز طقس احتفالي عابر. التاريخ يعلمنا أن الحضارات العظيمة ولدت من رحم الكلمة التي رفضت أن تسقط. يوم وقف الخديوي إسماعيل يحيط أحمد شوقي ببهاء التتويج، لم يكن يكرم شاعرا، بل كان يزرع بذور هوية عربية ترفض الانكسار. اليوم، نحن أمام مشهد مماثل: تكريم سلماوي هو استمرار لتلك السلسلة الذهبية التي بدأها رفاعة الطهطاوي، وحمل مشعلها طه حسين، ويسير بها جيل جديد على درب الضاد. 

ما أجمل أن تتحول قاعة التكريم إلى فضاء يتلاقى فيه الوزير أحمد فؤاد هنو والأكاديمي العريق الدكتور حسين حمودة، مع نقاد شباب! هنا، في هذا التداخل الرقيق بين الأجيال، تكمن رسالة الاحتفاء الحقيقية: الثقافة ليست تراثا محنطا في المتاحف، بل نهر يجري، يحمل معه أسئلة الماضي وإجابات المستقبل. لقد علمنا سلماوي، من خلال رواياته التي تنبض بالحياة كـ "الخرز الملون"، أن الكلمة الصادقة تشبه النيل؛ تغذي الأرواح دون أن تطلب إذنا. 

الثقافة للجميع 

في زمن السحابة الرقمية، لم تعد قاعات الأوبرا وحدها حاملة لواء الثقافة. انتقاد بث الاحتفالية عبر "فيسبوك" يشبه انتقاد القدماء لاختراع الطباعة! ألم يقل طه حسين إن الثقافة يجب أن تصل إلى كل بيت كالماء والهواء؟ الاحتفاء بسلماوي عبر الشاشات الصغيرة هو اعتراف بأن الثقافة الجادة ليست حكرا على النخبة، بل هي خبز يومي للجميع. 

قد يقول قائل: "ما الفائدة من احتفال في زمن الحروب الثقافية والانهيار الاقتصادي؟". لكن الحضارة، كالشجرة العتيقة، لا تسقط عاصفة واحدة جذورها. يوم نحتفل بسلماوي، نحن لا ننقش اسمه على جدار الماضي، بل نزرعه في تربة الغد كبذرة تنبت جيلا جديدا من الحراس: حراس الكلمة التي تضيء، والفكر الذي يحرر، والذاكرة التي تقاوم. 

بين سلطة التراث وتمرد الحداثة 

في زحام الصراع بين الأصالة والمعاصرة، تظهر الثقافة كمصلح ماهر يجمع شتات الهوية دون أن يكسر مراياها. خذ مثلا المسرح المصري: حين يعيد المخرج الشاب قراءة "الست هدي" بطريقة تفاعلية مع الجمهور عبر "التيك توك"، فهو لا يخون تراث نجيب الريحاني، بل يزرع بذور مسرح جديد في تربة جيل لم يعرف فرق الفنانين. هنا تكمن المفارقة العبقرية للفن: كلما انغمس في حاضره، اكتشف جذوره الضاربة في الماضي. 

المثقف العربي.. حارس الأسئلة

هل يعيش المثقف العربي أزمته الأكثر شراسة اليوم؟ حين كان طه حسين يناقش "مستقبل الثقافة"، كان السؤال هو كيف نبني. أما اليوم، فالسؤال الجارح: كيف نحمي ما تبقى؟ لكن التاريخ يعلمنا أن الثقافة العربية ولدت من رحم الأزمات. أليس ابن خلدون كتب "المقدمة" في ظل انهيار الدول؟ وعباس محمود العقاد صقل أفكاره تحت وطأة الاستعمار؟ اليوم، يعاد المشهد بأدوات جديدة: كاتبة المدونات التي تترجم رواياتها إلى الإنجليزية مباشرة، والفنان التشكيلي الذي يبيع لوحاته بـ "النفط الرقمي" (NFT)، كل هؤلاء يحملون مشعل المقاومة الثقافية بلسان عصرهم. 

لا ينبغي للدولة أن تكون مجرد حارس متشدد للتراث، ولا ممولا خجولا للحداثة. التجربة الماليزية في دمج الثقافة الإسلامية مع آليات السوق العالمية تثبت أن الجسر بين الهوية والانفتاح ممكن. في مصر، مشروع "الذاكرة الثقافية الرقمية" الذي أطلقته مكتبة الإسكندرية مؤخرا- برفع مخطوطات نادرة إلى السحابة الإلكترونية - هو اعتراف ضمني بأن الثقافة يجب أن تسبح في الفضاء الافتراضي كالأسماك في الماء. 

لكن.. ماذا عن خطر تحول الإبداع إلى سلعة؟ ها هي معارض الكتب تشبه مولا تجاريا أكثر منه ساحة ثقافية، وها هي روايات الأكثر مبيعا تزيح الأعمال العميقة إلى رفوف النسيان. هنا يجب أن نتذكر كلمات أدونيس: "الثقافة التي تبيع نفسها تفقد روحها". لكن الحل ليس في العزلة، بل في خلق توازن ذكي: مؤسسات خاصة تدعم المشاريع التجريبية، وجوائز أدبية ترفض أن تكون مجرد ديكور إعلامي. 

لا تنظر باستعلاء إلى فتاة الثانوية التي تكتب خواطرها على "الإنستجرام" بلغة هجينة بين العربية والإنجليزية. ألم تكن قصائد الصعاليك في الجاهلية صرخة ضد سطوة القبيلة؟ أليس "التكست" (Text) الشعري اليوم هو ابن الشرعي للقصيدة العمودية؟ الثقافة الحقيقية ليست حبرا على ورق، بل هي قبيلة متنقلة تحمل أدواتها حيث ترحل: من ألواح الطين إلى شاشات اللمس. 

في الختام، الثقافة العربية اليوم كراكب الأمواج: تحتاج إلى مهارة فائقة لتحافظ على توازنها بين أمواج العولمة العاتية وصخور التطرف الثقافي. لكنها- ككل أم عظيمة- تعرف أن أبناءها المبدعين، من محمد سلماوي إلى صانعي المحتوى المجهولين في زوايا الشبكة العنكبوتية، هم أملها في أن تظل حكاية هذه الأمة تروى... بلغة لا تشيخ.

***

د. عبد السلام فاروق

 

السيد عزيز هاشم الموسوي (الأب)، ينتمي لعائلة كريمة تقيم في نواحي النجف، عرفت بأصالة قيمها وتقاليدها، السيد الموسوي يحمل الدين في قلبه لا على لسانه، يمارسه بخشوع لا رياء فيه، يصلي بخشية و إيمان حقيقيين، يصوم بصبر، يزكي بطيب خاطر، ويخمّس بضمير مرتاح، كل ذلك من دون أن يتخذ  الدين انغلاقاً أو سواداً.

في بيته تسكن الرحمة والمودة. فكانت أسرته مرآة لخلقه النبيل . كان السيد عزيز يعمل في التجارة يكسب رزقه بالحلال، قرر الانتقال إلى بغداد حرصاً منه على مواصلة  الأبناء دراستهم في العاصمة، غايته  تلك قد تحققت ونال اولاده المتفوقون دراسياً ما يستحقون من مقام علمي،  تشاء الصدف الجميلة أن أتعرّف على أحد أولاد السيد : صديقي  (حسن) في أول تعيين لنا كمدرسين في متوسطة الجمهورية في الفلوجة نهاية ستينات القرن الماضي، ومازلت العلاقة ب (حسن) تتجدد كلما يمضي الزمن، من خلاله تعرفت على أشقائه: د. محمد أشهر اطباء الأذن والحنجرة في العراق، و(علي) المهندس المقيم في إنكلترا منذ السبعينات، وأصغرهم د. كامل في اختصاص الفيزياء، ثم أكمل حسن الدكتوراه في اختصاص الحاسوب

