أقلام فكرية

مأزق ايوثيفرو وأصل الاخلاق؟

هل ان ما يرغبه الله يكون هو الصواب لأن الله يرغب ذلك، او ان ما يرغبه الله هو بسبب كونه هو الصواب؟ وبطريقة اخرى "هل ان ما هو جيد اخلاقيا امر به الله لأنه جيد اخلاقيا، ام انه جيد اخلاقيا لأن الله أمر به؟". هذا السؤال جسّد مأزقاً للمؤمنين بالله بينما اعتبره آخرون مأزقا زائفا، وهو لا يزال حتى اليوم موضوعا للنقاشات الثيولوجية والفلسفية. سقراط يلتقي ايوثيفرو خارج محكمة اثينا، حيث استُدعي سقراط الى المحكمة من جانب ميليتوس بتهمة انتهاك الاخلاق، اما ايوثيفرو فهو جاء الى المحكمة لمقاضاة والده الذي ارتكب جريمة قتل. ايوثفرو يريد معاقبة والده لأنه يريد اولا تطهير نفسه وعائلته من التلوث الديني الذي تسببت به الجريمة، وثانيا هو يرى من العدل مقاضاة اي مخطئ سواء كان ذلك الفرد قريبا له ام غريب . سقراط يمتدح ايوثيفرو مقترحا عليه ان يكون خبيراً عظيما في المسائل الدينية اذا اراد معاقبة والده على مثل هذه التهمة المثيرة للجدل. ايوثيفرو أعلن بانه يعرف حقا كل ما يجب معرفته حول المقدس. سقراط يطالب ايوثيفرو ليوضح له ماهية القداسة لأن هذا ربما ينفعهُ في محاكمته امام ميليتوس.

في البدأ،يقترح ايوثيفرو ان القداسة او التقوى هي معاقبة منْ يخالف الاديان. لكن سقراط يجد هذا التعريف غير مقنع طالما هناك العديد من النصوص الدينية التي لا تتضمن معاقبة منتهكي الاديان. هو يسأل ايوثيفرو ان يعطيه تعريفا عاما يحدد فيه خاصية واحدة تشترك فيها جميع النصوص المقدسة. سقراط أكّد بان منْ يدعو الى الاخلاق كتبرير لأفعاله يجب ان يمتلك قدراً عاليا من الحكمة. "الحكمة" تشير الى معرفة عميقة بالاخلاق. هذه المعرفة يجب ان تتحقق فيها الشروط التالية:

1- ان تكون دقيقة جدا

2- ان تكون موضحة لماهية الاخلاق

3- ان تقبل بان الاخلاق هي ذاتها في جميع الافعال

4- ان تعترف بسمة او خاصية واحدة (شكل) في جميع حالات الاخلاق

5- ان تميّز بين الاخلاق واللا اخلاق كمتضادين.

ايوثيفرو يقترح ان ما هو مقدس هو ما تتفق عليه جميع الآلهة. لكن سقراط يطرح حجة متقنة يبيّن فيها ان الاثنين (المقدس وما توافق عليه الآلهة) ليسا متساويين. ما هو مقدس توافق عليه الآلهة لأنه مقدس، لذا فان ما هو مقدس يقرر ما توافق عليه الآلهة. يتبع من هذا الاستنتاج ان ما هو مقدس لا يمكن ان يكون نفس ما توافق عليه الآلهة، طالما ان احد هذين الاثنين يقرر ما تتم الموافقة عليه من جانب الآلهة بينما الآخر يتقرر بتلك الموافقة. ايوثيفرو يقترح لاحقا ان القداسة هي نوع من التبادل مع الآلهة، حيث نقدم لهم التضحيات وهم يمنحوننا الصلوات. تضحياتنا لا تساعدهم بشيء وانما هي ببساطة توفر لهم السعادة. لكن سقراط يرى ان القول بان القداسة تسعد الآلهة هو مشابه للقول ان القداسة هي ما توافق عليه الآلهة، وهو ما يعيدنا مرة اخرى الى نفس المأزق. وبدلا من ايجاد تعريف مقنع، يغادر ايوثيفرو معلنا عن عجزه امام سقراط.

 

توضيح المأزق: الخيار الاول

(ما هو صحيح يكون صحيحا لأن الله أمر به)، ويُسمى احيانا بنظرية الامر الديني.

