أقلام فكرية

القطائع الابستمولوجية في فكر فتجنشتين (4)

محمود محمد عليفي هذا المقال نعود للمرة الرابعة والأخيرة ونكمل حديثنا عن القطيعة المعرفية عند فتجنشتين، حيث نقول  :في هذه المقدمة الطويلة يريد فتجنشتين أن يوضح أن هناك بعض المبررات التي جعلته يتراجع عن صحة ما كتبه من أفكار وقضايا فلسفية في الرسالة، ومن أهم تلك المبررات مناقشاته مع " فرانك رامزي "، والتي قال عنها فنجنشتين في هذا الصدد : " أن ما ساعدني على تبين هذه الأخطاء النقد الذي وجهه لأفكاري فرانك رامزي الذي كنت أتناقش معه مناقشات عديدة أثناء السنتين الأخيرتين من حياته ".ولقد فنجنشتين يقول إن مناقشاته تأخذ الطابع البرجماتي وخاصة حول كتابات رامزي المتأخرة . وكذا حول بعض الأفكار الواردة أيضا في " الأبحاث الفلسفية" لفتجنشتين ؛ وأيضا نقد سرافا Piero Sraffa – أحد الاقتصاديين الإيطاليين – وكان فنجنشتين قد التقي به في كمبردج، وقد عبر فنجنشتين عن ذلك بقوله إن مناقشاته مع سرافا كانت تجعله يشعر كأنه مثل الشجرة لم تكن لتورق من جديد إلا بناء علي ما فيها من حيوية وخصوبة . ويروي تورمان مالكوم كيف كان نقد سرافا للنظرية التصويرية للقضايا عند فنجنشتين ذا أثر كبير في تخليه عن هذه الفكرة فيما بعد، فيقول :" كان فنجنشتين وسرافا – المحاضر في الاقتصاد بجامعة كمبردج – يتناقشان كثيرا حول الأفكار الواردة في " الرسالة " . وفي ذات يوم كانا يركبان – فيما أظن – قطارا، وكان فنجنشتين ما زال مصرا علي أن القضية وما تصفه – يجب أن يكون لهما نفس الصورة المنطقية . ونفس الكثرة المنطقية فقام سرافا بعمل إشارة مألوفة عند أهالي نابولي تعني الاحتقار والازدراء – وذلك بحك أسفل ذقنه بظهر أطراف أصابع إحدى يديه . ثم يسأل فنجنشتين ما هي الصورة المنطقية لذلك ؟ وكان المثل الذي ذكره سرافا كافيا لكي يحدث في فنجنشتين شعورا بعدم جدوي إصراره علي أن القضية يجب أن يكون لها نفس الصورة التي يوجد عليها الشئ الذي تصفه هذه القضية . وهذا ما جعله، يتخلي فيما بعد عن فكرته القائلة بأن القضية يجب أن تكون رسما للواقع الذي تصفه .

وأهم الأفكار التي تناولها فتجنشتين في فلسفته الأولي، ثم تخلي عنها فيما بعد علي أنها أفكار خاطئة هي :

- إن العالم ينحل إلي وقائع لا أشياء .

- إن الوقائع الذرية تتكون من أشياء بسيطة بساطة كاملة .

- إن اللغة تنحل إلي قضايا، والقضايا تنحل إلي قضايا أولية تتكون من أسماء، كل منها يشير إلي شئ من الأشياء، فيكون معني الاسم هو الشئ الذي يسميه .

- إن القضايا ليس لها إلا تحليل واحد كامل، وذلك بردها إلي القضايا الأولية .

- النظرية التصويرية للغة – من حيث إن القضايا ذات المعني تكون رسما للوقائع الموجودة في الواقع الخارجي .

- فكرة الأنا وحدية .

- فكرته عن التصوف.

ومما هو جدير بالذكر أن كل هذه الأفكار، كانت نتائج طبيعية لفكرته عن الذرية المنطقية التي كانت بمثابة الأساس الذي شيد عليه بناءه الفلسفي المتمثل في الرسالة، أو كانت بمثابة المبرر الذي جعله ينتهي إلي مثل هذه النتائج .

ويمكن أن نجمل مظاهر القطائع الابستمولوجية في كتاب " البحوث الفلسفية " علي النحو التالي :-

1- تخلي فتجنشتين عن فكرته التي أفتتح بها "رسالته" من أن العالم ينحل إلي وقائع ذرية تتكون من أشياء أو من بسائط منطقية .. إذ أن السبب الأساسي الذي دعا " فتجنشتين" إلي القول بتحليل العالم إلي وقائع، كان هو ضرورة وجود وحدات أولية ينحل إليها العالم، لكي تقابل الوحدات الأولية التي تنحل إليها اللغة، بحيث يتوقف صدق أو كذب الوحدات الأولية للغة (وهي القضايا الأولية) علي وجود أو عدم وجود هذه الوحدات الأولية التي ينحل إليها العالم (أي الوقائع الذرية) . وعلي ذلك كان تحليل " فتجنشتين" عليها النحو تبريرا لتحليله للغة إلي مجموعة من القضايا الأولية . ولما غير " فتجنشتين" من وجهة نظره بتحليل اللغة في كتابه "الأبحاث الفلسفية"، تخلي بالتالي عن فكرته السابقة في تحليل العالم، فلم تعد اللغة تنحل إلي مجموعة من القضايا الأولية أو الذرية التي يتوقف صدقها أو كذبها علي مدي مطابقتها للوقائع الذرية الموجودة، والتي تعتبر جميع القضايا الأخرين دالات صدق لها، بل أصبحت في نظره اللغة وسيلة للاتصال بين الناس الذين طوروها بحيث تخدم الأغراض المختلفة لنشاطات حياتهم المتعددة .وعلي ذلك أصبح تحليل اللغة في نظره بمثابة الكشف عن التشكيلات اللغوية (أي ألعاب اللغة) المختلفة التي تستخدم فيها الألفاظ أو العبارات المختلفة وأصبح تحليل معني اللفظ، ليس هو البحث عما يشير إليه، بل هو الكشف عن الطريقة التي يستخدم بها في اللغة بالفعل. وهكذا نجده يتخلي عن فكرته الذرية المنطقية – من حيث تقسيم العالم إلي وقائع – لزوال المبرر الذي كان يبرر به اعتقاده في هذه الفكرة، وهو تحليل اللغة إلي قضايا ذرية .

2- إذا كان فتجنشتين قد نبه في رسالته إلي ضرورة وجود لغة كاملة منطقيا واعتقد الوضعيون المناطقة – من جانبهم – أنه يشير بهذا إلي الحساب الرمزي الذي كان يستهدفون تحقيقه من أجل تحليل اللغة العلمية، فإن فتجنشتين في مرحلته المتفاخرة قد رفض مثل هذا الحساب ولم يعترف بأهميته في حسم مشاكل الفلسفة، فقد ركز – بتأثير جورج مور – علي تحليل اللغة الجارية . وبعبارة أخري نستطيع أن نقول أن فتجنشتين قد استبعد اقتناعه الأول بأن منطق رسل يعد – علي نحو ما – حجر الأساس لكل فكر إنساني، فقد أصبح ينظر إلي منطق رسل علي أنه عرض لتركيب أنواع معينة من التفكير الرياضي المنظم .

3- كما تخلي فتجنشتين عن فكرته عن وظيفة اللغة التي كانت في فلسفته الأولي تصويرا للواقع الخارجي، فأصبحت في فلسفته الجديدة بمثابة وسيلة للتفاهم مع الآخرين والتأثير فيهم . وبمعني آخر بعد ان كانت وظيفتها فردية تتفق مع فكرة الأنا وحدية التي انتهي إليها، ومع فكرته عن الذرية المنطقية التي بدأ بها، أصبحت وظيفتها اجتماعية – وهو في هذا المعني يقول :"إنني لأقول (بدون اللغة ما كنا نستطيع أن نتصل بعضنا ببعض فقط) بل إنني أقول أيضاً (بدون اللغة لا يمكننا أن نؤثر في غيرنا من الناس) علي هذا النحو أو ذاك .

4- أما فيما يتعلق بأفكاره الفلسفية المتأخرة، فيمكننا أن نقول بصفة عامة إن فتجنشتين لم يستطع أن يسد كل الثغرات التي نشأت عن اعتقاده لبعض أفكاره الأولي . لأنه لا يتعرض في فلسفته المتأخرة لنفس المشكلات التي بحثها في فلسفته الأولي، فهو لا يبحث في كتابه " أبحاث فلسفية" في تحليل العالم الخارجي وما إذا كان مكونا من وقائع أو من أشياء، ولا ما إذا كانت الأشياء بسيطة أو مركبة – بل يحيل مناقشاته لمثل هذه الأفكار إلي مناقشة لغوية تتناول طريقة استخدام الألفاظ الدالة علي هذه الأشياء في اللغة . مثل استخدامنا لما هو بسيط أو مركب – فهو يقول مثلا " إننا نستخدم كلمة "مركب" (وبالتالي كلمة "بسيط") بطرق عديدة ومختلفة " . (وهل اللون الموجود في أي مربع من مربعات رقعة الشطرنج بسيط أم أنه مكون من ألوان قوس قزح ؟..) وفيما يتعلق بالسؤال التالي ؟ تكون الإجابة الصحيحة عنه هي" (إن ذلك يتوقف عل ما نفهمه من كلمة " مركب") " وعلي ذلك فمعيار بساطة الأشياء أو تركيبها إنما يتوقف علي طريقة نظرتنا إلي الشئ "، وعلي طريقة استخدامنا للألفاظ الدالة في اللغة .

5- إن فكرة الذرية المنطقية التي ذهب إليها فتجنشتين كانت تمثل مرحلة معينة من مراحل تفكيره وهي المرحلة الأولي – والتي كان ما زال متأثرا فيها بالاتجاهات المثالية الميتافيزيقية . ولذا فإننا نجده يميل إلي رفض هذه الفكرة في فلسفته المتأخرة التي عبر عنها في كتابه " أبحاث فلسفية "، ويرفض بالتالي تحليل العالم إلي وقائع وإلي أشياء، وإن لم يكن رفضه لها واضحاً قاطعاً شأنه في أغلب أفكاره الفلسفية المتأخرة، لأنه في كتابه " أبحاث فلسفية"، وفي كتابه " بعض الملاحظات علي أسس الرياضيات " من قبل، لم يكن مهتما بتحليل العالم أو ببحث العناصر الأولي التي يتكون منها، بل كان مهتما بتحليل اللغة- من حيث دلالتها، ومن حيث استعمالاتنا المختلفة لها .." فقد تبين فتجنشتين في " أبحاثة الفلسفية" أن العالم والخبرة ليسا منسقين بحيث نقسمهما قسمة ذات حدود فاصلة إلي وقائع  ذرية، كما أنه بدا ينظر إلي اللغة، بعد أن توقف عن اعتبارها وسيلة للتعبير عن قضايا ذات صورة منطقية ثابتة بحيث تصور هذه القضايا، والوقائع تبعا لقواعد محددة – بدأ ينظر إلي اللغة علي أنها وسيلة للاتصال  بين الناس الذين طوروها بحيث تخدم الأغراض المختلفة لنشاطات حياتهم المختلفة . ولذا نجده يناقش هذه النظرة السابقة إلي تحليل العالم إلي وقائع، وإلي تحليل الوقائع إلي أشياء بسيطة، بشكل غير مباشر في فلسفته المتأخرة أثناء مناقشته لمعني اللغة وتحليلها .

6- كان المنطق هو محور تفكير فتجنشتين في الرسالة ... ( فنحن لا نستطيع أن نفكر في شئ ما تفكيرا غير منطقي وإلا كان علينا أن نفكر بطريقة غير منطقية)، ونحن " لا نستطيع أن نفكر بطريقة غير منطقية، ولذا فنحن ملتزمون بقواعد المنطق في كل تفكير وبالتالي في كل كلام نقوله لا رتباط اللغة بالفكر . ولذا كان فتجنشتين حريصاً علي أن يوضح لنا الطريقة المنطقية الصحيحة للتفكير، حتي نأمن الوقوع في الخطأ، ويضرب لنا الأمثلة المختلفة لعملية التفكير الصحيح، وكيف نبدأ من القضية الأولية – التي يجب أن تشترك مع الواقعة الذرية في صورتها المنطقية – لكي نكون منها القضايا المختلفة التي تكون بمثابة دالات صدق لها . وبمعني آخر، كان فتجنشتين مهتماً في فلسفته الأولي بالقواعد المنطقية التي يجب اتباعها في التفكير، سواء كان تفكيراً مرتبطاً بالواقع الخارجي – من حيث البحث في الأسس التي يقوم عليها – أو كان تفكيرا استدلالياً يقوم علي استنتاج دالات الصدق من القضايا الأولية – وهذا كله ما كان يعبر عنه فتجنشتين بنية اللغة . إلا أن فتجنشتين تخلي عن هذا الموقف في فلسفته المتأخرة فلم يعد الاهتمام الأساسي عنده هو البحث في بنية اللغة من الناحية المنطقية، بل أصبح اهتمامه الأساسي بالطريقة التي تستخدم فيها الألفاظ بالفعل في اللغة الجارية . ويتلخص رفض فتجنشتين لموقفه القديم من المنطق في العبارة التي يقول فيها ساخرا مما كان يعتقد في صحته من قبل :" من الطريف أن نقارن بين كثرة الأدوات (أي كثرة عدد الألفاظ والعبارات)، في اللغة، والطرق التي تستخدم بها، وكثرة أنواع الألفاظ والعبارات، نقارن ذلك كله بما كان يقوله رجال المنطق عن بنية اللغة ( بما في ذلك مؤلف الرسالة المنطقية نفسه). إلا أن فتجنشتين لا يتخلي في فلسفته المتأخرة عن فكرته عن المنطق من حيث هو حد للفكر وبالتالي للغة، إنما جعله بمثابة حد لإحدى تشكيلات ( ألعاب) اللغة المختلفة، والواقع أن فتجنشتين بهذا إنما يستخدم نفس الفكرة مع شئ من التغيير الطفيف الذي يتفق مع تغيير وجهة نظره الفلسفية وموقفه الفلسفي الجديد . فهو يري في فلسفته المتأخرة أن معني اللفظ يتوقف علي استخدامنا الفلي للغة. ويشبه فتجنشتين اللغة في هذه الحالة باللعبة – أو هي لعبة بالفعل – نستخدم فيها الألفاظ، كما نحرك البيدق مثلا في لعبة الشطرنج إلا أن الإنسان أثناء لعبة الشطرنج لا يكون حرا في تحريك البيدق حسبما يريد، بل يحركه وفقا لقواعد اللعبة التي تسمح بتحريكه علي نحو معين وتسمح بتحريك قطعة أخري من قطع الشطرنج علي نحو آخر .

7- من الأمور التي عدلها فتجنشتين في البحوث الفلسفية موقفه من صدق قضايا المنطق والرياضيات ويقينها . صحيح أنه بقي علي موقفه السابق من انها تحصيلات حاصل ولا تقول شيئاً عن الواقع، وبهذا أصر علي التمييز الكانطي الشهير بين القضايا التحليلية والتركيبية . ولكنه غير الأرض التي يقف عليها فلم يقل إن صدق تحصيلات الحاصل يرجع إلي اتفاقها مع جميع إمكانات الصدق للقضايا الأولية، وإنما يرجع إلي الاصطلاح أو التواضع علي المعاني المحددة للرموز . ولم يكتف فتجنشتين هنا بأن يقول – كما قال الفيلسوف – كما قال الفيلسوف المنطقي س. أي . لويس – إن الآلة الاستنباطية في المنطق والرياضة يمكن أن تدور بغير إزعاج ما دمنا قد حددنا لكل رمز معناه، وإنما يضيف إليه أننا يمكن أن نصطلح علي معاني أخري للرموز ونختار قواعد أخري تترتب عليها عند التطبيق نتائج مختلفة . وليس ثمة ما يمنع منطقياً من أن يصطلح نوع آخر من الكائنات علي أن 2+2 لا تساوي أربعة بل تساوي أكثر أو أقل إذا اصطلحوا علي تحديد معني آخر للعدد غير المعني المتفق عليه بيننا نحن البشر.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم