أقلام فكرية

محمد يونس محمد: تجريد فلسفة الانا

العاري داخل ملابسه

ماكس شتيرنر

***

من الصعب جدا وصف أدب أو فلسفة التطرف والأنانية، فالعالم بوصفه حالة مشتركة لا يمكن أن يتفق مع تلك الأفكار، التي تبدو غير عادلة حسب أعراف العالم، وهذا المذهب في الفلسفة الموضوعية نراه يحمل صحة وقناعة من جهة تأصيل الأنا ذاتيا في الأدب والفن، ويحمل معنى متطرفا من جهة المشترك السيوسولوجي، وما تبديه البنية الاجتماعية من اتصال، أو ما يمكن تسميته بالفرد الجمعي حسب توصيف ماركس للفرد بوصفه عاملا مشتركا من الآخرين، ولكن العثور على الحياة الغريبة المتطرفة ليس بالعمل المستحيل، لكن من الممكن توصيفه بالعمل الشاق، وهذا ما نجده وجه اختلاف للهدم والتجديد في أن واحدا، وهناك أمثلة متنوعة عديدة، ويكاد يكون في الشعر رامبو مثال نوعي، وأما نيتشه فهو تلك الحالة الأمثل، التي أثارت العالم ولا تزال تثيره إلى اليوم، وأنموذج ماكس شتيرنر شائق في توصيفه، ومن المهم التعرف عليه، وأنا صراحة هذه المرة أعدت قراءة شتيرنر بطريقة مختلفة عما قرأته في تسعينيات القرن المنصرم.

نحن في الإطار العام أبناء السياقات، وفي الأدب والفن نحن أبناء المنهج، لكن نحن في ظروف ما بعد الحداثة قد هدمنا السياقات ودخلنا في فوضى موضوعية، وفي إطار المنهج لسنا تطرفنا منذ شتيرنر، فهناك أديب هولندي معاصر له فرض على جويس أن يستوعبه تماما، ويقر جيمس جويس بأنه أعاد رودريكن كليا في رواية – في نحو البرية – ولم تكن تلك الثورة التي شهدها الربع الأول منذ القرن العشرين هي السعي إلى تحسين وتزامن فقط، بل لمسنا التوجه إلى بلاغة متطرفة وانعتاق من السياق والتوجه إلى المعنى ما بعد الراشد، وأما الموجة الفرنسية ما بعد سارتر، فكان تقليعة حدادة قلبت المفاهيم رأسا على عقب، وفكر بريتون والآن غرييه وناتالي ساروت وبنجيه وكلود سيمون، هو مواز تماما لثورة الإلكترونات، ويعد عري ماكس شتيرنر داخل ملابسه هو الجوهر العنيد لإزاحة المسار وإبداله بالتحليق حول العالم بحرية ذاتية.

هل يستوجب الأدب وجود عدالة اجتماعية وأخلاق عامة تفرض عليه الالتزام بالمعايير العامة، وذلك يعتبر قمة في عدم الإنصاف، ولا يعلم من يروج لذلك، بأن الأدب هو الدين الجوهري، والذي لا بد من أن نسعى إليه، فهو يضع اعتبارات مهمة جدا لسمو الإنسان وإعلاء قيمته، فيما الدين الاجتماعي والأخلاق العامة وحتى العدالة لا تبلغ ذلك الحد، ومن هوغو ونحن وصلنا إلى إدراك بأن الشرطي ليس رمزا للعدالة بل هو رمز الاستبداد، وذلك إذا كان انحسر فقط في المجال الأدبي، فله أهمية في جانب الوعي والتفكير، وفلسفة شتيرنر تمتلك غاية ذاتية، ومن الطبيعي هكذا نوعا من الطروحات تمهد إلى معارضة وتأويل مضاعف لها، وقد واجه شتيرنر فكرة تفصل ما بين الإرادة الحرة التي تتمثل في الاختيار عن الأنا وبين الأنانية التي هي تعتبر حالة نفسية بلا حدود بحد ذاتها، واتصال الإرادة الحرة بالإدراك العقلي إلى حد كبير، فيما الأنانية هي تزحف بها الغريزة إلى ما لا نهاية لو تم ذلك، وهنا نحيل الأنانية إلى المادة المكتوبة، فيما نحيل الإرادة الحرة إلى ذات ماكس شتيرنر ووعيه وفهمه.

أقود طوى النسيان ما طرحه ماكس شتيرنر في كتاب له، ونحن نبحث في جميع الجوانب، وأول الجوانب الذي نعنى به هو السياق العامة للثقافة وعلاقته بفكر وفلسفة ماكس شتيرنر، فالسياق العام للثقافة سيرورة وتواصل، لكن كل تجديد عليه ألا يمس شكل تلك السيرورة ولا يتعارض مع وحدة زمن التواصل، وهذا يعني بأن ماكس شتيرنر كما الأدائية التي تلته بحوالي نصف قرن، فهي عارضت السياق العام ومعناه، وهدمت ركن اللغة المتصل بالمجتمع، وهكذا نوع من الطروحات التي سعت إلى أن تنفصل كليا إلى السيرورة لا بد من أن تعارض، ثم على وفق جانب ثان في مستوى علم النفس، والذي يرى الأدب الغريزي حالة مرضية، وهنا سيواجه ماكس شتيرنر حاجزا آخر، ومن جانب ثالث إذا كانت تلك الطروحات فلسفة فهي منقطعة تماما عن التاريخ، ولا تتصل به من خلال أي مرحلة من مراحل الفلسفة الثلاث، وهنا سيكون ماكس شتيرنر في مواجهة حاجز ثالث مهم، وبذلك سيكون على ماكس شتيرنر قد كتب أن يبقى عاريا وهو داخل ملابسه، فالمعنى الجدير المختلف لابد أن يواجه قطعان السياق التي تقصيه إلى أقصى حد ممكن.

فلسفة الأنا مهمة جدا في الأدب، وأسعى هنا إلى تبسيط الفكرة، فلا أقصد الذات الشخصية هنا أبدا، بل العكس أتوخى من الذات الكاتبة امتلاك تلك الروح المرحة والمحبة الخالصة للجميع، والكراهية ليست مهنة الأديب، بل هي مهنة السياسي أو المارشال، ولا بد من أن يكون الأديب عكس إلى ما يسعى إليه في فلسفته، فما يطرح في فلسفته لا بد من روح أنانية إلى أقصى الحدود، وذلك فقط في المعاني الأدبية، والتي لا تكون في التعبيرات بل في البناء، وإذا لم تختلف فلسفتك عن غيرك، فأنت لم تفعل أي شيء ويذهب ما كتبته إلى الإهمال على مستوى النقد الحقيقي، والنقد في معناه الأصيل هو الذي يسعى إلى قدرات مستقلة كما تلك التي تبناها ماكس شتيرنر على وجه الخصوص، حيث ستجعل النقد يقف أمام بكل إعجاب وامتنان أيضا، فأنت جعلت النقد يبحث في قيمة الاختلاف، فالنقد ما لم يختلف بالنسبة له أمثلة هي تدعوك إلى أهملها، وعدم الاهتمام به، واهتمام الأنا لا بد من أن (يتقدم على طريق تحقيق ذاته اللاواعية، يجعل محتويات اللاوعي الشخصية واعية بالضرورة، مما يوسع مدى وآفاق وغنى الشخصية وبشكل ملحوظ)1، وماكس شتيرنر أدرك أن الانانية هي ممر الى الانا الاعلى.

كانت تجربة ماكس شترينر تكاد تكون متفردة الى اقصى حد في كتابه الذي ترجم – الاوحد وحد وملكيته – والذي هو بعيد جدا عن مضمون فلسفة شتيرنر وطروحاته التي يمكن المقارنة بينها وما بين طروحات هيجل عن الذات والعالم، وماكس تفرد

خطابه الفلسفي كما تفرد خطاب نيتشه، فيما فلاسفة العالم منذ الفلسفة القديمة الى الفلسفة الحديثة يدورون في مدار واحد، والنفس الفلسفي لديهم لا يختلف كما يختلف جدا عند ماكس، فالفلسفة عند ماكس منفصلة تماما عن التاريخ وسلطة الذات ايضا في حيز الوجود العام، ويفسر العالم بأنه ما يلجأ له وحدة معنوية خارج مفهوم الذات في ركن الوجود، والانا ليست تلك المتصلة في الغايات والمواقف المشتركة، فهي عند ماكس صافية تماما كما مرآة.

العالم بالنسبة لماكس ليس ذلك الوجود المتعدد الافاق المشترك بين كل افراد محيط ما، فالتلاميذ بينهم عامل مشترك، وكذلك مجموع موظفي شركة او دائرة، لكن الادباء واهل الفن لابد لهم من استقلالية واضحة، وهذا ما قدمه لنا ماكس بوضوح، حيث كل سبيل مشترك بالنسبة لماكس هو صحراء بلا نهاية ومتاهة بلا دليل، واذا عاش كشخص كما الاخرين فذلك يعود لذاته الاجتماعية، فماكس قد تزوج مرتين في الاولى توفيت الزوجة اثناء الحمل، وتزوج ثانية من ماري داينهردت، والتي كانت من دعاة الحرية، والتي تحولت لاحقا الى الكاثوليكية، ولا يراهن ماكس على تلك الحياة، فهي نسخة من الماضي، وممكن أن تكون نسخة من المستقبل، وارتحل ذلك الفيلسوف الجدير عام 1856 بعد التمكن من هزيمة العالم والاطاحة به، وعلى مستوى التلقي ما كان قد حظي بالإنصاف.

لقد ادرك شتيرنر على اقل تقدير في نفسه بأن لا قانون ديني يعد يحكم الإنسان حتى من الخارج، على اعتبار أن البشرية تحولت من سلط الدين الى سلطة الاخلاق الشخصية، فالعالم الذي كنا نمثل له في المواقف الكبرى خصوصا، قد مر بتحول خطر، فلم يعد الإنسان هو مركز الوجود ويبنى عليه كل شيء، وتخلى بلا ارادة الإنسان عن كونه ذلك الهرم العتيد، ووجه المصيبة في استبدال الاشياء الدور الفعلي بدلا من الإنسان، والذي اصبح بشكل كبير يمثل اعلى نسب الهزيمة والانكسار، وصراحة البشرية تعيش حالات الاغتراب الداخلي اكثر الاغتراب الخارجي، وماكس شتيرنر ذلك المجهول حتى في حقول المعرفة والفلسفة اصبح تلك القضية المثيرة للجدل في الفلسفة والمعرفة، فالفلسفة لا ننكر هي تراعي الاصول التاريخية للأخلاق، ولا تفرط بالقيم البشرية، بل تعيد صياغتها بعد استهلاك المعنى السابق لها، واذا كان سقراط قد مثل تلك الصيرورة الجديرة لإعادة تفسير العالم بصورة تتوافق مع روح العصر، فيشكل موقف ماكس شتيرنر اقصى انواع الاحتجاج الفلسفي على التمثيل الاجتماعي للحياة، وعلى وجه الخصوص الانحدار بالمعنى الإنساني الى الحضيض، وذلك الاستغلال البشع لديموقراطية الشعب، ولا سبيل امام ماكس شتيرنر الا تجريد الخطاب الفلسفي، ليكون اقرب الى مذهب ذاتي لا تأثير مباشر له على السياقات العامة .

يقترب تفسير ماكس شتيرنر كثيرا من طروحات ارتور شوبنهور، لكن دون تماس مباشر، بل فقط في جانب التجريد، اي ليس في اطار الكينونة، بل في بعد الماهية، فالعالم ذلك التصور، الذي يمكن أن يستبدل نفسه، والتوافق الفلسفي بين عقل استبعد العالم، على اعتبار لا جدوى منه في كسر سياقات الاستعباد المحور من الديموقراطية المزيفة، والتي استهلكت الروح الاجتماعية مرارا، والحد الذي شعر به ماكس شتيرنر بأن لم تعد هناك حياة تلمس من المجتمع، ولم تعد روح الجماعة نافذة تشرع لصوت الجماهير، والعالم لم يعد افق للمجتمع الا في افاق الترابط العضوي، والكينونة الاجتماعية اصبحت في حالة خمول عن المعنى الإنساني، وتفسير ما لا يعقل اصبحت هناك دوافع له لاحتلال المواقع المهمة في الركن الاجتماعي، وذلك احد المحفزات لماكس شتيرنر، لكن التجريد النوعي للفلسفة حرض العقل للمقاربة مع جعل ارضية العشب حمراء، ولم يعد هناك افق عضوي ترتسم من خلاله المسميات، وكما كانت لدراكولا من انتفاضة جريئة ضد الموت، كانت هناك دوافع وجهت ماكس شتيرنر لتحرير معنى الفلسفة، وادخاله في جملة من التبريرات الحيوية ضد نظم العالم الملزمة للحياة .

نحتاج الى تفسير العلاقة ما بين الفلسفة والمعرفة، فلا وجود لفلسفة بلا معرفة، لكن يمكن أن تجد معرفة بلا فلسفة، فالمعرفة علاقة عقد تعرف ما بين جهة وجهة اخرى، فيما الفلسفة بكل تأكيد هي ببعد حرية من تلك المعاقدة، والتي لا نرغب بتسميتها كمصلحة كما ترجمت عن هابرماس، العقد ملزم لجهة التأسيس له، لكن غير ملزم للجهة الاخرى، والتي تفسر بحرية واسعة، والعقل يبدأ من المعرفة، ومن ثم قد يتجه الى الفلسفة او يتحول عنها الى افق اخر، بعد اكتسابه معرفة مناسبة فيه، والمعرفة تقبل الجدل كما الفلسفة، لكن بمنسوب اقل بكثير مما في الفلسفة، والمعرفة الادراك مهم واساس ايضا، ويحتمل كثيرا أن يكون مباشرا او في بعد الفطرة الادراكية، وتختلف الفلسفة اذا الادراك العقلي هو العنصر الاساس الذي يقوم التزام فكرة، او عدم التزام تلك الفكرة، والعقل في الفلسفة واسع الخيال وغير محدد فيه عنصر الخيال احينا، وهذا ما يتيح للفلسفة من تجريد بعض الافكار، وذلك تبعا لضرورات معينة، ونعتقد كان النشاط العقل عند ماكس شتيرنر يتميز بكفاءة الخيال فيه، وهنا نحيل الفكرة الى امكان التحول من مضمون فلسفي الى مضمون ادبي، وعضوية العالم الخارجي لا تكون ذات اثر او تتدخل الا في المشاع من السياقات العامة للحياة، والتي مثلت عند ماكس شتيرنر اقصى انواع العبودية، وعليه أن يتحرر منها، والخطاب ومغزاه يحيلنا الى جدية التفكير ازاء التحرر من تلك المعضلة، والتجاوز لما يكون من اثر احباط نفسي، قد ينجم عنها .

من الطبيعي هناك دور لا نشعر به لعنصر الزمن، والذي من الممكن في تحولات الخطاب الفلسفي من افق عام الى اكثر خصوصية يستوجب التجريد، فعلى عكس العالم سيتجه العقل الى نفسه، ولا يتجه الى الاخرين، وذلك الخطاب في صيغة التجريد من الطبيعي أن يبتعد عن الافق العام كثيرا، ولا يلامس الافكار المتسلسلة تاريخيا، ووفق سيوران النشاط العقلي التجريدي هو روح فاعلة تمتنع عن التحديد او التمييز، ويلعب عنصر الخبرة الدور المهم، فالحد الديناميكي يستوجب وجود خبرة متمكنة من اتاحة نسب اكبر للتجريد، والعقل في التجريد هو متنعم بنشوة الخيال، وهنا ينعدم مصطلح النجاح، وكذلك عنصر الفشل لا يكون الا مبررا، فالغاية في الخطاب طرح افكار خارج السياق، ولا تتبع منطقة من مناطق الفلسفة المتسلسلة، والوجود والكينونة تكون في الخطاب التجريدي ماهيات، من الممكن أن تتحول من علامة الى اخرى، ومن الطبيعي إن افق الاشارة لم يعد غير احد المسميات، وليس بأحد الضرورات الملزمة في الخطاب، ونحن هنا حتما نكون في افق لساني للفصل ما بين الاشارة والعلامة كليا .

لا تسعى الفلسفة في تحقيق تجريد الخطاب الى خلق نسق مختلف ومتفرد فقط، وهذا ما حققه بشكل واسع نيتشه في مضامين خطابه الفلسفي المتعدد المستويات الدلالية، وبث افكار لا تقف عند حد معين، ونشير الى إن الفلسفة العملية سعت الى ترسيخ قوانين الفكر، لكن فلسفة التجريد هدفت الى توسيع موقع الاحتجاج والدفاع عن المضمون الإنساني معناه الجدير، وصراحة الفلسفة من جهة اهتمت بمفاهيم قدمت على مفهوم الإنسان، ونعتبر وعي الفيلسوف لم يقف عند القضية الكبرى للفلسفة، والتي يشكل سقراط الاساس الواقعي والجوهري لها، واذا كان مفهوم الكينونة اهم من سقراط فأني اعتبر ذلك العزل للمعنى الإنساني والاقصاء له احد مشاكل الفلسفة الكبرى، واذا كانت المثالية قد راعت بشكل نسبي المذهب الاخلاقي، فأن الوجودية قد شتت ذلك المذهب، وقلبت البلاغة التقليدية، وانتجت المذهب الجديد، والذي يعتبر الإنسان الضحية والجلاد، وذلك القياس الفلسفي لم يهتم بشكل مباشر في تفسير الانا ليس خارج مفهوم – النحن – وما فصلت الإنسان المجسد بشريا عن المفهوم، وقد اهتمت كما الفلسفة العملية بالمعايير فقط، والفلسفة العملية لها كل الحق فيما ذهبت اليه، فهي تسعى الى براهين ونتائج، وهي بعيدة جدا عن الفلسفة الوجودية، التي راهنت على الوجود الاعتباري، وتناست بأن تلك الهرمية العتيدة قد تزعزعت واستبدلت الاشياء وحلت محل الكائن البشري، والسعي وراء الحاجات هو احد اسس الحياة في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، اي قبل افول الحداثة تماما، واحلال ما بعد الحداثة محلها.

***

محمد يونس محمد

............................

1- جدلية الانا واللاوعي – ك. غ. يونغ – ترجمة نبيل محسن – دار الحوار للنشر والتوزيع- ص 26

في المثقف اليوم