يقوم هذا الخيار على فكرة عدم وجود مستويات اخلاقية عدى رغبة الله: بدون اوامر الله لا لا وجود لشيء صحيح او خطأ.

هذه الفكرة دافع عنها Duns Scotus بالقول ليس جميع الوصايا العشر تعود للقانون الطبيعي. فهو يقول اذا كانت واجباتنا تجاه الله هي حقيقية بالتعريف وواضحة ولا يمكن تغييرها حتى من جانب الله، فان واجباتنا تجاه الاخرين هي اُمرت عشوائيا من الله وهي ضمن قوته بحيث يمكنه تعديلها او استبدالها.

 

المشاكل

هذا الخيار للمأزق يواجه عدة مشاكل

1- لا اسباب للاخلاق: اذا لم يكن هناك مستوى اخلاقي غير رغبة الله، عندئذ تكون اوامر الله اعتباطية (اي مرتكزة على رغبة خالصة). هذا يعني ان الاخلاق هي بالنهاية غير مرتكزة على اسباب."اذا كانت نظرية الامر الديني صحيحة ، فان اوامر الله ونواياه يجب ان تكون عشوائية ، لكن الاخلاق لا يمكن ان تكون معتمدة كليا على شيء عشوائي لأننا عندما نقول ان موقفا اخلاقيا معينا حصل، فهو لوجود سبب لحدوث ذلك الموقف الاخلاقي دون غيره".

2- العشوائية تعني ايضا ان اي شيء يمكن ان يصبح جيدا واي شيء يمكن ان يصبح سيئا بالاعتماد فقط على اوامر الله.

3- الاخلاق طارئة: اذا كانت الاخلاق تعتمد على الرغبة التامة لله، فان الاخلاق ستفقد ضرورتها. اذا لم يكن هناك شيء يمنع الله من حب اشياء مختلفة عما يحبه الله حقا، عندئذ يمكن ان تتغير الخيرية من عالم الى آخر ومن وقت الى آخر.

 

الخيار الثاني:

(ما هو صحيح هو ما أمر به الله لأنه صحيح). هذا الخيار جاء تحت عدة عناوين مثل العقلانية، الواقعية، الطبيعية، الموضوعية.

الخيار اعلاه ينطوي على ان هناك معايير اخلاقية مستقلة، اي ان بعض الافعال هي صحيحة او خاطئة بذاتها وبشكل مستقل عن اوامر الله. هذه الرؤية وافق عليها سقراط وايوثيفرو. مدرسة المعتزلة ايضا دافعت عن الفكرة. اما توما الاكويني فقد ميّز بين ما هو خير او شر بذاته وبين ما هو خير او شر لأن الله أمر به.

 

المشاكل المترتبة على الخيار

سيادة الله

اذا كانت هناك معايير اخلاقية مستقلة عن ارادة الله، عندئذ سيكون هناك شيء ما لا يتمتع الله تجاهه بالسيادة. الله ملزم بقوانين الاخلاق بدلا من كونه مؤسس لها. كذلك، يعتمد الله في خيريته على المدى الذي يمتثل فيه للمستويات الاخلاقية المستقلة. وهكذا سيكون الله غير مستقل تماما.

 

المقدرة

هذه المستويات الاخلاقية ستقيّد مقدرة الله. لا يستطيع الله معارضتها باصدار اوامره وجعل ما هو شر خيرا. هذه النقطة هامة في الثيولوجيا الاسلامية. القيم الموضوعية بدت عاملا مقيدا لمقدرة الله في عمل ما يرغب. لكن الشريعة الاسلامية تخلصت من المشكلة المحرجة وذلك بانكارها وجود القيم الموضوعية التي تعمل كمعيار لفعل الله.

 

الاخلاق بدون الله

اذا كانت هناك مستويات اخلاقية مستقلة عن الله فان الاخلاق ستحافظ على سلطتها بصرف النظر عن وجود الله . هذا الاستنتاج طرحه المنظّر السياسي Hugo Grotius.

 

نظرية مايكل ليفين

ان مأزق ايوثيفرو(احد اشهر حوارات افلاطون) يلخصه مايكل ليفين من جامعة ستي في نيويورك.

وكما كتب ليفين في جوابه لارسطو والذي جاء بعنوان(كيف يمكن للعلوم والفلسفة قيادتنا لحياة اكثر معنى) بعد 24 قرن من اثارة ذلك السؤال، فان المأزق بقي مربكاً لكل من حاول الالتفاف عليه، تماما كما حصل لايوثيفرو في نهاية الحوار بقوله (وقت آخر ياسقراط، انا في عجلة من امري الآن، ويجب ان اذهب).

اول شيء يجب فهمه حول حوار ايوثيفرو هو انه ليس نقاشا ضد وجود الله. سقراط – رغم انه بدا في بداية الحوار مدافعا عن نفسه ضد تهمة انتهاك الاخلاق، والتي من اجلها عوقب بالموت من جانب دولة اثينا – لكنه لم يكن ملحدا. انما، السؤال الذي اثير يتعلق بمصدر الاخلاق ذاتها:"ماهي الفضيلة ، وماهي اللا فضيلة؟"

الشيء الثاني المطلوب فهمه هو ان جدال سقراط قابل للتطبيق بصرف النظر عن الخصائص المحددة للآله ، مادام المرء يفترض ان الاخلاق تأتي من مثل هؤلاء الالهة.

وسواء ركزّنا تفكيرنا على آلهة الاولمبك (كما يبدو في عمل ايوثيفرو) او في الآلهة الاكثر بعدا والأقل تقلباً (النوع الذي يعتقد به سقراط)، فلن يؤثر ذلك على مصداقية النقاش.

تلك المصداقية تقوم على الانقسام التالي: اما ان الاخلاق هي كل ما يأمر به الله، او ان الله يوافق على اشياء معينة لأنها اخلاقية.

لماذا هذا الانقسام بالضبط يشكل مشكلة للبعض، مثل ايوثيفرو، الذي يعتقد ان الاله هو المصدر النهائي للاخلاق؟ السبب هو لو اعتقد المرء بالخيار الاول وهو – ما يسميه ليفن نظرية "الرغبة الخالصة"—عندئذ من الضروري سيعترف المرء ان الاخلاق هي مسألة مقررة بحكم الواقع. اذا كان الله يقرر ان التطهير العرقي والاغتصاب جائزان، عندئذ سيكونان جائزين (هذا معروف جيدا،وقد حدث فعلا في عدة نصوص من العهد القديم، ولكن تلك قصة اخرى).

حينما ينسحب ايوثيفرو من هكذا قبول غير مريح،هو يحاول اعتماد الخيار الثاني، وهو ما يسميه ليفن بنظرية "الرغبة المرشدة". ولكن المشكلة هنا هي ان هذا الطريق يعترف ضمنا بان هناك مستويات اخلاقية خارجية(مستقلة) عن الله ذاته، وبذلك تكون الاخلاق لم تنشأ منه.(وما يفترضه هذا الاستنتاج هو اننا كاناس معرضون للفناء ربما لا نحتاج "الاله الوسيط"،لمعرفة ما هو اخلاقي وما هو غير اخلاقي، نحن نستطيع الوصول اليه عبر مصادر اخرى، كأن تكون على سبيل المثال عبر التحقيق الفلسفي).

بالطبع، كل ما قيل اعلاه هو مشكلة حينما يكون المرء اخلاقيا واقعيا.(البعض يميل نحو النوع الطبيعي للاخلاق الفاضلة، اسلوب الرواقيين).وبكلمة اخرى، لا نعتقد ان هناك قانون اخلاقي مستقل عن خصوصيات بايولوجيا الانسان وثقافته، ولكن من الممتع اللعب الى جانب سقراط وايوثيفرو، طالما الكثير من الناس هم اخلاقيون واقعيون، اما بفعل الطبيعة الفلسفية كسقراط وافلاطون او كمؤمنين بالله كايوثيفرو او اي شخص يتبع الاوامر الدينية في قضايا الاخلاق.

وكما يقول ليفن في بداية ورقته،"الطريقة الصحيحة للتعامل مع المأزق الفلسفي هي ان نكشف الافتراضات الزائفة المخفية التي تسيء فهم البدائل الاخرى لتعرضها اما كمتضادة او شمولية ". من المؤكد ان هناك تراث طويل من اتهام افلاطون بالتورط في المغالطة (اللا رسمية) للمأزق الزائف.