السيد عزيز يشكر الله دائماً انه أنعم عليه بذرية صالحة يتباهى بها كمحصلة لما غرسه فيهم من قيم اخلاقية وانسانية صاحبت الأشقاء كمنهج وسلوك في الحياة، تأكد في العديد من المواقف، كان آخرها. ما فعله (علي) الذي تبرع بحصته من الميراث قدره (600) مليون دينار للأطفال المصابين بالأمراض السرطانية في مدينة الطب.

كان علي في غاية السعادة حين توجّه إلى مدينة الطب، برضا داخلي، وقلب ممتلىء باليقين، كان قلبه أثقل من المال، مفعماً بالمحبة والعطاء.

دخل علي المستشفى بخطاه الواثقة الشجاعة كأن الكون يمنحه الضوء الاخضر، في صدق النوايا وانسانية لا تشترى انما متأصلة فيه، في جذره الطاهر، لم يسأل ابو سمير عن شهرة، ولا عن لوحة تحمل اسمه على الجدار، لا يبحث عن ضجيج،

ولا امتياز، انما كان يبحث عن ضوء في عيون الأطفال وأمل في الحياة

أي نموذج من الرجال انت ياعلي. تمشي على الارض بثوب من نور، تفضح الظلام من دون ان تتكلم،أما أولئك (الرجال الجوف) الفاسدون فيكفيهم الخزي والعار يلاحقهم إلى أبد الآبدين، والأقبح من الفاسدين الذين لبسوا عباءة الدين، وانغمسوا في وحل الفساد، فهم الوجع الأكبر، وأول الكافرين بالعدل والرحمة!

طوبى لك يا علي!

***

جمال حسن

 

من أين يأتي هذا الصدى الغريب ؟؟يتردد على أذني متقطعا.. وكأنه صوت غريق يستغيث بمرارة؟ زعقات مبهمة التفسير تتصارع في داخلي وتتضارب على شطآن أفكاري.. فتضيق أنفاسي ولا أعرف السبب الحقيقي..

ترى ما الذي يجري في أعماقي؟؟ ما هو مصدر ذلك الصراخ المذبوح؟ يؤرق أيامي، ويوتر هدوء أمسياتي، ويعكر الصبح الندي في شرفاتي... صراخ بعيد المدى من صميم الأزل وبوتقة التاريخ .. عميق هو عميق يعلو تارة ويخبو تارة أخرى.. يتردد كما دقات أجراس الكنائس الحزينة.. يهز النفوس رهبة وخشوعا ناقوسا أبديا في لجة الخلود..

كم تجاهلت تأثير ذلك الصدى ووقعه على نفسي. .مع ذلك باءت كل محاولاتي المتكررة بالفشل.. بل كان يزداد وقعه قوة وأكثر إصرارا على الظهور.. لكن الازدحام، والصخب كان يطوقني من كل حدب وصوب فلا أميز حسنا، ولا استطيع التركيز.. وتتفصد قطرات العرق الباردة من جبيني، واشعر بدوار كأنني موجودة ولست على الأرض.. يا الهي ماذا يحدث!! من الذي سرق بسمات الفرح من شفاهي العطشى للحرية والصفاء من بين رموشي؟؟ يا الهي ساعدني على تفهم نفسي أرجوك.

فجأة - وفي منتصف دائرة الصخب ألقسري- حطت على كتفي الأيسر يمامة بيضاء.. بدأت ترفرف بإيقاعات موسيقية منتظمة.. تقترب من أذني هامسة وكأنها تقول: لا عليك أيتها الروح الطيبة.. أنت بخير اتبعيني.. وأحيانا أخرى كانت تطير وتهبط على الأرض.. تسير بخطى واثقة، وتتمايل بتماوج راقيين..

