أقلام فكرية

علي محمد اليوسف: الزمن والوعي

ثلاث عبارات هي مقولات دي سوكا ارغب التعليق الحواري عليها:

دي سوكا كاردينال لاهوتي وفيلسوف القرون الوسطى مقولته الاولى (الوعي هو نوع من التحرر من الواقع) والثانية هي (الزمن بعد سببي للزمكان) والثالثة (الزمن يسبق الوعي الحقيقي).

الوعي حين يعبّر عنه دي سوكا تحررا من الواقع بمعنى ثنائية جمع الوعي بالواقع لم تعد قائمة كون الوعي يستنفد طاقته الوظيفية بالتعريف بالواقع واعطاء وسائل فهمه بلغة التجريد التعبيري عنه في مرجعيته للعقل. اما الزمان بعد سببي للزمكان فهي بديهة منطقية قائمة كمعطى  كون الزمان هو ثنائية ملزمة له في وحدته الثنائية مع المكان. الزمن لا يخلق المكان فهو ليس فراغا استيعابيا مجردا عن ملازمته المكان كواقع وصيرورة علاقات ثابتة او متحركة. الزمان دلالة ملازمة معرفة الاشياء لكننا نفتقد ادراكنا ماهو الزمن كموضوع وليس كمفهوم ميتافيزيقي؟

بالنسبة للمقولة الاولى فالوعي ليس نتاج الواقع بل ناتج تفكير عقلي وإلا تساوى الوعي مع انطباعات الحواس الناقلة لاحساساتها الى شبكة منظومة العقل الادراكية عبر الشبكة العصبية. الوعي ناتج عقلي تجريدي يمثل فعل الادراك الحسي حول الواقع. والواقع الذي لا يدركه العقل لا يدركه الوعي ايضا فما هو موضوع للعقل يكون موضوعا للوعي..

أي بمعنى آخر الواقع ليس موضوعا يعيه الوعي باستقلالية ادراكية يحاول الافلات منه الا باشتراط ايعاز من العقل والوصاية العقلية عليه.. الوعي ليس موضوعا للعقل لكنه وسيلة العقل في ادراكه كل شيء كمواضيع. الوعي هو النسخة الكاربونية للعقل في معرفته الواقع وليس ادراكه الواقع فقط. فالادراك الشيئي هو خاصية الحواس قبل خاصية العقل.

توجد علاقة معرفية تكاملية بين الواقع والوعي، فالوعي تجريد لغوي عقلي لا ينتجه الواقع بل يحتويه معرفيا بصيغة التكامل المعرفي والتخارج بينهما ليس بصيغة جدل التضاد الديالكتيكي. الوعي هو الوسيط العقلي الذي ينقل الفهم المعرفي للعقل في تعبيره التجريدي الحيادي بوسيلة اللغة عن موضوعات الواقع لا كما هي في وجودها المادي الثابت بل في وجودها التغييري المطلوب.. الوعي صيرورة تشكيل الواقع برؤى عقلية تجديدية مغايرة. الوعي ليس ادراكات حسية انطباعية عن الاشياء وموجودات العالم بل احاطة استيعابية لمواضيع كان أعطى العقل مقولاته بشأنها كيف هي وكيف تكون؟.

مقولة دي سوكا  الزمن يسبق الوعي فرضية نظرية فلسفية صحيحة. تجمع تجريدين غير متجانسين لا في الماهية ولا بالصفات كما هما غير مدركتين عقليا في كليهما. فكما لا يمكن للزمن ان يكون موضوعا مستقلا للعقل كذلك هو الوعي.

الزمن في علاقته البينية بين الواقع والعقل هو دلالة معرفية حيادية غير مدركة عقليا كما والزمن لا يدرك ذاته ولا يدرك العلاقة الترابطية الدلالية بالمكان. . اما الوعي فهو توسيط ناتج تفكير العقل ولا يكون موضوعا مستقلا للعقل لانه هو نسخة عقل مكررة. عديدة المفردات التي تشكل حلقات منظومة العقل الادراكية مجتمعة ولا ينفرد احدها ان يكون موضوعا مستقلا للعقل الوعي احدها. كذلك الذهن، شبكة الاعصاب العنكبوتية، الضمير، الهواء، الزمن، الحواس، النفس، الاحاسيس داخل الجسم الخ.

الزمن يستبق الوعي من حيث الوعي مصنوع عقليا والزمن معطى ازلي ميتافيزيقي. الوعي في ادراكاته العقلية للاشياء يحكمه الزمكان الشيئي لكنه لا يستغني عن الزمن كدليل ادراكي لمعرفة الاشياء.في اللاشعور من خلال مثال حالة النائم الحالم نجد الزمن يتقافز ملازما تداعيات المكان التي لا يضبط انتقالاتها الحلمية زمنا غير عشوائي.

الوجود مكانا هو وجود زمكاني في ثنائية وثيقة العرى هي انك لا تستطيع ادراك الشيء مكانا الا بملازمة غير مدركة عقليا لزمانها. حين تناول فرويد علاقة الوعي او الشعور بالزمن لخصّها بعبارته القصيرة اللاوعي اي اللاشعور بمصطلح علم النفس لا يحتاج الزمن.

على اعتبار الوعي اللاشعوري الحلمي هو تداعيات عقلية غير منتظمة زمكانيا في حالة من الصيرورة المواكبة لصيروة الواقع الخيالي الغائب عن الوعي خارج سيطرة العقل. وهذا الوعي اللاشعوري لا يخضع لسطوة العقل من جهة ولا لسطوة الزمن من جنبة اخرى وهو ما يتمثل بأحلام الشخص النائم على انها تداعيات لاشعورية تفتقد العلاقات الترابطية كما في حالة الشعور عند الشخص اليقظ غير الحالم..

لقد سبق لافلاطون ان ذهب الى اننا بدلالة انتظام المكان في قوانينه الطبيعية الحاكمة له تنتظم عشوائية الزمان الملازمة له. يلاحظ ان افلاطون هو السبب الاول فلسفيا في جعل كل من ارسطو ونيوتن يؤمنان بنظرية افلاطون الزمان مطلق لا نهائي ازلي عشوائي وهو معطى لخالق مجهول بعد اعطائه لنا الطبيعة المنتظمة بقوانين حاكمة لا قدرة على الانسان اكثر من اكتشافها وليس اختراعها او التلاعب بها وتغييرها.. واعتبر وجود الطبيعة سابق وجود الزمن. ولا حتى متلازمين بالخلق الآني الواحد. ويبقى ماجاء به افلاطون نظرية فلسفية لم يؤكدها العلم تجريبيا.

الغريب بالامر هو ان افلاطون اعتبر الزمن وجودا عشوائيا وبدلالة انتظام المكان – يقصد الطبيعة بقوانينها الثابتة – يتخلص الزمان من عشوائيته وينتظم ذاتيا كما هو الحال في نظام الطبيعة. الحقيقة الفيزيائية العلمية برهنت على ان الزمن تداعيات لانهائية عشوائية على شكل حزم متماوجة بالكون تحت شروط واحكام فيزيائية كونية معينة. والزمن ليس مطلقا على خلاف ماذهب له افلاطون وتوارثه عنه ارسطو ومن بعده نيوتن حتى جاءت نسبية انشتاين ونسفت نظرية مطلق الزمان. لقد استطاع انشتاين تجريد نيوتن من مطلق الزمان لكنه عجز  تجريد عبقرية نيوتن من قانون الجاذبية المعجزة الارضية المنسوبة له التي قلبت كوسمولوجيا الفضاء..

