أقلام فكرية

كارل بوبر والبساطة التكذيبية

محمود محمد عليسارت فلسفة العلم بشكل عام في إطار منطق تبرير المعرفة العلمية على تحديد مبررات تميزها ووثوقها ومصداقيتها ونجاحها في أداء المهام المنوطة بالعلم، سواء استند هذا التبرير إلى معطيات التحقق التجريبي الاستقرائية أو إلى معايير البساطة والمواءمة الأداتية، وإن مالت كفة الطرح الأول الوضعي، في كلتا الحالين ثمة تبرير للنسق العلمي كمنجز راهن وراسخ يمكن أن يستوعب تطورات أبعد ن من هنا تمثل فلسفة الفيلسوف النمساوي كارل بوبر (28 يوليو 1902 في فينا - 17 سبتمبر 1994 في لندن)، نقطة تحول حاسمة، مادامت فلسفة العلم قد انتقلت معها من منطق التبرير إلى منطق الكشف العلمي والمعالجة المنهجية له، على أساس من قابليته المستمرة للاختبار التجريبي والتكذيب، لتعيين الخطأ كي يحل محله يوما ما كشف أفضل وأكفأ وأقرب إلى الصدق.

ولذلك وضع كارل بوبر نظرية لتأسيس القضايا العلمية كرد فعل على تيار الوضعية المنطقية برفض التعويل على الدليل الاستقرائي في بناء هذه القضايا. إذ وضع بوبر منهجاً عدّه ليس من الدليل الاستقرائي بشيء، وأطلق عليه المذهب الاستنباطي، وذلك ليتخلص من الشبهة الهيومية في الدور والارتداد اللانهائي كما تقتضيه العملية الاستقرائية بوصفها عادة نفسية تقوم على التشابه المستند بدوره إلى الاستقراء، وهكذا، معتبراً ان ما سلكته الوضعية المنطقية من جعل الارتباط قائماً بين الاستقراء والاحتمال لا يغير من النتيجة شيئاً حيث الوقوع في الارتداد اللانهائي، الأمر الذي جعله يغير هذا المنحى بمنهج جديد لا يمت إلى العملية الاستقرائية (وذلك حسب قول يحيي محمد في مقاله نظرية كارل بوبر والقضايا العلمية) .

فهو يبتدئ بوضع فرض معين ذهنياً، وهو فرض مؤقت لا تقتضيه تلك العملية، لكنه يقبل الاختبار، وهو في حالة الاختبار لا يلجأ إلى مبدأ التأييد بالشواهد كما تفتضيها العملية الاستقرائية، إذ أي عدد يمكن استقراءه فإنه لا يكفي للبرهنة على صحة القضية الكلية. فمثلاً مهما رأينا من الحالات التي يظهر فيها البجع أبيض فإن ذلك لا يخولنا ان نعتبر كل بجع أبيض، ولقد ظل الاوروبيون قروناً عديدة لا يرون غير البجع الأبيض، مما جعلهم يتصورون ان كل بجع أبيض، حتى اكتشفوا - في يوم ما - البجع الأسود في استراليا، وبالتالي فقد أدى الاستدلال الاستقرائي إلى نتيجة زائفة ( وذلك حسب قول يحيي محمد- المرجع السابق).

وعلى هذا فقد لجأ بوبر إلى مبدأ التكذيب والبحث عن الحالة التي تظهر الجانب السلبي من الافتراض المطروح، فحيث ان الفرض لا يجد ما يدفع إلى تكذيبه فإنه يصمد بقاءً، والعكس بالعكس؛ ولذلك  يري كارل بوبر أن درجة القابلية للتكذيب (المرتبطة بالمحتوي المعرفي للنظرية) ترتبط أساساً ببساطة النظرية . فكلما كانت النظرية أبسط كلما كانت أكثر قابلية للتكذيب والعكس صحيح . وهذا يعني أن العبارة الأكثر عمومية تحل حل العديد من العبارات الأقل عمومية، لذلك تكون أكثر بساطة ... فالعبارات الأكثر عمومية هي الأكثر قابلية للتكذيب .

ويوضح بوبر ذلك مبينا أن هناك ارتباطا وثيقا بين البساطة والقابلية للاختبار والمحتوي التجريبي، فالنظرية تكون أكثر بساطة إذا كان لها محتوي تجريبي أكبر وإذا كان يمكن تكذيبها، أي يجب تفضيل النظريات الأكثر بساطة من الأقل بساطة، لأنها تمدنا بمعلومات أكثر، ولأن محتواها التجريبي أكبر، ولأنها أكثر خضوعاً للاختبار، ومثل بوبر لذلك بنظرية أينشتين العامة في النسبية التي رآها أكثر بساطة من نظرية الميكانيكا عند نيوتن، فالأولي تتضمن تصورات أقل وفروضا أقل وتستوعب مضمونا أكبر من الوقائع معرض مفاضلتهم بين نظريتين منطويتين علي القدر نفسه من الحقيقة يختارون النظرية الأبسط .

ويجعل بوبر فكرته من درجة البساطة كدرجة من درجات القابلية للتكذيب أكثر صراحة بمعيارين مختلفين وفقا لأحدهما الفرض القائل بأن مدار الفلك دائرة أبسط من الفرض القائل بأن اهليج (قطع ناقص) لأن الفرض السابق يمكن أن يكذب بتحديد المواضع الأربعة التي وجد أنها لا تقع علي الدائرة . (يمكن دائما لثلاثة مواضع وصلها بدائرة) . بينما يتطلب تكذيب الفرض الثاني  تحديد ستة مواضع للفلك علي الأقل . وبهذا المعني يكون الفرض الأبسط هنا هو الأكثر قابلية للتكذيب وهو الأقوى أيضا لأنه منطقيا يتضمن الفرض الأقل بساطة . يهم هذا المعيار بالتأكيد في تحديد نوع البساطة التي يهتم بها العلم .

ولكن بوبر يدعو أحد الفرضين أكثر قابلية للتكذيب . ومن ثم أبسط من الأجزاء إذا كان الفرض الأول يتضمن الفرض الثاني، وله محتوي أمبريقي أكبر بالمعني الاستنباطي الدقيق، إلا أن المحتوي الأكبر ليس بالضرورة مرتبطا بالبساطة الأكثر . فأحياناً ما تعتبر نظرية من النظريات التي لا علاقة لها بالنطاق المحدود الذي تتضمنه النظرية . علي أن النوع المرغوب فيه من التبسيط الذي تبلغه نظرية من النظريات ليس علي هذا النحو مجرد محتوي زائد لأنه إذا كان ثمة فرضين لا علاقة   بينهما (علي سبيل المثال قوانين هوك وسنل) ارتبطا فإن الارتباط  الناتج عنهما يخبرنا بما هو أكثر وإن لم يكن أبسط  من مكونات أيهما . لا يخبرنا أي م الفروض الثلاثة ف1، ف2، ف3 المختبرة قبلا بأكثر من أي من الفروض الأخري . ومع ذلك لا تعد بسيطة علي حد سواء . وهذا الفروض لا تختلف في درجة القابلية للتكذيب . فإذا كذبت أمكن بيان كذب الواحد منها بسهولة أعني بشاهد واحد مخالف وعلي سبيل زوج المعطيات 4، 10 يكذبها جميعها . وبينما ألقت الأفكار المختلفة التي قمنا بمسح وجيز لها ضوء علي معقولية مبدأ البساطة فما زالت مشكلات إيجاد صيغة دقيقة وتبرير موجز لها بغير حل حتي الآن .

ولم يكتف بوبر بذلك ؛ بل وجدناه يتساءل :"  ماذا نفعل إذا وجدنا أنفسنا بمواجهة أكثر من نظرية تتوافر فيها شروط القابلية للتكذيب، القابلية للاختبار والمحتوى المعرفي ؟ كيف نفاضل بين النظريات ونختار؟

يري بوبر بأنه إذا ما تم لنا اختيار النظريات، فإننا نقبل النظرية الأكثر قابلية للتكذيب، والأكثر قابلية للاختبار، والأكثر في المحتوي (سواء المحتوي التجريبي أو المحتوي المنطقي) . وعندما نتعرض للعلاقة بين القابلية للتكذيب وبين المحتوي للقوانين والنظريات، نجدها علاقة وطيدة، إذ أن المستهدف من وراء ذلك هو محاولة تكذيب أو تفنيد المحتوي المعرفي لأي قانون أو نظرية .

والواقع أن سبب هذه العلاقة القوية بينهما هو أن التحليل الدقيق لنظرية القابلية للتكذيب يظهر لنا أنه من الضروري أن نبحث عن النظريات الأكثر في محتواها المعرفي، النظريات الجسورة أو الجريئة متذكرين دائماً أن النظرية الأفضل هي التي تخبرنا أكثر، أو ذات محتوي معرفي أكثر، وهي بالتالي الأكثر قابلية للتكذيب . في ضوء هذه العلاقة، يمكننا تفضيل نظرية أينشتين – مثلاً عن نظرية نيوتن، والسبب هو أن دلالة النظرية الأولي – النسبية – فيما يري بوبر دائماً ما تظهر في اعتمادها علي السياقات الأكثر شمولاً.

والمحتوي المعرفي يتضمن الحديث عن المحتوي التجريبي Empirical Content والمحتوى المنطقى Logical Content  . والمحتوى التجريبى يعول على أن النظرية التى تخبرنا بالكثير عن الوقائع المشاهدة هى التى تمنع الكثير أيضاً من الوقائع وتحرم حدوثها، بحيث إذا صدقت من هذه الوقائع المحرمة والمناهضة للنظرية تم تكذيب النظرية على الفور، ولا يعنى ذلك أن " بوبر " يطالبنا بأن نتفرغ لتكذيب كل النظريات العلمية القائمة وإنما يطالبنا بالبحث الدءوب عن الأمثلة السالبة للنظرية القائمة . ونجد عند " كارناب " قضايا من النوع نفسه، وإن اختلفت مشاربه عن "بوبر "، حيث يذكر، " كارناب " أن القوة الحقيقية للقضية تتمثل فى استبعادها بعض الحالات الممكنة . وهذا يؤكد " بوبر " قائلاَ : إن ما يشير اليه " كارناب "، بالحالات الممكنة يعنى طبقاً لتصوره عن العلم نظريات أو فروض ذات درجة عالية أو ذات درجة منخفضة من العمومية .

وإذا كان المحتوى التجريبي هو فئة المكذبات المحتملة التي تجعل النظرية قابلة للتكذيب، فإن محتواها المنطقي هو فئة النتائج التي يمكن أن تستنتج من القضية العلمية سواء كانت قانوناً أو نظرية . فى ضوء ذلك، فإن ما يميز هذه النظرية عن تلك أو هذا القانون عن ذاك إنما هو القابلية للاشتقاق، بحيث نتأكد أنه كلما أمكن اشتقاق أكبر عدد من القضايا منها كانت أكثر قابلية للتكذيب، وكانت بالتالي النظرية علمية أكثر من  غيرها .

ولذلك نجد بوبر في كتابه " منطق الكشف العلمي " يعقد مقارنة بين توجهه الفلسفي وتوجه بوانكاريه وغيره من الاصطلاحيين إزاء مبدأ البساطة ودوره في المفاضلة بين النظريات العلمية، فنجده يقول :" إن التفضيل لا يرجع بالتأكيد إلي شئ من قبيل التبرير التجريبي للقضايا المكونة للنظرية، ولا يرجع للرد المنطقي للنظرية إلي التجربة . إننا نختار النظرية التي تضع نفسها في منافسة مع النظريات الأخري، أي النظرية التي تبرهن علي أنها الأصلح للبقاء بالاختيار الطبيعي، وتكون هذه النظرية هي التي لا تتصدي فحسب لأعتي الاختبارات، ولكي تكون قابلة للاختبار أيضا بأشق الطرق . فالنظرية أداة نختبرها بتطبيقها وأداة نحكم ملاءمتها بنتائج تطبيقاتها . ومن وجهة النظر المنطقية فإن اختبار النظرية يعتمد علي قضايا أساسية يتوقف قبولها أو رفضها علي قراراتنا . ومن ثم فإن القرارات هي التي تقرر مصير النظريات . إلي هذا الحد تكون إجابتي علي السؤال " كيف نختار نظرية ؟" تشابه الإجابة التي يقدمها صاحب المذهب الاصطلاحي . ومثله أقول أن الاختيار في جانب منه يكون محددا باعتبارات المنفعة . ولكن علي الرغم من ذلك هناك فرقاً شاسعاً بين أرائي وآرائه، لأنني أقرر أن ما يميز المذهب الامبريقي هو ما يلي : أن القرار أو الاتفاق لا يحدد في الحال قبولنا للقضايا العامة ولكن علي العكس يدخل في قبولنا للقضايا أي القضايا الأساسية . وبالنسبة للاصطلاحي فإن قبول القضايا العامة يحكمه مبدأ البساطة وهو ينتقي النسق الأبسط . وعلي النقيض من ذلك، أقترح من جانبي أن الشئ الأول الذي يؤخذ في الحسبان هو صعوبة الاختبارات (وهناك ارتباط وثيق بين ما أطلق عليه البساطة وصعوبة الاختبارات، وعندئذ فإن فكرتي عن البساطة تختلف بشكل كبير عن فكرة الاصطلاحي) . وأنا اعتبر أن ما يقرر بشكل نهائي مصير النظرية هو نتيجة الاختبار، أي الاتفاق حول قضايا أساسية . وأقرر مع الاصطلاحي أن اختيار أية نظرية خاصة هو فعل، وأمر عملي . ولكن بالنسبة لي فإن الاختيار متأثر بشكل قاطع بتطبيق النظرية وقبول القضايا الأساسية في علاقتها مع هذا التطبيق، بينما بالنسبة للاصطلاحي تكون الدوافع الجمالية هي العامل الحاسم . ومن هنا أختلف عن الاصطلاحي في تقرير أن القضايا التي يقرها الاتفاق ليست قضايا عامة، ولكنها قضايا شخصية، وأختلف عن الوضعي تقرير أن القضايا الأساسية غير قابلة للتبرير بخبراتنا المباشرة، ولكنها من وجهة النظر المنطقية مقبولة بفعل ما أو بقرار حر (ومن وجهة النظر السيكولوجية فربما يكون ذلك له هدف ورد فعل جيد التطبيق) .

باختصار ترتبط البساطة عند بوبر بمحتوي النظرية . ولما كان المحتوي الأكبر للنظرية هو المطلوب دائما لأنه يعرضها للاختبار أكثر، فإن النظرية البسيطة هي التي تتسم بالدرجة العالية من القابلية للأختبار إذا قورنت بنظرية أخري كانت أكثر تعقيدا. لكن سواء أكانت البساطة بالنسبة للنظرية أو القانون منصبة علي المنفعة، ألأكثر جمالا كما رأي بوانكاريه وغيره من الاصطلاحيين أو الأداتيين أو منصبة علي المحتوي التجريبي المعرفي الأكبر، ومن ثم القابلية للتكذيب الأعلى كما رأي بوبر سواء كان هذا الأمر أو ذاك، إن البساطة ما زالت غامضة  فبالإضافة إلي ما سبق من آراء حول البساطة، فربما نجدها أيضا مبنية علي الاعتقاد بأن الطبيعة بسيطة ولكن يبدو أن الدليل علي صدق هذا الاعتقاد لم يتضح بعد، ثم أن تاريخ العلم نفسه يشهد بأن أنساقا نظرية بسيطة قد تلاشت وقبلت المعقدة . إن هذا الاعتقاد يدل علي مجرد فهم اعتباطي أو علي أحسن الفروض حدسي للطبيعة وللبساطة . لذلك فهو ميتافيزيقي . لذا كان من الممكن أن يخدم كحافز للبحث لكن لا يقبل أي رفض أو تأييد بواسطة الدليل التجريبي وهذا ما يمكن غموض البساطة .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل- جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم