أقلام فكرية

قراءة في اصل الدين لفيورباخ (2)

علي محمد اليوسفالطبيعة ونزعة التدّين: ان (جثري) في معرض حديثه عن تعالق الدين واللغة عند الفيلسوف بروديكوس، (يذهب ان الانسان البدائي والذي بدا له ان كثيرا من الظواهر الطبيعية معادية له، ومع ذلك كان معجبا جدا بالهبات التي تزوّده بها الطبيعة لتسهيل حياته ورفاهيته).1

هذه الطبيعة المادية في مجموع تكويناتها وتنوعاتها الارضية، لم تكن طبيعة جامدة (روحيا) بمعنى الثبات والسكون الفيزيقي الذي يعدم تساؤلات ما وراءها ، تساؤلات الانسان الكائن النوعي في ذكائه المتفرّد به عن باقي المخلوقات والكائنات (عقليا - روحيا) وفي خياله التأملي الميتافيزيقي في تطلعّه الدائم الى ماوراء ظواهر الطبيعة.

(ان مصير الانسان هو أرادته وتفكيره،وبمجرد أن يتخطى المرحلة البدائية، ويصبح كائنا يقرر مصيره على أسس وقوانين تتسم بالحكمة والعقل، عندئذ تظهر له الطبيعة والعالم كشيء يعتمد على فكره وأرادته وتأثره بهما).2

وحين يرتقي الانسان بفكره وأرادته فوق الطبيعة، فأنه يصبح خارقا للطبيعة، ويصبح الأله أيضا خارقا للطبيعة.3 هنا يتوجب التنبيه أن لا الأله يخرق قوانين الطبيعة حقيقة ولا بمقدور الطبيعة خرق قوانينها أيضا من أجل ألانسان،لكن بمقدور الانسان منفردا خرق قوانين الطبيعة من أجل رغائبه وأشباع حاجاته وملذّاته الحسيّة والروحية معا.

كنا اشرنا في الجزء الاول من هذه الدراسة أن انتقال الانسان من الحالة الحيوانية الانقيادية للطبيعة، الى الحالة العقلانية هو انتقال نوعي مفارق عن علاقة تكيّف وانقياد الحيوان لها، أي (الطبيعة). وحين يعلو الانسان فوق الطبيعة، فبماذا وكيف؟ فهو يعلو عليها بخاصّيتي الذكاء والتخيّل اللتين لا يمتلكهما الحيوان في علاقته المتكيّفة مع الطبيعة.وبهذا يتسيّد الانسان الطبيعة، ويكون تعامله معها غير متكيّف سلبيا انقياديا لها كما عند الحيوان، لذا نجد الانسان في علاقة رأسية أحتدامية متصارعة مع الطبيعة. وبهذا النوع من العلاقة نجد الانسان يعلو على الطبيعة ولا تعلو هي عليه.

واكثر مما ذكرناه فان فيورباخ يصف الآلهة والتوحيد الديني قائلا(أن التأليه أوالتوحيد انما ينبعان فقط من ربط الانسان ألطبيعة بنفسه،لأن الطبيعة تخضع نفسها للانسان دون ارادة ولا وعي منها).4 كما أن الطبيعة غير ملزمة ولا بمقدورها خرق القوانين الطبيعية من أجل تحقيق رغائب الانسان كما أشرنا سابقا. فهي غير عاقلة حسّيا.

