أقلام فكرية

فلسفة الدين: الدين والأخلاق.. نظرية الأمر الالهي (1)

علي رسول الربيعيهل الله مصدر الأخلاق، ومن دون الله، لا يمكن أن يكون لنا واجبات حقيقية؟ هذه مسألة ملحة بالنسبة للفلاسفة وغيرهم على حد سواء. يصر السياسيون والوعاظون: وأولياء الأمور على أن وجود المجتمع ذاته يتطلب قيمًا أخلاقية قوية لا يمكن أن توفرها إلا الدين والتربية الأخلاقية الدينية. يحتج غير المؤمنين على أنهم يساء فهمهم وهناك تعصب مسبق ضدهم وهم أخلاقيين مثل المؤمنين.

نتناول هنا نظرية الأوامر أو الأحكام الالهية التقليدية التي ترى أن الواجبات الحقيقية تعتمد على ارادة الله. ساستعرض هذه النظرية عند سي. اس لويس ( 1898-1963) والنظريات التي تشبهها. وجاء الأهتمام واختيار لويس، لأنه استاذ أدب العصور الوسطى وعصر النهضة في أكسفورد وكامبردج لأكثر من ثلاثين سنة، ولأنه رجل حكيم، أصبح مشهورا في كتبه في دفاعه عن العقائد الدينية (المسيحية) ولازال مؤثرا حتى اليوم فقد بيع من كتبه مئة مليون نسخة. وأن معظم طلاب الجامعة في المنطق والفلسفة يقرأونه، دعته أذاعة الـ بي بي سي للتحدث عن فكره وإيمانه، ولأنهم يعرض لنا مقدمة قيمة ومهمة لأنها واضحة، ثاقبة، مسلية، ومؤثرة.

يناقش لويس في الفصل 3 من كتابه: Lewis, C. S. (1952) Mere Christianity, New York: HarperCollins, 2001.، الذي سنعتمده في هذه المقالة، ومن يريد تفصيلا عن نظريته يمكن له مراجعة كتابه ذاته، نظرية الأوامر أو الأحكام الألهية التي تؤكد على أعتماد الأخلاق على ارادة الله. ويرى (1952: 3-32) أن هناك قانون أخلاقي موضوعي وأن هذا يتطلب وجود الله.

أولاً، يؤكد لويس أن الجميع يقرّون بواجبات أخلاقية موضوعية، ويدافع عن هذا بطرق مختلفة. لقد سمعنا جميعا مشاجرة. يقول الناس فيها مثلاً، " هل تقبل أن يفعل شخص ما الشيء نفسه لك؟" - ". هذا مقعدي، أنا جلست به قبلك" - "اتركه وحيدا، لا يؤذيك" "أعطني بعضا من العصير الذي تشرب، سأعطيك بعضا منه "-" لكنك وعدت ". الناس هنا يلجأون، ليس الى ماحبونه أو يكرهونه، ولكن للمعايير التي يتوقعون أن يدركها الآخرون. عادة ما يقبل الآخرون هذه المعايير لكنهم يدعون أن أفعالهم لا تنتهك ذلك أو أن لديهم عذرًا جيدًا لانتهاكه. لذلك يدرك كلا الطرفين القانون أو حكم المعاملة النظيفة أو السلوك اللائق. فنفترض أن كل شخص يعرف المعايير (ربما باستثناء فرد معيوب غير عادي).

لكن اليس الثقافات المختلفة لا تتفق وبشكل عميق حول الأخلاق؟ نعم، هناك اختلافات أخلاقية ولكن ليس عدم أتفاق كلي. الأخلاق هي في الغالب هي نفسها ولكن ما يختلف الناس حوله متى يجب أن يكون الفرد غير أناني ازاء عائلته فقط أم أبناء بلده أو لكل فرد أخر. لكنهم يتفقون على أنه يجب أن لاتضع نفسك أولا اي لاتفضلها على الآخرين. ويختلف الناس حول ما إذا كان يمكن ان تكون لك زوجة واحدة أو أربعة. لكنهم يتفقون على أنه لا يجب أن ترتبط أو تملك أيً أمرأة لمجرد أنها أعجبت. تلخص القاعدة الذهبية "افعل كما ترغب لكن من خلال مايعرفه أو يعتبره الجميع عادة أنه الصواب (لويس 1952: 82).