للوهلة الأولى، تسمرت قدماي وتصلبت.. لا استطيع الحراك.. مدهوشة من تأثير ما يحدث معي، إلا أنني شعرت بهمس لطيف ينبض في قلبي قائلا: هذه الحمامة هدية ربانية، وإشارة إلهيه.. اتبعيها حيثما تذهب .. إنها أمانة من ذاتك.. ولذاتك.. ترشدك لطريق النور والصعود إلى الشمس إلى ما بعد سدرة المنتهى.. اتبعي روحك حيثما تذهب..

أذعنت لذلك الصوت الخفي الهامس والحاضر.. تتبعت خطوات اليمامة البيضاء في قرية الأمل الجميلة و يا لها من قرية فواحة بنسمات عطر البنفسج والناردين.. وتلتف الجبال حولها كالبساط الأخضر، وكأنها تلقي قبعاتها الخضراء إجلالا.. وأشجار السرو تنحني احتراما لأنوثة ورقة القرية العذبة .. هدأت تلك الحمامة على شاطئ النهر في أطراف القرية المتواضعة البسيطة، حيث الهدوء التام، والسكون السرمدي.. صمت رهيب رائع عظيم لا يتخلله إلا نسمات جريانه الناعمة تداعب وحدتنا..

كنت أنظر إلى تلك الحمامة الواقفة بخشوع.. كأنها تتأمل.. حدجت الطبيعة بنظرات غريبة.. كم هو رائع أن يتأمل الإنسان الطيور وعالمها الخفي.. فيها كل العبرة والعظة... فجأة لمحت تلك اليمامة و كأنها تحولت لشعاع باهر رسم خطوطه البيضاء كأنه رسالة سماوية تقول: أن التأمل سر رباني أزلي ..هو تحليق في عالم الروح واللامجهول كي نفهم حقيقة الحياة.. والإنسان يحتاج إلى التأمل كما يحتاج الهواء.. و إلى ثقافة روحية عميقة في زمن ازداد فيه الصقيع، والضجيج، والحروب اليائسة.. وارتفعت فيه ناطحات السحاب، والأبنية الشاهقة، وتلاشت روح الحياة والحيوية..

بدأت أتأمل في السماء لا شعوريا.. إنها رائعة.. صافية كل الصفاء.. والشمس ناضجة كحبة البرتقال .. تغازل الجبال بفن متقن راقٍٍ .. أتأمل لحظة دلوك الشمس مودعة النهار.. يا الهي يا لعظمة المشهد المقدس الملائكي!! إنه عبرة ودروس للعشق الحقيقي والحب الخالص.. بالرغم أن الشمس تدرك عودتها في الغد القريب، إلا أنها كانت تبكي بحرقة قرمزية الأجفان لا تريد الرحيل أبدا..

إن فراق الأرواح العاشقة صعب.. وكم شعرت باختناق أنفاس النهر ألما.. كم هو مرير أن تفارق أنفاسك وتبتعد عن روحك التوأم..

رجعت في تأملاتي إلى الحمامة الجميلة.. كانت ترفرف على درجات الدرج الحجري القديم كأنها تودعني من بعيد، لحظة ئذ شعرت أن روحي بدأت تفرح وترقص تألقا لازورديا أمامي... أغمضت عيناي كي أحافظ على روعة هذا المشهد المخملي وكم كان الله كريما في منحنا حمام السلام، و أنها رموز قمرية رائعة و لحظات التحليق في عالم السماوات سامية قويه لا يضاهيها سمو وعظمه في الكون..

فتحت عيناي برفق.. كان التأمل حقا حلما واقعيا.. وجُلت بنظري في كل الاتجاهات.. لكنني لم أر حمامة التأمل.. يبدو أنها رحلت بعد أن أعطتني رسالة المحبة.. هرعت مسرعة إلى ذلك الدرج العتيق أبحث عنها لكنني لم أعثر عليها.. لقد طار حلم الحقيقة ...لكن شعاعها حاضر يهمس في قلبي: هلم اهبطي أيها الروح الطيبة إلى أسفل السلم.. وابحثي عن نفسك وسر آلامك !! فتحت عيناي بلطف..

كانت رائحة العشب النابت في شقوق الدرج المهجور تفوح عطرا قديما.. وكم من خطوات عاشقة زارته ورحلت وبقيت أطلال الذكرى... يبدو أن لكل خطوات.. رحيل؟؟ خلعت حذائي وقررت الهبوط إلى أسفل الدرج.. أغمضت عيني وسلمت نفسي للروح ثانية.. وتنفست عميقا احتبس رائحة العشب النقي من درجات سلم الذكريات وتابعت الهبوط درجة درجة في تسلسل هرموني كما السلم الموسيقى.. وأنا اسمع مناجاة النهر.. أحس بشفافية رذاذه وهو يداعب التحدي النابض في عروق قدمي.. تابعت الهبوط رويدا رويدا.. ما عدت اسمع شيئا.. انتابتني حالة استرخاء تامة في عالم اللانهاية.. عندما افتح عينيّ، اسأل نفسي: أين أنا يا ترى هل؟ أنا في القاع.. قاع أعماقي؟بالرغم من الضباب الكثيف لكنني رأيت قبضة باب حديدي خمري اللون في أعماقي نهشه الصدأ.. حاولت إدارة قبضة الباب لفتحه، لكن بدأت يداي ترتجفان وأطرافي ترتعش.. لكنني تجرأت وفتحته ..أواه .. ماذا رأيت؟؟ أنا أنقاض مبعثرة هنا وهناك..

قررت العودة.. إلا أنني لمحت يداً صغيرة ناعمة ارتفعت ثم هَوَت، كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة.. ارتعدت.. قررت الهروب.. لكن شعاع تلك الحمامة ذكرني قائلا: ذاتك أمانة غالية لا تتركيها.. حاولت إزالة حطام أنقاضي ما استطعت حتى ظهرت تلك الطفلة "الروح" التي ما زالت نابضة بالحياة.. اقتربت منها أخذتها بين أحضاني وبدأت البكاء.. ماذا أقول؟؟ هل هو بكاء أُم فقدت وحيدها؟؟ أو ربما أعمق من ذلك.. أَم إنها ذاتي فقدت هويتها تحت أنقاض العادات والتقاليد والفرضيات والنظريات العليلة... بكاء حضارات وعصور منهارة؟؟ أم أمجاد زالت ولم تعد؟؟ لا ادري ماذا أقول..

نظرت إلى الطفلة.. كانت تستجير.. تستغيث.. مذبوحة.. وقُتل البنفسج في عينيها رغما عنها قالت: أنا أحتضر.. أرجوك لا تتركيني.. أنا استحق الحياة.. وكل الحب الخالص.. يا حرقتي ما أصعب أن يواجه الإنسان تدمير ذاته بأم عينيه.. ويلمس جراحه النازفة بأنامله ..

استغاثة روحي الطفلة حرقت فؤادي.. فأقسمت لن اتركها أبدا مهما كان الثمن مكلفاً وباهظاً.. حملتها في حضني عائدة خطوات الدرج التالف قهرا ..أتنفس الصعداء شهيقا وزفيرا حتى وصلت عائدة إلى شاطئ الحلم الذي بدأ يغفو في حضن الليل الحنون..

عدت أدراجي وأنا أغمر روحي طفلتي بقلبي حتى وصلت إلى حجرة مهجعي.. أقفلت بابها.. تلك الليلة شعرت بسلام داخلي لا مثيل له.. حتى أن تلك الزعقات هدأت.. والضجيج تلاشى بلا رجعة..

