أقلام فكرية

"الوعي الشقي" والخروج من "كابينة" السعادة

علي المرهجاستخدم هيجل مفهوم "الوعي الشقي" ليُشير به إلى إحساس الفرد بالاغتراب، حينما يشعر الفرد (العبد) أنه خارج "كابينة" السعادة التي صاغها (السيد)، فالفرد (العبد) يظل شقياً لأنه ينوء بحمل الوعي المُستلب، الذي لا تمثيل لذاته فيه (الوعي)، إنما هو تمثيل وحضور لذات السيد (الحر)، فلا حضور ل (العبد) بذاته، ولا هو حاضر كما هو حضور (سيده)، إنما هو حضور ولا حضور في الوقت ذاته، فلا هو قد تمثل حضوره الحقيقي بوصفه (عبد)، ولا هو قد تمكن من تشكيل هذا الحضور بحيوية وفاعلية حضور (السيد)، لذلك هو "وعي شقي".

إنه وعي الاغتراب، وعي اللاتجانس مع الذات والتماهي معها، هو (وعي مرذول) لذات أخرى أعلى منه وأشد سطوة، فلم يجد (العبد) وجوده مُتحقق بذاته، ولم تُحقق هذه الذات المُستلبة إلا بحضور الضدّ، ولن يستطيع هذا (العبد) الخلاص من وعيه الشقي هذا إلَا بالفناء بعوالم (سيده)، وهي عوالم مُفارقة لطبيعته، أو العودة لعوالمه الخاصة، عوالم الوجود والطبيعة خارج تماهيها مع المُطلق.".

وفي هذا الحال سيكون مصيره كمصير (آدم) الذي أغوته التفاحة، فظل يعيش غربته الداخلية بـ "وعي شقي"، فلا هو نال حظه من طبيعة الوجود الأخرى بعد أن غادر طبيعة وجوده في عوالم "المُطلق"، وإسمحوا لي أن أستخدم مثلاً شعبياً عراقياً هو: "لا حِظّت بِرجيلها ولا خَذت سيد علي"، فبعد أن كان سيداً في عالم "المُطلق" نزل إلى عوالم الواقع "النسبي" (السلبي)، ولكنه لم يستطع أن يعيش وفق أنظمته وطبائعه، فكانت التفاحة (اللذة) التي أكلها مصدر شقائه في الواقع. وكان في توّق آدم لـ "اللذة" مُفارقة لـ "المُطلق" وإخراجه من "كابينة" السعادة الألهية، كي يُحكم عليه بالعيش في عوالم لا سرمدية ناقصة، لم يعتد على العيش فيها، فهو ليس من جنسها، وهي ليست عوالماً تتقبل وعيه المُفارق للوجود الطبيعي "اللَذي".

إذا كان (آدم) قد عاش (شقاء الوعي)، فكيف ب (العبد) الذي لا مناص له بحكم وجوده المتماهي جوهرياً مع الوجود الطبيعي يستطيع الفكاك أو الخلاص من هيمنة وعي الآخر وسطوته (السيد)، لمن مُتطلبات الوجود (الثنوي) في ضوء الجدلية الهيجلية هذه بين (السيد) و(العبد) أن يسير (العبد) وفق منطق صيّره وشكّله له (سيده)، وينبغي على (العبد) أن "يعترف" لسيده بأنه مصدر الوعي، وأنه عينه التي يرى فيها الوجود وأسبابه، فذات (العبد) ووعيها يتشكل من خلال وعي الآخر بذاته، ولا مقدرة للذات الشقية أن تعي وجودها الحقيقي، لأن وعيها ليس سوى صورة شكّلها من له القدرة على "الوعي بذاته" (السيد)، ولا مهمة لـ (العبد) سوى قبول تصوره لذاته التي خطّها ورسمها له وعي (السيد).

إنه وعي يُذكرنا بقصة "روبسن كروزو" لـ "دانيال دوفو" التي جسّد فيها شخصيتي "روبسن كروزو (السيد)، و فرايدي، (العبد)" ، وقد تنبه لهذه الرؤية أستاذنا مدني صالح في كتابيه: (ابن طفيل: قضايا ومواقف)، و (ابن طفيل وقصة حي ابن يقضان)، حينما وجد في قصة (دانيال دوفو) تمثلاً واقتباساً لقصة (حي بن يقظان لابن طفيل)، وهذا الأمر ليس مقصدنا في مقالنا هذا، ولكن الذي يعنينا، هو قراءة مدني صالح المُتفردة لقصة (دوفو) وإلتفاتته إلى أن (كروزو) في قصة (دوفو) هو (السيد) و (فرايدي) هو (العبد) وذلك واضح في القصة، وما تميَز به مدني صالح هو قراءته لعلاقة (السيد) بـ (العبد) وفق تأويل هيجلي، رغم مقته لهيجل.

أظن أن مدني صالح قد وظف تأويل هيجل في قراءته لمضمون هذه القصة، فهو (أي مدني صالح) يرى أن صورة (فرايدي) = (العبد) قد شكّلها (كروزو) = (السيد) وقد تماهى (فرايدي، العبد) مع توصيف سيده (كروزو) وظنّ أن ما رسمه له (السيد) هي الصورة الحقيقية له، والتي لم يستطع إدراكها بحكم عبوديته، وقد تكن (سيده) من تشكيل وعيه بها، لأنه مصدر الوعي الذي يستقي منه (فرايدي = العبد) معارفه، ولن أخوض في تصور مدني صالح لعلاقة الغرب بالشرق بوصف الغرب كما فهم الشرقيون على أنه (سيد) وتماهى دُعاة الشرق مع تصوير(السيد) لهم على أنهم (عبيد) عليهم أن يفهموا صورتهم وفق تصورات وصياغات (السيد) لهم.

لقد نجح الغرب في إخراج الشرق من "كابينة" السعادة، التي كان يحلم بها فلاسفتهم، بفلسفاتهم التأملية (الحالمة)، وقد تمكن الغرب بعد تمكنه من ترتيب العلاقة بين (السيد) و (العبد) خارج التصور الهيجلي، قريباً من التصور (النيتشوي) بطابعه الوجودي من بناء وعي لـ "السوبرمان" الذي يستطيع قلب القيم، ليُخرج كل قيم "الوعي الشقي" الهيجلي من بناها التقليدية (المثالية) ليصنع قيماً جديدة يكون فيها (عبد) هيجل (سيداً) في المنظومة النيتشوية، و (سيد) هيجل (عبداً).

"السوبرمان" في فلسفة نيتشه، رغم وجود ملامح لبقايا مثالية في تصورنا له، نجده يستمد "إرادة القوة" من عالمه الواقعي، ولكنه إنسان قوي لا يرضخ لتصورات إنسان آخر يُشكل له وعيه، إنما هو إنسان يمتلك "إرادة القوة" فينهض من ركام أخلاق المُستضعفين التي تربى عليها أبناء الديانة المسيحية، ليصنع قيمه بنفسه، خارج أخلاق الذُلَ والضعف وخرق نُظمها العقلانية والروحية للعودة للأخلاق بطابعها الغرائزي الذي وُجد فيها الإنسان بوصفه كائن غريزي، لا من وجود خارج "كابينة" السعادة الأرضية التي يعمل على تحقيقها نيتشه في تصوره للـ "السوبرمان".

يخترق نيتشه في تصوره لفكرة "السوبرمان" و إرادة القوة" منظومة هيجل المعرفية، بل والأنطولوجية، ليقلب مفهوم "الوعي الشقي" الهيجلي، ليكون فيه كل نتاج هيجل وتنظيراته بين اليهودية بوصفها "وعي شقي"، والمسيحية بوصفها "كابينة" للسعادة، ليبني وعياً إيجابياً مُضاداً لكل معرفة أقيمت على أسس لاهوتية، أو مثالية، أو ميتافيزيقية، ليجعلها في مصاف "الوعي المرذول" لأنها تخترق نُظم الوجود الإنساني الخلَاق، لتجعل منه وعياً أسير رؤى لا مصداق لها ولا تحقق لها في عوالمنا وفق قول الوضعيين المناطقة فيما بعد في عالمنا الواقعي.

لقد جعل نيتشه من الواقع وصراعاتنا وتنافسنا فيه مجالاً حياً للوعي الإيجابي، بينما نجده ينظر إلى عوالم سقراط وإفلاطون وكل الفلاسفة المثاليين والميتافيزقيين واللاهوتيين، على انهم مثالاً للـ "الوعي الشقي"، لأن مثل هكذا فلسفات ورؤى دينية لا تُساعد الإنسان على الإبداع والخلق، إنما هي تخلق منه إنساناً يسير مع الركب أو الجمع، لا رؤية له خارج هذا الركب، ولا قُدرة فيه للخلق.

الوعي الخلَاق عند نيتشه هو وعي لا ديني، "ضد المسيح"، أعلن من خلاله "موت الإله" حسب التصور الديني المسيحي، ليكون "السوبرمان" هو "الإنسان الخارق" الذي يصطف مع نفسه ليخرق نُظم الديانة التقليدية (المسيحية) التي تدفع باتجاه سيادة نمط واحد من الأخلاق هو "أخلاق العبيد" ليظهر "زرادشت" في العالم الأرضي ليكون حضوره كمثال حضور الإله، كي يُعطي دفقاً حيوياً للبشر ليكونوا "سادة" يخلقون قيمهم، لا "عبيداً" خانعين، لا مِكنة لهم ولا قُدرة سوى السير بـ "وعي شقي" إتباعي لا إبداع فيه ولا خلق.

وإن كان في "زرادشت" قُدرة على خرق نُظم المعرفة والتقاليد السائدة، بوصفه "سوبرمان" عصره، إلَا أن هذا لا يعني أنه سعيد، بقدر ما يُمكن أن يكون راضياً، والرضا لا يعني السعادة بتمامها، إنما يُمكن أن يكون مرحلة من مراحل ومرامي الوصول للسعادة.

 

د. علي المرهج – استاذ فلسفة

 

 

في المثقف اليوم