إن الذين يقولون أنهم لايؤمنون بصحيح أو خطأ حقيقي سوف يعودون الى ذلك لاحقا. فقد ينقضون وعدهم لك، ولكن إذا ما حاولت أن تنقض وعدا لهم، فسوف يشكون "هذا ليس عدلاً". قد تقول أمة إن المعاهدات لا تهم، ولكنها تفسد قضيتها بقولها إن المعاهدة التي يريدون كسرها غير عادلة. ولكن إذا لم يكن هناك خطأ وصواب، فما الفرق بين معاهدة عادلة وبين معاهدة غير عادلة؟

يعترض البعض على أن ما يسمى بالقانون الأخلاقي بوصفه مجرد موافقات اجتماعية يضعها لنا التعليم. لكن أيضا قد نتعلم الحقائق الموضوعية، مثل الإضافات الحسابية. وتتنوع المواثيق الاجتماعية (مثل أي جانب من الطريق الذي يجب السير عليه) على نطاق واسع، بينما قد لا تتفق على المعايير الأخلاقية الأساسية. كلنا نعتقد أن بعض الأخلاقيات أعلى مكانة من غيرها (حب جارك أعلى مكانية أخلاقية من الإبادة الجماعية مثلا) - وهو ما يفترض أن بعض الأخلاقيات تتطابق بشكل وثيق مع ما هو صحيح حقًا أو خطأ. إن بعض الاعتراضات التي استخدمها الإنجليز لإضطهاد الساحراتهي: هل يتفق هذا مع قاعدة أخلاقية موضوعية؟ لكن هناك خلافأو نزاع، ليس حول المبدأ الأخلاقي، بل حول الوقائع، حيث ظن بعض الناس أن هناك سحرة لديهم قوة من الشيطان لقتل جيرانهم. بالطبع نرفض اليوم مثل هذه المعتقدات. فلا يجب أن يكون هناك خلاف حول المبدأ الأخلاقي هنا، فالخلاف هو حول المسائل الواقعية.

اعترض البعض على أن معايير الصواب والخطأ تصف فقط كيف يتصرف الناس. لكن هذا غير صحيح - لأننا غالبا ما نتصرف ضد المعايير الأخلاقية التي نعترف بها. هذه المعايير شيء لا نتبعه دائماً ونعرف أنه يجب علينا اتباعه.لكن كيف تؤدي الواجبات الموضوعية إلى الله؟

يدعي لويس منذ البداية أن الناس في حيرة ودهشة كيف وجدَ الكون. وعموما هناك نوعان من وجهات النظر. النظرة المادية التي تقول أن المادة موجودة دائما، ولا أحد يعرف لماذا، والمادة، من حسن الحظ، أنتجت كائنات تفكر مثلنا. تتحدث الأشكال الأخيرة من هذا النقاش عن التطور والعدد الضخم من الكواكب، ومن المرجح أن كوكبًا واحدًا على الأقل قد يتطور حياة ذكية. في المقابل، تقول النظرية الدينية أن وراء الكون عقلًا عظيمًا بوعي، وأغراض، وتفضيلات فخلق الكون لإنتاج كائنات ذكية مثلنا. يظهر كلا وجهتي النظر أينما يوجد أشخاص مفكرين.( McGowan, Dale (2013) Atheism for Dummies, Mississauga, ON: John Wiley.

يرسم McGowan (1.013: 63-167) تاريخ الإلحاد من العالم القديم (بما في ذلك الهند والصين واليونان وإسرائيل) إلى القرن الحادي والعشرين.)

لا يستطيع العلم أن يقرر أو يفصل بين وجهات النظرهذه. فالعلم يتعلق بما مكن ملاحظاته ويربط بين الملاحظات. فلا يمكن أن تخبرنا لماذا يوجد الكون أو المعنى العميق الذي نمتلكه عن هذا السؤال.

لدينا، لحسن الحظ، معلومات داخلية كبشر هي أننا خاضعين لقانون أخلاقي لم لم نخلقه نحن . إذا كانت هناك قوة تحكم خارج الكون، فإنها لا يمكن أن تظهر لنا كحقيقة ملحوظة داخل الكون؛ ويمكن أن تظهر نفسها فقط داخل أنفسنا، كنفوذ أو قيادة. وهذا ما نجده. ذلك نصل إلى أن هناك شيء يوجه الكون الذي يظهر فينا كقانون يحثنا على القيام بالعمل الصحيح ويجعلنا غير مرتاحين عندما نخطئ. لذلك علينا أن نفترض أن هذا الشئ يشبه العقل أكثر من أي شيء آخر. نحن نعلم؛ الشيء الآخر الوحيد الذي نعرفه هو المادة التي لا تستطيع إعطاءنا التعليمات والوصايا. وهكذا، من خلال معرفتنا بالصواب والخطأ، نصل إلى معرفة الله لكن بمعنى غامض للعقل شبيه بالقانون الأخلاقي.

تسمح مقاربة لويس لغير المؤمنين بمعرفة الصواب من الخطأ. ترى هذه المقاربة بما أن المعايير الأخلاقية الأساسية كما هي في ضميرنا أو في داخلنا بأعتبارنا بشر معروفة للجميع. إنها تفسح مجالا لغير المؤمنين أن يكونوا من أهل الخير، رغم أنهم لا يرون أن الأخلاق تفترض الإيمان بالله. ويجيب عن الاعتراضه على الله، على أساس أن هذا العالم فيه ظلم و غير عادل. فيرى أن هذا الاعتراض يفترض تمييزًا أخلاقيًا موضوعيًّا بين العدل والظلم، وهو ما يُلزمنا بالاعتقاد بالله (لويس 1952: 38).

يذهب لويس الى أن هناك قانون أخلاقي موضوعي.

وإذا كان هناك قانون أخلاقي موضوعي، فهناك إله.

اذن هناك إله.

دافع لويس عن قضية (1) على رغم أن البعض قد لايوافق عليها. ثم أنه في الحقيقة لم يقل الا القليل عن القضية (2)، فقط قال "إذا كان هناك قانون أخلاقي موضوعي، فهناك إله". لكن لماذا علينا أن نصدق أفتراضه هذا؟ الفيلسوف جورج مورG. E. Moore، الذي دَرس َأيضًا في كامبردج ايضا، قبل أن هناك قانونً أخلاقيً موضوعي لكنه رفض وجود الله. ماذا ماذا كان رد لويس على مور؟ قال لويس أن ألأخلاق قد تعتمد على الله في ثلاث طرق على الأقل:

• إنه مصدر اﻟﻮاﺟﺒﺎت: لله ﻓﻘﻂ من ﻳجعل الأعمال صائبة أو خاطئة.

• الدافع الأخلاقي: فقط أولئك الذين يؤمنون بالله يمكن أن يكون لديهم الدافع الكافي للحياة الأخلاقية.

• المعرفة الأخلاقية: فقط أولئك الذين يؤمنون بالله يمكن أن يعرفوا الصواب من الخطأ.

الخيار الأول هو المناسب والأفضل بالنسبة الى لويس. لذا سوف يصوغ حجته بما يلي:

هناك قانون أخلاقي موضوعي.

إذا كان هناك قانون أخلاقي موضوعي، فهناك مصدر للقانون الأخلاقي.

وإذا كان هناك مصدر للقانون الأخلاقي، فعندئذ هناك إله.

أذن هناك إله.

نحن بحاجة إلى النظر في القضايا 2 و 3. القضية 3: "إذا كان هناك مصدر للقانون الأخلاقي، فإنه هناك إله".قد يدافع المرء عن هذا بحجة أن هذا المصدر يمكن أن يكون غير شخصي، أو أنت، أو أفرادًا آخرين، أو مجتمعًا، أو الله. لكن البدائل غير الدينية لن تنجح. مصدر الالتزام لا يمكن أن يكون

• غير شخصي - وهذا أقل شأنا من الأشخاص وبالتالي لا يمكنه فرض التزامات على الأشخاص.

• أنت ( كفاعل) – لا يكون عليك واجبات مُلزمة لأنه يمكن أن تحرر نفسك منها كما تشاء. لأن لايكون يكون لديك واجبات ملزمة،ولأنك يمكن أن تحرر نفسك كما تشاء

• أفراد أو مجتمع آخر - بما أن هؤلاء لا يملكون سلطة أخلاقية علينا إذا قالوا أفعلوا الخطأ.

الله هو المصدر العملي الوحيد لقانون أخلاقي موضوعي. لذا فإن الإيمان بهذا القانون الأخلاقي يلزمنا بالاعتقاد بالله.

لكن لويس يقدم هذه الحجة بشكل سريع جدا. فيرى المفكرون غير الدينيين أن الأخلاق موضوعية ولكن يوجد لها مصدر آخر غير الله، على سبيل المثال • المراقب المثالي يرى أن: القواعد الأخلاقية تعبر عن الكيفية التي يريد أن يحيًا الناس بهديها اذا كانوا عقلانيين (مطلعين، متسقين، غير منحازين، وهكذا).

• العقد الاجتماعي: القواعد الأخلاقية هي أعراف وتقاليد يتفق عليها الأفراد العقلانيون من أجل مصالحهم المتبادلة.