وبحسب فيورباخ أيضا (فأن الآلهة قادرة على فعل ما يرغب الانسان، بمعنى أنها تطيع وتلبّي قوانين قلب الانسان، ومثل قلبك يكون الهك، فعلاقة الانسان بروحه، تعادل علاقة الآلهة بالعالم المحسوس). 5 هذه العبارة لا تقول أكثر من أن الانسان مبتدأ ومنتهى الدين، فكلتا العلاقتين علاقة الانسان بروحه ، وعلاقة الانسان بالآلهة هي علاقة افتراضية خيالية معدومة التحقق الحقيقي الواقعي، يعيشها الانسان لوحده ولا تشاركه الطبيعة ولا الأله بها، ولا فارق بين العلاقتين من الناحية العملية لأن مصدر خلقهما هو الانسان فقط. فهي علاقة الانسان مع نفسه فقط ولا وجود لآلهة ترتبط بالمحسوسات. ولتأكيد ما ذهبنا له ومن جهة ثانية في تفسيرنا العبارة، فعلاقة الانسان بروحه علاقة وجدانية نفسية لا وجود حسّي او ادراكي مادي يشير لها، لذا هي تعادل علاقة الآلهة الافتراضية بالمحسوسات والماديات والطبيعة والعالم التي أيضا هي غير موجودة سوى في مخيّلة وتفكير الانسان فقط.ومتى ما تعاملت الآلهة بالمحسوسات كما يفعل ويفهم البشر، تتوقف ان تكون آلهة تعبد تمتاز بخصائص ايمانية غيبية تخييلية غير منظورة ولا محسوسة.

اذا ما علمنا أن فيورباخ فيلسوف وشاعر أيضا، أدركنا مدى قدرته الفكرية وقابليته الساحرة على تطويع لغة الفلسفة بألفاظ تعبيرية شفّافة موحية تتوارى خلفها المعاني.فقد وضع نزعة التدين عند الانسان مستودعها (القلب) وليس العقل ولا تزال هذه الحقيقة مسّلم بها دينيا، خاصّة في التديّن التصوّفي، او التديّن الفطري فلا فرق الا بوسيلة التعبّد الايماني. فالعقل بمدلولاته الادراكية والحسّية لا يستعمله الانسان في محاولة الاستدلال المنطقي ولا الحسي التجريبي في اشباعه نزعة التدّين عنده،وانما يستعمل عقله في التساؤل التأملي التجريدي الخيالي فقط ، ولا زالت هذه الفرضية تغلب على تديّن أكثر الموّحدين لله.كما يوجد اجماع فلسفي على صحة هذه الفرضية.فالانسان يعمل عقله حسّيا وخياليا تجريديا، بعكس الحيوان الذي يدرك الطبيعة عقليا حسّيا فقط وعلى نطاق محدود جدا قياسا بالانسان، وليس ادراكا عقليا تامليا ذهنيا مجرّدا كما يفعل الانسان، ولا يمتلك قابلية ولا قدرة اعمال العقل خياليا.لذا الانسان يمتاز عن الحيوان بأنه كائن ديني او متديّن، وفي تمايزه ايضا بخصائص نوعية تطرقنا لها في الجزء الاول من دراستنا هذه .

لنمعن النظر جيدا في العبارة التالية لفيورباخ (ان الانسان يفعل من خلال الله،ما يفعله الله حقيقة بنفسه) ص96. هذه العبارة المكتنزة فلسفيا لا تحمل أكثر من تأويل أوحد وحيد يمثّل المعنى، لما كان بدأه فيورباخ في بداية كتابه، من أن الآلهة مصنّعة خياليا من قبل الانسان، وليس هناك من وجود الهي من غير تأمل الانسان واعمال عقله الخيالي في ما وراء الطبيعة، وايمانه بتخليق ما كان قد ابتدعه خيالا انطولوجيا، ويحمل جميع الصفات الذاتية التي يخلعها الانسان عليه، على الهه.

ان عبارة فيورباخ السابقة هذه في تأويلها بمنهجية علوم اللغة في المسكوت عنه الذي يتّخفى المعنى فيها خلف المفردات اللغوية، تلخيصها يكون بأن الاله والانسان هما وجود أنطولوجي واحد هو الانسان فقط في علاقته بكل من الطبيعة والميتافيزيقيا.

أن جميع المصادر البحثية في نشأة الدين تذهب الى أن بداياته حتى الديانات الوثنية منها قبل الاديان السماوية تشير الى الشرق العراق ومصر الفرعونية والهند والصين وفلسطين، ثم انتقلت الاديان الوثنية والميثولوجية والاسطورية والسحرية والطوطمية الى بلاد العالم المأهول آنذاك، وكذلك أنتقل بعضها الى بلاد اليونان والرومان الى ماقبل ظهور اليهودية والمسيحية.

فعلى لسان هيرودوتس يذكر فيورباخ (انه في الشرق يقلل الانسان من قيمة نفسه الى مستوى الحيوان كي يثبت ولاءه الديني،اما عند الاغريق والرومان فأن تأكيد الانسان لكرامته تضعه في مصاف الالهة ). ص 100 من الكتاب00 طبعا في هذا مغالطة آرية عرقية، اذ الى وقت ليس ببعيد تاريخيا فان الاغريق كانوا يضّحون بالاطفال قرابين للآلهة زيوس وجوبيتير او غيرهما من الأرباب ولم تكن تلك حيوانية دينية، بعدها بزمن أيضا ليس ببعيد كانت قبائل الفايكونغ تضّحي بالقرابين الآدمية ارضاءا للأله (أيتش). واخلافهم اليوم من أرقى وفي مقدمة دول العالم حضارة وانسانية.

المعجزة والانسان

ولمّا وجد الانسان الطبيعة عاجزة عن اجتراح المعجزات في مساعدته سد احتياجاته،ومنعها ضرر الظواهر الطبيعية التي تحدق به أو تستهدفه،أحال هذا العجز الطبيعي الى الآلهة في اجتراح المعجزات فأصبحت (المعجزات جزءا لا يتجزأ من الحكم الالهي والعناية الالهية) وتلك المعجزات آيات برهانية قاطعة في ترسيخ المعتقد والايمان بالمعجزة كمسلمّات ترسيخ الايمان الغيبي، وقدرتها الاعجازية في تغيير حياة الانسان بالدعاء الخالص. وفي انكار المعجزات يعني انكار الآلهة.

وخلود الآلهة وفناء الانسان يعبر عنهما فيورباخ (يعيش البشر وتتسم حياتهم بالالوهية، ولكن للاسف لا تستمر حياتهم الى الابد، فهم يموتون، وتبقى الآلهة خالدة). ص 103

ان امتلاك الانسان للخير والصفات الاخلاقية والنظم النفعية له، التي يستمدّها من الصفات الالهية في محاولته محاكاتها انما هي حتما تكون وبالضرورة الايمانية ناقصة ومحدودة حسب قدراته. في حين تكون تلك الصفات مطلقة وسرمدية عند الأله. والانسان يموت وتموت معه كل قدراته الخيرية المحدودة، والآلهة تبقى خالدة وتبقى معها جميع الصفات الحميدة المطلقة، التي تترنّم بها الاجيال جيلا بعد جيل.

بحسب فيورباخ (الاله هو الكائن الاول في النظرية، لكن الانسان هو الكائن الاول في الممارسة، وهو الهدف في هذا العالم، والطبيعة لا تمثل شيئا بالنسبة للالهة، وما هي سوى لعبة بيدها،ولا يمكن ان تفعل شيئا للانسان.) ص 117

ان (المعجزة تحقيق هدف الدين بطريقة محسوسة معروفة، هي محاولة سطوة وفرض هيمنة الانسان على الطبيعة، وبذلك تصبح قدرات الانسان واقعية حقيقية، والالهة تصنع المعجزات لتلبية رغائب الانسان) ص 115

ويضرب فيورباخ مثلا سارة زوجة زكريا التي تنجب ثلاثة انبياء بعد زيارة الملائكة المرسلين اليه، وهي أمرأة طاعنة بالسن وعقيم وزوجها كهل، فهنا تتحول المعجزة من القدرات الألهية الأعجازية الخارقة الى ان يكون الانسان اداة ووسيلة وغاية تحقق المعجزة ،(لذلك فان الرغبات الحسية تتعرض للسخرية اذا تعارضت مع العقل، لان التناقض يصبح واضحا لا يمكن انكاره، وهذا السبب يجعل العقلانيين المحدثين يخجلون من الايمان ان الله في الجسد) ص 118

