أقلام فكرية

ما بين ماركس وهيغل: إشكاليات التاريخ ويقين الروح الثوري (1)

ميثم الجنابيتقديم: إن هذه السلسلة من المقالات هي استكمال لما سبق وأن وضعته في سلسلة المقالات المنشورة على صفحات (المثقف) تحت عنوان (ما بين هيغل وماركس: إشكاليات التاريخ ويقين المستقبل). وهي ليست دراسة مقارنة، بقدر ما هي رؤية فلسفية لمسار الفكرة التاريخية عد هيغل وماركس وأثرها في بلورة الفكرة السياسية. وإذا كانت ملامحها تبدو عصية على الفهم للوهلة الأولى عند هيغل، فإنها اتخذت عند ماركس أبعادها العملية الواضحة والجلية. بحيث جرى مطابق الماركسية مع الفكرة السياسية، مع ما ترتب عليه من ابتذالها الأيديولوجي.

***

لقد كان تفكير ماركس ونمو رؤيته الذاتية عن النفس والتاريخ والمستقبل جزء من عراك الروح والجسد الأوربي بشكل عام والألماني بشكل خاص. ومن ثم، فإنه كان يحتوي، شأن أسلافه الكبار بدأ من شيلنغ وانتهاء بفيورباخ، مرروا بكانط وفيخته وهيغل، على محاولة تذليل التجزئة والصراع الحاد والدامي بين الجسد الألماني والروح الأوربي، أي كل ما سينتهي بصيغته الفكرية في بلورة ملامح ومنهج الماركسية وفلسفتها العملية. وليس مصادفة أن تكون إشكالية الدين من بين أكثرها جوهرية في البداية، وإشكالية التاريخ من بين أكثرها جوهرية في النهاية. وفيهما تنعكس الصيغة النموذجية للبحث عن حلول فكرية لوحدة الروح (الدين) والجسد (التاريخ). وكلاهما كان يتمثلان تاريخ المعاناة الذاتية لألمانيا.

فقد كانت ألمانيا مصدر ومرتع وميدان الإصلاح الديني (البروتستانتية). مع ما أدى إليه من ظهور الرؤية الفلسفية للدين كما هو جلي في كتابات غيس، وهيردر، وباولوس، وشليرماخر، وغازه، وانعكاسها النظري الكبير في فلسفة هيغل عن الدين، ثم مناقشتها ونقدها الفكري الواسع في كتابات روغه، وفيورباخ، ودافيد شتراوس، وبرونو باور، وماركس. الأمر الذي جعل من ألمانيا ميدانا بل مختبرا هائلا لتصنيع ونقد الأفكار الدينية والتاريخية.

فالتقاليد الألمانية هي الأولى والأكبر من بين نظيراتها الأوربية في مجال دراسة ونقد الدين. وفيها أيضا جرى تذليل تقاليد نقد الدين المتراكمة في الفكر الأوربي. فإذا كانت التقاليد الفرنسية على سبيل المثال تركز بشكل خاص على نقد الدين من خلال نقد الذهنية، أي عبر إبراز فاعلية الجهل في ظهور الدين والعقائد الدينية كما هو الحال عند ديدرو وفولتير وغولباخ وغيرهم، فإن التقاليد الانجليزية ركزت على الأبعاد السياسية ورؤية المصالح في نقد الدين. وقد تكون الفكرة التي بلورها المؤرخ الانجليزي الشهير ادوارد غيبون، القائل، بأن عوام العالم القديم (اليونان والرومان) جميعا كانوا يعتقدون بصحة وسلامة اعتقاداتهم وعباداتهم (طقوسهم)، بينما كان الفلاسفة جميعا يعتقدون ببطلانها، أما أهل السلطة فكانوا جميعا يعتقدون "بفائدتها"، إحدى الصيغ النموذجية في الموقف من الدين. طبعا أنها لا تستنفذ التقاليد الانجليزية بسبب تنوعها الكبير والهائل بهذا الصدد لكنها مؤشر عن احد النماذج النظرية "المرجعية" في الموقف من الدين.

أما التقاليد الألمانية فقد رفعت مختلف نماذج ومستويات الموقف من الدين إلى مصاف الرؤية الفلسفية المنهجية. من هنا لم يكن بإمكان أي فيلسوف أو متمرس في ميدان الفكر النظري المرور شأن عابري السبيل على ما في التقاليد الألمانية من لهيب حار لصقل إرادة العقل والمعرفة والوجدان في الموقف من الدين.

كان الصراع في ألمانيا حول الدين هو الوجه "المتسامي" للصراع الأرضي. وليس مصادفة أن تظهر فيها اغلب المدارس الفلسفية التاريخية الحديثة. الأمر الذي جعل من ألمانيا أيضا مصدرا ومرتعا وميدانا للتأمل الفلسفي للتاريخ بشقيه العام (العالمي) والخاص (القومي)، ومستوييه المجرد (فلسفة التاريخ) والملموس (القومي). وفيها ظهرت أكبر تقاليد المدارس التاريخية من حيث الرؤية ومستوى وتنوع التحليل والمناهج. وهذا بدوره ليس إلا الوجه النظري و"المتسامي" لما يمكن دعوته بتاريخ الأمة المعذبة بقدرتها الجبارة وشللها الجزئي بسبب التجزئة السياسية للدولة.

ومن الممكن العثور على هذه الحالة في تلك القوة العارمة المميزة للخطاب الألماني المتنوع المستويات منذ فيخته حتى نيتشه، مرورا بكانط وشيلنغ وهيغل وفيورباخ وماركس، والمتلألئ في إبداع عشرات الأدباء والشعراء الكبار من هيردر إلى غوته، وفي الموسيقى من بتهوفن إلى فاغنر. وهو تنوع يعبر عن الصيغة الوجدانية العارمة لسيول الروح المعذبة من فقدان ألمانيا لوحدتها القومية وعزتها الذاتية. من هنا سيادة وانتشار فكرة العام، إي الفكرة المنطقية في تناول التاريخ. ومن هنا أيضا فكرة العقل المطلق والتاريخ العالمي والأممية البروليتارية وغيرها. فهي صيغ متنوعة للرؤية التاريخية الألمانية، أي الصيغ المتسامية للواقع الخشن الذي أراد بيسمارك أن يصنع منه بروسيا الكبرى، وهتلر الرايخ الثالث! ولكل حالة جبروتها ومثالبها الكبرى.

بعبارة أخرى، لقد كانت النزعة التاريخية والاهتمام الشديد بها يقفان وراء "العنف الألماني" في الموقف من التاريخ والدين أيضا. فكلاهما في الفكر الألماني يتداخلان في لضم خيوط النسيج المرهف لصناعة "العقائد المتسامية". وهو المصطلح الذي يمكن العثور على تنويعاته العديدة ومذاقه بما في ذلك في خطاب ماركس أيضا، وبالأخص في تلك الحالات التي يصبح الجدل حراكا وعراكا مع النفس أولا وقبل كل شيء. ولعل شخصية ماركس التاريخية هي أحد النماذج المثالية بهذا الصدد. 

فقد كان الحراك والعراك الشخصي مع النفس عند ماركس جزء من صيرورته الفردية. وبالقدر ذاته كان النسق الفكري لكينونته العقلية والمنهجية والعملية. وكلاهما (الصيرورة والكينونة) كانا يتهذبان في مجرى الفورة الفلسفية الهائلة التي أحدثها هيغل في الوعي الألماني بشكل عام ومنطق التفسير والتأويل الفلسفي للوجود والفكر بشكل خاص. وفيما لو أهملنا صيرورته الفردية باعتبارها جزء مما يواجهه المرء في أطوار الوجود التاريخي لمسار الشخصية أيا كان وزنها وحجمها، شأن كل موجود، فإن كينونته الفكرية تتمثل تقاليد المنطق الجديد الذي أدخلته الفلسفة الألمانية للوعي من جهة، وكيفية انكساره فيما أسميته بالكينونة العقلية والمنهجية والعملية لماركس من جهة أخرى. بمعنى كيفية تبلور رؤيته الفلسفية اللاحقة في مجرى المعاناة الشاقة لمواجهة تاريخ الفكر والواقع على أنهما وحدة واحدة. وهو انكسار واضح وجلي ودرامي أيضا يمكننا العثور عليه في تلك التحولات العاصفة والراديكالية السريعة التي اجتازها في غضون ثلاث سنوات (من عام 1841 حتى 1844) كما تجتاز الأمم زمن الثورات في غضون فترة وجيزة (كما سيقول ماركس نفسه) ما تجتازه في مجرى قرون من الزمن. ولم تكن هذه الفكرة نتاجا لتأمل حالة التحولات الكبرى التي كشفت عنها سلسلة الثورات المتكررة في أوربا القرن التاسع عشر، والتي أغرته لاحقا بابتداع يقين الثورة العالمية وديمومتها الأبدية ما لم تبلغ البشرية شاطئ الأمان التام بعد مرورها بعواصف التاريخ المزيف للملكية الخاصة، بقدر ما كانت تكمن في أثر المنطق الهيغلي نفسه، الذي كان يحتمل في ذاته إمكانية تذليل زمن التأمل البطيء بتاريخ التحولات الكبرى العاصفة. الأمر الذي جعل من الفكرة الهيغيلية عند ماركس منذ البداية وحتى النهاية، سلاحا عقليا حادا، ومنهجيا عقليا ونقديا ونظريا وعمليا. وهو شيء جلي حالما يجري استعراض أسماء كتبه الأولية، أي تلك التي ميزت مرحلة الانتقاد العاصف والنزوع النقدي، مثل (نقد النقد النقدي) و(الأيديولوجية الألمانية) و(فلسفة البؤس) وغيرها واستمرت حتى أواخر مراحل نضوجه الفكري واستقلاله الفلسفي، كما هو الحال في (نقد الاقتصاد السياسي)، أي تلك العناوين والمضامين النقدية العنيفة من حيث الشكل والمحتوى. وهذه بدورها لم تكن في الواقع سوى الوجه النظري الخارجي عن طبيعة التحول العاصف في الرؤية العقلية والمنهجية لماركس نفسه.

فقد جرى عراكه الأول بهذا الصدد من خلال الانتقال السريع إلى الهيغيلية، أي الابتعاد عن الغوص في عوالم الإغريق القدماء وتأملاتهم الفلسفية إلى هيغل، ومن خلاله إلى الغلوّ فيه ثم الابتعاد أو الانفصال عنه، أي الانتقال إلى "الهيغليين اليساريين" ومنه إلى نقدهم عبر الرؤية الفيورباخية وتأملاتها الانتروبولوجية. وفي مجرى نفيهما العقلي أخذت بالبروز ملامح ماركس الأولية ونزوعه النقدي للتراث الهيغلي "اليساري" و"اليميني"، أي الانتقال صوب التأويل السياسي الدائر حول إشكاليات الدين. فهي الإشكالية التي بلغت ذروتها في النقد الفيورباخي لهيغل. لكنه سرعان ما جرى تذليلها من خلال دفع الفكرة الهيغيلية والنقد الفيورباخي صوب الأبعاد العملية القصوى. وقد جرت هذه العملية في غضون سنوات سبع (1841-1848) عكست كمية ونوعية الانتقال الحاسم من مختلف اجتهادات الفكر النظري السياسي الليبرالي واليساري إلى مواقع الشيوعية. وهو انتقال تراكمت فيه وتداخلت الصيغة الجديدة لوحدة العقل النظري والعملي باتجاه يختلف اختلافا جذريا عن تقاليد الفلسفة الألمانية السابقة.

فقد كان الفلاسفة الألمان الكبار بدأ من كانط وانتهاء بفيورباخ عادة ما يبدءون بنقد الفكر والواقع وينتهون بالانزواء في منظومة الفكر المجرد. وهو عالم مغر وثري ويحمل بقدر واحد سعادة الاندهاش وحزن الحكمة. وليس مصادفة أن يقول كانط في احد آخر وأكبر أعماله النظرية (نقد العقل العملي) من أن هناك شيئين فقط يملأن قلبه بالسعادة والحبور، ألا وهما نجوم السماء الساطعة من فوقه، والقانون الأخلاقي في أعماقه. وتحتوي هذه العبارة بقدر واحد على التأمل الحزين للحكمة والاندهاش بتأمل الكون. ومات منزويا. ومن الممكن رؤية هذه الخاتمة على مثال حياة هيغل وشيلنغ وفيورباخ، كل بطريقته الخاصة. وإذا كان من الممكن العثور في عبارة كانط ونماذجها اللاحقة عن غياب الأحبة والأصدقاء، فإن حقيقتها تقوم في فناء كل شيء وبقاء معالم الروح بوصفها القوة الوحيدة الحية الباقية في الظاهر والباطن. وذلك لأنها تعبّر عن إحدى حقائق الكون الاجتماعي التاريخي الكبرى للإنسان والقائلة، بأن الأشباح سرعان ما تزول وتندثر ويبقى روح المعاناة وقدرته على التجدد في التاريخ. وسواء أدرك ماركس منذ وقت ومبكر هذه الحقيقة أم لا فأنه سار باتجاه آخر. بمعنى الإبقاء على مكنون التجربة الألمانية الفلسفية ولكن من خلال إدراجها في مهمة الفعل الاجتماعي وفلسفة التغيير، أي كل ما كوّن عنده لاحقا مضمون فلسفة التاريخ.

لقد تراكمت الفكرة التاريخية عند ماركس من خلال نفي الرؤية النقدية العقلانية بمعايير الهيغيلية "المثالية"، ثم اليسارية ثم الفيورباخية ثم الاستقلال الذاتي. وفي ميدان الأيديولوجية والفكر السياسي من الراديكالية النقدية إلى الاشتراكية الحالمة (الطوباوية) وعبرها إلى الاشتراكية الديمقراطية ثم الشيوعية. ذلك يعني، إننا نقف أمام سبعة تحولات كبرى في حياة وشخصية ماركس الفكرية والسياسية، بوصفها حلقات تجربته النقدية الحرة واجتهاده النظري. وفيها ومن خلالها تبلورت "الماركسية" في فلسفة الفكرة الكونية العملية، وليس فلسفة الروح الكوني. بمعنى تلازم وتوازي التجربة الفكرية النظرية الشخصية والالتزام العملي بنتائجها السياسية. ومن تفاعل هذين المكونين ظهرت ملامح الكينونة العملية للماركسية، أي الانتقال من الفكرة المنطقية المجردة إلى عالم التاريخ الواقعي والملموس.

فإذا كانت فلسفة التاريخ الهيغيلية هي فلسفة الروح من خلال تتبع تاريخها المنطقي، فإن الانقلاب الذي أحدثه ماركس بهذا الصدد، على الأقل في ملامحه الأولية آنذاك، كان يقوم في الخروج المتدرج من ثقل الكينونة الهيغيلية القابعة في أعمق أعماق ذهنيته الفلسفية. وليس مصادفة أن تتفرع من الرأس الهيغلي هذه الكمية المتناثرة من الرؤؤس الطائشة والراديكالية والثورية، أي تلك الكمية التي تبدو مظاهرها نقيضا حيا لما في الهيغيلية من رزانة يصعب على هؤلاء الشباب حمل وزر أثقالها دون أنين العقل والوجدان. ومن الممكن رؤية هذه الصورة الرمزية في تلك الحماسة المفرطة للنزعة النقدية التي أوقفت ماركس بعد سنوات قليلة لتأمل ما فيها من غرور وإجحاف للعقل نفسه. فقد أدى هذا الإفراط النقدي إلى بلورة سفسطة العقل والوجدان وابتذالهما لحقيقة الهيغيلية من خلال الولع بالعيش والبذخ على ما فيها من وليمة مجانية. (يتبع....).

***

ا. د. ميثم الجنابي – مفكر وباحث

 

في المثقف اليوم