أقلام فكرية

القطائع الابستمولوجية في فكر فتجنشتين (1)

محمود محمد عليبدأت حركة التحليل الفلسفي بظهور مقال "جورج مور" G.moore 1873-1958 – " تفنيد المثالية " (1903) . حيث ثار فيه ضد الهيجلية الجديدة . إلا أنه قدم في نفس الوقت مثالاً عملياً لمنهج جديد لمعالجة المشكلات الفلسفية يعد بحق من أهم مصادر حركة التحليل . ثم جاء " برتراندرسل B.Russell (1872-1970) " وتابع زميله مور في ثورته ضد الفلسفة المثالية مستخدماً هذا المنهج التحليلي الجديد . ومع اتفاقهما في كثير من الآراء، إلا أن كلاً منهما كان ينظر من منظور مختلف، فبينما كان "رسل " متأثراً بالتعارض الذي رأه قائماً بين العلم المعاصر والميتافيزيقيا المثالية، كانت نقطة انطلاق " مور " التعارض بين نظرة الحس للعالم والنظرة المثالية له . وجاء " لودفيج فتجنشتين " L.Wittgenstein (1889-1951) ليكمل مسيرة تلك الثورة الفلسفية، ويجاهد فيها ببسالة حتي بدت غير قاصرة علي المثالية وحدها، بل بدت ثورة ضد الميتافيزيقيا والفلسفة ذاتها، فقد كانت بالفعل " فلسفة " ضد الفلسفة .. فعلي حين كانت إسمية " أوكام " نصلا يجتز به الزيادات الطائشة للفلسفة، كانت نظرية فتجنشتين عن اللغة فأساً يقطع بها شجرة الفلسفة " .

لقد كانت فلسفة " فتجنشتين"  نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي المعاصر، ويرجع ذلك إلي أهمية المنهج الذي اصطنعه في بحث مشكلات الفلسفة وهو المنهج التحليلي الذي يتناول عبارات اللغة، التي نصوغ  فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، يتناولها بالتحليل المنطقي لكي يكشف عن أن هذه المشكلات ليست أصلا بمشكلات، وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة . الأمر الذي جعل فلسفة " فتجنشتين" أشبه ما تكون بالثورة علي الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهوم الفلسفة نفسها وكذا من مجالها ووظيفتها . فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة، وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها أو الوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم .. إلي غير ذلك – إلي البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معني منها وما لا معني له أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء علي اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي للغة . ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة نسقات فكرية أو ميتافيزيقية متكاملة، أصبحت الفلسفة لديه فلسفة للفلسفة، وأصبح عمل الفيلسوف عنده، هو أن يكون فيلسوفا للفيلسوف بتحليله لما يقول .

وقد اختلفت الباحثون في تقييم فلسفة " فتجنشتين " اختلافاً شديدا، من النقيض إلي النقيض ؛ أتباعه وأنصاره من الوضعيين المناطقة يرفعونه إلي أعلي عليين، ويجلونه في مكانة الرائد والزعيم، ويجلونه إجلالاً عظيماً، ويعتبرونه شخصاً نادر الأصالة والعبقرية، ومفكراً قلما يجود به الزمان ؛ وأعدائه من المدارس الأخرى يرونه وبالاً علي الفلسفة، وعدواً لنفسه، وهادماً للتفكير الميتافيزيقي في العصر الحديث، وحاملاً لراية " اللافلسفة" في الفكر الغربي المعاصر، ومدمراً لفلسفته هو نفسه في نهاية المطاف. والشئ المؤكد الذي لا يختلف عليه هؤلاء وهؤلاء، هو أن " لودفيج فتجنشتين" كان عقلية فلسفية من أرفع طراز، وشخصية أصيلة من أبعد ما تكون الأصالة، وأنه كان أولاً وأخيراً، شخصاً صادقاً مع نفسه كأنقي ما يكون الصدق، وإنساناً مخلصاً للحقيقة كأنقي ما يكون الإخلاص .

فهذا " برتراند رسل "  يصفه " بأنه كان علي قدر كبير من التأثير لما له من صفاء عقل إلي درجة غير مألوفة علي الاطلاق "ويقول " إن بداية معرفتي بفيتجنشتين كانت أكثر مغامراتي العقلية إثارة طوال حياتي كلها "... أما " جورج مور"، فيقول عنه " إنني تعرفت علي " فتجنشتين " في كمبردج إذ كان في السنة الأولي لالتحاقه بالجامعة يحضر محاضراتي في علم النفس، ولكني لم أعرفه جيداً إلا في السنتين التاليتين وحينما عرفته جيداً أدركت أنه كان اكثر ذكاءً مني في الفلسفة،  ولا أقول أكثر ذكاء فقط، بل كان أكثر عمقاً كذلك " .. وكان " مور "، فيما بعد يتردد علي محاضرات " فتجنشتين "، وقد قام مور بطبع بعضها في كتابه " أوراق فلسفية" . والجدير بالذكر أن " فتجنشتين " كان قد أملي علي "جورج مور" بعضاً من محاضراته، فكان له الفضل في الحفاظ علي تراث الفيلسوف النمسوي الكبير .

لم تكن مؤلفات " فتجنشتين" كثيرة متعددة، حتي أنه لم ينشر في حياته إلا كتاياً واحد هو " رسالة منطقية فلسفية Tractatus Logicus Philosphicus " ومقالاً له بعنوان " بعض ملاحظات علي الصورة المنطقية "، وبقية ما نشر بعد ذلك كان كله بعد وفاته، وكل ما نشر من كتابات " فتجنشتين" لم يكن كثيرا، بقدر ما كان عميقاً يصعب فهمه وتفسيره حتي بالنسبة لتلاميذه الذين كانوا يستمعون إلي محاضراته ويناقشونه فيما يكتب أو يقول، الأمر الذي أدي إلي ظهور كثير من الكتب كشرح لما قاله أو كتبه " فيجنشتين"  في مؤلفاته القليلة .

ويؤكد بعض الباحثين أن عمل " فتجنشتين " الفلسفي ينقسم إلي فترتين، فترة مبكرة وأخري متأخرة . وتجد الفترة المبكرة صياغة دقيقة لها في " الرسالة المنطقية الفلسفية " . ولكن فتجنشتين لم ينشر شيئاً عن فترته المتأخرة، وإن كان لدينا صورة أولي عنها، وذلك في كتابيه " الأزرق" و" البني" نسبة للون غلاف كل منهما، ثم صورة ثانية في كتابه : البحوث الفلسفي" Philosophical Investigations .

وهذا هو الرأي الذي يتفق عليه معظم الشراح والباحثين، حتي أن بعضهم  لا يقتصر علي تأكيد الفروق الأساسية بين المرحلتين، وإنما يذهب إلي حد الكلام عن فلسفة " أولي " وفلسفة " ثانية "، مثل الاستاذ فولفجانج اشتيجمولر في كتابه عن التيارات الأساسية في فلسفة العصر الحاضر . غير أن فيهم من يكتفي ببيان الأفكار التي عدل عنها في فلسفته المتأخرة، والتعديلات التي أدخلها علي آرائه ومواقفه التي تبنهاها في الرسالة نتيجة للتوسع في منهج التحليل، واختلاف تطبيقه، وتغير مفهومه عن اللغة، مثل أ. ج آير في كتابه عن فلسفة القرن العشرين . وفيهم كذلك من يحاول أن يثبت أن فلسفة " فتجنشتين " ظلت في جوهرها وغايتها واحدة لم تتغير، وأن الهدف منها – علي الرغم من التوسع والتنويع في استخدام منهج التحليل اللغوي والمنطقي – هو نفي الفلسفة نفسها ودفعها إلي النهاية وإجبارها علي " الانتحار" وتقديم الأدلة والمسوغات لبيان أن عباراتها إن لم تكن لغوا هاماً ( كما قال في الرسالة) فهي في أفضل الأحوال تحاول أن تقول ما لا يمكن أن يقال، وإنما يظهر نفسه أو يتجلي بنفسه ( كما قال في البحوث الفلسفية) ... وكأن الهدف من " فاعلية " الفلسفة هو في النهاية تأكيد أن قضايا الفلسفة لا معني لها، ومن أراد أن يبحث عن المعني فليذهب إلي العلوم الطبيعية أو فليرجع إلي لغة الحياة اليومية " الجارية" التي هي صورة من صور الحياة .

وهنا يجيئ دورنا في هذا البحث لنؤكد إن دراسة فكر " فتجنشتين " في المرحلة الأولي يبدو وكانه مقطوع الجذور عن تطوره في المرحلة الثانية ؛ بمعني أن فكر " فتجنشتين " المتأخر هو سلب أو نفي لفكرة فتجنشتين المبكر. وبالتالي فإن هناك قطائع ابستمولوجية في فلسفة " فتجنشتين "، وهذه القطائع تنبثق من منطلق أن " تاريخ العلم يتخلله الكثير من القفزات والوثبات والتحولات الفجائية والجذرية وأن التقدم في تاريخ العلم لا يشبه ابدا درجات السلم التي يصعد عليها العلماء درجة بعد درجة للوصول إلي الغاية المنشودة وهي التقدم، وإنما التقدم كما يشهد عليه تاريخ العلم لا يسير وفقاً لخطي متصلة مستمرة، وإنما يحدث من خلال قطائع وانفصالات". وهذه القطائع نحاول هنا في هذه الدراسة إلقاء الضوء عليها، وتحليل عناصرها الأساسية في ضوء أهمية دراسة الابستمولوجيا في الفكر الفلسفي المعاصر .

لذلك فقد أرتاينا اختيار نموذج فلسفي يتمثل في فكر " فتجنشتين " نحاول من خلاله أن نلقي الضوء علي دور القطيعة الابستمولوجيا في فكره ؛ بمعني أننا لم نختار هذا الفيلسوف لنقدم عرضاً عاماً لفلسفته، وإنما اخترناه لنكشف عما ينطوي عليه فكرة من مضامين فلسفية تبدو للوهلة الأولي في موقع التعارض مع التيار العام الذي ينتمي إليه.

ويمكن أن إبراز تلك القطائع المعرفية في فكر في العناصر التالية :

1- نقد فكرة الاتصال في فلسفة فتجنشتين.

2- الوسائل المنهجية والفلسفية في الرسالة المنطقية الفلسفية.

3- القطائع المعرفية والبحوث الفلسفية.

أولاً: نقد فكرة الاتصال في فلسفة فتجنشتين

يري بعض المفكرين أن فلسفة " فتجنشتين " من " الرسالة " حتي " البحوث " متصلة وأنه لا وجود لهذا التحول، فهناك " اتصال"  وليس ثمة انفصال "، فإن في المرحلتين خطاً واحداً لم يتراجع عنه وهو الكشف عن علاقة الفكر والعالم ؛ فهذا هو " فان "ك.ت.فان" K.T.Fann في كتابه " تصور " فتجنشتين " للفلسفة يؤكد علي مقولة الأتصال في فكر " فتجنشتين "، وهو يستشهد علي ذلك بأن بالرغم من أن " فتجنشتين "، قد انتقد في البحوث بعض الأفكار التي وردت في الرسالة، إلا أنه لم يعترف بأن " كل" أفكار " الرسالة" خاطئة، بالإضافة إلي أن " فتجنشتين " ، قد تصور- في الكتابين – أن المشكلات الفلسفية تنشأ عن سوء فهمنا وقصور إدراكنا " لمنطق لغتنا، بالإضافة إلي أن تصور " فتجنشتين " للفلسفة ظل في الكتابين بلا تغيير، أعني أنه نظر إلي الفلسفة علي أنها ليست " علم" إنما فاعلية تستهدف التوضيح .

وهناك، بالإضافة إلي ذلك " أنتوني كيني " Anthony Kenny، الذي أكد في كتابه " تراث فتجنشتين "1982 علي أنه يزال علي اقتناعه الأول باتصال فلسفة " فتجنشتين " وتصوره لطبيعة الفلسفة، وهو الراي الذي كان قد أكده في كتابه الأول " فتجنشتين" 1973، وهو الكتاب الذي جعل عنوان الفصل الأخير فيه "اتصال فلسفة فتجنشتين" . فهو يزعم أن العناصر الابتدائية للغة هي أسماء تعين موضوعات بسيطة، ومن ثم فإن القضايا الابتدائية تؤلف سلسلة لهذه الأسماء، وأن كل قضية من هذه القضايا مستقلة عن الأخرى، وهي الفكرة التي تعد، علي نحو ما محور الرسالة،  فكرة خاطئة . ومع ذلك فإن كيني يزعم أن " فتجنشتين " قد أخذ في كتابه البحوث بنظرية تصويرية معدلة .

ويشدد الدكتور عبد الغفار مكاوي في المقدمة التي كتبها علي مراجعته لترجمة الدكتور " عزمي إسلام" لكتاب " البحوث الفلسفية من الألمانية إلي العربية " أن الحديث عن البحوث الفلسفية بمعزل عن الرسالة أمر مستحيل، لا سيما إذا عرفنا"" ويبرر د. عبد الغفار" ذلك بأن " فتجنشتين نفسه قد اعترف في المقدمة بمعزل عن الرسالة أمر مستحيل، لا سيما إذا عرفنا أن " فتجنشتين " نفسه قد اعترف في القدمة التي وضعها للبحوث بأنه اكتشف " أخطاء جسيمة " في آرائه وأفكاره السابقة " .

ومن ناحية أخري وجه بيتر فيتش Peter Winch هو الآخر النقد إلي فكرة أن لفتجنشتين فلسفتين . فقد وصفها في كتابه " دراسات في فلسفة فتجنشتين" 1969 "بأنها فكرة خاطئة علي نحو مدمر"  . وقد تصور وحدة فلسفة فتجنشتين في حقيقة أنه قد اهتم في العملين، " الرسالة " و" البحوث" بمشاكل تتعلق بطبيعة المنطق والعلاقة بين المنطق واللغة، بالإضافة إلي تطبيق منطق اللغة علي الواقع .

وكتب فون رايت G.H.Von Wright في كتابه عن " فتجنشتين" " لا أشك في أن القضايا التي ستظل موضوعا للنقاش والجدل تلك القضية المتعلقة بمدي " الاتصال" بين " فتجنشتين المبكر" صاحب الرسالة و" فتجنشتين المتأخر " صاحب البحوث . إن كتابات " فتجنشتين" فيما بين 1929-1932 تشهد بوجود جهد مستمر للخروج من العمل الأول في اتجاه العمل الثاني . فإن "الكتاب الأزرق" 1933-1934 يعكس – علي نحو أكبر – انطباع العمل الأول . وأني لأجد صعوبة في سلك الكتاب الأزرق في تطور أفكار " فتجنشتين" .أما الكتاب " البني" فأمره مختلف حيث يمكن اعتباره عرضا " مبدئيا" لبدايات "البحوث" . ويضيف رايت قائلاً أن رسالة " فتجنشتين"  تنتمي إلي تقليد يمتد إلي ما وراء فريجه ورسل . فهو تقليد يمتد علي الأقل إلي ليبنتز . أما ما يسمي بفلسفة " فتجنشتين المتأخرة " فهو فيما أري شئ مختلف .. إن روح هذه الفلسفة تغاير كل ما أعرفه في الفكر الغربي . بل أنها، وعلي نحو ما، تعارض أهداف ومناهج الفلسفة التقليدية ... ولا تتعارض هذه الحقيقة مع فكرة أن كثيرا من افكار " فتجنشتين المتأخرة" لها بذور في الأعمال التي كان قد قرأها أو محادثات مع الآخرين .

وهذا الرأي يعضد فكرة التفسير السيوسيولجي لنشأة العلم، والقائم علي فكرة أن التغير أو التحول التاريخي في العلم يتم بشكل تدريجي تراكمي، وعن طريق خطوات مستمرة لا تنقطع ، كما أن هؤلاء القائلون بالاتصال في فلسفة " فتجنشتين "،  يرفضون أن يكون ثمة تغيرات فجائية أو ثورات أو قطائع ابستمولوجية في فلسفة " فتجنشتين " . كما أنهم ينكرون أي نقاط للتحول داخل العلم، لكونه لا يقبل أية قطائع أو انفصالات أو ثورات من شأنها أن تعرقل وتزعزع الأسس الابستمولوجية للايديولوجيا المسيطرة. لقد فرض العلم الحديث سيطرته الايديولوجية، بشكل منهجي منظم أو بعبارة أخري فرض سيطرته الايديولوجية بشكل علمي، لهذا فإن القطيعة الابستمولوجية هنا كما يري بعض الباحثين " تعلن الحرب علي الأوهام الايديولوجية، وتحاول تعرية آليات المستوي الايديولوجي . لهذا تعني القطيعة المعرفية الانفصال في لحظة عن البداهات الايديولوجية، وبهذا المعني لا تكون القطيعة حدثاً تاريخياً منعزلاً وقائما بذاته، بل هي مجموع من اللحظات التي يلقي فيها العلم نظرة إلي ماضيه العلمي، ليكشف عن مواطن الزيف الايديولوجي فيه . ويكشف عن الخطأ التي اكتنفت المعرفة العلمية وغلفتها بأغلفة ايديولوجية . إن تحرير الخطاب العلمي من نوايا وأغراض الباحثين، ومن الايديولوجيات القابعة خلف تفكيرهم، يؤدي إلي إظهار هذا الخطاب علي سجيته وفي تناثره التلقائي البحت، ذلك لأن مثل هذه النوايا والأغراض الايديولوجية من شأنها أن تعرقل مسيرة الخطاب العلمي في تقدمه، وهذا لا يأتي إلا عبر القطيعة  الابستمولوجية  ".

ومفهوم القطيعة الابستمولوجية، والذي أحاول أطبقه هنا في هذا البحث هو، يمثل كما ذكر أحد الباحثين " ... النقلة الكيفية من إطار معرفي إلي إطار آخر، وهي لا تعني قطيعة مطلقة، لأنه لا يمكن تصور أن خيط التطور ينقطع عند لحظة معينة من التاريخ أو يتجمد عندها، إنما القطيعة المعرفية في مفهومنا هي منعطف ثوري ننتقل فيه من مرحلة إلي مرحلة أخري متقدمة ينفتح فيها طريق، كان مسدودا أو كان يبدو مسدوداً لفترة طويلة .

لقد تحرك العلم والفلسفة واللاهوت، أي الأطر المعرفية كلها في العصر القديم حول النظام الفلكي الذي شيده بطليموس منذ ما يقارب الالفي سنة والذي يقول بأن الأرض هي مركز الكون، إلي أن جاء " كوبرنيقوس"  (1472-1543)، وقلب نظام الكون وقال بحركة الأرض حول الشمس فدخل بذلك علم الفلك منعطفاً جديداً. وكان العالم القديم يعتبر الأجرام السماوية كائنات روحانية تختلف عن عالم الأرض أي عالم الفساد، فجاء جاليليو (1546- 1642) وأكد مادية الأجرام السماوية وقضي علي تصور تقسيم إلي العالم الروحاني العلوي والعالم السفلي المادي الفاسد . بل وخرج بنظرية " كوبرنيقوس" من حيز الرياضيات إلي حيز الوجود الطبيعي وأثبتها تجريبيا من خلال  تلسكوبه الفلكي الذي اكتشف به عددا من النجوم وهضاب القمر ووديانه، ولقد اهتم جاليليو بالبحث عن العلاقات التي تربط بين الظواهر وترك جانباً ( البحث عن المبادئ والأسباب الميتافيزيقية التي استحوذت علي الفكر القديم وبذلك أحدث قطيعة بين الفكر الجديد والفكر القديم، قطيعة لم يعد من الممكن بعدها العودة إلي أساليب التفكير القديمة والتصورات الأرسطية والوسطوية التي كانت تشكل أساس العلم والمعرفة) .

كما أن القطيعة تعني الانتقال الجذري من تصور خاطئ أو قاصر إلي تصور يفتح الطريق أمام معرفة موضوعية وليس من الضروري أن يكون صحيحا مائة بالمائة . فما فعله فرويد مثلاً في علم النفس يعتبر نقلة كيفية بمعني القطيعة مع كل التصورات القديمة حول النفس الإنسانية . وإن كان علم النفس ذاته لم يقف عند تحليلات فرويد ولن يتجمد حيالها. والانتقال من جاليليو إلي نيوتن . والانتقال من نيوتن إلي أينشتين . لم يكن انتقالا هادئاً ولا معبداً، بل كان انتقالاً كيفياً أو قطيعة معرفية جعلت بريق القديم أقل لمعاناً مما يقدمه الجديد . فالقطيعة الابستمولوجية التي أحدثها أينشتين وماكس بلانك هي قطيعة بالنسبة إلي علم نيوتن وجاليليو .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم