أقلام فكرية

أفول الأصنام وصناعة الأوهام.. قراءة حُرة في فلسفة نيتشه

علي المرهج"يوجد من الأصنام أكثر مما يوجد من الحقائق"

(نيتشه: أفول الأصنام)

كتب نيتشه كتابه "أفول الأصنام" أو "غسق الأوثان"، والأصنام تعني عنده ما يعيش الإنسان من أوهام يعتقد بها وكأنها هي حقائق، وما أكثرها في عالمنا، فهو يُعيدنا لفكرة الكهف الإفلاطوني، أو أوهام الكهف كما سماها فرنسيس بيكون في كتابه "الأوركانون الجديد".

طرح إفلاطون فكرته حول الكهف، فوصف الناس الذين يعيشون في الكهف وهم مشدودي الأيدي والأرجل وأعينهم عكس اتجاه الضوء، يرون الضوء فظنوا أنه الحقيقة، فهم مخدوعون. ورغم نقد نيتشه الصارم للفلسفة الإفلاطونية بطابعها التأملي المثالي، وربطها الأخلاق بالمعرفة، إلَا أننا نجد أنه قد أفاد في كتابه هذا من إفلاطون وفرنسيس بيكون.

بقيَ نيتشه أميناً على توجهه في نقد الفلسفة المثالية والدين المسيحي، ينتقد الروح الأبولونية التي تمثلت في فلسفتي سقراط وإفلاطون في دفاعهما عن العقل واليقين المعرفي المرتبط بوعي أخلاقي مُنظم، ومحاولته إحياء الأخلاق الديونيسية المغروسة جذورها في الحياة الدنيا "واقعنا المُعاش"، والدفاع عن قيم الإنسان بوصفها مجموعة من الغرائز والتناقضات النابضة بالحياة ببعدها الَلذي، الذي غيَبته الفلسفة المثالية والديانة المسيحية، لذلك نجده يصب جام غضبه بدايةً على سقراط الذي خدع الناس وخدع نفسه بقيم هي ليست من طبيعة الوجود الإنساني، ولم يستثن بنقده هذا تلميذ سقراط، فيلسوف المثالية الأشهر، فكلاهما قد صيَر الإنسان وكأنه محض عقل، ونسيَا أن الغريزة هي مُحرك الطبيعة الإنسانية، وطريقنا لفهمها، فكان نيتشه بحق فيلسوف "الإنقلاب" "إنقلاب القيم"، فبعد أن كانت في عصرها التقليدي وما تلاه في فلسفة العصور الوسطى، إسلامية كانت أم مسيحية، التي وصفها بأكثر من مرة بكتاباته على أنها "وريثة الأرستقراطية" تفشت معها الترويج لأخلاق الطاعة، ورغم توظيف الفلسفة فيها لصالح الدين، أو التوفيق بين العقل والنقل، إلَا أنها تسعى لجعل الدين مُساوقاً لمقولات العقل، والعكس صحيح، وكذا الحال في الفلسفة الحديثة، رغم الفعل المعرفي العقلاني الديكارتي والإنتصار للعقل، ولكن خط سير الفلسفة العقلاني لا يشي إلَا بإعادة الهيبة والحضور للفلسفة المثالية السقراطية الإفلاطونية برؤية حداثية تنتصر للعقل مرة أخرى، وتُغيب بعض من فعل الغيب والأسطرة الدينية التي لم يخلو منها فكر سقراط وإفلاطون.

لذلك كانت فلسفة نيتشه إعلان لنهاية حُقبة تقادمت وبداية حُقبة جديدة بدأت بالتمرحل الزمني والتحقيب التاريخي لفكر جديد هو فكر "ما بعد الحداثة"، فكر يتجاوز الصناعة الصنمية للأفكار والذوات وحتى الموضوعات، فلا قُدسية فيه إلَا للإنسان، بما ينتج من موضوعات جديدة تخترق أفق التوقع وتُزيل غبار المُتراكم من مألوف الفكر.

فلسفة نيتشه هي فلسفة "القيم المفتوحة"، وتجاوز المألوف لقيم مرسومة سلفاً، سواء أكانت هذه القيم موروثة من دين سبق، أو من فلسفة سبقت، وربما من فلسفة بطور التكوين، فلا تكوين إلَا لما نشتهي نحن بنو البشر من قيم لا قيمة لها إلَا لأنها تمنحنا طاقة تفسيرية وفهماً لمُتغيرات عصرنا الذي نعيش فيه، ولربما تكون هذه القيم غير صالحة لعصر قادم تقادمنا فيه وتقادمت قيمنا التي احتكمنا لها في عصرنا، فمن يكون منَا ممن تعج روحه بالنزعة الدينوسيوسية ممن يمتلك القدرة على الفهم وفق تحولات الواقع وتبدلاته، فهو بلا شك أكثر قدرة على العيش في عالم مُتغير، إنه "الإنسان الفائق" "السبرمان" الذي يقلب مبحث ميتافيزيقا الوجود إلى مبحث "جينالوجيا" خلق القيم الجديدة، عبر تفكيك أخلاق عصور مضت، وإرساء أخلاق جديدة، تستدعي صناعة المعنى الممكن لحياتنا بكل مُتغيراتها لا لخلق أوثان جديدة، بل لتحطيم كل الأوثان بما فيها أوثاننا التي خلقناها، كي نُوجد "إنسان مُفرط في إنسانيته" لا لسذاجة فيه أو فينا كما يظن بعض من قُراء نيتشه، بل هو إنسان لا يرتضي لنفسه ولا للآخرين وضع خط سير مُحكم لحياة الجمع من "الجبر إلى القبر"، فكفيل بكل إنسان حُر أن يختط طريقه بنفسه بعيداً عن الوصاية، فكلنا سادة لا عبيد، حينما نثق بقدراتنا الذاتية في الخلق والابداع، "وسيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنَا خير من تسعى له أُممُ"، والمشكلة في ثبات القيم عند الجمع من الفقراء، فجُلهم ممن يخشون تحرراً ضناً منهم أنهم سيخسرون مكسباً سريعاً، فيقبلون بالخضوع والخنوع، لأنهم تخلوا عن "أخلاق القوة" بحكم ضيم (الجرا والصار) على طول التاريخ لمن مثلهم على يد من وصفوا بأنهم نبلاء، فقبلوا بنفي إرادتهم للحياة لصالح هذا القوي القاهر الغالب المُحتكر القاروني بلغة مدني صالح، ورغم أن هناك من يصف نيتشه بأنه "فيلسوف القوة" والمدافع عنها، وهذا صحيح، إلَا أنه قوة ليست مُخصصة لإنسان أبيض أو أسود، إنما هي قوة يدعو نيتشه كل إنسان يبتغي حياة الحرية أن يتزيا بزيها، فالحرية أبقى وأليق بالإنسان ممن تعقل عصر الأنوار، وهي من تجعل الإنسان سيد نفسه، لا تبعية فيها لأحد، وربً سائل يسأل: هل هذا يعني أنها "فوضى القيم"؟، فلكل إمرء ما نوى، وبالتأكيد ليس هذا الحال، ولم يدر بخلد نيتشه هذا المنال، ولكن ما دار في خُلد فيلسوفنا وما يدور ـ كما أظن ـ هو البحث عن "الإنسان المُفرط في إنسانيته"، وفي هذا الرأي منال لحرية إنسان طال نُشدانها في عصر الحداثة ولم تُطال، وهل بمن كان إنسان في غاية الإنسانية يقبل أن يُضام أخيه الإنسان؟، ولكنها دعوة من فيلسوف خبَر الحياة في تعقلها والجنون، في توجه الجمع نحو العقلانية المُفرطة في الفلسفة المثالية، فغاب إنسان طيَب فيها (يسير جنب الحيط) كما يقول أخواننا المصريون، وإن حضر، فحضوره سيكون والعهدة لعيَ أنا كاتب المقال سيكون بقدر ما تحضر الآنية المملؤة بالماء ساعة عطش، ولكنها ستُرمى بعد الرويَ، ولن تكون بالتأكيد هي كل مُبتغى الوجود، فالوجود ينطق بقيمة عُليا هي الإنسان الذي غيَبته فلسفة الحداثة لصالح التعقل، فصرنا أسارى العقل، فجعلنا العقل قبلتنا، ولم نُدرك أن لنوازع الإنسان ورغباته وشهواته، قبلةً أخرى لم نُدرك بعد مراميها، ولكن نيتشه السابق لعصره وعصرنا أدرك المغزى والمعنى والمرمى، فكانت فلسفة ما بعد الحاثة التي تُدين له الكثير، يُشاركه ماركس، وفرويد، اللذين ملأوا الأرض إعتراضاً ونبذاَ للمألوف السائد من الأفكار، فكسَروا كثيراً من الأصنام التي أحاط الإنسان البسيط نفسه بها، ودعوته لأن يحيا كما يُريد لا كما يُريد الآخرون من سدنة الفكر والمنافحين عن وجود الصنم.  

 

د. علي المرهج – استاذ فلسفة

 

في المثقف اليوم