منذ ذلك اليوم وأنا أراقب طفلتي"الروح" تنمو وتترعرع و تحلق نحو الشمس بخطوات ثابتة تعيد بناء ذاتها من جديد كطائر الفينيق.. وتصقل الزوايا التائهة والنتوءات ألمتراكمة في شخصيتها.. فيكبر الأمل ربيعا في عينيها الدامعتين وهي تسابق القمر بضيائها.. وتكبر بمحبتي واحترامي لذاتي.. وبالتالي من لا يحترم ويحب ذاته لا يستطيع العطاء لشخص آخر.. وفاقد الشيء لا يعطيه.. وقال السيد المسيح أيضا: أحبب قريبك كنفسك.

كم هو جميل الانتصار على الذات وتحديها للوصول إلى أفضل المراتب .. والوفاء لتلك الأمانة التي أودع الله فينا.. بالحب والتغيير نصعد لخلود سماوي.. فلنكن كما حمامات السلام نرفل بالوداعة ننشر رسائل المحبة السماوية على الأرض، ونطمح لغد مشرق وحر يغفو العاشقون فيه بأمان.. وتفتر فيه حبقات الأمل على شفاه الأطفال بسمة نور ملائكي.. وإن عظمة الانتصار على الذات- بتحريرها من قيودها وخوفها وهواجسها الصادمة- لا تجاريها عظمة.

***

قصة وجدانية

بقلم الكاتبة: سلوى فرح - كندا

ليست الكتابة حرفةً تُمارَس على أرائك الترف، ولا نزهةً في بستان اللغة تُقطف فيها الألفاظ كما تُقطف الثمار الناضجة من أغصانها الوارفة. إنها أشبه بنداءٍ يصرخ من جوف الصمت، بل هي الصمت حين يُستصرخ. الكتابة ليست ترفًا، بل وجعٌ يُسَطَّر، ونارٌ تُعبَّر بحروفٍ باردة كي لا تحرق صاحبها.

حين يكتب الإنسان، لا يكون في حالٍ من التسلية، بل في حالِ احتضارٍ يطلب فيه النجاة. إن الكاتب، في لحظاته الحقيقية، ليس فنانًا يزخرف المعنى، بل غريقًا يبحث عن قشة المعنى في محيط العبث. الكتابة لا تُمارس لأنها هواية، بل لأنها ضرورة، كما يصرخ الجسد حين ينكسر العظم، وكما تدمع العين حين يُطعن القلب.

الكاتب الحقيقي لا يكتب، بل ينزف. هو شهيدٌ مؤجل، يحمل جراح أمته، ويلفّها بورق الكتابة علّها تُشفى. الكلمات التي تخرج منه لا تخرج من فمٍ مطمئن، بل من قلبٍ مشظّى، من وجدانٍ عالقٍ بين الشكّ والإيمان، بين الحلم والانطفاء. لا يكتب لأنه يريد، بل لأنه يُجبَر، كما تُجبَر الأشجار على النمو في تربةٍ صخرية، تبحث عن قطرة ماءٍ في أعماق الأرض كي تبقى واقفة.

الكتابة عند من جُبِل على الألم ليست وسيلة تعبير فحسب، بل وسيلة بقاء. هي اختراع لغة حين تُصادَر اللغة، وابتكار معنى حين يغدو العالم بلا معنى. هي فعل مقاومة ضد الاندثار، ضد النسيان، ضد الركون إلى البلادة. الكاتب في زمن الصمت يُشبه المؤذن في مدينة خرساء، أو نبيًا في صحراء بلا سامعين، لكنه يصدح، لأنه إن لم يصدح انفجر.

الكتابة ليست هواية، لأنها ليست خيارًا. الهوايات تُختار في أوقات الفراغ، أما الكتابة فتختارك في أوقات الانكسار. الهوايات تُمارَس حين يستقر القلب، أما الكتابة فتُمارَس حين يضطرب. الهوايات تُجمّل الحياة، أما الكتابة فتقاوم موتها. لذلك لا تسأل كاتبًا: لماذا تكتب؟ بل اسأله: كيف تنجو إن لم تكتب؟

الكاتب في جوهره طفلٌ مذعور، يختبئ خلف جدار الأبجدية، يرسم وجوه الراحلين كي لا ينسى، يروي مآسيه بلغة المجاز كي لا يُجلَد بلغة الواقع، يزرع وجعه في سطورٍ ينمو عليها وعياً وتحررًا. هو منبوذٌ في المجالس، لكنه ملكٌ في العزلة. متّهمٌ في الظاهر، ومبشِّرٌ في الباطن. يهرب من الجدران لكنه يبني منها نصًا خالدًا.

الكتابة ليست هواية، بل منفى داخلي. الكاتب لا يسكن وطنًا، بل يسكن حروفًا. لا يسير على الأرض، بل يسير على السطور. لا ينتمي لقبيلة، بل لقبيلة المعنى، وجماعة الخاسرين المنتصرين. هو واحدٌ من أولئك الذين لا يُؤخذ برأيهم في السياسة، ولا يُنتخبون في المجالس، لكن كلماته تُخلّد أكثر من الخطباء، ويُسمَع صوته بعد موته أكثر من جلبة الواقفين على المنصّات.

وما أعظم أن تكون الكلمات نداءات استغاثة تُطلق في وجه العدم، أن تكون كالعواء في ليلٍ بهيم، أو كنشيدٍ يُرفع فوق ركام الحقيقة. إن الكاتب لا يُرضي القراء، بل يُخاصمهم أحيانًا، لا يُدهِش، بل يُوجِع، لا يُهادِن، بل يُواجِه، لأنه يرى ما لا يُرَى، ويسمع ما لا يُسمَع، ويشعر بما يهرب منه الجميع.

لهذا، فالكتابة ليست هواية نمارسها في المقاهي، بل استغاثة نرفعها من قيعان نفوسنا. ليست ترفًا، بل نَزفٌ مكتوم. ليست زينة، بل نجاة. وما كل من يكتب بكاتب، إلا من امتُحن ونجا بالحروف، من احترق وترك الرماد على الورق، من مات ولم يُدفَن، فدفن صوته في لغةٍ لا تموت.

وإنّي لأعلم، حين أمسك القلم، أنني لا أكتب كما يكتب أهل الدنيا، بل كما يتهجّى الفناءُ معنى الخلود. أكتب كما يتوضأ العاشق بالحرف قبل أن يسجد على ورقةٍ بيضاء. أكتب كمن يصلي بلا قبلة، ويصوم بلا فجر، ويؤمن بلا مذهب. لا أبتغي إعجابًا، ولا أنتظر تصفيقًا، فما أكتبه ليس زينةً للحضور، بل بكاءٌ للغائبين.

إنّ الكتابة عند العارفين ليست مهنة، بل مجاهدة. هي خلوةٌ في محراب المجاز، واعتكافٌ في معبد الحرف، حيث الحرف نقطة، والنقطة كونٌ، والكون شوقٌ إلى المعنى. أكتب كما يتيمّم العارفون بالتراب حين تفقد الأرض ماءها. أكتب لأن الكتابة عندي ليست طقسا دنيويًا، بل عبورٌ إلى ما وراء الحرف، إلى حيث يسكن المعنى في غيب الروح.

فيا من تظن الكتابة هواية، سل النائحين على أبواب الصمت، سل القتلى الذين لا قبور لهم إلا الكتب، سل الذين يخبئون وجعهم في دفاتر لا يقرؤها أحد. قل لهم: أما آن لكم أن تصمتوا؟ فسيجيبك الحرفُ النازف: نحن لا نكتب... بل نستغيث.

***

د. علي الطائي

 

يتراءى لي ذاك الخيط التصاعدي الذي يربط مراحل تجربة الفنان موفق مخول وفق تسلسل منطقي بدءاً من مواضيعه الاجتماعية وشخوصه المحتشدة المخلصة والملخصة لظلال الشكل الواقعي، والتي تعكس موائد فرح وطقوس احتفالية إلى لمساته الأكثر تلقائية وعفوية وشفافية والتي تعكس بانوراما لونية بحس تعبيري وتجريدي.

