أقلام فكرية

الجمال والعلم.. تنافر أم توافق!! (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن خصوصة العلاقة بين الجمال والعلم، وفي هذا يمكن القول: معظم الوضعيين المناطقة لم يفرقوا في حديثهم عن القيم بين الأخلاق وعلم الجمال، أو قل بين الخير والجمال فهما معا يعتمدان علي الذات المدركة، لا علي صفة في الشئ المدرك والمصطلحات الجمالية تستخدم تماما كمصطلحات الأخلاق للتعبير عن مشاعر معينة، ومن ثم فلا معني لأن ننسب صحة موضوعية للأحكام الجمالية ولا إمكانية للجدال حول الأمور المتعلقة بالقيم الجمالية، وإنما يمكن النقاش فقط حول مسائل الواقع المتعلقة بالجمال، وهذه جميعاً مسائل علمية، فالبحث العلمي وحده هو ما يبحث في أسباب الشعور الجمالي، ولماذا تنتج بعض الجماعات أعمالا فنية وما أثر اعجابها بها، ولماذا يختلف الذوق من فرد لآخر داخل مجتمع واحد . فهذه كلها أمور يمكن بحثها بحثا اجتماعياً أو نفسياً .

ويعلق "جيمس ماكليستر" علي ذلك فيقول:" لاشك أن الوضعية المنطقية كانت علي حق حين رأت أن الاعتبارات الجمالية تحدث من خلال سياق الكشف: فكثيرا ما يحدث أن العلماء يَلتقطونَ النظرياتَ التي فيها هو وهي سيقومان بتوضيح الجزء الذي تتمثل فيه قوة الخصائص الجمالية . ولكن تم إنكار أن الاعتبارات الجمالية تلعب جزء في تقييم العلماء للنظريات ، وهنا الوضعية المنطقية أهملت حقيقتين:

الأولي:- أنه من الممكن النظر إلي الإبداعات العقلية لأنواع عديدة تتراوح من البراهين الرياضية إلي لعبة الشطرنج كأعمال للفن . وحين نضع في الاعتبار الإبداعات العقلية في هذه الحالة نلجأ إلي القول بأن لها خصائص جمالية وهذا الاقتراح الجمالي يؤثر علي نظرتنا العامة تجاههم. ومن المعتاد أنه إذا ما لم يتمكن العلماء في أغلب الأحيان علي أن يعتبروا النظريات العلمية بوصفها أعمال للفن وأن تسمح نظرتهم العامة بها لتكون متأثرة بالأحكام الجمالية . وبالطبع العلماء، كثيرا ما يستسلموا بتلك الإغراءات، وأرنست راذرفور، كتب يقول في سنة 1932 حيث عرض مثال في هذا الصدد قائلاً: أعتقد أن المطلب القوي يتمثل في أن عملية الكشف العلمي ربما ينظر إليها على أنها صورة من صور الفن .

وهذا أفضل رأي في الملامح التنظيرية للعلم الفيزيائي . إن المنظر الرياضيي كثيرا ما يبني صروحا رهيبة من الافتراضات المحددة وطبقا للفهم الجيد للقواعد المنطقية التي ينتقل من خلالها خطوة بعد خطوة، بينما قوته التخيلية تظهر بوضوح من خلال العلاقات الكامنة بين أجزائها. والنظرية المشيدة جيدا هي التي بلا شك يكون لها بعض ملامح النسبة الجمالية. والمثال الذي يمكن أن يجسد هذا بالتحديد هو النظرية الحركية لماكسويل {....} ونظرية النسبية لأينشتين، حيث نجد أن ما يفترق تماما عن أي شئ هو صدقهما الذي لا يمكن إلا أن يكون يمثل قطعة فنية رائعة.

ثانياً: إن الوضعيين المناطقة قد اعترفوا أنهم قد حذفوا فكرة أن العلماء في عملهم الخاص لا يميزون علي نحو قاطع بين سياق الكشف وسياق التبرير. في معظم الحالات فإن العوامل التي تقود العالم لصياغة النظرية التي لها خصائص محددة أيضا بحيث تلعب دورا في تشكيل رأي الجماعة بشان أهمية النظرية. وبالأخص فإنه يبدو أن العلماء يلجئون إلي العوامل الجمالية في كل من جهودهم لإحداث الفروض وفي تقييمهم للنظريات التي من المفترض أن تكون متمثلة في جماعتهم . ومن خلال استبعاد العلماء للتقييمات الجمالية لنظرياتهم بوصفها غير مهمة، فإن الوضعيين المناطقة فشلوا في أن ينصفوا هذا الجانب من الممارسة العلمية .