نعود لاستطراد ينسب لفرويد حول الموضوع فهو يرى المكان وجودا محدودا بابعاد مادية ثلاثة متعارف عليها الطول والعرض والارتفاع قبل اضافة انشتاين البعد الرابع للمادة هو الزمن. وهذه اشكالية يؤكدها منطق نسبية انشتاين الفيزيائية الكونية. لكن بمنطوقنا التصوري عن ثبات فيزيائية ابعاد المادة ارضيا  تحمل نقاشا ومداخلة. المادة كمتعيّن ارضي ثابت بابعاد ثلاثة على الارض هو غير الفهم الكوسمولوجي لها. فمثلا نحن الان نؤمن بالنظرية التي تقول الزمكان كمفهوم هو ثنائية لا انفكاك لها تجمع بين المكان والزمان. ونحن ندرك الزمكان الارضي كوحدة لا تتجزا. لكن المادة التي يمكننا التعامل معها كموجود ومتعيّن ارضي نستطيع التعامل معها كاجزاء يمكن انفصالها مثل حاجتنا الطول فقط او العرض فقط او الارتفاع فقط.

الملاحظة الاولى ان قوانين الكون الفيزيائية لا تحكم قوانين الارض بشأن ابعاد المادة كاجزاء تكوينية منفصلة الواحدة عن الاخرى لها.. من البديهيات القول المادة بابعادها كي تصبح كينونة مادية مستقلة ليس في الفضاء فقط وانما على الارض ايضا.

الملاحظة الثانية ان ابعاد الجسم المادي على الارض هي مدركات عقلية يمكن تجزئتها حين يراد التعامل مع بعد مادي واحد من تكوينها. على خلاف النظرية الكونية التي هي ايضا لا تدرك الزمن الكوني موضوعا بل تدركه ملازمة احتواء للمادة وموجودات الكون كما نحن نتعامل به على الارض.

الملاحظة الثالثة كل مدرك مادي بابعاد ثلاثية متفق عليها يترتب عليه متعينا محدودا على خلاف نسبية انشتاين الفيزيائية التي اضافت لابعاد الجسم او المادة بعدا رابعا هو الزمن لكنها ايضا تتعامل معه كونيا فيزيائيا كدلالة وليس تموضعا رابعا في تكوين المادة الموجودة على الارض بثلاث ابعاد فقط.. هنا علينا التفريق بين وجوب حضور الزمن كي ندرك المادة وبين التعامل مع ابعاد المادة متجزئة منفردة التي هي ايضا تحتاج الحضور الزمني لاتمام ادراكها.

الملاحظة الرابعة قياس مقدار الزمن الكوني ياتي ضمن اشتراطات معادلات فيزيائية علمية تكون سرعة الضوء متسيدة تلك الاشتراطات. اما مقياس مقدار الزمن على الارض فهو يكون محكوما بسرعة الصوت وليس سرعة الضوء لقطع مسافة بسرعة معينة هي لا شيء بالنسبة لقياس السنوات الضوئية كونيا..

لقد سبق لافلاطون كما اشرنا له سابقا انه قال الطبيعة اقدم وجودا من الزمان، وان الطبيعة منتظمة بقوانين ثابتة والزمن سديم عشوائي كوني وبدلالة انتظام قوانين الطبيعة نستطيع تطويع عشوائية الزمان الى انتظام مشابه للطبيعة. وهي عملية ميتافيزيقية لا يدركها العقل كما ولا يوجد ما يؤكدها علميا تجريبيا. وهذا التفسير الافلاطوني بالقياس الى معطيات زمنه الماضي في فلسفة اليونان القديمة يبدو مقبولا اذا حاولنا تفسير هذه النظرية تفسيرا ميكانيكيا يرى الزمان حركة دائبة لا تدركها عقولنا، ويرى المكان ثباتا ماديا ندركه بابعاده المادية الثلاث.

لعل الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون الحائز على جائزة نوبل بالادب هو الذي غرّد خارج السرب في مقولته اننا ندرك المكان بوظيفة الادراك العقلي البيولوجي مجردا عن ملازمة الزمن للمكان في ثنائية لا انفصام بينها ومن السذاجة تصديق ان ادراك المكان يشترط ملازمة زمن له. (تقريبا نقلت فحوى ما جاء به برجسون)

ماذا فعل برجسون بمقولته الاستفزازية هذه لعلماء الفيزياء والفلاسفة واشياعهم؟

اولا : الغى حقيقة وجود الزمكان. على صعيدين هما جعله الزمكان ليس مادة يدركها العقل، ولا هو فراغا استيعابيا احتوائيا خارج ادراك العقل.(يوجد نقاش فلسفي – فيزيائي حاد بين مؤيد ورافض لهذه الفرضية).

ثانيا: اثار برجسون ربما عن غير قصد فلسفي ناضج منه فرضية ان يكون الزمن (وهم) لا وجود حقيقي له يمكن اثباته.(برز حديثا في الفلسفة الاميريكية ما يدعّم صحة هذه الفرضية). لي مقال منشور كتبته مؤيدا فرضية الزمان وجود غير موجود. مستفيدا من مقالة الباحث الفلسفي حميد محسن الذي عرض فيها كتابا بالانكليزية غير مترجم للعربية لثلاثة فلاسفة اميركان ذهبوا منحى الزمن وهم افتراضي غير موجود. المقال نشره موقع المثقف مع مقالتي .

لنرى ما قاله اسبينوزا في منحى اكثر غرابة قوله في مبحثه الاثير لديه مذهب وحدة الوجود قوله اننا بدلالة ازلية الجوهر الخالق غير المخلوق – يقصد اسبينوزا بالجوهر الازلي هو الله – ندرك جواهر الاشياء بالطبيعة والوجود وظواهر العالم من حولنا. واضاف انه بدلالة الجوهر ندرك الوجود وماهية الشيء سابقة لوجوده،. وبذا اصاب اسبينوزا كلا من الماركسية والوجودية بمقتل قولهما الوجود يسبق الماهية او الجوهر.

اول ملاحظة تؤخذ على ما ذهب له اسبينوزا ان الجوهر الالهي الازلي المطلق الذي لا يتقدمه خالق. والجوهر بمعناه الفلسفي المادي المتعين وجوده خلف الصفات الشيئية افتراضا كلاهما جوهران لا يدركهما العقل وينطبق عليهما مبحث الميتافيزيقا. واسبينوزا لم يتعامل مع الوعي بعلاقته بالمكان.

ثاني ملاحظة لم يوضح لنا اسبينوزا فلسفيا فك الاشتباك التعشيقي في ثنائية الزمكان. بين زمان هو جوهر مستقل لا يشترط ادراكه، وبين المكان المتعيّن ماديا الذي لا يمكننا تجريده عن الدلالة الزمنية التعريفية له. احدث الفرضيات الفلسفية التي يؤيدها العلم اننا لا يمكننا ادراك مكان من دون ملازمته الزمانية له وهي مقولة متداولة عمرها قرونا طويلة..

صحيح اسبينوزا لم يقع بخطأ يمكن للعقل البشري اعتباره الزمن موضوعا ادراكيا مستقلا يمكن معرفته الماهوية. لكنه سقط بما هو افدح ضررا مما سبق ذكره قوله (بدلالة الجوهر الازلي ندرك الوجود، والماهية تتقدم الوجود) مع اقراره ان الجوهر النسبي الموزع خلف صفات الموجودات بالطبيعة، والجوهر الالهي الازلي الخالق لكل جوهر، كلاهما خارج ادراك العقل لهما لا كجوهرين منفردين ولا متلازمين.

ختاما لو عدنا الى ما قبل اثبات انشتاين في نظريته النسبية العامة 1915 التي قال بها ان الزمن بخلاف نيوتن ليس مطلقا بل نسبيا. لوجدنا انفسنا امام حقيقة ان مطلق الزمان ونسبيته قد يجدها علماء الفضاء اكبر انجاز كوني، لكنه لا يمثل تلك الضرورة الحياتية على الارض بان مقدار نسبية الزمن الارضي المقاسة المعتمدة هي من العملاتية التي ترجيء الفتوحات الفلكية خلفها.

***

علي محمد اليوسف

في المثقف اليوم