وبالعودة لتلك اللوحات البانورامية والتشاركية مع طلابه على جدران دمشق نجد أنها (رغم ارتباطها بمفهوم تطبيقي) شكلت التصورات الأولية لمواضيعه الموسومة بالتكثيف والتكرار، كما أغنت ذائقته الفنية و أكسبته خبرة مكنته من السيطرة على المساحات الكبيرة بنَفَس المصمم الإداري، ومكنته أيضاً من اكتشاف واستكشاف إمكانات بعض الخامات المستخدمة والطاقة المستترة خلفها.

تبدو أعمال مخول الأولى حائرةً ما بين شطرين إحداهما يخرج بخجل من آتون أعماله التطبيقية والجدارية، والآخر ينحو بثقة لاتجاه مرحلي أكثر نضجاً وفنية، فهو يؤكد على ذاك الحضور الإنساني والروحاني من خلال تلك الهالة المضيئة التي يحيط بها وجوه شخوصه كما تعكس أعماله في تلك المرحلة إيقاعاً أكثر رتابة من حيث كونها لا تستريح بعيداً عن ذاك الزخم المتواصل لتلك الظلال المحتفية بطقوسها حتى تكاد تسقط في فخ الملل والرتابة المرتبطة بمساعيه لإشغال سطوحه بأشكال متشابهة كغاية وهدف بحد ذاته.1508 saqor

 وهو يستدرك تجاربه الأولى عبر تلك النقلة النوعية اللاحقة التي عكست مدى تفاعله مع المحيط ومع الموضوع المعالج والحدث حين أغنى مساحاته بلمسات لونية راقصة وتنويعات خطية أكثر تلقائيةً و تناغماً بالدرجات، وأكثر غنىً بالقيم اللونية لتعكس عبر ذاك الزخم مشاعر مرهفة لباحث عن الربيع في ثنايا ذاته الموجوعة وليؤكد أيضاً على قيمة ذاك الخواء في تجاربه الأولى مبرراً ضرورتها وحضورها كما سنابل عطشى.. كما بذور تنتظر المطر.. كما سكون يسبق العاصفة .. كما إيماءة عشق خائفة .. ليتبلور ذاك التطور الحلزوني المتصاعد في تجاربه الجديدة، ولنتوخى رتابة لاحقة لا بد منها في كل مرة ليتمكن من الخروج من آتونها، وهي لن تتمكن إلا حين تسيطر وتفعل فعلها في ذاته المسكونة والمشحونة برغبات التمرد والتغيير لتتحول إلى سكونٍ آخر سابقٍ لعاصفةٍ جديدةٍ لاحقة.. ونحن لا نملك حيال كل ما هو لاحق سوى التخمين وسأسمح لنفسي باستباق تصوراته وفق هذا الاحتمال فقد يستريح اللون تدريجياً من هلوسات رقصه في الخلفية عبر مساحات أكثر وحشية أو حيادية وألوان مشكلة من خليط لمساته الربيعية، وقد يلخص ذاك الزخم اللوني بلمسة فرشاة أو رشقة لون تختزن في قلبها كل الربيع وتختصر عند أطرافها شكلاً آخر بديعاً بحيث يخدم تكويناته لتصير أكثر تنوعاً في مجمل أعماله... وفي مجمل أعماله أقول سيواصل مخول رحلته في المكان وحيث كان إلى أن يصاب بالتخمة والإشباع ، حينها سيلح عليه جنون المبدع الرافض للتكرار لا ليعيد بل لينبثق كالشمس من قلب عمله السابق.. إنما عبر تصورات جديدة وشكل جديد.1509 saqor

الفينيق حسين صقور

 

في المثقف اليوم