وهاتان النتيجتان انقلبتا تماما في نظرية الكوانتم بعد انقلاب المقدمة الأولي التي بنيت عليها ؛ بمعني أن المادة لم تعد هي المعبرة عن حقيقة الوجود . بل ضروب من الطاقة غير المنظورة، تؤثر فينا ولا نراها، وبالتالي أصبح الجمال صفة للشئ أو الظاهرة وجزء منها وليس مجرد شعور عند المتلقي، بل وأصبح أحد المقاييس الموضوعية للحقيقة العلمية جنبا إلي جنب مع البساطة والمقاييس المنطقية والتجريبية باقتناع العالم بصحة النظرية يتوقف علي إحساسه بجمالها . وهي ليس إحساسا فرديا، بل له صفة الموضوعية.

ولذلك نجد الجمال في النظرة الجديدة وسيلة من وسائل اكتشاف الحقيقة العلمية .

ومن ذلك مثلا أن جيمس واتسن في كتابه " اللولب المزدوج " يذكر كيف ان الجمال هدي إلي اكتشاف التركيب الجزيئي لـ DNA فيقول ": كنا نتاول طعام الغذاء ويقول كل منا للآخر إنه لا بد من وجود تركيب علي هذا الجانب من الجمال . " وأقر جميع الحاضرين تقريبا بأن تركيبا في مثل هذا الجمال لا بد من أن يكون موجودا ؛ ويقول العالم الفيزيائي "جورج طومسون George Thomson: (إن المرء يستطيع دائما أن يقدم نظرية، أو عددا كبيرا من النظريات لتفسير حقائق معروفة، بل للتنبؤ بحقائق جديدة أحيانا. والجمال هو الفيصل. فالنظريات بعضها صعب المأخذ ومحدود النطاق وتعسفي. وقلما تدوم هذه طويلا " .

بل إن الجمال يتحدى "الحقائق ". ومن الأمثلة التوضيحية على ذلك واللافتة للنظر ما نجده في بحث علمي قدمه الفيزيائيان "ريتشارد فينمان ومري جيل -مانMurry Gell-Mann عام 1958وعرضا فيه نظرية جديدة لتفسير التفاعلات الضعيفة. وكانت النظرية تناقض بشكل صارخ عددا من التجارب. أما الجانب الرئيس الجذاب فيها فكان الجمال. وقال العالمان فينمان وجيل -مان "إنها نظرية عالمية ومتناسقة وهي أبسط الإمكانات، مما يدل على أن تلك التجارب غير صحيحة ". ويعلق جيل -مان على ذلك بقوله: " غالبا ما يطرح العالم النظري مقدارا كبيرا من البيانات على أساس أنها اٍذا كانت لا تنسجم مع خطة أنيقة فهي غير صحيحة. وقد حدث هذا معي مرات عديدة، كما في نظرية التفاعلات الضعيفة:لقد كانت هناك تسع تجارب تناقض النظرية وكلها بلا استثناء غير صحيحة. فإذا كانت لديك نظرية بسيطة تتفق مع سائر قوانين الفيزياء، ويبدو أنها تفسر فعلا ما يحدث، فلا عليك إن وجدت كمية قليلة من البيانات التجريبية التي لا تؤيدها. فمن المؤكد تقريبا أن تكون هذه البيانات غير صحيحة .

ولذلك نجد جون بوكنجهورن يذهب John Polkinghorne في كتابه Beyond Science فيقول "إن الفيزياء قد علمتنا أن أنجح النظريات هي التي يعبر عنها بأجمل النظريات " . أرأيت كيف أن الجمال قد أصبح معيارا لتمحيص صحة النظريات العلمية ؟ هل كان متصورا في العلم بمفهومه الكلاسيكي أن يكون لمثل هذه المعنويات دور في البحث العلمي المجرد ؟ .. ولكنه العلم في ثوبه الجديد . وإذا كان اللجوء لمعني الجمال في تمحيص النظريات العلمية أمرا مستغربا، فما بالك أن يكون أساسا لوضع نظرية من النظريات أصلا وأيه نظرية، النسبية العامة التي قد لا يغالي في القول بأن وضعها كان من أعظم الإنجازات العلمية علي مر التاريخ الإنساني ؟ وفي هذا المعني يقول الكتاب المذكور: " لقد تعلمنا درساً بليغاً من بحث بول ديراك الدءوب عن المعادلات الجميلة، ومن قبله ألبرت أينشتين في نظريته النسبية العامة . ولو أتيح للقاري الكريم الاطلاع علي قصة حياة أينشتين كما كتبها مساعده ريتشارد هوفمان لوجد كيف ركز المؤلف أي أن وضع هذه النظرية كان مبنيا ليس علي أي شئ آخر علي إحساس أينشتين بالجمال . لقد نزع العلم عن نفسه ثوبا أقرب لقميص الأكمام ليستبدل به ثوباً فضفاضاً يتسع لمعان مستقاة من روافد أخري للمعرفة الإنسانية معان تتسع للخير والجمال .

ويعلن الفيزيائي بول ديراك Paul Dirak": (إن وجود الجمال في معادلات العلم أهم من جعل هذه المعادلات تنطبق على التجربة) ونستطيع أن نفهم ذلك إذا تصورنا العالم النظري أمام كمية ضخمة من البيانات التجريبية المذهلة . فأي النتائج هو الأهم ؟ وكيف ينبغي أن تفسر جميعها ؟ ما هو النمط الملاحظ ؟ والجمال في هذا المقام يدل علي أنه جدير بالثقة ؛ وفي انعكاساته العديدة علي دور العوامل الجمالية في عمله الخاص، وفي الممارسة العلمية عموماً، شدد ديراك علي تأثيرها وذلك بوصف كونها تمثل موجه للكشف وبوصف كونها أيضا تمثل الأساس لتقييم النظرية . أولاً، فكما اعترف ديراك باستخدام المعيار الجمالي بأن قرر أولويته في بحوثه الخاصة . فقد اعتقد ديراك أن كثير من زملائه يعملون بنفس الطريقة فمثلاً: حين كان أينشتين يعمل علي إقامة نظريته في الجاذبية فإنه لم يحاول أن يصف بعض نتائج الملاحظات . بعيدا عنها . فقد كان إجرائه العام هو أن يبحث عن جمال النظرية {....} وبطريقة ما فقد حصل علي فكرة أن الجاذبية تتعلق بانحناء الفضاء . وقد تمكن من أن يطور الخطة الرياضية التي تجسد هذه الفكرة . لقد توصل فقط من خلال اعتبار الجمال لتلك المعادلات{....} ونتيجة هذا الإجراء هي نظرية البساطة العظمي والتألق في أفكاره الأساسية .

ولذلك اعتمد " ديراك " علي أن المعيار الجمالي أيضا يتمثل في تخمين النظريات . " سياق الكشف"، " سياق التبرير " حيث يوجد بينهما ارتباط ضروري لا يمكن التخلص منه، وهذا الارتباط يتمثل في هذه القضايا علي النحو التالي:" إن ما هو أكثر أهمية، هو أن يكون الجمال متمثل في معادلات الأول أفضل من أن يكون متمثل من خلال تجربة ملائمة {....} إن ما يبدو هو أنه إذا كان الأول يعمل من وجهة نظر للحصول علي الجمال في معادلات الأول، وإذا كان الأول لديه بالفعل بصيص من الإلهام فإنه بالتأكيد يمثل خط التقدم " كما دعا ريتشارد هـ . دالتز في موسكو في سنة 1950 عندما سئل أن يكتب فلسفته في الفيزياء، وكتب علي السبورة القوانين الفيزيائية التي يجب أن يكون لها جمال رياضي " إنه كان علي الأقل متمثل في جزء من هذا المعيار الذي افترضه بتوسع ديراك لنظرية النسبية العامة: " إنني اعتقد أن أسس النظرية تكون أقوي من النظرية التي تحصل ببساطة علي افتراض البينة التجريبية . والأساس الحقيقي يأتي من الجمال الأعظم للنظرية {....} إن الجمال ضروري للنظرية التي تجعلني أشعر بالسبب الحقيقي للإيمان بها .

ثم يفسر لنا ديراك كيف أصبح الجمال في تصور فلاسفة الطاقة أشد واقعية من وجود الأشجار والأنهار والأحجار، فيقول ": إن جمال النظرية العلمية أحيانا ما يقدم علي صدقها التجريبي، وكثيرا ما يكون هذا الجمال هو المصحح لبعض البيانات التجريبية الخاطئة . فالعالم النظري يجد بين يديه كما هائلا من البيانات التجريبية تحار العقول في تفسيرها . وحينئذ يكون التفسير هو الفيصل الذي يكشف عن خطأ المعطيات التجريبية المخالفة .

ويذهب يذهب" هيزنبرج " إن نظرية أينشتين المذهلة إلي الجاذبية لا يتأتي اكتشافها إلا لعبقري رزق إحساسا عميقا بجمال الأفكار " ؛ وفي فقرة أخري يعلن هايزنبرج إن " الجمال في العلوم الدقيقة وفي الفنون علي السواء هو أهم مصدر من مصادر الاستنارة والوضوح " ؛ يتعلق بميكانيكا الكم وهو المجال الذي قام فيه هيزنبرج ببحوث رائدة أنه ثبت في الحال أن " النظرية مقنعة بفضل كمالها وجمالها التجريدي . ولذلك نجده يصف نظرية نيلز بور بأنها نظرية فاتنة للغاية فيقول:" انني أعتبر فيزياء " نيلز بور "، فاتنة للغاية بالرغم من أن كل هذه المشاكل . أن بور يعرف بالقطع أنه قد اعتبر فرضا متناقضا في حد ذاته، وبالتالي فلا يمكن أن يكون هذا الفرض صحيحا . ولكن بوهر لديه غريزة صادقة لكيفية بناء نظرية كاملة علي هذا الفرض تعتبر مطابقة للأحداث الذرية . إن استخدام بوهر للميكانيكا الكلاسيكية ونظرية الكم هنا يشبه تماما استخدام الرسام للفرشاة أو الألوان . وبالطبع فإن أي صورة لا تتحدد من الألوان والفرشاة ولكنهما لازمتان في إخراج ما يدور في مخيلة الفنان بطريقة غير مكتملة . إن بوهر يعرف تماما تصرف الذرات أثناء الظواهر الضوئية وأثناء التفاعلات الكيميائية وقد اكسبته هذه المعرفة عن طريق الحدس تصورا لتركيب الذرات المختلفة . وهو يريد أن ينقل هذه الصورة إلي الفيزيائيين الآخرين باستخدام العوامل المساعدة الغير مكتملة، أي " المسارات "و"شروط الكم " .

وفي حوار دار بين هيزنبرج وأينشتين، حيث سأل أينشتين هيزنبرج فقال " لماذا تؤمن بنظريتك بهذه الدرجة بالرغم من أن هناك أسئلة مركزية لم تصبح واضحة  بعد ؟" وأجاب هيزنبرج فقال " إنني أعتقد مثلك أن بساطة القوانين الطبيعية لها صفة موضوعية وأن الأمر لا يتطلب فقط الاقتصاد الفكري عندما تقودنا الطبيعة إلي أشكال رياضية ذات بساطة كبري وجمال فائق – وأعني بكلمة إشكال هنا: نظما مغلقة من الفروض الأساسية، والبديهيات وخلافه –أي إلي أشكال لم يفكر فيها أحد من قبل ؛ عندئذ سيتبين لنا دون قيد أوشرط أنها فعلية أو بمعني آخر أنها تمثل نفثة حقيقية من الطبيعية ولعل هذه الأشكال تتناول علاقتنا بالطبيعة وتحتوي علي عنصر من الاقتصاد الفكري . ولكن بما أننا لم نستطع حتي الآن من التفكير بأنفسنا في هذه الأشكال التي يجب أن تقدم لنا أولا من قبل الطبيعة فلا بد أنها تنتمي إلي الواقع نفسه، وليس فقط لأفكارنا عن الواقع . لعلك تتهمني هنا بأنني أستخدم مقياسا جميلاً للواقع بحديثي عن البساطة والجمال. ولكنني أعترف أن ثمة قوة إقناع كبري تنبثق بالنسبة لي من البساطة والجمال للنسق الرياضي الذي ألهمته الطبيعة لنا . وبالتأكيد أنك قد عايشت هذا أيضا وأن الإنسان لا يكاد ينتابه الفزع من بساطة وحبكة العلاقات التي تظهرها الطبيعة له مرة واحدة . إن الشعور بأننا ننبهر بمثل هذا المنظر يختلف تماماً حتي عن السعادة التي نشعر بها عندما ننجز بأنفسنا عملاً يدويا فيزيائياً أو غير فيزيائي علي وجه حسن . ومن هنا فإنني أتمني بالطبع أن تحل كل القضايا التي تحدثنا عنها اليوم بطريقة ما . إن بساطة النسق الرياضي تؤكد حتماً إلي إمكانية التفكير في تجارب متعددة يمكن التنبؤ الحسابي بنتائجها بكل دقة وفقا للنظرية وعندما تجري هذه التجارب بالفعل وتؤدي إلي النتائج المتنبئ بها فإنه لن يتطرق الشك إلينا بعد ذلك في أن النظرية تمثل الطبيعة في هذا الميدان بطريقة صحيحة .

ومن ناحية أخري يؤكد " فليب فرانك " في مؤلفه " فلسفة العلم " إن بعض العلماء يفضلون النظرية البسيطة لأن المعادلات البسيطة تتيح حساب النتائج علي نحو أسهل وأسرع، إنها اقتصادية لأنها توفر الوقت والجهد . ويقول غيرهم من المؤلفين إن النظريات البسيطة أكثر روعة وجمالاً فهم يفضلون النظريات البسيطة لأسباب جمالية " ؛ منها أن العالم لا يدرس الطبيعة لفائدتها فقط، بل يدرسها لأنها تمده بمتعه، وهذه المتعة منبعها أن الطبيعة جميلة، فإن لم تكن كذلك فإنها لا تستحق أن تعرف وأن يعاش فيها .

فالجمال شئ له عائدة في بواطننا العميقة . وحبنا له يشعرنا بأنه شئ أصيل في قلوبنا، رسيس فيها، لا شئ مكتسب ابتغاء المنفعة ... يقول " أرثر إدنجنتون":" في ذاتيتنا ناحية تحملنا علي أن نستروح الجمال وغيره من آيات الطبيعة، ونتملاه في مبتكرات الإنسان، حتي أن محيطنا قد ينقل إلينا الكثير مما لا نترخص به في أي شئ يوجد في مخترعات العلم الحديث الذي تنبث أي نواحيه . إن شعوراً شاملاً يوحي إلينا أن ذاك شئ حق وضروري لمقصدنا في الحياة ... علي أني لا أدافع عن حقيقة الجمال الذي نتملاه في منظر طبيعي ! وإنما أتقبل بكل ارتياح، حقيقة أننا مهيئون بحيث نراه جميلاً " .

ولذلك وجدنا بعض رجال العلوم والنظريات الخاصة، آثروا أن ينظروا في الظواهر الجمالية الطبيعية وجعلوها محوراً في دراستهم في علم الجمال، وأقلموا علي نتائجهم نظريات جمالية في القرنين الماضيين . وهذه النظريات تمثل موقفاً جمالياً جديراً بالدراسة لما فيها من إيحاءات، وتحليلات يستفيد بها الباحث الجمالي استفادة محققة . فهناك تشارلز داروين (1809-1882) مؤلف الكتاب الشهير عن " أصل الأنواع "، وصاحب نظرية النشوء والارتقاء والانتخاب الطبيعي الذي زعم أن الإحساس الجمالي ليس قاصراً علي عالم الإنسان . إذ توجد أصوات وألوان تبعث البهجة عند الإنسان والحيوان علي السواء . وقد تحدث هذه الألوان والأصوات لذة كبري عند الحيوانات غير الراقية . وبعض الطيور الأنثي تستعذب صوت الذكور منها والحيوانات ذات الأغطية الصدفية السميكة تتذوق وتستحسن كما أن أنثيات الطيور تحب الألوان الزاهية وجمال الذكورة وأصواتها .

وقد أوضح داروين أن الإحساس الجمالي مرتبط بالانتباه، في حين أن بعض الفلاسفة العلميين يقرنونه بالغريزة نفسها . فقال داروين بأن الحس الجمالي موضوعاً غامضاً جداً مهما تجلي بوضوح في الحيوانات التي تعشق الألوان المبهجة والأشكال المنسقة والأصوات المحببة وتظهر نفس الصعوبة عندما نبحث موضوع المتع الحسية في المذاق والشم والإيثار وعدم الإيثار . وليس الأمر هنا متعلقا بالعادة لا إلي حد معين . ولا بد من أن هذه الظاهرة الخاصة بالإيثار الجمالي ذات علاقة مباشرة بتكوين الجهاز العصبي نفسه في كل الأنواع والفصائل الحيوانية وبالتالي بالانتباه والوعي.

 

د. محمود محمد علي

...........................

المراجع

1- روبرت م. أغروس، جورج ن . ستانسيو: العلم في منظوره الجديدة، سلسلة عالم المعرفة، عدد 134- جمادي الآخرة 1409هـ - فبراير /شباط 1989م، ص 45.

2- بول ديفيز وجون جريبين: أسطورة المادة – صورة المادة في الفيزياء الحديثة، ترجمة علي يوسف علي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996.

3- ادمون و. ستيورت: حياة الروح في ضوء العلم، ترجمة إسماعيل مظهر، مكتبة الأنجلو المصرية، 1960.

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل.

 

في المثقف اليوم