أقلام فكرية

شروق الأيديولوجية الماركسية وغروبها التاريخي

ميثم الجنابيما بين ماركس وهيغل: إشكاليات التاريخ ويقين الروح الثوري (7)

لقد كشف تاريخ ومصير الفلسفة الماركسية عن حالة نموذجية لشروق الأيديولوجية وغروبها التاريخي. فكل "نمو" لها هو الوجه الآخر لضمورها في الفكر. الأمر الذي يجعل منها ممرا ومختبرا في الأغلب لصعود أكثر واشد الناس جهلا وتعصبا لكي يكون "منّظرا" جديدا فيها ولها ومنها! وليس مصادفة أن نرى مستوى التدهور المعرفي مع ظهور كل "جيل جديد" من أولئك القادة الجدد في ميدان الأيديولوجيا. إذ نلاحظ مع كل خطوة إلى الأمام رجوع قهقري في الفكر وتأسيسه. وقد بلغت هذه العملية ذروتها في ابتداع شعوب الجبال والوديان الغارقة في الجهل والتخلف "مفكريها" "المجددين" للماركسية!

وإذا كان الانطباع العام عادة ما يربط ذلك بتجارب الدمج أو التذويب القسري لماركس في أيديولوجية الحزب والسلطة، فإن إشكالاته الحقيقية أعمق من ذلك وأكثر تعقيدا. بمعنى أنه نتاج تداخل معقد لسلطة الدولة وتقاليد الحزبية الضيقة من جهة، وعنف الأيديولوجية العملية من جهة أخرى. وحالما يلتقيان، فإن قسوة التذويب والدمج "العقلاني" واللاعقلاني تصبح شيئا واحدا. وذلك لأنها إما تبرير وإما تأسيس أكثر حنكة لبلوغ الغاية والأهداف. وبما أن الأهداف جزء من رؤية أيديولوجية، أي جزمية و"واضحة" من هنا انكماشها الدائم ضد أي اعتراض وشكوك. بحيث يصبح الشك والاعتراض رديفا "للردة" و"الجبن" وما شابه ذلك، أي لكل الأشكال والصيغ الممكنة للاتهام والتجريم والتخوين. أما النتيجة فهي إغلاق كل أبواب الاحتمال بوصفها قلقا وشكوكا لا معنى لها ولا قيمة غير ثبط الإرادة وتهوين العزيمة. وهي حالة ليست غريبة ولا فريدة من نوعها. إذ يمكننا العثور عليها في كل المؤسسات المنغلقة بمعايير وقيم الأفكار "المتسامية" كما هو الحال في الكنيسة ومواقفها من الهرطقة، أو في الإسلام ومواقفه من الزندقة وغلق "باب الاجتهاد". أما الاجتهاد الممكن فهو مجرد تكرار واجترار.

مما سبق تتضح معالم ما يمكن دعوته بالعلاقة الخفية بين زمن الفكرة الأيديولوجية عند ماركس وتاريخ الفكرة الفلسفية. وإذا كان اضمحلال الثانية لصالح الأولى هي الصفة الغالبة على الماركسية وأثرها اللاحق، فلأنها ربطت، شأن كل الأفكار العقائدية العملية الكبرى، وارتبطت بالعوام. ليس ذلك فحسب، بل جعلت من العوام "طليعة" المستقبل. وفي هذا كان يكمن التناقض الخفي والمستفحل بالضرورة بين الفكرة الأيديولوجية والفكرة الفلسفية في الماركسية. أما النتيجة فقد كانت لصالح الأيديولوجية، التي جعلت من الماركسية شيوعية عملية. والشيوعية من حيث المبدأ والغاية هي نتاج تقاليد متراكمة للنزعة الراديكالية في مواقفها النقدية الحادة من واقع البؤس وبؤس الواقع.

الأمر الذي جعل من ماركس والماركسية غلافا ظاهريا لأيديولوجية ثورية شيوعية. وليس ذلك غريبا على تاريخ العقائد الكبرى، بل يمكن القول، أنه يلازمها بالضرورة. إذ إننا نستطيع أن نعثر على مئة مسيح لا علاقة له بحقيقة المسيح الأولى والروحية. والشيء نفسه يمكن قوله عن محمد وكل الشخصيات التي ذابت عقائدها في وجدان العوام. وهذه قضية معقدة ومثيرة في الوقت نفسه، لكنها من ميدان آخر. وماركس هو الآخر كان شخصية كبرى. والشخصيات الكبرى تعاني دوما في ميدان التاريخ من إمكانية الانشطار إلى شخصيات عديدة غير متناهية، وإلى نماذج وشخصيات ومناهج ورؤى وفرق وملل ونحل وأحزاب وطوائف، بل وقوميات أيضا! وهي ظاهرة على قدر ما في الشخصية من تأثير وأقدار تلازمها. وماركس من بين تلك الشخصيات التي أقلقت وألهمت العالم على امتداد قرن من الزمن، بحيث دخل اشد الأدغال عتمة و"أنار" لها الطريق عبر شكلها المثير في اللينينية. فقد لعبت اللينينية دورها هائلا في جعل ماركس إلها، ومن الماركسية عقيدة القرن العشرين الثورية. ولولاها لما كان لماركس اثر يتعدى المحاضرات الضرورية في تاريخ الفلسفة والاقتصاد. ويحتمل أن يكون ذلك أفضل لماركس وحشمته وأثره بالنسبة للعقل والضمير الإنساني من أن يتحول مرة أخرى إلى مصدر لإغراء وإغواء "اليسار" العربي من مهاترات "المفكرين الماركسيين" الذين أصيب العالم العربي المعاصر منهم بالتخمة وأتخموه بسفاهات الأمور!

فقد كانت صعوبة رؤية الفكرة الفلسفية لماركس تقوم بسبب الطابع الأيديولوجي الذي كان يغلب على مواقفه وليس بسبب موقفه أو رؤيته للظواهر. فقد كان العمل والفعل بالنسبة لماركس يشكل على الدوام أولية كبرى. وقد كان ماركس وحدة مرنة لكنها ثابتة بين الفيلسوف السابح في عالم الفكرة المجردة والأيديولوجي العملي والمباشر. ومن ثم فإننا نستطيع التمييز بين ماركس الفيلسوف وماركس السياسي الأيديولوجي. إلا انه تمييز وتفرقة لا محل لها في حقيقة ماركس. وذلك لأن ماركس الأيديولوجي هو مجرد استظهار حياتي عملي فردي وشخصي لحصيلة تصوراته الفلسفية. والاختلاف بينهما أمر طبيعي. وهو خلاف كان يدركه ماركس لكنه كان مضطرا للقبول به بوصفه الصيغة المعقولة للبحث عن تناسب ممكن بين استنتاجات العقل النظري وتطبيقه العملي في ميدان الحياة السياسية، المتقلبة والمتغيرة. كما انه أمر جلي حالما نتتبعه في جميع استنتاجاته السياسية تجاه مختلف القضايا الكبرى مثل الموقف من الاشتراكية والشيوعية، والدولة، والثورة، والسلطة السياسية، والعنف، والحزب السياسي، وكثير غيرها. بمعنى تحولها مع مرور الزمن من اجتهاد يتصف بقدر كبير من المعاناة النظرية إلى عقائد أيديولوجية سياسية صلبة. لكنها مواقف كانت تعتمد من حيث تأسيسها النظري على ثبات فلسفي نسبي ترسخ في ذهن ماركس منذ وقت مبكر. وهي أيضا حالة طبيعية بالنسبة للإبداع الفلسفي الكبير والأصيل. فهو يظهر كالبرق في إحدى مراحل الحدس النظري الأول. ويأخذ بالبروز والتكامل في مجرى الصيرورة الحياتية للمفكر كما لو انه القدر الكامن في كينونته الروحية. ولا يمكن حل هذه القضية بالسهولة التي تميز تفكير الأحزاب (الشيوعية وذهنيتها البسيطة). فالحتمية التي كان ماركس يخطط لها بوصفها جزء من مغامرة التاريخ الإنساني ليست اقل درامية مما في مساعي العقل المطلق الهيغيلي من مرور متعذب في دهاليز التاريخ الواقعي والبحث النظري. لكنها تتحول بيسر وسهولة إلى حتمية جميلة بمعايير الأيديولوجية الحزبية. وذلك لأن الأحزاب بحاجة إلى غناء وفرح بما في ذك زمن الجفاف والطوفان. فهو الأسلوب الوحيد القادر على دفع الجسد صوب تضحيات جديدة من اجل الاستمتاع بلذة الشهادة، أي بلذة القرابين البشرية البدائية.

غير أن هذه النتيجة كانت تكمن، أو أن لها بعض أصولها وجذورها في الأبعاد الأيديولوجية للماركسية. فقد كانت برامج الحركة الاشتراكية الديمقراطية للقرن التاسع عشر التي وضعها ماركس، الصيغة الظاهرية أو العملية للأثر الهائل الذي تركه البيان الشيوعي بما في ذلك على نفسية وذهنية ماركس. كما كانت آراءه من حيث بواعثها وغايتها محكومة بمشروع الرؤية التاريخية والأيديولوجية المستقبلية (الاشتراكية). فقد كان الهم الأكبر والقلق الفاعل في انتقاده المنطقي العلمي (الاقتصادي) وهمومه الوجدانية (الاجتماعية والإنسانية) تعمل باتجاه دفع استنتاجاته النظرية صوب تمثلها العملي السياسي، وصوب تجسيدها المحتمل بمشاريع البدائل المستقبلية. لقد أراد شيوعية المستقبل والتاريخ "الحقيقي"، من هنا محاصرة الأيدولوجيا إياه بقيودها التاريخية. وهنا كان يكمن سرّ الخلل.

لقد اندفع ماركس بقوة "الديالكتيك الثوري" صوب ديالكتيك الروح الاجتماعي الأخلاقي، من هنا توارث أو استنساخ بل تناسخ النقد الفلسفي الأولي للاغتراب في نقد كل الأشكال المحتملة له. وحالما نقله إلى ميدان التاريخ الواقعي، فإنه وقف أمام نظام العلاقات الرأسمالية بوصفها المرحلة التاريخية الكبرى للتقدم التاريخي. لكنها مرحلة عابرة، بوصفها جزء من تاريخ عالمي لا ينتهي ولا يتناهى إلا ضمن ملكوت الحرية. وعندما يجري تأمل هذه الفكرة ضمن تقاليد الفكر الفلسفي الألماني، فإنها كانت تحتوي في أعماقها على أبعاد غير متناهية، قد تكون ثنائية "ما قبل التاريخ الحقيقي" و"التاريخ الحقيقي" الصيغة الأكثر غلوا لها. أما في الواقع فإنه لا غلو فيها. وذلك لأن هذه الثنائية في الفكرة التاريخية لماركس مبنية ليس على أساس ميتافيزيقية الرؤية الحادة في موقفها من تناقضات الوجود ووحدتها في التاريخ، بقدر ما أنها مبنية على أساس اليقين المتجدد والمتعمق والتام بزوال كل ما يمكنه أن يعيق ملكوت الحرية المقبلة. إنه أراد شأن هيغل، ملكوت عالمي للحرية المتكاملة في نظام أمثل وأرقى ولكن في ميدان التحرر من اغتراب الوجود الإنساني في الأشياء والعلاقات المفروضة عليه. وبالتالي، فإن القيمة الجديدة التي أدخلها ماركس في عرين العقل الهيغيلي تقوم في كونه لم ينظر إلى اغتراب العقل في التاريخ واسترجاعه لذاته بوصفها العملية الضرورية لتذليل إشكالية الأشياء في ذاتها، بل نقلها، إن أمكن القول، من حالة الانتظار إلى حالة النظر النقدي الاجتماعي. ومن ثم جعلها جزء من "النشاط الواعي" المتمثل في طبقة وطليعة. لقد أراد أن يكون برميثيوس الفكرة الفلسفية العملية دون أن يقع في حالة العذاب المتألم بين آلهة صنعت كل شيء ولا تعلم لماذا، وبين "ملاك" يدرك خطورة انتهاكه لمجرى التاريخ "المنطقي"، بينما يعتبرها الوسيلة الوحيدة والضرورية لبلوغ التحرر الفعلي.

غير أن هذه الفكرة الفلسفية التي سيجري ابتذالها لاحقا بمعايير الأيديولوجية العملية للأحزاب الشيوعية، كانت تحتوي في أعمق أعماقها على صدى الرغبة العارمة لفكرة الإرادة والحتمية على استرجاع غير واع لما كان الفلاسفة القدماء يدعوه بقوة النفس الغضبية، اي الغريزة البدائية للوجود البشري. فقد كان ماركس يرغب بتسليم الفكرة إلى أياد قوية. إنه كان بحاجة إلى مسكها بالأيدي من اجل تقديمها إلى بروليتاريا المدن. وسوف يدفعها لينين لاحقا صوب الفلاحين، بينما سيدفعها آخرون أبعد إلى أعماق الأدغال الثورية ولاحقا إلى الجبال. الأمر الذي أحكم بالضرورة انتشار الصيغة الأيديولوجية وانتصارها وهيمنتها بين الرعاع والعوام وهزيمتها الساحقة في ميدان الفكر الفلسفي. بل احتقارها اللاحق وبالأخص بين أيديولوجي الماركسية، بحيث تصبح كلمة المثقف سبة وشتيمة، بينما يصبح الفكر خادما، وفي أفضل الأحوال حزبيا. وهو أردأ أنواع الفكر وأسخفه. بل أنه ليس فكرا ولا ثقافة بل سفاهة جهلة وأنصاف متعلمين.

أدت هذه العملية إلى تعرية الماركسية وتدمير كل كينونتها الفلسفية لصالح لباسها الأيديولوجي المبرقع من قطعان العوام والفلاحين وحثالة المدن! واتخذت في العالم العربي إحدى الصيغ المشوهة للوعي الذاتي. وذلك لأنها تحولت في بداية الأمر إلى أحد مصادر "الإيمان" ولاحقا إلى أحد أشكال الطغيان الفكري الجامد. وذلك لأن بداية انتشارها كان اقرب إلى حالة الإيمان الأجوف بالأفكار قبل تفحصها النقدي. الأمر الذي يشير إلى تغلغل أنساق الجهل والعبودية فيها. ثم تحولت لاحقا بهيئتها المشار إليها أعلاه إلى عنصر جوهري في الذهنية السياسية الحزبية ونفسية الطوائف. بحيث جعل من الذهنية السياسية الأيديولوجية ونفسية الإيمان كلا واحدا. مع ما ترتب عليه من حالة غريبة ألا وهي تحول رجال الأحزاب إلى رجال فكر ونظر، والأحزاب إلى هيئات مقررة للصواب والخط، والخير والشر، والجميل والقبيح. بل تحولت الأحزاب إلى منتج "لأصحاب الفكر" و"منظري الأيديولوجية". بينما تحول القادة الجدد من أنصاف المتعلمين والجهلة إلى فيصل حاكم في رؤية الماضي والحاضر والمستقبل!. (يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم