أقلام فكرية

اركيولوجيا الانسنية الغربية

عامر عبدزيد الوائليتصدير: ان المعنى في اشكالية الخطاب الانسي يتطلب في البداية تبيان المعنى الدلالي في اللغة والمعنى المفهومي بعد ذلك،فان المعنى اللغوي في العربية: أَنْسَنة: (اسم) أَنْسَنة: مصدر أَنسنَ أنسنَ يُؤَنْسِن، أَنْسَنةً، فهو مُؤَنسِن، والمفعول مُؤنسَن أنسنَ الإنسانَ ارتقى بعقله فَهَذَّبه وثَقَّفه، أو عامله كإنسانٍ له عقل يميّزه عن بقيّة المخلوقات " لابد من تثقيف المواطن وأنسنته للرقي بهذا المجتمع النامي .(1) اننا في اطار المعنى اللغوي يحيل الى استخدام العقل بوصفه ملكة تميز بها في مقابل الحيوان .

اما المعنى الحديث والمعاصر فاننا امام مفهوم يحيلنا الى المعارف التي تتخصص بدراسة العلوم الانسانية وفي هذا المجال نحن امام امرين:

الاول الجذر اليوناني الذي يتعلق بتعليم المهارات الخطابية والمنطقية, نلاحظ عبارة معينة تشير إلى (التعليم المتوازن) وهي (Enkiklia Paedia) وفكرة التعليم لدى اليونان تشير إلى المعارف الإنسانية القديمة المتمثلة في: القواعد اللغوية، البلاغة، المنطق، علم الأعداد، الفلك، التجانس الصوتي (Harmony) وهي معارف قدَّمتْ تقنية للتعليم و النقاش في عالم من دون كتب, يعتمد في سبله للمعرفة على المهارات الجدلية, والدقة في التفكير, و التمكن من اللغة. وهذا تجد في جهود السفسطائين الذين منحوا البيان اهتمامهم الاول اذا كان ارسطو اول من وضع كتاباً منظماً فـــــــي الخطابة فقد سبقه الى محاولات في هذا المجال كُثْرٌ من المهتمين بفن الخطابة وممارسيه، فهذا الجانب التقني من التعليم اشار اليه شيشرون حيث وضع مصطلحاً لفكرة التعليم المتوازن اليونانية هي (Humanitas) وأصبح مصطلح عصر النهضة الخاص بالمواد المدروسة في مجال اللغات والآداب الكلاسيكية, هو (Studia-Humanitatis) ومدرّس تلك الدراسات كان يسمى (Humanist) إنساني, وكانت الدراسات (الإنسانية) (2)

تشير في القرن الخامس عشر إلى دراسة القواعد اللغوية والبلاغة والتاريخ والأدب والفلسفة الأخلاقية، و هي كانت تتكون من قراءة النصوص اللاتينية الخاصة بالعصر الكلاسيكي ما قبل المسيحي، وتشتمل أيضاً على الترجمات اللاتينية اليونانية، و النصوص اليونانية القديمة نفسها.

 أما كلمة (Humanisime) فهناك من يرى ان هذه الكلمة عالمة وقع نحتها في القرن التاسع عشر من المؤرخين الألمان (التاريخ الدقيق لانطلاقها هو 1808) وبيار دو نولاك (Piee de Nolhac) صاحب كتاب بيترارك و الإنسانوية " نسب إلى نفسه شرف إدخال هذه الكلمة في اللغة الرسمية للجامعة الفرنسية عام 1886 عن طريق الدرس الذي كان يلقيه في مدرسة الدراسات العليا " .وقد كانت هذه الكلمة ايضا تنطبق على مجموعة من رجال معينين أطلقوا على أنفسهم هذه التسمية Humanisime في القرنين الخامس عشر والسادس عشر .(3)

 أن (Humanisime)  تقوم على الاعتراف بأن الإنسان هو مصدر المعرفة، و أن خلاصه يكون بالقوى البشرية وحدها، و هذا اعتقادُ يتعارض بشدة مع المسيحية، بل يتعارض مع جميع الأديان لأنها تعتقد في خلاص الإنسان بالله وحده، و هو المعنى نفسه الذي ورد في "قاموس الفلسفة" حيث تم تحديد مفهوم التزعة الإنسانية بأنها: هي نظرية ترفض تبني كل أشكال الاغتراب و الاضطهاد و تطالب باحترام الكرامة الإنسانية و حق الأشخاص في أن يعاملوا كغايات في ذاتها. (4)، لكن يبدو ان هذه الكلمة كانت تطلق بنسبة متنوعة، على حقب متنوعة، من تاريخ الغرب وهذا يبين تاريخية كل حقبة، وتنوعات في نسب انطباق كل حقبة بحيث يمكن القول (الحديث على مستوى التاريخ، عن إنسانوية القرن الثاني عشر " وتعني ضمنياً السكولائية" وعن إنسانوية النهضة أو الإصلاح وعن إنسانوية الثورة الفرنسية التي اتسمت بغناها و طرافتها أو لكي نتبنى كلمة مؤرخ معاصر "إنسانوية كارل ماركس أو ماكسيم غوركي " .(5) وسوف تبقى تشير هذه المفردة الى الدراسات المتخصصة بالتراث القديم الغربي سواء كان يوناني او لاتيني وهو ماسوف يعرف بالنصوص الكلاسيكية التي تعبر عن نزعه محافظة على الروح والاخلاف الغربية، لكن سرعان مسوف تواجه مواقف نقدية من هذا التصور المحافظ (6)

و هكذا يمكن أن نعرف التزعة الإنسانية في عصر النهضة عامة بأنها الثقافة التي ميزت إيطاليا في القرنين الرابع و الخامس عشر التي نقلت إنجازا الفريدة بعد ذلك إلى كافة سرايا أوروبا، و هي تتمثل في دراسة الأدب الإغريقي و اللاتيني بوصفهما نمطا مثاليا من التربية و الحضارة، إن الموقف الفكري (المركزي للنزعة الإنسانية هو الرجوع إلى أصالة نصوص القدامى"((7) تضارع النزعة الإنسانية التي ظهرت في أوربا في القرون من الرابع عشر الى السادس عشر، وذلك بإحياء التراث اليوناني من جديد ومعاناة تجربة حية عن طريقه وهو مايتم بتمثله ونقله من الماضي إلى التطبيق، على الحاضر؛ كما في النزعة الاإنسانية الحديثة في إيطاليا .

أما المعنى المذهبي فيتردد كثيراً على ألسنة وأقلام المذهب القائم برأسه في فهم الوجود على أساس أن مركز المنظور فيه هو الإنسان، و ان الوجود الحق او الوحيد هو الوجود الإنساني .(8) وبحسب هذا المذهب فإن الأنسنة تمثل" قطيعة حاسمة مع كل نظرة: لاهوتية قروسطية صادرت كيان الإنسان باسم الإيمان! و تمثل في الوقت نفسه تأسيسا لفلسفة جديدة –لرؤية جديدة- تحل الإنسان محل المركز من الوجود بعد أن كان من الوجود على هامشه"(9). 

المبحث الاول: الانسنة اركولوجيا المفهوم وتاصيل الظاهرة

 أن هذا النمط من التعليم ارتبط كثيراً برهان مذهب الانساني القائل:" بأن انسان هو أعلى قيمة في الوجود " منذ البداية وشكل بلاغة سياسية مختلفه متنوعة؛ الا انها تبقى اشكالية تتسم بالديمومة والديناميكية،لكن يبقى محورها الانسان على الرغم من تنوع رهاناتها الخطاب الفكر للانسنية، ورهاناته بتنوع التاريخية؛ اذ يشير مصطلح الأنسنة إلى طرق قديمة معروفة في" الإنسانيات" تنبع من وجود تصوّر معين لإبداع الإنسان الأدبي ولهويته وللمحيط المادي الذي يعيش فيه ويتفاعل ضمن حدوده .

سوف نتعامل هنا بتقديم تحليل تكويني، نتابع من خلال تحولات المذهب وتغيراته بحسب الرهان وطبيعة الاشكالية ثم نعمل على تحليل بنية التحول الانسنة بوصفها مذهب المعاصره اليوم .

1: تحليل تكويني لمذهب الانسنة:

1-1: فنجدها مع السفسطائية: التي ظهرت ضمن اشكالية " الاستبداد –الديمراطية "في بحثها عن حل دفعها الى جعلت من الانسان هو محل اهتمامها الاول وقدمت تصور متقدم في وقتها التي ارتبطة جدليتهم " بالحرية مقابل قول سقراط بهيبة الدولة " تلك البداية في جدلية الانسان بوصفه مقياس ومركز الوجود فلابد ان يتمتع بالحرية، وهذا ما جعل بروتاجوراس يقول: ان القانون وليد العقل والمسوغ هو حماية الامن والنظام الاجتماعي الذي يستمد مشروعيته من المجتمع حصرا،عبر العقد الاجتماعي . (10) وبهذا تم انسنة القانون بوصفه الظمانة الحقة من اجل الامن فليست القوانين من عمل الآلهة أو الطبيعة، وإنما نتيجة مترتبة على اتفاق الرأي بين المواطنين وكفالة الحرية فضمان احترام القوانين نابع من كونها حازت احترام تلك القوانين التي حازت اتفاق الناس.(11) وهذا الاحترام قوامه المعرفة بالخير والفضيلة وليس خوفا من العقاب فهيبة القانون مستمدة من معرفة الخير. لكن تلك الاشكالية ولدت ردود عنيفة توارت خلف نقد فلاطون –ارسطو .

1-2: اما مهيمنة الكنيسة: كانت بداية ولادة المهيمنة الدينية التي كانت قد انطلقت من الرؤية الدينية، فالدين هو نظام يقوم على الاعتقاد /واللا إعتقاد أي نظام يشتمل على مجموعة من المعتقدات الأساسية التسليمية تنفي ما عداها، فالانظمة الدينية تشتغل أو تمارس فعلها على هيئة الحقائق المطلقة التي لا يمكن تجاوزها .(12) يبدو ان الظاهرة الدينية تلك بحسب تفسير روني جيرار(و 1923م) (René Girard) حول نشأة الدين بأنّه حلّ لأزمة المحاكاة (la crise mimétique)، هي الحالة الأنتروبولوجيّة التي استنتجها جيرار من دراسته للأديان الأوّليّة، والأديان الكبرى التاريخيّة، حالة عنف أصليّ، متضخّم ككرة الثلج، بآليّة التقليد أو المحاكاة المنطلقة من الرغبة الفرديّة في التملّك، التي فسّر بها روسو نشأة اللاّمساواة. تعمل آليّة المحاكاة على دفع الجميع في اتّجاه التنازع على المصلحة، وسرعان ما تنسّي المحاكاة موضوع الرغبة أو المصلحة، ليتحوّل النزاع إلى صراع يغذّي نفسه بنفسه دون موضوع، إلى درجة تهدّد المجموعة في وجودها. وهنا بالذات تتدخّل آليّة المحاكاة أيضا لتقدّم حلّها المنقذ من دورة الحرب الفارغة، فتحوّل محور الأزمة، من مركز المجموعة إلى هامشها، إلى واحد منها أو جهة، تتألّب بقيّة المجموعة ضدّها، فتشبع نهمها للعنف من خلالها، وتنهيه. هكذا تخلق المجموعة الدين أو تخضع له بوصفه السرديّة التي تقود آليّة المحاكاة نحو خلاص المجموعة من العنف المهدّد لوجودها.(13)

فهذه الظاهرة تمخض عنها في الغرب مهيمنة الكنيسة التي كانت بالاساس تقوم على الفصل بين الدين والسلطة تحتكر بمقتضاها الكنيسة الشرعية المتعالية فيما تمارس الدولة السلطة الزمنية؛ الا ان الكنيسة حاولت تجاوز هذا الامر في العصر الوسيط ففرضت وصايتها على السلطة الزمنية مما جعل منها سلطة متعالية يكون بمقتضاها الغموض المسيطر على الأدمغة غموض العالم الإلهي. إنّ هذا الارتهان إلى المسار القديم لمجريات عمليّة الفهم الميتافيزيقي، تظهر ملامحه في أكبر مقولات التفكير الكنسي مع اوغسطين وانسلم ويمكن تكثيف العلية في ذلك الوقت لست أسعى للفهم لكي أعتقد، بل إني أعتقد لكي أفهم"(14).

المنطق الذي اسس له اوغسطين والذي يوجب ان يكون هناك اعتقاد بامر الدين قبل الفهم او الدفاع العقلي عن ذلك الاعتقاد تحول هذا المبدء الى شعار أطلقه انسلم في القرن الحادي عشر، هذا المبدأ التأويلي "الهرمونطيقي" الذي يؤسس لرؤية منهجية تسعى إلى تثبيت المقولات الدينية وليس إلى فهمها فهذا المبدأ الذي أكد أن الايمان يسبق الفهم: " لا تحاول أن تفهم لكي تؤمن بل آمن لكي تفهم. "(15)

لكن هذه الرؤية الكنسية ولدت ردود فعل من داخل المؤسسات التعليمية من الفصل بين اصبحت الرغبة بالعقل والانفتاح على الحقيقة التي تختلف الطرق المؤدية اليها يجعل هنا فسحه امام العقل وهو مطلب الاساتذة من غير اهل اللاهوت في الجامعات الفرنسية التي كانت تبحث عن متنفس لها سواء كان هذا في كليات الفنون او الرشدية اللاتينية والردود على دليل الاحمق الذي قدمه انسلم في اثبات الله .(16) وقد ازداد الاهتمام بالعقل في القرن الثالث عشر حتى جاءت النهضة .اذ كانت هناك رغبة في محاكاة التراث القديم سواء كان جاء مترجم عبر الاسلام او جاء من اليونانية . 

1-3: عصر النهضة:وقد تعمقت هذه الرغبة في المحاكاة لكن هذه المرة ارتبطت بجملة من التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ساهمت الدول مثل: ايطاليا، وفرنسا، وانكلترا، وغيرهما في بزوغ حركة النهضة التي رافقت ظهور الدولة فكانت مطالب الحركات الاحيائية التراث اليونان والتراث الانساني مطلب حيوي من اجل خلق منافذ اخرى غير سرود الكنيسة المتعالية ومن هنا جاءت حركة الاحياء التي وصفها إسماعيل مظهر (1891-1968) بالنشورية بمعنى البعث، والتالي هي الأكثر تعبيرا عما صدر المصطلح الغربي من إحياء الآدب القديمة وبعث الإنسان من رقاد القرون المظلمة (17)، تلك القرون التي تمثلها القرون الوسطى في ظل مهيمنة الكنيسة وهيمنة اللاهوت على حساب الانسان .فهذه الحركة النشورية كان تمذهب حول الانسان والتحرر هي شاغلها الاكبر، وان اتخذت وسائل تعبير اوسع من تلك في مدارس الفنون في باريس في العصر الوسيط؛ لكن هذه المرة تعكس تحولاً اقتصادياً وفنيأً وثقافياً، اتخذ مسارب متنوعة في التعبير عن تمذهبه الانساني وان كان التوجه الأساس لهم أدبياً وفنياً, دعوا إلى بعث الإنسان من رقاد القرون المظلمة, وأحياء الاداب والعلوم اليونانية القديمة, بما تنطوي عليه من أفكار عقلانية وطبيعية, وقد كانت تمثل حتى عصر النهضة ذروة ما وصل إليه التفكير الإنساني, و دافعَ إنسانيو النهضة عن حرّية الفكر والنشاط الإبداعي, و دعوا إلى استقلال السياسية, و المجتمع, والثقافة, و العلم, عن الكنيسة ورجال الدين.(18)

   بالنزعة الإنسانية المؤمنة, أي تلك التي تجمع بين الكتابات الدينية من جهة، وكتابات أدباء اليونان والرومان وفلاسفتهم من جهة أخرى و المفكر الإنكليزي توماس مور، في تيمة تصور يوتوبي يعبر فيه عن ارادة مجتمع بديل يتمتع بالتحرر من ارادة الكنيسة . ولكن حروب المذاهب داخل المسيحية بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين وكل المجازر التي رافقتها وضعت حداً للنزعة الإنسانية المتفائلة جدا بنوايا الإنسان وإمكانياته, و أضعفت بشدة تلك النزعة المؤمنة، فقد كشف الإنسان عن وجهه القبيح أثناء هذه الحروب الأهلية المدمرة, وبدا أنه قادر على ارتكاب أبشع الأعمال والمجازر, وعندئذ طرأ تحول على مفهوم النزعة الإنسانية, وأصبح أكثر واقعية, وهذا ما يتجلى في كتابات الفيلسوف الفرنسي مونتيني (1533 ـ 1592) الذي صور الإنسان كما هو عليه, لا كما نحلم أن يكون. فالإنسان المثالي الذي يرتقي عن الصغائر ولا يفعل إلا الخير لم يعد له وجود لديه, وإنما بدا الإنسان على حقيقته بخيره وشره، بعجزه وبجبره, فبقدر ما هو قادر على صنع المعجزات وتحقيق التقدم، بقدر ما هو قادر على ارتكاب أكبر المجازر والحماقات في حق أخيه الإنسان إذا ما اختلف عنه في العقيدة أو المذهب. لقد هناك (قطيعة حصلت في أوروبا بعد الاصلاح الديني وعصر النهضة فقد حصلت قطيعة بالقياس الى الماضي، بالقياس إلى العصور الوسيطى . ثم توسعت هذه القطيعة وازدادت بعد عصر التنوير حتى وصلت أوروبا إلى مرحلة الفصل بين الكنيسة والدولة في بداية القرن العشرين . وكان ذلك نتيجة التنافس الهائج والحامي بين الكنيسة والدولة من أجل امتلاك السلطة السياسية .)(19)

هذا النص المهم الذي يكثف فيه اركون الصراع واليات الحذف والاقصاء التي مارستها من قبل الكنيسة عندما تجاوزت حدودها المعنوية والشرعية المتعالية نحو الهيمنة على السلطة الزمنية حيث اختفى الانسان وهيمن المطلق وتجلياتها في سلطة رجال الدين التي ترفض ان تكون تاريخية بل متعالية، جاء رد الفعل هذه المرة من قبل الدولة التي حاولت هي الاخرى حذف الدين من الفضاء العمومي واحتلال الدولة الشريعة المطلقة الزمنية وحلت الفلسفة محل الكنيسة واصبحت الفلسفة هي التي تقدم تصوراتها وتسبغ الشرعية على الدولة بدل الدين، ومن هنا جاءت التحولات الجديد تقدم حذف واقصاء للاخر الديني وتحارب التغريب الذي يعاني منه الانسان في ظل المطلق والذي عتمد على الخطاب السياسي والديمقراطية الحسابية بعرف هابرماس (20) لكن الصراع الذي اشتد بين الكنيسة والدولة قدمت الفلسفة حلولها فقد استعاد هوبز تصورات بروتاجوراس كما سب تناولها فيما يتعل بالسلطة والشرعية والعقد؛ لكن ضمن اشكالية جديدة ولدت فيها الدولة فقد قال توماس هوبس(1588-1679) إنّ الدولة كانت حلاّ للعنف الأصليّ، لحرب الكلّ ضدّ الكلّ، هذه فكرة أساسيّة لنشأة الدولة ولاستمرارها -رغم بدايتها الداعمة للسلطة الفرديّة الملكيّة- في العمل على تجسيد الديمقراطيّة في شكلها التمثيلي خاصّة. ورغم انطلاقها من فرضيّة ذات مضمون اختباري ضعيف، فإنّها كانت حلاّ نظريّا، لواقع تاريخي عمليّ، هو واقع خروج أوروبا من فترة عنف شامل سبّب حربا تعرف بالحروب الدينيّة، وحرب المائة عام، وحرب الثلاثين. النظريّة كانت في سياق الإنسيّة العامّة انقلابا في مفهوم الشرعيّة، حاولت افتكاكه من احتكار السلطة الدينيّة، لتمنح إلى الإنسان، كان الدين في أوروبا وإلى حدود تلك الفترة، أكبر أداة شرعنة للوجود والسلطة، وكان هو الحلّ للفوضى ولحرب الكلّ ضدّ الكلّ الذي أراده هوبس أن يكون في الدولة. ومن ههنا كانت الإنسيّة العامّة هي المدخل لحوار المتنازعين حول المشروع المجتمعي، فخلّصته بتمحورها حول الإنسان من تعارض مساري التفسير الميتافيزيقي المتواجهين، ولكنّها خلّصته أيضا ممّا كان سببا في نظرها في دورة العنف الفارغة أي الدين.(21)

1-4: الحداثة والتنوير:

لقد جاءت التحولات الحداثوية لتشكلاً تحولاً مهم من بنية ثقافية الى أخرى لقد جاءت الحداثة بوصفها خطابا فلسفيا محطما " الاصنام " هو الذي تسرب الى التاريخ بغاية أن ينحت تدريجيا هذه الظاهرة الخارقة التي أجمع المفكرون على تسميتها "ازالة الصبغة السحرية عن العالم (22)عبر منعطف ثقافي يقف بين عصرين ما قبل الحداثة والعصر الذي يؤدي الى الحداثة كما وصفه "ماكس فيبر:بالشرخ الكبير بين عالمين عالم الأسطورة وعالم إزاحة الأسطورة وقد قاد هذا التحول مجموعة من المثقفين وكما يقول "سروش" : فان المثقفين يولدون في مرحلة التحول والتغيير، ويربطون بالعصور التي يوجد فيها قطيعة تاريخية في المجتمع البشري وفي مرحلة العبور من العقل التراثي الى العقل الحداثوي ظهر المثقفون في الغرب من امثال: فولتير، وبيدرو، ولما تم التحول تحول المثقفون الى كتاب ومفكرين وعلماء وفلاسفة ... بسبب انتهاء مرحلة العبور .(23) ويمكن رصد العبور هذا في المجالات الآتية:

1-4-1: في مجال المعرفة: لقد طورت طرائق وأساليب المعرفة من خلال الانتقال التدريجي من المعرفة التأملية الى المعرفة التقنية الاداتية .المعرفة التأملية بوصفها معرفة كيفية، ذاتية وانطباعية، وقيمية،فهي اقرب اشكال المعرفة الى النمط الشعري، و الاسطوري القائم على جماليات الاشياء وتقابلاتها ومظاهرها و التناسق الازلي القائم فيها .

اما المعرفة التقنية الاداتية فهي معرفة مختلفة قائمة على اعمال العقل بمعناه الحسابي وهي معرفة عمادها الملاحظة والصياغة الرياضية والتكميم والنمذجة .فالمعرفة التقنية غايتها السيطرة الداخلية والخارجية على الإنسان والبيئة، فهي سيطرة على الطبيعة عبر السيطرة على الإنسان .

1-4-2: في مجال الطبيعة: لقد كان نشوء العصر العلمي –التقني هو الحدث الأبرز في القرن السابع عشر، وقد كان له اثر في التحول الأساسي في نظرتنا إلى الطبيعة ففي الوقت الذي كانت الطبيعة في العصر الوسيط "نظاما متكاملا من التناسق الازلي الذي يعكس الحكمة العلوية " اصبحت الطبعة تعني امتداداً Rex extensa متجانس العناصر لا فرق ولا تميز بين مكوناتها، ولا تخضع لتراتب انطولوجي كما كان الامر في الفكر القديم والوسيط . فالمكان عبارة عن وحدات او نقط متجانسة والزمان بدوره آنات متجانسة، هذا التصور مهد الى التصور الميكانيكي للطبيعة وهي كم هندسي ممتد قابل للحساب وخاضع لقوانين الرياضية .اذ تُعد الطبيعة كما قال غاليلو:"كتاب مفتوحا بلغة المثلثات والمربعات والاشكال الهندسية " .(24) 

1-4-3: في مجال الزمان والتاريخ: أن تحول الكينونة إلى فعل وصيرورة ابتدأ في الطبيعة ثم سرى إلى التاريخ .فقد أصبح التاريخ سيرورة Processus وصيرورة Devenir أي مسارا حتميا تحكمه وتحدده وتفسره عوامل ملموسة كالمناخ والحاجات الاقتصادية للناس،أو حروبهم وصراعاتهم من أجل الكسب، وكالصراع العرقي، أو القبلي او المذهبي او غيره .من هنا فان زمن الحداثة زمن متجه نحو المستقبل الذي يكتسب بالتدريج دلالات يوتوبية عبر تجربة تتنامى فيها المسافة بين الحاضر والمنتظر، وتطغي على قاموسها مصطلحات التطور، والتقدم والتحرر و الأزمة .

1-4-4: في مجال الانسان:المفارقة الكبرى في تصور الحداثة للانسان - التي يشير اليها محمد سبيلا - هي: انه عندما يجعل الانسان مركزاً مرجعياً للنظر والعمل، وينسب اليه العقل الشفاف، والارادة الحرة والفاعلية في المعرفة وفي التاريخ، فهو بنفس الوقت يكشف بجلاء عن مكوناته التحتية، ومحدداته العضوية الغريزية، والسيكولوجية ودوافعه الاولية: الجنس، العدوان، البحث عن الربح، التغذية .

النتيجة:هي أن نظرة الحداثية للإنسان تلتقي من حيث إضفاء صيغة طبيعية على الإنسان، بإضفاء صيغة تاريخية على الطبيعة، وإضفاء صبغة طبيعية على التاريخ، والفلسفة ومعظم العلوم الطبيعية تنخرط في هذه الحركة ابتداء من الفيزياء الفلكية الى الانتروبولوجيا الإحيائية .(25) وهذا المنعطف المهم عبر عن الفكر الجديد وليد مرحلة الانسنة التي تقوم على أصالة الإنسان وحريته واختياره، فالإنسان ودع العالم القديم وأصبح متحررا في أفكاره وفي إرادته ويعتمد على نفسه .

 ثمرة لعصر التنوير و الانقلاب على الرؤية اللاهوتية للعالم و الإنسان، أي هي ثمرة رؤية دنيوية و محصلة فلسفة، علمانية و دهرية، ذا المعنى فإن الأنسنة هي الوجه الآخر للعلمنة .(26)

لكن في ظل هذا التحول الذي حدث كانت هناك ولادة الى مهيمنة جديدة هي الدولة التي توسعت سلطاتها وشملة اقصاء كل ماهو ديني وحلت الفلسفة بدل الكنيسة في منح المشروعية السياسية وهذا مسار الذي سلكته الحداثة جعلها تصل الى حالة من الاصطدم بالمؤسسة الدينية معرفيا وأيديولوجيا،اذ جعل من الحداثة بوصفها مشروعا معاديا للدين، حيث كان هدفها تقديم فهم جديد إذ يخرج علي ثوابت الدين ومقدساته، بحسب الفهم الوسيط ويجعل الدوله بديل عن سلطة الكنيسة لكنها من ناحية اخرى (أن الحداثة ارتبطت بالإصلاح الديني في الغرب)(27)

 هذا احد مفكري الحداثة(ماكس فيبر) أكــد أن الأخلاق والعقيدة البروتستانتية المسيحية هي التي خلقـت المجتمع الـــــرأسمالي المتطور الذي يرتكز علي العقلانية ويتقـاطع مــع الســلطة الكـاريزمية والسلطة التقــليدية التي تعـــتمد عــلى الانفعالات والعـادات والتقـاليد والولاءات الشخـصية والعشائرية والأســرية والقبلية، فالسلطة العقـلانية هي رمز للتقدم والتحضر والكفاءة والعلم والعدالة والمساواة.

بدأ عدد متزايد من المفكرين الأحرار, والفلاسفة الأكاديميين, استخدام مصطلح “Humanism”. في ذلك الوقت عقب الحرب العالمية الأولى, نمت التوجهات الإنسانية داخل الحركات الإلحادية والعلمانية, وكذلك في الأوساط الأكاديمية، حتى تم تأسيس الزمالة الإنسانية في عام 1927 في جامعة شيكاغو، والتي أصبحتْ نقابة الصحافة الإنسانية في 1930, ولاحقاً 1941 تحولت لرابطة الإنسانيين الأمريكيين. أما في عام 1933 فقد صدر لأول مرّة في التاريخ “الوثيقة الإنسانية”, وهو البيان الإنساني الأول, تضمنت تلك الوثيقة صياغة مبادئية للنزعة الإنسانية, كتبها (روي وود سيلرز) و (ريمون براغ), وتم نشرها بواسطة ثلاثة و أربعين موقعاً, منهم رائد الفلسفة البراغماتية (جون ديوي), وبعكس البيانات والصياغات اللاحقة, أفادتْ تلك الوثيقة بـ “دين جديد”, و أوضحت أن الإنسانية حركة دينية جديدة, تفوق و تستبدل الديانات القديمة, المؤسسة على إدعاءات غيبية فائقة للطبيعة, بيد إن هذه الوثيقة الإنسانية الدينية, بالوقت عينه, أكدت على أن العقلانية و العلم هما السبيلان دون غيرهم, لتقدم وتطور البشرية, و تخلصها من آلام الوجود, وبدت “الوثيقة الإنسانية” متفائلة جداً, تستشرف مستقبلاً زاهراً للأمة الإنسانية, وبصدد التدين الإنساني فإن الإنسانيين الدينين ينطلقون في ذلك من قناعة مفادها: أن الدين يلعب دوراً وظيفياً في حياة الإنسان أقوى من الدور الذي تلعبه الآراء الفلسفية.

أن البيان السابق كان متفائلاً جداً, لكن تجاوزات النازية و أفعالها الوحشية إضافةً إلى قمع الدول الشمولية لحقوق الإنسان وتفشي العنصرية وازدياد الفقر بإطراد, هو ما دعا إلى إيجاد صيغة جديدة واقعية في آمالها وأكثر دقة مفاهيمياً. ووضعت هذه الوثيقة أبرز ملامح النزعة الإنسانية الملحدة, وتجاهلت تحديدها بأنها حركة دينية أم علمانية, وارتكزت إلى رفض الفكر الديني التقليدي و الخارق للطبيعة ” لا يوجد إله ينقذنا لذا يجب علينا ان ننقذ أنفسنا.”, وإلى مفهوم الفردانية بصياغته الإنسانية وهو في تأكيدها على استقلالية الفرد إلى أقصى حد ممكن بالتناغم مع المسؤوليات الاجتماعية, وإلى السُبل العلمية و العقلانية باعتبارها الطريق الوحيد المؤكد لمعرفة الوجود وتحسين ظروف الحياة وتطوير أساليب العيش, كذلك توجهت نحو الدعوة إلى مجتمع عالمي قائم على السلام ورفض العنصرية والاحتكام إلى محكمة دولية في حالات النزاع دون اللجوء إلى العنف, وحددت موقفاً يقف على مسافة واحدة من كلا التوجهين الاقتصاديين الرئيسيين الشيوعية والرأسمالية .

أما في نهاية القرن العشرين وفي عام 1996, اعتمدت الجمعية التشريعية العامة للاتحاد الإنساني و الاخلاقي الدولي, بيان الحد الأدنى من الإنسانية, وهو بيان تعريفي يوضح بالحد الأدنى معنى كلمة الإنسانية ونصه: “الإنسانية هي الديمقراطية، والموقف الأخلاقي في الحياة، والذي يؤكد أن للبشر الحق والمسؤولية لاختيار شكل و معنى معينيين لحياتهم. إنها تقف من أجل بناء مجتمع أكثر إنسانية من خلال الأخلاقيات المنبنية على أساس الإنسان والقيم الطبيعية الأخرى في روح من المنطق والتساؤل الحر من خلال القدرات الإنسانية, وليس الموافقة على الظواهر الخارقة المتبناة.”, وهذا البيان يمثل أول تعريف عالمي للنزعة الإنسانية.

2: بنية الخطاب الانسني والتحولات المعاصرة (من المحاكاة الى التخيل)

في هذا المطلب اردت ان اتناول سمه مميزه في الفكر الانسي هي كونه كان يحاول محاكاة رموز مهمة في تاريخ الفكر والأدب الغربي كنت اجد انها سمت هيمنة على المفكرين الانسين حتى اصبحت قارة وانا هنا اوحاول رصد جمله من الملاحظات ترد في تاريخ الافكار عن الانسنة حتى استوطنت في ذهن الدارسين لا يمكن الاحاطة بها وضمها جميعا في هذه الورقة البحثية .

ترد في الدراسات الانسية موضوعة المحاكاة بمعنى محاول تمثل او محاكاة افكار انسانية التي جاء بها ادباء او فلاسفة من اصحاب النزعة الانسانية او الانسنة،فهذا يفترض بنا ان نقوم بتأصيل المفهوم ثم تدبر الاستخدام بعد ذلك .

 2-1: على الصعيد الاول نجد ان مفهوم المحاكاة يرتبط برؤية فكرية تعود الى افلاطون وهذا ما يتجلى من خلال التصريحات التي قام بها افلاطون من الفن عامة والشعر خاصة؛ اذ اعتقد بأن " الفنان الخالق يحاكي العمل الذي يخلقه، ويكتسب شيئا من طبيعته، أو يكسبه (ذلك العمل) شيئا من طبيعته الخاصة"(28). هذه العلاقة بين الشيء والفنان مهمة في كون بينهما تأثير وتأثر كل منهما يمنح الاخر شيء من سماته او طبيعته.

 2-2: لكنها عند ارسطو تتخذ طابعا تاصيليا عند الفنان فهي صفة اصيل وعميقة الحضور لكون ارسطو اعتبر المحاكاة، هي بالإضافة إلى كونـها مبدأ سببيا للشعر والفن، فهي أيضا، وقبل ذلك، مبدأ غريزي في الإنسان، يرتبط به تهيؤ الإنسان لتقبل المعارف الأولية، كما يرتبط به الشعور باللذة الناجمة عن حصول المعرفة والتعلم لدى الإنسان.(29)

اذا هي سمت اصيلة في الانسان لكن هذا الامر لا يبدو محدداً بوضوح عند ارسطو، فكل (شيء في كتاب الشعر يرتبط أساساً بفكرة المحاكاة، والإشارات كثيرة إلى هذه الفكرة، ولكننا لا نجد لها تعريفاً ولا شرحاً واضحاً)(30). فهذا الامر يدفعنا الى تقديم تعريف لمفهوم المحاكاة؛ لأنه مهم في سياق بحثنا فهناك تقابل بين المحاكاة والتقليد فهل المحاكاة هي تقليد يبدو ان المفهومين (يؤديان معنى واحداً، فالذي يحاكي أو الذي يقلد ينحو نحو تحقيق عمل يشبه النموذج الذي يحاكيه أو يقلده)(31) ثم ان هذا المفهوم كان غير محدود في موضوع محدد دون سواه؛ بل يرى الفارابي ان هذا المفهوم شمل الفنون الاخرى اذ يقول (فإن محاكاة الأمور قد تكون بفعل. وقد تكون بقول، فالذي بفعل ضربان: أحدهما أن يحاكي الإنسان بيده شيئا ما، مثل ما يعمل تمثالا لا يحاكي به إنسانا بعينه، أو شيئا غير ذلك، أو يفعل فعلا يحاكي به إنسانا ما أو غير ذلك.) (32) .

2-3: نقد تودروف: قد تعرض المفهوم الى المراجعة والنقد حيث ظهر كونه مفهوم اشكالي قلق، كما هو الشأن إلى المترجمين الفرنسيين الحديثين لكتاب الشعر روزلين روك وجان لالو، اللذين يعرضان اقتراحا باستبعاد معنى التقليد عن المحاكاة، والأخذ بمعنى التصوير أو التمثيل. فالازاحة كبير بين المحاكاة التمثيل كما يتجلى في الفهم المعاصر في ملفوظات مابعد الحداثة،اننا في هذا التاصيل نود تبيان طبيعة العلاقة التي اقامها الانسانين مع التراث الكلاسيكي اذ نجد من يرصد اشكال من هذه العلاقة كما فعل" فرنان بروديل" الذي يستعير تعريفا يقول (يمكن أن نشير باسم الإنسانوية إلى إيتقيا قائمة على النبل الإنساني، وهي إيتيقيا تهدف في الوقت نفسه إلى الدراسة و العمل، وتعترف بعظمة العبقرية الإنسانية و قوة إنتاجاتها وتثمنها عاليا و تتصدى بقوتها إلى القوة الفظة للطبيعة الجامدة . ويظل مجهود الفرد أساسيا لكي لا يضيع أي شيء مما يؤدي إلى الرفع من شأن الانسان ومن عظمتة) يبدو ان هذا النص يعد هذا المذهب بوصفها اخلاقيات تحاول محاكاة الابداع الانساني مقابل الطبيعة، الغرض نفسه نرصد هذه اول وصف لهذا المذهب الانساني، اذ يقول غوته Goeth في مستهل فاوست الثاني أن الإنسانوية هي (النزوع ضمن مجهود لا يكل، نحو أعلى مراب الوجود) ويقول ستاندال Stendhal (فالانستنوية تؤسس لأخلاق فردية وجماعية وتؤسس لتشريع و لاقتصاد وتفضي إلى سياسة معينة، وتغذي فنا وأدبا معينين) (33)، فاذا كانت تلك الاقوال مادحه فان هناك من صب نقده عليها مثل لإيتيان جلسون الذي قال ما معناه أن إنسانوية النهضة هي العصر الوسيط الذي لا يني إلى الاتجاه الطبيعي و الواعي أو غير الواعي لأي إنسانوية، فهي ترفع من شأن الإنسان وتعتقه وتقلص من نصيب الله حتى و لو تغفله تماما . (34) لكن يبدو ان هذا النمط من المحاكاة يجعلنا نقف عند تودروف اذ يقول: فإن الذات المبدعة التي تحملت مسؤولية الكشف عن الكينونة الإنسانية المنسية، بتعبير ميلان كونديرا، و يصنع مع مصطلح الأدب أو الفن، الذين عادة ما يحدد بأنه محاكاة، غير أن تودوروف يرى أننا لا نحاكي الواقع ضرورةً، بل نحاكي كذلك كائنات وأفعالاً ليس لها وجود، لذلك فإن الأدب تخيّل. (35) يبدو ان المحاكاة هنا تقوم على محاكاة افعال واقوال وافكار وبالتالي الانسانوية هي تحفيز مناضل على طريق الانعتاق التدريجي للإنسان، واهتمام ثابت بما للإنسان من إمكانات لتحسين مصيره أو لتغييره . (36) يبدو انها محاوله من اجل اقامة رؤية بديلة تحفز عالم انسانوي علماني بامتياز يتمركز حول نصوص غربية قديمة بوصفها بديل عن النصوص الدينية المهيمنة .لكن هذا التصور للأدب تزعزع خلال العصور الحديثة، حسب تودروف، وذلك عبر طريقتين ترتبطان معًا بالنظرة الجديدة إلى العلمنة المتزايدة للتجربة الدينية، مما أدى إلى تقديس الفن. ترتبط الطريقة الأولى باستعادة صورة قديمة ترتبط بالفنان المبدع الشبيه بالإله المبدع الذي ينتج مجموعات متناسقة ومنغلقة على ذاتها. لقد تم الاحتفاظ بفعل المحاكاة، لكن تم الانتقال به من محاكاة الأدب للعالم إلى محاكاة ترتبط بفعل الإنتاج ذاته، محاكاة الفنان المبدع للإله المبدع في القدرة على الإبداع، وليس فقط في نوع وطبيعة الإبداع. (37) ترتبط الطريقة الثانية بقطع الصلة بالرؤية الكلاسيكية، وذلك عبر القول إن هدف الشعر ليس محاكاة الطبيعة، بل إبداع الجمال باعتباره تجسيدًا للكمال، وبذلك لم يعد المبدع في حديثه هو الذي تتم مقارنته بالإله بل العمل الأدبي في كماله. (38) ينطلق تودروف من ربط روح عصر الأنوار، القائمة على استقلال الفرد، بالمنظور الجديد للفن الذي دخل ضمن هذه السيرورة الفكرية الجديدة، إذ أصبح ينظر للفن في استقلاله، وكذلك ينظر لقيمة الفنان في تحرره وتحرر عمله الفني. (39) من هذا المنظور يعتبر تودروف أن مفكري القرن الثامن عشر كانوا يسعون إلى التمييز بين طريقتين؛ طريقة الشعراء، وطريقة العلماء والفلاسفة، وقد ميز، في هذا السياق، الفيلسوف والبلاغي "جامبتستا فيكو" بين اللغة العقلية واللغة الشعرية، وهما لغتان تتعارضان مثلما يتعارض العام مع الخاص. (40)

2-4: نقد ادوارد سعيد: فهذه الرؤية التي اضاءت جزء من الخطاب الإنسانوي نجد ادوارد سعيد في تاصيله الى الخطاب الإنسانوي يقدم تحليلا الى كتاب " محاكاة" لكتاب إريش آورباخ في هذا الكتاب يظهر ان الكاتب هذا ما يمكن فهمه من تحليل ادوارد سعيد لهذا الكتاب الذي يستثمر مرجعيتان في النظر الى المحاكاة بوصفها خطاب انسي في التعامل مع النصوص الاكلاسيكية الاول يعود الى أواخر القرن التاسع عشر بدأ الفيلسوف النابغ ومؤرخ الادب "فيلهلم دلتاي W.Dilthey يرى في الهرمنيوطيقا أساسا لكل "العلوم الروحية " Geisteswissens-Chaften أي الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية،أي كل تلك الأفرع البحثية التي تضطلع بتفسير تعبيرات الحياة الداخلية للإنسان سواء كانت هذه التعبيرات إيماءات أو أفعالا تاريخية أو قانونا مدونا أو أعمالا فنية أو أدبية . (41) نجد أن تلك المقولة إذا ما عطفناها على هذا التوصيف يمكن ان نتناول المسيرة الفكرية لـ"دلتاي " من خلال تبيان موقفه من الموجهات الثقافية والتاريخية إذ يخضع لهما التأويل :العلاقة بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية:يظهر من خلال: التحولات العلمية من الخطاب الآلي إلى خطاب جديد مع القرن التاسع عشر التصورات المثالية التي كانت لها جذورها في الفكر التاريخي بين الوضعية والمثالية، فهي قد تعود إلى الاختلاف بين "ديكارت" و"فيكو" ولعل هذا يظهر في ان دلتاي كان متأثرا بـ"فيكو" G.Vico حول دراسة الطبيعة البشرية بوصفها ظاهرة طارئة (حادثة)Contingent تاريخية اذ كان فيكو هو خصم الأول لمنظور ديكارت للعلم والنصير الأساسي لعلم تاريخي في كتابه "العلم الجديد" إذ يرى أن هناك هوة لا يمكن اجتنابها بين البشري والطبيعي، بين ما شيده البشر وما هو معطى في الطبيعة .لم يصنع الإنسان الأعمال الفنية والقوانين وحسب، وإنما صنع التاريخ، ومن هنا يؤكد فيكو إلى أن الطبيعة الإنسانية لا يمكن أن تفهم إلا من خلال تحليل اللغة والأسطورة والطقوس. كان فيكو يؤمن بان"علمه الجديد" .ذلك انه حتى المجتمعات التي لا يوجد بينها أي اتصال توجد نفس المشاكل الوجودية (42) بين دلتاي ومحاول استعادة تجربة المؤلف من قبل القارئ ومن فيكو الذي يفصل بين التاريخ والطبيعه فيرى ادوارد سعيد (يحاجج فيكو أن البشر كائنات تاريخية من حيث أنهم يصنعون تاريخهم بأنفسهم،أو ما يسميه "عالم الأمم" . من هنا فالتاريخ قابل للفهم والتفسير فقط لأن " البشر قد صنعوه" طالما أننا لا نستطيع إدراك ما قد صنعنا بأنفسنا (تماما مثلما الله يعرف الطبيعة، لأنه هو مبدعها)(43)

 

 د. عامر عبد زيد الوائلي

جامعة الكوفة -العراق

...................

(1) http://www.almaany.com

(2) الانسانيات بوصفها مادة الدراسات الجامعية التي تُعنى باللغات والفنون والآداب والتاريخ،أو بمعنى أكثر حصرا باعتبارها دراسات المؤلفات الاكلاسيكية الإغريقية التي والرومانية .انظر: حازم خيري، مالات في الفكر الأنسي، دار المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،ط1، بيروت، 2010، ص9. وهذا الفرع من الدراسات قديم موجود في الجامعات الغربية في العصر الوسيط يقابله دراسات مهتمة او متخصصة باللاهوت،لكن هذا ولد مواقف نقدية من التراث المسيحي وميل الى العلانية وكانت هذه بداية حركة التحرر الانسية في عصر النهضة .

(3) فران بروديل، قواعد لغة الحضارات، ت: الهادي التيمومي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، 2009، ص386.

(4) NOELLA, BARAQUIN et autres، dictionnaire de philosophie, Armond Colin

Editeur, Paris, 1995, P: 154

(5) فران بروديل، قواعد لغة الحضارات، ص387.

(6) هنا يشير ادوار سعيد الى المواقف المحافظة التي كانت ترفض الادب الذي جاء بموقف ضد الادب الكلاسيكي اذ يشيرانموذجا منهم هو صول بلو 1915 روائي وكاتب امريكي انظر للمزيد:إدوارد سعيد الأنسية والنقد الديمقراطي، ت: فواز طرابلسي، دار الآدب،ط2، بيروت،2005، ص35.

(7) نفس المصدر،77

(8) عبد الرحمن بدوي، الإنسانية والوجودية في الفكر العربي، دار القلم، بيروت،1982،ص15-16.

(9) عبد الإله بلقزيز، العرب و الحداثة، دراسة في مقالات الحداثيين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ط 1، عام 2007، ص 62.

8 أفلاطون، محاورة بروتاجوراس، المرجع السابق، صـ 61

9 أفلاطون، محاورة بروتاجوراس، فقرة 326، صـ 61

(12) محمد اركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، ت: هاشم صالح، دار الساقي،ط1، بيروت، 1997، ص17.

(13) أنسنة المعرفة وأزمة المحاكاة عندنا، موقع مؤمنون بلا حدود .

(14) يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الاوربية في العصر الوسيط، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1946،ص84..

(15) نفس المصدر،ص 84-86.

(16) دليل انسلم والرد عليه: وهي الرسالة التي نشرها جونيلون رسالة أسماها " الدفاع عن الاحمق " وقد رد عليه انسلم " رداً على جونيلون ".ص87-88.

(17)حازم خيري، مقالات في الفكر الانسي، ص11

(18) انظر يوسف كرم تاريخ الفلسفة الاوربية .

(19)محمد اركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، ص21.

(20) حاول هابرماس ان يعالج هذا الانسام الاجتماعي وحذف الدين من الاطار العمومي فيما بعد .

(21) انظر: توماس هوبز، اللفياثان الاصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ت: ديانا حبيب حرب، دار كلمة، ط 1، بيروت، 2011، ص وانظر: أنسنة المعرفة وأزمة المحاكاة عندنا، موقع مؤمنون بلا حدود، المصدر السابق.

(22) داريوش شايغان: ما الثورة الدينية، ترجمة: محمد الرحموني، دار الفكر الجديد النجف الاشرف، ص17 .اذ يصف هذا التحول بالاتي: فستبدأ في القرن الثامن عشر الميلادي في الغرب، وهي طفرة كيفية ونوعية، أحدثت قطائع ثقافية على مستوى التاريخ البشري. ملمحها الأول كان هو الثورة الكوبرنيكية، المتمثلة في إحلال مركزية الشمس محلّ مركزية الأرض، أو من العالم المغلق المحدود إلى الكون اللانهائي بتعبير الفيلسوف Alexandre Koyré.

 (23) سروش، عبد الكريم، السياسة والدين، ترجمة: احمد القبانجي، دار الفكر الجديد،ط1، النجف الاشرف،ص199، ص10.

(24) رشيد الإدريسي: الحداثة: الأخلاق والسياسة،م فكر ونقد، الدار البيضاء،ص

(25) المصدر السابق،ص.وانظر: داريوش شايغان: ما الثورة الدينية،،ص28.

(26) علي حرب، حديث النهايات، فتوحات العولمة و مآزق الهوية، المركز الثقافي العربي، بيروت، المغرب ط: 2، عام 2004، ص 73.

(27) عوض القرني،الحداثة في ميزان الإسلام،جريدة الشرق الأوسط، الخميس 62 مايو 2005-ع 9676.

(28) أفلاطون: الجمهورية الكتاب 3 الفقرة 392-393 دراسة وترجمة د. فؤاد زكرياء الهيئة المصرية العامة للكتاب مصر 1974 ط1 ص 159

(29) أرسطو: فن الشعر ت: عبد الرحمن بدوي دار الثقافة، بيروت،1973 ص 12.

(30) عباس أرحيلة، الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين, مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط1، 199،ص 204 .

(31) المحاكاة مرآة الطبيعة والفن، للدكتور إسماعيل الصيفي, 5، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية, ط1، 1989،ص5.

(32) الفارابي، مقالة في قوانين صناعة الشعراء كتاب فن الشعر ت: عبد الرحمن بدوي المشار إليها فيما سبق ص 150.

(33) فرنان بروديل، المصدر السابق، ص387

(34) نفس المصدر، 389.

(35) تزفيتان تودروف، مفهوم الأدب ودراسات أخرى، تر: عبود كاسوحة، دمشق، منشورات وزارة الثقافة، 2002، ص 8

(36) فرنان بروديل، المصدر السابق، ص388.

(37) تزفتان تودروف، الأدب في خطر، تر: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، ط 1، 2007،، ص 24

(38) المرجع نفسه، ص 25.

(39) المرجع نفسه، ص 29

(40) المرجع نفسه، ص 35 .اذ يشير تودوروف: وحضر هذا التصور نفسه مع "باومكارتن" الذي تصور الشعر إبداعًا لعالم ممكن بين عوالم أخرى. وقد اهتم "ليسينغ" بهذا المنظور حينما اعتبر أن العمل الفني يطمح إلى إنتاج الجمال الذي لا يخضع لغرض خارجي. ويصل تودروف إلى "كانط" من خلال كتابه "نقد ملكة الحكم" الصادر عام 1790 الذي أثر على مجموع التفكير المعاصر حول الفن، حينما أكد على أن الجمال منزه عن الغرض. يعتبر تودروف أن علم الجمال الرومانسي، الذي فرض نفسه خلال مرحلة القرن التاسع عشر، لم يأتِ بقطيعة، فقد حول مركز ثقل المحاكاة إلى الجمال وأكد استقلالية العمل الفني، هذا من جهة، ولم يكن، من جهة أخرى، يجهل العلاقة التي تربط الأعمال الأدبية بالواقع. لكن الأمر الجديد لدى الرومانسيين هو حكم القيمة الذي يصدرونه على مختلف صيغ المعرفة، والتي يمكن بلوغها عن طريق الفن، حيث تبدو لهم متفوقة على صيغة المعرفة العلمية، باعتبارها تخلق واقعًا جديدًا محظورًا على الحواس وعلى العقل.

(41) عادل مصطفى، فهم الفهم مدخل الى الهرمنيوطيقا،ص116.

(42) المرجع نفسه ص124-125. ونظر بواسطته: ماكيل كو، علم النفس الثقافي – ماضيه ومستقبله، ترجمة كمال شاهين د- عادل مصطفى، دار النهضة العربية،ط1، بيروت ، 2002، 51-58.

(43) إدوارد سعيد الأنسية والنقد الديمقراطي، ص114-115.

 

في المثقف اليوم