أقلام فكرية

التكرار والاختلاف على هوامش الفكر والحياة.. جيل دولوز نموذجا

الحسين اخدوشكلّما تحدثنا عن الحياة والاهتمام بها، بل والبحث عن سبل تعزيزها في الفكر والنظر، كلّما اعترضتنا تجربة الفيلسوف فريدريش نيتشه (Friedrich Nietzsche) بصفة خاصّة كما سجّل ذلك تاريخ الأفكار بوضوح بارز. غير أنّ الأمر عينه قد تكرّر لدى الفيلسوف المعاصر جيل دولوز (Gille Deleuze)  الذي صرف فكره للتفكير في قضايا الراهن، أو إلى ما يسمى لدى فلاسفة الاختلاف بأسئلة الـ"هنا" والآن (Questions d’ici et maintenant)، والتي تمثّل في مجملها قضايا الحياة الأساسية بالنسبة للإنسان المعاصر. لكن، كيف طَرَقَ هذا الفيلسوف الفرنسي مسألة الحياة باعتبارها أفقا اختلافيا يخترقه التكرار والهامشي؟

قام الفيلسوف دولوز من خلال انفتاحه البارز على أفكار وتصوّرات نيتشه بنقد التقليد الفلسفي العقلاني الغربي من خلال العمل الفلسفي الأساسي الموسوم لديه ب "التكرار والاختلاف" (Répétition et Différence). وفي سبيل ذلك ارتأى نهج المنحى الاختلافي للفكر المعاصر، مثله في ذلك مثل جاك دريدا (Jacques Derrida) ومشيل فوكو (Michel Foucault) في فرنسا، ثمّ مارتن هايدغر (Martin Heidegger) في ألمانيا. وكان على وعي كبير بأهمية ترك المسالك التأملية التقليدية في التفكير والبحث النقدي، حيث تجنّب الطرق التحليلية والأساليب الاستدلالية العقيمة التي لطالما توسّلتها فلسفات المنطق والظاهراتية والتحليل اللساني والبياني.

والواقع أنّه غَلَّبَ إستراتيجية الاختلاف على طريقة التمثل في فكره وفلسفته، فكان من الضروري أن يصرف نظره عن التقليد الديكارتي الغالب على الفكر الفرنسي الحديث نحو المزيد من الاهتمام بقضايا الهامش. وتعتبر هذه القضايا مدار التفكير في الحياة الآنية، وهي في مجملها أسئلة همّشها التاريخ الرسمي للفكر الأوروبي ذي النزعة العقلانية التأملية، وبشكل خاص: مشكلة الرغبة ومسألة الجسد وقضية اللون والصورة، بالإضافة إلى مسائل الاختلاف والتكرار.

تمكّن الفيلسوف جيل دولوز من جعل مهمّة الفكر قمينة بتناول الأبعاد الجديدة للفكر المعاصر، بصفة خاصّة الجوانب المختلفة التي همّشها العقل الغربي، وذلك رغبة منه في تخطّي تقليد فلسفي عتيق يأبى التغيّر والاختلاف، تحديدا التقليد الميتافيزيقي. فحسب هذا المفكّر "ما-بعد ميتافيزيقي" (Post-métaphysique)، فإنّه لم يعد التعالي هو منطق التفكير، ولا هو غاية للفكر والفلسفة؛ وإنّما صيرورات الحياة والجسد والحركة، بما هي عوامل ونشاطات حيّة ومتحركة، هي ما أصبح مهمّا وحاسما لفهم الحياة من حولنا. بذلك، يمكننا القول أنّه لا يوجد في الصيغة الجديدة للفلسفة كما يمارسها دولوز تلك المكانة البارزة لفكرة للتعالي كما هو الشأن عليه في التقليد الكلاسيكي للعقلانية الغربية، وإنّما تغلب عليه فكرة المحايثة المحضة (Pure Immanence) التي طالما اعتد بها، وجعلها ما يستحق المتابعة والرصد والتفكير والمساءلة، باعتبارها مسألة واقعية وحياتية حقيقية تخلو من كلّ عمق مزعوم مسبقا.1  

إنّ المحايثة كما يقترحها دولوز هي فلسفة للخارج وليس للأعماق والداخل. فلسفة لا تفكّر بنفس الطريقة التقليدية، بل هي مأخوذة بهذه الحياة التي نقع في صلبها، حيث المفكرّون لا ولن يفكّروا بنفس الطريقة التقليدية، كما لن يتفقوا وليس من مهمّتهم ذلك. ليس يوجد في هذا النمط الجديد من التفكير ما هو مشترك، ولا تاريخ عام، لكن الكثير من الأحداث المتشابكة والخيوط المتقاطعة بشكل ضروري ومؤقت.  

والحدث (Événement) بالنسبة لفلسفة دولوز ليس مأخوذا على منوال الفكر العقلاني، وإنّما ينظر إليه هنا باعتباره واقعا معاشا. إنّ المَعِيش في الواقع، وكذا اللحظي، هو ما يجعل الحدث يطفو ويكتسب راهنيته في الفكر الاختلافي الدولوزي. والواقع هنا أنّ فكر دولوز يستجيب لإحدى أهم الدعوات التي طالب بها الفيلسوف نيتشه قراءه في المستقبل، والمتمثّلة في ضرورة أن يكونوا فلاسفة أطباء وفنانين. حاول جيل دولوز تجسيد هذه الفكرة حين وضع الحدث (الواقع) مركز اهتمام الفلسفة؛ فالتفكير كلّ التفكير في الحدث لا يمكن إلاّ أن يكون اختلافيا، وهذا ما يستعصي على الفكر التمثّلي (La pensée présentative) التقليدي الذي ينطلق من قوالب جاهزة ومقولات تمثلية مجرّدة (مفاهيم مسبقة).  

تعتبر الحياة بالنسبة لهذا المنظور المختلف للفكر كلّ ما يستحقّ أن نتفلسف حوله ةمن أجله؛ وبالتالي، فهي ما يُتوقّع أن يتّخذه الفكر المعاصر منطلقا لتفلسف حقيقي حول الوضع البشري المعاصر. لكن ذلك لن يتاتى من دون تخطي الميتافيزيقا التي دأبت عليها العقلانية الفلسفية الكلاسيكية القاضية بالانطلاق دوما من المثالي والقبلي والمتعالي، عوضا عن الاهتمام بقضايا الـ"هنا" و"الآن" (Ici et Maintenant). إنّ التفكير في هذه الحياة لا يعني بأي حال الركون للمبتذل والاعتيادي، أو للحس المشترك كما يدّعي الزعم العقلاني الكلاسيكي؛ وإنّما، بخلاف ذلك، هو كلّ ما يدعو إلى جعل الفكر تِرْحالِيا بين قضايا الحياة، وبصفة خاصّة في كيفية طرق قضايا الفنّ والصحّة والسينما والأدب والموسيقى..إلخ. يدعو سبيل دولوز للفلسفة إلى نهج تفكير مختلف وجاد وحازم، تلبية لمطلب فكريّ ملحّ يقضي بضرورة تخطّي أسوار الميتافيزيقا البالية، وإعادة الاهتمام بالحدث (L’évènement) والهامش. غير أنّه ليس سهلا بالمرّة أن نفكّر في الحدث والهامشي، لأنّ التفكير في هذا الحدث هو في حد ذاته تفكير بالحدث، أي جعل الفكر نفسه متعلّق باللحظي، ومن ثم الوقوع في أسر التكرار والاختلاف.

إنّ الارتباط بالحياة لهي مسألة ضرورية للفكر الناهض بالاختلاف، إذ في الحياة تتولّد حركية الفكر، حيث يحدث  الحدث الباعث على التفكير والإبداع والتفلسف. والفكر المرتبط بالحياة هو بالأساس فكر يجابه الحماقات التي تعجّ بها هذه الحياة؛ فالحماقة هي الباعثة على التفكير الجدّي في شؤون الحياة. فالفكر الجاد فكر يتوجّه إلى الحماقة ويجابهها. يأخذ دولوز بالمفهوم البرغسوني (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون) للحياة كما يأخذ بمفهومه للديمومة ليعطيهما أبعادا فلسفية مختلفة، فيراها الأنسب لاستعمالهما، جاعلا تلك الديمومة تكرارا، وتلك الطاقة الحيوية نشاطا وحركة للفكر داخل هذه الحياة. (G. Deleuze: Répétition et différence)

من هنا يركّز جيل دولوز على الجسد من خلال معطى الرغبات باعتبارها إنتاجا اجتماعيا، ومن خلالها كان اهتمامه بحركة الفكر في الحياة حاسما في تقرير ضرورة الحسم مع التقليد العقلاني الكلاسيكي وتجاوزه في مثل هذه القضايا. هنا كان نقده للمفهوم النفسي اللاشعوري الليبيدي للرّغبة، كما جاءت به نظرية التحليل النفسي، في مؤلّفه المشترك مع فليكس غَتَاريL'Anti-Œdipe) ). وقد كان هذا المفهوم مثالا حاسما يجسّد قوّة دعاويه في استبعاد المسلك الذي تم من خلاله مقاربة قضية الرغبة في الحياة بما هي مشكلة لاشعورية. غير أنّه وفقا لطريقته الاختلافية في فهم منطق الرغبة، فإنّه ليس من الممكن فهم تدفّق الرغبة من دون العودة إلى حقل إنتاجها الواقعي الذي هو الحياة؛ فهذا الحقل الاجتماعي بما هو حياة واقعية، فإنّه يبقى محكوما بالرغبات ومخترقا بها، وهو بهذا المعنى نتاج تاريخي لها.2  

التفكير الفلسفي في الحياة كما يمارسه جيل دولوز لا يكون ممكنا من دون التفكير في الجسد، ومنه في الرغبة أيضا. إنّ الحياة هنا هي الواقع الذي يعيشه الإنسان باعتباره جسدا وليس باعتباره عقلا وعيا وفكرا كما تزعم فلسفات الوعي الحديثة. لذلك ليس الفكر سوى إفراز طبيعي لهذه العلاقة القوية القائمة بين الجسد الراغب والحياة التي يعيشها المرء كجسد. أمّا الفلسفة، باعتبارها طريقة في عيش الحياة، فإنّها في ظلّ هذه العلاقة لم يعد أمامها سوى الانصراف نحو الاهتمام بالعلاقات الشائكة بين الإنسان الراغب والحياة المؤثّرة فيه لا على جهة التأمل والوعي، ولكن على جهة الاختلاف والتكرار الذي يحكم منطق إنتاج المعنى كإبداع وليس تمثل أو تصور.

يفتح فكر الاختلاف الباب هنا مشرعا لمواجهة قضايا الواقع الحقيقية، وليست الصورية والمثالية المتعالية التي زعمت الميتافيزيقا الغربية الكلاسيكية أنّها الحقّة. لذلك، فقد كان من أخصّ سمات هذا الفكر الجديد قدرته على التِّرْحال بين مختلف جوانب المعرفة والآداب والفن والسياسة، دون أن يفقد ذلك التفلسف هويته المتمثّلة في إبداع المفاهيم الفلسفية. ومن حسنات هذا النمط من التفكير، أنّه قد فتح المجال للممكن أمام التفكير في الحياة، بعدما غلبت سطوة الضروري والمنطقي عليه. إنّ الاختلاف بهذا المعنى هو كلّ ما يتكرّر التفكير حوله دون أن يفقد بريقه أمام استمرارية الحياة والفكر معا. 

البيّن ممّا سبق ذكره هنا أنّ النقاش حول قضايا ال-"هنا" و"الآن" إنّما تسدعي التفكير في مسألة الحياة برمّتها. وهنا تكمن أهمية فلسفة جيل دولوز بما هي  تجسيد لهذا التوجّه المختلف في طرق مسائل من صميم هذه الحياة التي نعيشها. غير أنّ فكر الاختلاف، كما مارسه دولوز في مختلف مقالاته وكتبه وتأليفه، يصعب الإلمام به في بضعة سطور تعريفية إن لم نقرأ مجمل الأعمال الفلسفية لهذا الفيلسوف الاختلافي المعاصر؛ كما أنّه ليس باليسير تقريب مجمل هذا الفكر المتعدّد والمختلف في بضعة فقرات تعريفية. لذا، فلئن إذا كان ضروري أن نلخّص القول في محورية الحياة لدى هذا الفيلسوف، فإنّنا سوف نلخّصها في كونها تجسيد لإرادة تجاوز سطوة العقلاني والانفتاح قدر الإمكان على قضايا ال"-هنا" و"الآن" بما هي قضايا الاختلاف والتكرار.  

521 جيل دلوز

جيل دولوز أمام المرآة

الصورة في حدّ ذاتها تجسيد لفكرتي التكرار والاختلاف

 

إعداد الحسين أخدوش / المغرب

.......................

 

  1- Logique du sens, éthique de l’événement » John Rajchman ; in Magazine littéraire, num 257, septembre 1988.p 37

 2- Gille Deleuze et Félix Guattari : l’anti-oedipe, éd minuit, paris, 1976. P 36

 

في المثقف اليوم