ويمضي فيورباخ متوعدا (انه سيأتي اليوم الذي يعتبر فيه الاعتقاد في الارادة الالهية العقلانية نوعا من الخرافة كما كان الحال في الاعتقاد بوجود الاله المعجز المسيحي في الجسد)ص119

ويختم فيورباخ كتابه مؤكدا ان الانسان ليس خياليا خصبا وحسب، وانما الخيال الانساني اعجازي ابداعيا ليس على صعيد الانتاجية الادبية والثقافية والفنية، وانما على صعيد الايمان الديني (الانسان الخالد موضوع للدين وموضوع للايمان، والحقيقة العكس من ذلك، فالانسان ليس خالدا – هنا فيورباخ يقصد أمنية الانسان الخلود بالآخرة – بل هو فان، وان تؤمن معناه ان تتخيل ان صورة ما انبعثت بها الحياة) ص120

اغتراب الذات

لقّب فويرباخ بانه صاحب منهج فلسفي مادي تصوفي او تأملي ذاتي، البعض ينعت فويرباخ فيلسوف الذات فهو عالج موضوعة اغتراب الذات فلسفيا في سبق فلسفي يحسب له. ومن الماركسيين المحدثين الذين ينكرون التأثير المادي لفويرباخ على ماركس، بنفس معيار انكارهم الجدل الهيجلي على اعتباره هو الآخر مثاليا تجريديا تأمليا،، علما ان جميع دارسي وباحثي الماركسية يذهبون الى أن المادية الفويرباخية والجدل او الديالكتيك الهيجلي كانتا دعامتا الديالكتيكية المادية ، والجدل المادي التاريخي الذي اعتمدهما ماركس في صياغته قوانين تطور المادة والتاريخ، بعد تخليصه مادية فويرباخ من تصوّفها التأملي الديني، وتخليص الجدل الهيجلي من مثاليته المقلوبة.،لكن لا يمكن لأحد نكران أن المعارف والفلسفات وحتى العلوم الانسانية،هي تراكم معرفي وحضاري تأريخي محكوم بالكم والكيف، في تقادم زمني لا يلغي تماما جهد السابقين على اللاحقين تاريخيا، مهما أعتور وشاب تلك المسيرة من النقد والمراجعة والحذف والتفسير والتفنيد ..الخ. كما يتعذر ولادة معارف علمية أو فلسفية من فراغ سابق عليهما.

واذا سمحنا لأنفسنا اسقاط الفهم الحداثي وما بعد الحداثي على اي نص مكتوب ،فهو بحسب رولان بارت في مقولته الشهيرة موت المؤلف ، في ردّه كل نص الى تناصه المتعالق مع سابقاته من النصوص من جهة ،ومن جهة أخرى فأن النص بعد كتابته و نشره يصبح ملكا صرفا للقاريء المتلقي، او بالاحرى المتلقين الآخرين في تعدد وتنوع قراءآتهم للنص.وهو ما ينطبق على كل نص تداولي مكتوب سواء في الثقافة او المعارف او الفلسفة او السرديات الكبرى كالايديولوجيا والتاريخ الخ.

ويؤكد البرتو ايكو هذا المعنى لدى بارت قائلا(ان بارت يقوم بتفريق هام بين نص القراءة، الذي يستهلكه القاريء، والذي يمنح نفسه للقاريء بلا مشّقة،ومن ثم يقوم بترسيخ العادة وألمالوف، وبين نص الكتابة الذي يقوم القاريء بكتابته مرة اخرى، ومرات عديدة في كل قراءة اخرى جديدة).

 

علي محمد اليوسف / الموصل

...............................

الهوامش: 1، 2،3،4،5 وجميع الاقتباسات بين هلالين هي من كتاب فيورباخ/اصل الدين/ ترجمة احمد عبد الحليم عطية/ القاهرة 1991

• ملاحظة: لقد حاولت في الجزئين من قراءة كتاب فيورباخ اصل الدين بامانة وحيادية الباحث، ولم اكن في معرض تطابق رؤاي معه، لكني لم اشأ تشويه افكار الكتاب الفلسفية.

 

 

 

في المثقف اليوم