اول شيء للقيام بهذا هو ما قام به توما الاكويني. هو اعترف بان شيء ما هو جيد لأن الله قال ذلك، لكن هذا ببساطة بسبب طبيعة الله ان يكون جيدا، والتي تضمن ان اوامره ستكون حقا اخلاقية.

كويني يعلن بان اله المسيح هو خير بطبيعته (على عكس آلهة الاولمب المزعجين،مع كل ما حملوه من ضعف بشري). ولكن حتى مع افتراض صوابية كويني حول طبيعة الله (المرء سيتجاهل مرة اخرى الكثير مما يتفق عليه العهد القديم)،فان هذا لا يجعلنا بعيدين جدا عن الخيار الثاني : كيف يتسنى لنا معرفة ان طبيعة الله خيرة؟لكي نقرر هذا الحكم بدون ارتكاب الجدل الدائري(وفي نفس الوقت دون الخضوع المخيف للخيار الاول) يبدو اننا يتوجب علينا امتلاك بعض المعايير المستقلة لـ "الخير".

هنا تبدأ المساهمة الاصلية لورقة ليفين في النقاش . مايكل يحلل فكرة استقلالية الاله وفق مستوى معين من القيمة، ويزود اسبابا "لتفكيك"المأزق. هو يبدأ مقترحه بالاعتراف ان خيار "الرغبة الخالصة" هو خيار جامد لا يحقق اي تقدم، وهو يشير الى ان "نظرية الرغبة المرشدة ليست سيئة كما تبدو".

يستنتج ليفين انه "عندما يتم تصور الله كمستقل عن اي شيء آخر وراء ذاته، فان الاستقلالية تعني الانطولوجي والسببي"، لذلك يبقى الله مكتفيا ذاتيا ويتصرف كليا بذاته"، حتى عندما يختار المرء الخيار الثاني من المأزق. طالما ان الاعتمادية الانطولوجية-السببية تنطبق فقط على "الجواهر"، عندئذ "الحل او تفكيك مأزق ايوثيفرو يكمن في الاعتراف بان الخيرية والمستويات الاخلاقية والحقيقة الاخلاقية ليس فيها جواهر .. وانها لا تكشف عن اي قوة سببية".

ذلك يعني، كما يذكر مايكل، انه حتى لو ان الافعال الصائبة هي صائبة بمقتضى شيء آخر غير رغبة الله، فان صوابية الفعل الصائب .. هي ليست ذلك النوع من الاشياء التي يمكنها خلق وتغيير او الحفاظ على الله.

غير ان هذا لا يحل مشكلة ايوثيفرو ابدا. المشكلة التي اثارها سقراط هي ليست حول طبيعة الله، وانما حول طبيعة الخيرية (الاخلاق). حتى عندما يقتنع احد ما بجدال ليفين ، فان المأزق يبقى كما هو، وطالما هو الغى نظرية الرغبة الخالصة ، وان الله لم يكن عرضة للرغبة المرشدة (لأن الصوابية هي ليست جوهرا)، فنحن لا نزال تُركنا باستنتاج ان المستويات الاخلاقية هي خارجية ومستقلة عن الله.

 

هل هناك خيار آخر؟

هناك منْ يرى ان هذا المأزق هو مأزق زائف، ولا يوجد هناك خياران وانما ثلاثة خيارات.

المسيحي يرفض الخيار الاول القائل بان الاخلاق هي وظيفة عشوائية لله، كما يرفض ايضا الخيار الثاني الذي يرى ان الله مسؤول امام قانون اعلى، فلا يوجد هناك قانون فوق الله.

الخيار الثالث هو ان هناك مستوى موضوعي موجود، وهذا المستوى الموضوعي ليس خارجيا بالنسبة لله وانما هو داخلي. الاخلاق تتأسس على السمة الثابتة لله الذي هو خير تام. اوامره ليست نزوات خالصة وانما تتجذر في قداسته. الله لا يمكن ابدا ان يوافق على تعذيب الاطفال مثلا، لأنها ليست مسألة اوامر وانما مسألة طبيعة ذاتية. فالجواب المسيحي يتجاوز المأزق كليا حين يعتبر الاخلاق متجذرة في طبيعة الله وليست سابقة عليه منطقيا.

 

حاتم حميد محسن

.............................

المصادر

1- The philosophers magazine, 05 October 2015

2- Euthyphro dilemma, Sparknotes philosophy guide

3- Wikipedia, the free encyclopaedia

  

في المثقف اليوم