إن هذا يتطلب أن، اخذ بنظر الأعتبار المقدمة 2: "إذا كان هناك قانون أخلاقي موضوعي، فهناك مصدر للقانون الأخلاقي". "إن المؤمنين مثل سقراط واللاأدريين مثل جورج مور سينكرون ذلك. إنهم يرون أفكارًا أخلاقية مثل" كراهية الناس شرًا هي حقائق ضرورية لا تحتاج إلى مصدر. فماهو مصدر "س = س" أو "2 + 2 = -4" أو ما الذي جعل هذا صحيح؟ أنها صحيحة بطبيعتها الذاتية. أو هي غير صحيح لأن شيء ما جعلها غير صحيحة. قد تكون الحقائق الأخلاقية الأساسية متشابهة. ربما "كراهية الناس شر" هي حقيقة أخلاقية مستقلة وموضوعية. إنها صحيحة بحد ذاتها وليس هي حقيقة لأن شيء ما جعلها حقيقة. هذا هو راي من ينظر الى الواجبات الأخلاقية بوصفها مستقلة بذاتها.

لذلك ربما يمكن أن تستند الواجبات الموضوعية على أفكار غير دينية كالواجبات الأخلاقية المستقلة، أو المراقبين المثاليين، أو العقود الاجتماعية؛ سيكون مهمة كبيرة وصعبة أن تثبت أن هذه لا يمكن أن تشتغل. ويتساءل البعض عما إذا كانت إرادة الله (التي كان يمكن أن تكون تعسفية أو قاسية) أن تعطي أساسا كافيا للواجبات الموضوعية. إن منطق لويس لا يقدم هنا حجة قوية لوجود الله.

( أو قد ندعي أن كل قانون يتطلب مشرعًا، وأن الله وحده يستطيع أن يعطي القانون الأخلاقي وقد اشار الى هذا Anscombe, G. E. M. (1958) "Modern moral philosophy," Philosophy 33: 1-19؛. لكن هناك العديد من القوانين (مثل تلك الموجودة في المنطق والرياضيات) لا تحتاج إلى مشرع لها. لذلك من المشكوك فيه أن كل قانون يتطلب مشرعا. أو ربما يتطلب كل قانون أخلاقي مشرعا قانونيا؟ ولكن بعد ذلك، من غير الواضح أن المعايير الأخلاقية يجب أن تعتبر "قوانين".)

2-2 نظرية الأمر الألهي

إن المفكرين الذين يؤمنون بأن الله هو مصدر الأخلاق غالبا ما يؤيدون نظرية الأوامر أو الأحكام الألهية . تقول نظرية الأوامر الألهية أن الأعمال جيدة أو سيئة، صحيحة أو خاطئة، طبقاً لإرادة الله (رغباته أو أوامره) . فإرادة الله هي التي تخلق النظام الأخلاقي والتمييز بين الصحيح و الخاطئ.

يبدو أن لويس يعتقد بهذا، لكنه لم يعبر عن نفسه بهذه الطريقة. فنقاشه كان أساسا حول وجود الله . إلا أن معظم مفكري نظرية الأوامر الألهية لا يلجأون الى الأخلاق في محاولتهم اثبات وجود الله، أنهم يلجأون الى الأعتقاد المسبق بوجود الله ليناقشوا أعتماد الأخلاق على إرادة الله.

تقوم القواعد الأخلاقة في نظرية الأوامر الالهية على إرادة الله.، وهناك، على الأقل، أربع طرق تقول أن الله مصدر الأخلاق. قد يجعل الله الأفعال جيدة أو سيئة من خلالها

• إرادته: اللطف خير لأن الله يريد اللطف.

• طبيعته: اللطف خير لأن الله طيب.

• خلقه: اللطف خير لنا لأن الله خلقنا بطبيعة معينة، والعقل العملي يمكن أن يكشف أن ذلك خير للكائنات من هذا النوع أن تكون لطيفة.

• عقله: اللطف خير لأن الله (من خلال البصيرة المباشرة أو العقل العملي) يعرف أن اللطف خير.

سنناقش في حلقات أخرى ضمن نقاشنا للعلاقة بين الدين والأخلاق الاعتراضات على الخيار الأول من نظرية الأوامر الالهية، ثم لاحقا التعديلات التي أدخلت على هذه النظرية لتجنب الاعتراضات. بعد ذلك، سننظر في خيارات "الخلق" و "العقل"، والتي هي جزء من نظرية القانون الطبيعي المنافس لنظرية الأوامر الألهية.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

 

في المثقف اليوم