أقلام فكرية

القطائع الابستمولوجية في فكر فتجنشتين (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن القطيعة المعرفية عند فتجنشتين، حيث نقول إن القطيعة المعرفية التي نبغيها أيضاً في هذا البحث ليست هي القطيعة التي أخبرنا عنها بعض الباحثين بأنها ذلك ".. التغير الجذري الثوري، بحيث لا نجد أي ترابط أو انفصال بين القديم والجديد، (وأن) ما قبل وما بعد، يشكلان عالمين من الأفكار كل منهما غريب عن الاخر "، بل تعني التعبير عن التحول الواعي والهادف في مجال العلم والمعرفة العلمية، لهذا لا تمارس القطيعة عملها من خارج العلم، بل تمارس عملها من داخل العلم ذاته . فالعلم في تطوره ينشئ القطيعة من أجل المراجعة، والنقد المستمرين لأسس ومناهج ومفاهيم وتصورات العلم أو المعرفة العلمية السابقة . فالقطيعة ليست نبتة غربية عن حقل العلم أو المعرفة العلمية، إنما هي نبتة أصيلة، تنبع أصالتها من داخل العلم ذاته، لأنها تدعم وتقوي العلم وتدفعه للأمام عن طريق النقد والمراجعة، وإعادة البناء المستمر له، لهذا فإننا نستخدم القطيعة هنا بالمعني الذي أخبرنا عنه أحد الباحثين بأنه ":" إعادة بناء ماضي العلم والمعرفة العلمية لا من أجل مهاجمة ونقد العلم والمعرفة العلمية ذاته؛ بل من أجل تأسيس حاضر العلم وتقدمه في المستقبل، وبالتالي تكون القطيعة هي التجاوز النشط المسئول للماضي والمبدع الخلاق للحاضر، فلا تعود اللحظة تكراراً كمياً للتاريخ بل هي عمل دءوب، إنجاز الحداثة، بل الجدة ".

وهذا المفهوم للقطيعة الابستمولوجية هو نفس ما نادي به الدكتور "حسن عبد الحميد بأنها" لا تعني هنا الحد الفاصل الزمني اللحظي، أو هذا التغير السريع الذي ينتج عنه امر جديد كل الجدة، بل عبارة عن مسار معقد ومتشابك الأطراف، تنتج عنه مرحلة جديدة ومتميزة في تاريخ العلم .

والقطيعة الابستمولوجية تكمن "كما أكد بعض الباحثين"، " في هذا الطابع الجدلي الذي يطبع تاريخ العلم فلا يمكن أن نتخيل وفقاً لهذا التعريف تاريخاً للعلم تنقطع فيه الصلة بين ماضيه وحاضره، وبالتالي لا تفهم القطيعة إلا علي أرضية من الاستمرارية والاتصال . علاوة علي أنه لا يوجد تقدم قائم علي الانقطاع الكلي عن كل ما سبقه، فليس ثمة قطائع نهائية جذرية بين حاضر العلم، والذي يمثل أعلي مرحلة يصل إليها التقدم في العلم، وبين ماضي العلم، بل توجد قطائع بمعان معينة بين فيزياء جاليليو وفيزياء نيوتن أو بين نظرية النسبية لأينشتين والميكانيكا النيوتونية . إنها قطائع تصويبية تحاول حل المشكلات التي عجزت النظرية السابق عن حلها . إن وجود حصيلة من الاخفاقات المعرفية النظرية في مجال ما من مجالات العلوم ووجود سلسلة من العوائق المعرفية التي تؤدي بدورها إلي هذه الاخفاقات والعوائق يأذن بوجود قطيعة معرفية التي تعني هنا في هذا السياق، التحول الابيستمولوجي في هذا المجال أو ذاك من مجالات العلوم الطبيعية . هذا التحول لا يتم بطريقة جذرية ؛ بمعني أن يستوعب هذا التحول تدريجياً، الاسهامات المعرفية والاكتشافات العلمية والنظريات السابقة، وأن يسقط من حسابه تدريجياً أيضاً، تلك العوائق والاخفاقات التي أعاقت نمو وتقدم وتطور العلم" .

ريما أن المفهوم للقطيعة قد لا يرضي عنه البعض (وبالأخص الرديكاليين) ؛ لكونه كما يري بعض الباحثين " يخفي وراءه فكراً تقليدياً، حيث يشير هذا التعريف إلي وجود عنصر الاتصال بين النظريات العلمية السابقة واللاحقة، حيث يمثل هذا الاتصال أحد الصفات التي تميز التقدم في العلم بمعناه التراكمي، وإن كان الاتصال هنا يفهم بمعناه الجدلي ؛ بمعني أن النظريات العلمية المتعاقبة (أو القضايا والاشكاليات الفلسفية)     لا تسير في خط متصل متراكم ؛ بحيث أن كل نظرية تقضي حتما إلي التي تليها، ومن ثم لا يوجد ثمة قطيعة أو ثورة أو تجاوز، وإنما عنصر الأتصال هنا بين النظرية العلمية المتقدمة وبين النظرية السابقة عليها، يتخذ في أن النظرية العلمية المتقدمة لا تلغي النظرية السابقة، بل تحتويها وتبرز عناصر النجاح التي حققتها النظرية السابقة.

ولذلك فإنني هنا أناشد بأهمية هذا التصور للقطيعة المعرفية ومحاولة تطبيقه ليس فقط في العلم ولكن أيضاً في الفلسفة، ولذلك فإن توجهي في هذا البحث هو نفس توجه لوي ألتوسير Althusser`s L 1918-1990، حين استعان بمفهوم القطيعة المعرفية من أجل تناول الماركسية تناولا علميا دقيقا . فقد كانت مهمته كما أكد بعض الباحثين " تأسيس تصور للعلم يكون له دعامة قوية، ولإنجاز هذه المهمة تناول إشكالية " التعيين" Demarcation فلم يؤكد ألتوسير علي الشروط الكافية أو الضرورية للعلم، ولم تكن نيته متجهة نحو التمييز بين العلم واللاعلم، بل كان اهتمامه بالتحولات العميقة داخل العلم ذاته ..  ولهذا شرع ألتوسير يقرأ كتاب " رأس المال "، قراءة ابستمولوجية بعد أن استعار مقولة القطيعة المعرفية من " جاستون باشلار "،  ليشير إلي أن ماركس قد أحدث قطائع معرفية علي طول حياته الفكرية، فقد أحدث ماركس قطيعة مع أفكاره السابقة وتبني كل من فلسفة كانط وفشتة وذلك في عام 1840 إلي 1842، وكان في هذه الفترة يؤمن بالحرية كجوهر للإنسان ولكن سرعان ما هجر هاتين الفلسفتين، وأحدث قطيعة معهما ليتجه في فترة 1845 إلي فيورباخ والنزعة الإنسانية .وبحلول عام 1845، أحدث قطيعة ثالثة مع الاتجاه الإنساني الفيورباخي لصالح الأتجاه الهيجلي الايديولوجي ثم أخيراً أحدث قطيعة مع الأتجاه الهيجلي ليؤسس الماركسية العلمية إلي العلم".

ومن هذا المنطلق فإننا نعلن أننا نقوم في هذا المقال بتطبيق هذا المبدأ الابستمولوجي، الذي أعلنه " الدكتور حسن عبد الحميد " في رائعته عن " التفسير الابستمولوجي لنشأة العلم الحديث "، والذي يقول " إن المقال في المنهج  لا ينفصل عن المقال في العلم في أية مرحلة من مراحل تطور العلم "، ومعني هذا المبدأ ببساطة، أن الحديث عن المنهج في أي علم من العلوم بمعزل عن المسار الذي يسلكه العلم في تطوره، هو ضرب من التبسيط المخل " بالتجربة العلمية"، والتزييف المتعمد للروح التي ينبغي ان تقود العلم وتوجهه . فالمراحل الأساسية التي يمر بها العلم ترتبط ارتباطا عضوياً بمراحل تطورية تناظرها في المنهج أو المناهج المستخدمة في العلم نفسه . ويترتب علي هذا المبدأ نفسه أننا لا نستطيع أن نحدد – كما يحلو لبعض العلماء وفلاسفة العلم – منهجا بعينه لعلم بعينه، حتي ولو كان ذلك في مرحلة بعينها من مراحل تطور العلم، اللهم إلا إذا كنا بصدد التاريخ  للعلم الذي نتحدث عنه . والسبب في ذلك أن أهم عنصر يتدخل في تشكيل هيكل أو بنية العلم هو المنهج المستخدم في بناء العلم نفسه، ولكن هذا المنهج الذي يعمل علي إضفاء بنية جديدة للعلم، هو بالضرورة غير المنهج الذي تعارف جمهرة العلماء علي استخدامه . ويترتب علي ذلك أن فصل المقال في المنهج عن المقال في العلم في أية مرحلة تطور العلم، هو ضرب من قفل باب الاجتهاد في العلم ودعوة إلي تعطيل البحث العلمي، وباختصار فإن هذا يعني وضع العلم داخل "سجن" الهيكل أو البنية التي اكتسبها في المرحلة التي تم فيها عزل المنهج عن السياق التاريخي التطوري للعلم.

والخلاصة المعقولة التي ننتهي إليها مع أستاذنا الدكتور " حسن عبد الحميد ":" هي أنه آياً كان معني العلم وطبيعته، فإن فكرة وجود المنهج المستخدم فيه تعني التصحيح والتطوير المستمرين لقواعده . ولم لا نقول مع الأستاذ نيوتن سميث بأن العالم ينجز من المكتشفات في ميدان المنهج كما يحقق من المكتشفات في ميدان العلم سواء بسواء.  بل لم لا نقول مع جاستون باشلار بأن المكتشفات العلمية نفسها رهن بما يمر به العلم من عقبات ابستمولوجية، وأن العقبة الابستمولوجية هي في التحليل الأخير عبارة عن عقبة منهجية ؟ ومعني هذا ببساطة أن انتقال العلم  من مرحلة إلي مرحلة أخري أكثر تطورا وارتقاء يفترض أن العلم قد غير ليس فقط من نظريته ومفاهيمه، ولكن أيضا من مناهجه التي كانت مستخدمة في المرحلة الأخيرة . إن ما نريد أن نؤكده .. هو أن ارتباط المنهج بموضوع العلم نفسه، ارتباطا عضويا لا انفصال فيه في أي مرحلة من مراحل تطور العلم . وهذا الارتباط هو أيضا ارتباط جدلي ارتقائي، بمعني أن هناك علاقة تأثير متبادلة بين النتائج التي يتم انجازها علي مستوي موضوع العلم، وبين تقدم المناهج المستخدمة داخل ميدان هذا العلم نفسه، وان انتقال العلم من مرحلة إلي مرحلة أخري اكثر ارتقاء لا يلغي الوسائل المنهجية التي كانت مستخدمة في المرحلة السابقة بل تبقي هذه الوسائل تلعب دورها بطريقة أقل فعالية من الوسائل الجديدة التي يستخدمها العلم في مرحلته المتقدمة ".

ويمكن القول أن كتاب " البحوث الفلسفية"  ؛ يمثل ثورة داخل ميدان الفلسفة التحليلية في القرن العشرين، وهذه الثورة قد أنجزها فتجنشتين بمفرده، ونقل بها هذا الفرع من فروع المعرفة من مرحلة الوسائل المنهجية والعلمية، كما صاغها فتجنشتين في كتاب "رسالة منطقية فلسفية، إلي مرحلة ذات وسائل منهجية جديدة تختلف كل الاختلاف عما سبق، وبالتالي فإن القطيعة الابستمولوجية هنا هي قطيعة منهجية .

ومن ناحية أخري يمثل كتاب " البحوث الفلسفية" مرحلة قطيعة ابستمولوجية -منهجية، ليس فقط مع كل صور الممارسات السابقة الفكر المنطقي والفلسفي في الرسالة المنطقية الفلسفية،  بل إن هذا الكتاب يقطع الصلة بينه، وبين مؤلفات فتجنشتين المنطقية والفلسفية الأخرى.

والمتفحص لكتاب " البحوث الفلسفية"  يجده مختلفاً تمام الاختلاف عن كتاب " الرسالة المنطقية الفلسفية " ؛ أي بدون أن يلغيه أو ينفيه،  بل يتعداه ويتجاوزه . وفي الصفحات القادمة سوف نوضيح ذلك بشئ من التفضيل وذلك علي التالي:-

ثانيا ً: الوسائل المنهجية والفلسفية في الرسالة المنطقية الفلسفية:-

يعد كتاب " رسالة منطقية فلسفية " بشهادة معظم الباحثين تعبيراً صادقاً عن فلسفة " فتجنشتين" في المرحلة الأولي من تفكيره الفلسفي، ولذا فهي تمثل أفكاره الفلسفية الأولي التي اعتقد " فتجنشتين" في وقت كتابته " للرسالة" أنه قد توصل بها إلي حل جميع مشكلات الفلسفة، فكان يقول في  مقدمة الرسالة: " أن الأفكار التي سيقت هنا، يستحيل الشك في صدقها أو هي أفكار مقطوع بصدقها، ولذا فإنني أعتقد أن ما هو أساسي في مشكلات الفلسفة قد تم حله نهائيا " .

وكان كتاب " الرسالة" يمثل تعبيراً عن النتائج التي إنتهي إليها بعد تفكير وبحث فلسفي استغرق حوالي الأربع سنوات أو يزيد، إذ أننا نستطيع من مقارنة الرسالة التي ظهرت عام 1961 باللغة الألمانية – (وكان فتجنشتين قد انتهي من كتابتها مخطوطة في أغسطس من عام 1918 بمذكراته التي دونها بين عامي 1914، 1916- أن نتبين وجه الشبه الكبير بين أفكاره في كل منهما، وخاصة بالنسبة لما هو متعلق منها بالمنطق، ولهذا يمكننا أن نقول أن رسالة فتجنشتين كانت بمثابة الصياغة الأخيرة لأفكاره الفلسفية طوال هذه المدة بصفة عامة، بل وكذلك في الفترة السابقة علي عام 1914، ويتضح ذلك من مذكراته في المنطق التي كتبها في سبتمبر من عام 1913، وكذا من الخطابات التي كان يرسلها فتجنشتين إلي رسل في 1912. وقد كتب فتجنشتين أغلب رسالته المنطقية الفلسفية أثناء اشتراكه في الحرب العالمية الأولي ... فقد صاغ فتجنشتين أفكاره الرئيسية حول هذه الموضوعات  قبل عام 1914، ثم استكمل بقية أجزاء الرسالة أثناء اشتراكه في الحرب – وهو لم يستكملها كما ظن البعض أثناء وجوده بالأسر، بل أنه كان قد انتهي من كتابتها قبل وقوعه أسيراً، إذ أنه " حينما وقع في الأسر، كانت معه في حقيبته التي كان يحمل أمتعته مخطوط رسالته المنطقية الفلسفية فهو كان قد انتهي من الرسالة حينما حصل علي تصريح من الجيش بإجازة يقضيها في فيينا – في أغسطس من عام 1918- في حين أنه أسر في نوفمبر 1918، وظل أسيراً حتي اغسطس 1919. وأثناء وجوده في الأسر استطاع أن يتصل برسل ويرسل إليه المخطوط – عن طريق كينز Keynes زميله في الدراسة في كمبردج – " وكما قرأ رسل مخطوط الرسالة، كان له الفضل في نشرها " ففي عام 1919، التقي فتجنشتين بعد خرجه من الأسر برسل في هولنده لمناقشة المخطوط  " ثم كتب له مقدمة طويلة نشرت بعد ذلك مع الترجمة الإنجليزية للرسالة . وقد نشرت الرسالة لأول مرة باللغة الألمانية عام 1921.

وفي هذا الكتاب وجدنا فتجنشتين نفسه – في أول عهده – محوطاً بمشكلة أساسية شغلت الفلاسفة من حوله، كما شغلت علماء الرياضة، هي مشكلة العلاقة بين العلميين الصوريين اللذين هما المنطق والرياضة: تري هل تكون الرياضة في صوريتها امتدادا للمنطق وومبادئه ؟ أو أن المنطق والرياضة بناءان مستقلان ؟ وما ان بدأ فتجنشتين يدلي بدلوه في الدلاء، حتي خطا الخطوة التي لم يجد لنفسه عنها محيصاً، وهي أن ينتقل بمركز الاهتمام من المنطق إلي اللغة، ثم شدته اللغة إلي طبيعة الحياة، ثم نظر إلي هذين الطرفين: اللغة والعالم، ليري ماذا تكون العلاقة بينهما . علي أن هذه المراحل الثلاثة: من المنطق إلي اللغة إلي تركيب العالم، قد جاءت في هذا الكتاب معكوسة، إذ يبدأ بالنظر في تركيب العالم، لينتقل منه إلي جوهر اللغة ثم إلي طبيعة المنطق .

وقد استهدف  فتجنشتين من الرسالة تحقيق ثلاثة اهداف منطقية أساسية هي:

1- تقديم حلول محددة " للمشاكل الفلسفية الأساسية والتقليدية.

2- تعيين " حدود الحديث الواقعي " علي أساس أن كل شئ مما يمكن التعبير عنه في عبارة واقعية، إنما يمكن أن يجد له مكانا داخل هذه الحدود.

3- بحث أسس  المنطق بهدف تفسير المقصود بالضرورة المنطقية .

ولكن هل يوجد بين هذه الأهداف الثلاثة علاقة؟

يري فتجنشتين أن تعيين حدود اللغة يعني حصر القضايا الواقعية التي يمكنها أن تستوعب كل من القضايا الواقعية في العلم، والقضايا الواقعية في الحياة اليومية، وتقع كل الأشياء التي يمكن أن تقال في قضايا داخل هذه الحدود، بينما تقع خارجها كل ما لا يكون بإمكاننا التعبير عنه في قضايا .

وأول ضوء يلقيه فتجنشتين في كتابه " الرسالة " علي معني " الفكرة " أنها التركيبة اللغوية المعينة، وإذا صح هذا تحول السؤال الذي يسأل عن علاقة الفكر بالأشياء، إلي سؤال يسأل عن علاقة اللغة بالأشياء، وهو تحول خطير في الفكر الفلسفي، أباح لكثيرين من مؤرخي الفلسفة أن يعدو فتجنشتين فاتحة لعصر فلسفي جديد، لأنه بمثابة من شدنا من طريق كنا نسير فيه منذ فجر الفلسفة، إلي طريق آخر، فبدل أن كنا نتاول الفكر تناولاً يعالجه كما لو كان كالأشباح، فنذهب في تحليله مذاهب شتي لا يعرف مذهب منها كيف يرد مذهبا، أصبحنا نعالج الفكر علي أنه هذه التركيبات اللغوية التي نستطيع – ولو من الوجهة النظرية - أن ننتهي فيها إلي أساس نتفق عليه، من حيث طريقة استخدامها، وطرائق تركيبها، ووسائل تحويلها من عبارة إلي عبارة أخري تساويها، فإذا انتهينا من ذلك كله إلي شئ، كان هذا الذي انتهينا إليه دالاً علي معني " الفكر " .

ولذلك نجد فتجنشتين يبدأ كتابه " الرسالة "، بمبادئ الرمزية وبالعلاقات الضرورية بين الألفاظ والأشياء في اي لغة، وتطبق نتيجة هذا البحث علي مختلف اقسام الفلسفة التقليدية، مبينة في كل حالة، كيف ان الفلسفة التقليدية والحلول التقليدية، إنما تنشأ عن الجهل بمبادئ الرمزية ومن سوء استخدام اللغة . وكان أول الموضوعات التي عالجها " فتجنشتين" في رسالته هو البنية المنطقية للقضايا وطبيعة الاستدلال المنطقي . ثم انتقل بعد ذلك إلي نظرية المعرفة ومبادئ العلوم الطبيعية، والأخلاق وأخيرا إلي التصوف .

ولذلك نجد أن كتاب "الرسالة" يتكون من سبع قضايا رقمها فتجنشتين بالأعداد الصحيحة التالية 1، 2، 70000، ومن عبارات فرعية رقمها بأعداد عشرية هي بمثابة شروح وتعليقات علي القضايا الأساسية، بحيث تكون العبارة 1، 1 تعليقاً علي العبارة رقم 1، ثم عبارات فرعية أخري رقمها بأعداد مئوية (مثل 1،11 التي تكون تعليقاً علي العبارة المرقمة برقم عشري وبالتالي علي العبارة الأصلية رقم 1) . ولو نظرنا في العبارات السبع الأساسية لوجدناه يتكلم بالترتيب عن العالم وتحليله، الوحدات النهائية التي ينحل إليها العالم الخارجي، وهي الوقائع الذرية أو " أنحاء الواقع أو حالاته " في العبارة الثانية (لا حظ أننا نقول الوقائع لا الأشياء، لأن الوقائع بناءات أو تركيبات منطقية مكونة من الأشياء . فالشئ ثابت أما الواقعة الذرية أو التركيبة فمتغيرة) . ثم يربط بين الفكر وبين الوقائع الذرية في العبارة التالية، وبين الفكر واللغة في العبارة الرابعة، وبالتالي بين اللغة والعالم بحيث يكون الفكر هو القضية ذات المعني . ثم يحلل اللغة في العبارة الخامسة، منتهياً إلي أن جميع القضايا هي دالات صدق للوحدات الأولي التي تنحل إليها اللغة (وهي القضايا الأولية) . وبعد ذلك يتكلم عن تعميم القضية وكيفية الوصول إلي صورة عامة لكل قضية ذات معني، أي كل قضية تكون دالة صدق لقضايا أولية كما في العبارة السادسة . وأخيراً ينصحنا نصيحة ختامية في العبارة السابقة بأن نسكت عن الكلام إذا لم نستطع أن نقول كلاماً يأخذ شكل الصورة العامة لدالة الصدق الواردة في العبارة السادسة التي تقدم الصورة العامة للقضايا ذات المعني . وإليك هذه القضايا السبع التي تعكس الوحدة الفكرية في الرسالة، والهيكل العام الذي ملأته شروحها وتفصيلاتها العسيرة المرهقة:

1- العالم هو جميع ما هنالك .

2- أن ما هو هنالك، أي الواقعة، هو وجود الوقائع الذرية.

3- الفكر هو الرسم المنطقي للوقائع .

4- الفكر هو القضية ذات المعني .

5- القضايا عبارة عن دالات صدق لقضايا أولية (والقضية الأولية هي دالة صدق نفسها) .

6- الصورة العامة لدالة الصدق هي: ق، غ، ن (غ)، هذه هي الصورة العامة للقضية .

6- أن ما لا يستطيع الإنسان أن يتحدث عنه، ينبغي أن يصمت عنه . وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم