أقلام فكرية

سيلا بن حبيب وهابرماس ونطاق المجال الأخلاقي

علي رسول الربيعيطورت سيلا بن حبيب نظرية أخلاقية (في كتابها Situating the Self الذي سنعتمده في النقاش في هذه المقالة) عن وضعية وموقع الذات في صيغة كونية أو عالمية تفاعلية معتمدة بشكل كبير على عمل هابرماس. تبدأ من تمييزها بشكل واضح بين (أنواع أو أنماط) الخطاب الأخلاقي (Ethics) والأخلاقي (Moral). (للتوضيح: يشير مصطلح الأخلاق كـ Ethics الى المبادئ والقواعد والمعايير العامة المفروضة من الخارج (الأديان مثلا) بينما يشير مصطلح الأخلاق كـ Moral الى مبادئ السلوك الخاصة بالفرد وقواعد السلوك الصواب أو الخطأ وما ينبغي فعله أو لاينبغي) إن مشروع بن حبيب هو إعادة بناء أفكار الحداثة الأخلاقية والسياسية في مابعد عصر التنوير من خلال عالمية هذه الأفكار من جهة، ومن خلال تفاعلها الجدلي مع المخاوف والشكوك التي تثيرها حركات الجماعاتية، والنسوية، ومابعد الحداثة من جهة أخرى.

Benhabib, Seyla. Situating the Self: Gender, Community and Postmodernism in Contemporary Ethics. Cambridge: Polity Press, 1992.2.

تفسر بن حبيب الأعتراضات على الصوغ الصوري الشكلاني الكانطي للأخلاق بأنها أدعاء يرى أن أيً نظرية أخلاقية أجرائية تواجه خياراً لامفر منه بين التفاهة او عدم الأنسجام. أذ يرى النقاد أن القواعد التي تبررها مثل هذه الأجراءات تكون إما بديهية أو ذات تأثير ضئيل أو أن تصبح إجراءات التبرير أو التسويغ في حد ذاتها أكثر جوهرية من ما مطلوب الأعتراف به أو قبوله. وعليه ترى بن حبيب أن إجراء اختبار للمعايير الأخلاقية من خلال الأخلاق التواصلية يُمكًن من تجنب مثل هذه المعضلة ,p,34.) Benhabib, Seyla. Situating the Self). أما هابرماس فيرى أن القواعد والقيم لا يتم إنشاؤها عن طريق الفلسفة ولكن من واقع الحياة. (أنظر:

Habermas, Jurgen Moral Consciousness and Communicative Action. Cambridge: Polity Press, 1990.240.

فالفلسفة، هنا، تقوم بتفسير ودعم إجراء الحجج الأخلاقية التي يمكن أن تسمح لنا باختبار الصلاحية القواعد المشتركة المتنازع عليها والتي يتم طرحها علينا في ممارسة التواصل اليومي. وطبقا لبن حبيب، فإن ما يحققه هذا الإجراء هو وضع قيود جوهرية على حدسنا الأخلاقي، ويعطي معايير لما هو مسموح به أخلاقيا أو غير مسموح به، لكن دون أن يخبرنا ما هو أكثر قواعد العمل الأخلاقية قيمة في سياق معين.

تدعو بن حبيب إلى أخلاق ما بعد تقليدية وأحد الآثار المترتبة على ذلك هو أنه لم يعد بالإمكان الحفاظ على تمييز هابرماس بين الأخلاق كـ Ethics والأخلاق كـ Moral للعقل العملي. (تعتبر الأخلاقيات ما بعد التقليدية أعلى مرحلة من الأخلاق في نموذج Kohlberg للتنمية الأخلاقية التي طورها جان بياجيه في ثلاث مستويات وهي الأخلاق ما قبل التقليدية، التقليدية، ومابعد التقليدية، حيث يطور الأفراد مجموعة خاصة بهم من الأخلاق والأخلاقيات التي يستخدمونها لدفع سلوكهم.) وليس هناك إمكانية للتمييز بين معيار أخلاقي يعبر عن مصلحة عامة واتفاق مبني على التزام مسبق لصالح نمط حياة مشترك. في تصور بن حبيب للأخلاقيات التواصلية يمتد نطاق المجال الأخلاقي ليشمل التفكير العملي المتعلق بمفاهيم محددة أو مخصوصة للخير. وأنه مع قبولنا بأن توافقًا عالميًا وعقلانيًا غير قابلٍ للتحقيق في مثل هذه القضايا، يمكننا، حسب رأي بن حبيب، أن نسمح بالنقاش الأخلاقي المتبادل بين الذوات والتفكير في الأسئلة التقييمية. ( Benhabib, Seyla. Situating, p, 75)

إن تقييد المجال الأخلاقي بمسائل العدالة الكلية والعالمية universal justice في المعنى الذي يطرحه هابرماس، يتتطلب أجماعاً عقلانياً لكن هذا غير مقبول، لأنه هذا يتغاضى عن أكثر من سمة مهمة ومميزة للمطالبات الأخلاقية الصحيحة من وجهة نظر بن حبيب. أما بالنسبة لهابرماس تمتلك هذه الادعاءات الأخلاقية مبررًا إدراكيًا قويًا. ولا يتم التحقق منها بإجراءات المناقشة والمحاججة فقط، ولكن من حقيقة تعبيرها عن إرادة مشتركة. وهذا يعكس بصيرة أخلاقية يتم تحقيقها تواصليا في مصلحة عامة حيث يتشارك الجميع في هذه القناعة معًا. ومن موقع يرى أن أي معيار يصبح صحيحا أذا ما توفرت الأسباب الدعمة له وكانت مسوًغة عقليا؛ تقول بن حبيب إن هابرماس يعتمد وبدون ضرورة على فكرة الإجماع كضمان لصحة المعايير؛ وتدافع عن المعرفة الأخلاقية بأعتبار أن المعايير الصحيحة يجب أن تكون مدعومة بالأسباب، لكن هذا الادعاء يبقى ضعيفاً لأن هذه المعايير في غير ذي حاجة للتعبير التعبير عن إرادة مشتركة. وبالتالي عليها أن تقبل هذه النتيجة باعتبارها الثمن الذي يجب دفعه مقابل مثل هذا النطاق الأخلاقي الواسع. (أنظر:

Cooke, Maeve. "Habermas, Autonomy and the Identity of the Self." Philosophy and Social Criticism 18 (1992): 269-92.

تحاول بن حبيب الأبتعاد عن الصياغة الكانطية الصورية من أجل أن تكون أقل عرضة من هابرماس للنقد من قبل ممثلي الأتجاه السياقي، ايً النقد الذي يوجه فلاسفة الأتجاه السياقي الذي سبق ذكر أتجاهاتم، فالزر على سبيل المثال. فتلزمها نظريتها الدينطولوجية الأخلاقية الضعيفة ببعض الافتراضات الجوهرية والواقعية، وهي تسلم بأن هذا الالتزام لا مفر منه. Situating the Self, 75.)) وتُبرر الأخلاقيات التواصلية بأنها وعي ذاتي تاريخي بالكونية يُؤسس لمبادئ الاحترام العالمي والمعاملة بالمثل كتفسيرنا الفلسفي لمكونات وجهة النظر الأخلاقية من داخل الأفق التأويلي المعياري للحداثة"(أنظر نقد Cooke, Maeve. " لسيلا بن حبيب في: Habermas and Consensuses.

Cooke, Maeve. "Habermas, Autonomy and the Identity of the Self.

إنها تقدم هذا كبديل عن استراتيجية هابرماس لإعادة بناء الكفاءة والأهلية للعالمية المفترضة لجميع الأطراف الفاعلة في التواصل في سياق الحياة في العالم الحديث.

لا يمكنني، في الواقع، تمييز موقف بن حبيب عن وجهة نظر هابرماس في هذا الشأن. ذلك إن دفاع بن حبيب عن نشر الأخلاق مابعد التقليدية ومفهوم الحداثة الذي تصوغه يعتمد إلى حد كبير على إعادة البناء تلك التي قام بها هابرماس.) إعادة البناء هذه قدمها هابرماس في مجلدين تحت عنوان: نظرية الفعل التواصلي.) والدليل أعتمادها على ما يمكن أن ندعوه بالتفسير النقدي الفيبري للحداثة، انظر: Benhabib, Seyla. Situating the Self). ففي الوقت الذي تؤكد أن التفسيرات الأخرى لمتطلبات الكفاءة الأخلاقية ما بعد التقليدية لا يمكن استبعادها من حيث المبدأ، فقد تم التسليم بها من قبل هابرماس مسبقا ايضاً. وكانت هذه النقطة بالتحديد هي التي قدمها في إعادة البناء (الأخلاقي) التي قام بها على أنها غير معصومة من الخطأ أثناء رفضه لمفهوم التبرير النهائي الذي قدمه أبيل Karl-Otto Apel. علاوة على ذلك، فقد شدد على حقيقة أن دفاعه عن أخلاقيات الخطاب ضد نظريات أخلاقيات ما بعد التقليدية، مثل نظريات راولز Rawls وسكانلون Scanlon، يقوم على حجج فلسفية "تغذيها التجربة التاريخية".

Habermas, Jurgen. Moral Consciousness and Communicative Action. Cambridge: Polity Press, 1990,175.

فتتحول هذه الحجج من مفهوم أحادي إلى مفهوم حواري لوجهة نظر غير متحيزة. فإذا كان للكرامة أن تحترم، فإن الروابط الاجتماعية المشتركة والمتبادلة للاعتراف المتبادل والتي تعتمد عليها هوية هذا الشخص يجب أن تكون محترمة.       

Habermas, Jurgen., "Justice and Solidarity: On the Discussion Concerning ‘Stage 6."' In Michael Kelly (ed.), Hermeneutics and Critical Theory in Ethics and Politics, 32-52. p,200 and Justification and Application: Remarks on Discourse Ethics. Cam­ bridge: Polity Press, 1993.pp, 67-69.

هذا التوضيح للسمات البنيوية للحياة الخيرة التي يدرجها هابرماس في مفهومه الدينطولوجي الاخلاقي للعدالة يمكن اعتباره تعبيرًا عن الافتراضات الموضوعية التي تأخذه، مع بن حبيب إلى أبعد من الصورية الصارمة لكانط.

هناك مسألة أخرى مهمة بين بن حبيب وهابرماس تتعلق بنطاق المجال الأخلاقي. إنها تتعلق بحساسية أخلاقيات الخطاب أزاء سياقات أخلاقية معينة والاختلافات التي تتصل بالأخلاق بين الأفراد. وحسب بن حبيب، فإن مفهوم هابرماس لوجهة نظر غير متحيزة منطقي - عقلاني أكثر من اللازم ولا يتوضع أو يتموقع في السياق الإجتماعي وقضايا الجندرية بشكل كافٍ. Benhabib, Seyla. Situating the Self, p,8.

تعطي بن حبيب اولوية للرعاية والاهتمام بالآخرين بشكل ملموسين على العدالة والحقوق. وتتهم هابرماس بإحالة العناية إلى هوامش المجال الأخلاقي الذي يتركز حول قضايا العدالة. فبينما لا ترغب بن حبيب في التقليل من أهمية اهتمامنا الأخلاقي بالعدالة في الترتيبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الا أنها تؤكد أن النزاعات الأخلاقية التي تشغلنا تتعلق على الأرجح بالقرارات الشخصية المطلوبة منا في العلاقات، في العمل في التفاعل الاجتماعي في حياتنا اليومية. Benhabib, Seyla. Situating the Self, pp., 148-185.

أرى إن العدالة والتضامن وجهان لعملة واحدة في دفاع هابرماس عن الخطاب الأخلاقي، فالأهتمام بالحقوق الفردية ورعاية الآخر له الجذر نفسه، وكذلك حماية الروابط الاجتماعية التي تشكل شبكة من الاعتراف المتبادل بين الجنسين. والتفكير الأخلاقي المتبادل في مابين المشاركين مستحيل دون حس التعاطف. (هامش- Habermas J., Moral Consciousness and Communicative action, Cambridge, Polity Press,1990, 199-203.

يصر هابرماس على أن هذا مجرد شرط للتبرير العقلاني نفسه. لذلك لا يجب التفكير كمهمة لتحقيق توازن مناسب لأدوار العقل والعاطفة في الخطاب الأخلاقي.

Habermas J., "Justice and Solidarity: On the Discussion Concerning ‘Stage 6."' In Michael Kelly (ed.), Hermeneutics and Critical Theory in Ethics and Politics, 40-41.(

لكن من الغريب أن بنحبب تعترف، وهي محقة، بأن هابرماس قد أدرج مسألة الأهتمام بالآخر في سياق تصوره لوجهة نظر متجردة وغير متحيزة، ولكن دون أن تسحب انتقاداتها تلك. وأظن أن استمرار قلقها يرجع إلى تقييد هابرماس للمجال الأخلاقي بحدود الأسئلة التي تعترف بالتبرير العقلاني من حيث المصالح العمومية. أعتقد أن بن حبيب يمكن أن تعفي نفسها من هذا الأرتباك لو أنها نظرت في حقيقة أن الأسئلة التقييمية في أعمال هابرماس الأخيرة تعترف بحل معقول رغم أنه يتوصل الى ذلك من خلال توظيف أخلاقي بمعنى الـ (Ethical)، وليس أخلاقي بمعنى الـ (Moral) الذي اشرنا اليه سابقا، للعقل العملي.

لاتمنح الأسئلة التقييمية إجابة صالحة لكل فرد. ففي السعي بعقلانية للإجابة على السؤال "ما هو مناسب لي؟" أو "ما هو الصواب بالنسبة لنا كمجموعة معينة تتقاسم بعض المثل العليا؟" يجب علينا أن ننشد معايير محددة تشكل الهوية المعنية. وهذا ينطوي على مهمة نقدية لتوضيح التأويلي الذاتي للمصالح. وما هو على المحك، هنا، مسألة الهوية التي تعتمد على التزام مسبق بطريقة حياة معينة واعية. ومن ناحية أخرى، لا تُحل الأسئلة الأخلاقية أي شكل معين من أشكال الحياة ولكنها تهتم بتبرير المبادئ التي يمكن أن تكون مقبولة للجميع.

Habermas, Justification and Application: Remarks on Discourse Ethics. Cambridge: Polity Press, 1993.PP,4-8.

لا يمكننا معرفة ما إذا كان السؤال أخلاقيا أو تقييما الأً بعد الدخول في مجريات النقاش والمحاججة وليس قبلها، كما هو الحال مع راولز الذي يقييد نطاق الالتزامات الأخلاقية المشتركة المحتملة مقدما. فيبدو، هنا، أن هابرماس وبين بن حبيب متفقان على أن الأسئلة الأخلاقية، التي لا يحددها هابرماس بالتوافق المعياري، يمكن تقديم أجابة عقلانية عنها. وعلى الرغم من أنهم يحددون المعنى الأخلاقي بطرق مختلفة، إلا أنهم يتفقون على النقطة الدينطولوجية التي تقول إن المعايير الأخلاقية تقيًد المفاهيم المعقولة للخير. Benhabib, Seyla. Situating the Self,p,187

بالنظر إلى هذا، ليس من الواضح أن بن حبيب تربح أي شيء من التخلي عن التمييز بين الأخلاقي (Ethics) والأخلاقي (Moral)، ولا يبدو ذلك في الواقع ضروريًا. لكن ما يتبقى والتي يمكن لنا أن نراه هي مدى المكاسب التي يحققها هابرماس من خلال التمسك بهذا التمييز. وما هو واضح هنا هو أن هابرماس، ليس أقل من بن حبيب أهتماما في السياق، فقد أدرج العديد من الأفكار السياقية في تفسيره لأخلاقيات الحوار.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

 

في المثقف اليوم