أقلام فكرية

الإسلام والعلمانية وتحديات حقوق الإنسان (1)

علي رسول الربيعيمدخل منهجي: إن نقاش مسألة الأسس المعرفية والأنطولوجية لحقوق الإنسان مثير للجدل والخلاف غالباً، لكن الدعوة  إلى تجنب مثل هذا النقاش، لمجرد أنه غير مهم لتطوير أنظمة حقوق الإنسان هو تعبيرعن هزيمة فكرية. أرى من المهم تناول مشكلة العلاقة بين الإسلام والعلمانية ولكن ليس هكذا بعمومية المفهوم واللفظ ولكن بخصوصية السبب والقضية، ايً من خلال وضعية مشخصة: ماهي  التحديات التي تفرضها حقوق الإنسان العلمانية على الإسلام؟

انه طرح لسؤال جوهري يرسم محاور ومسار  مانرى من منطق للبحث بمنهجية تحليلية تركيبية. تحليلية بمعنى تحلل مفاهيم الشريعة الاسلامية بهذا الصدد اولاً، ومواقف المسلمين من الأعلان العالمي لحقوق الإنسان وكذلك موقف الأعلان من العقائد والاديان. وتركيبية تقوم اولا: بالفصل بين الموقف الأسسي والمواقف اللا أسسي تجاه الأعلان العالمي لحقوق الإنسان وقد نشرنا عن هذا مقالين سابقين. وثانيا  النظر في ما يمكن من تاسيس حقوق الإنسان على اسس أخلاقية وميتافزيقية إسلامية.

إنه من الضروري فتح  موضوع الأساس الأخلاقي لحقوق الإنسان الذي يوفر لها الحجة الأساسية للمطالبة بالتطبيق العالمي، وفحص ومقارنة هذه الشمولية العالمية العلمانية بالعالمية التي يطالب بها أصحاب العقائد الدينية الشاملة ونخص من بينهم  هنا المسلمين. تؤدي الانتقادات الإسلامية المستمرة للإعلان كرفض للهيمنة السياسية والدينية الى رفض ادعاء الأخلاق االعلمانية بالصلاحية العالمية. يأتي أفضل وجه للتعامل مع هذه الانتقادات من خلال إثارة أنواع القضايا الفلسفية والميتافيزيقية التي تقوم عليها الوثيقة الدولية التي تعرف بالإعلان العالمي لحقو الإنسان، والتي يمكن أن تجد صدىً لها في اللاهوت الفلسفي الإسلامي. مهما كان الأمر مثيرًا للجدل، أعتقد أن الاعتبارات المتعلقة بالأسس ستؤدي إلى تبادل واضح لا لبس فيه حول مصادر الأساس الأخلاقي العالمي لحقوق الإنسان، مما يوفر تصحيحات لكثير من تصورات المسلمين حول التحيز العلماني المقصود للإعلان.

هناك الكثير من الأدلة أن المبادئ اللاهوتية لا غنى عنها لدعم فكرة حقوق الإنسان كدليل عالمي في الحجة الأخلاقية والقانونية. لا أعتقد أنه يمكن رفض  الإعلان العالمي تمامًا باعتباره مجرد نتاج لفلسفة علمانية غربية ذات جذورعميقة في فكر التنوير. ولا أقبل أن تهمة تحيز الوثيقة الى المركزية الأوربية أنها تهمة  صحيحة، وساحاول أن أثبت في سياق دراساتي اللاحقة، إن وجهة النظر الليبرالية حول الفردانية الإنسانية والكرامة والحرية تتوافق مع روح الوحي الإسلامي ومنطقه الذي تم تطويره في علم اللاهوت الفلسفي الإسلامي والمنهجية القانونية ( التشريعية) لفهم نوعية وحالة الشخصية البشرية.

ركزت الدراسات الإسلامية لوثيقة حقوق الإنسان حتى الآن على ماذا كانت تتوافق مع الشريعة الإسلامية أو تفتقد هذه الموافقة. والتحقق ماذا كانت تشرك هذه الوثيقة مع الأسس اللاهوتية الأخلاقية للنظام القانوني (نظام الشريعة المقدسة). إن النظر أو التحقق  الفكري من الناحية الأكاديمية في التجربة العلمانية والمسيحية بوصفها المحددة تاريخياً للإعلان  في سياق النظر حول توافق الشريعة  الإسلامية مع الإعلان غير مُثمِر وليس له فائدة في فهم الأصول والأسس العالمية لكل من التقاليد الإسلامية والوثيقة الدولية العلمانية لحقوق الإنسان. أسعى دائما الوصول إلى  جذور الحجج التقليدية للمسلمين ضد التحيز المناهض الأديان من قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإلى إجراء تحليل نقدي للمصادر اللاهوتية الإسلامية لاقتراح فهم جديد للاهوت الإسلامي لدعم  عالمية حقوق الإنسان التي تتوخى اشتقاق  حقوق الإنسان على أساس مبدأ تاصل وعدم إمكانية التصرف في الحقوق التي تعود على جميع البشر كبشر.

أنه من المهم تبديد الشكوك حول عالمية حقوق الإنسان في عصر ما بعد الاستعمار، وبشكل خاص في عصر العولمة الاقتصادية والثقافية من خلال إشراك الأسس الميتافيزيقية والمعرفية في معايير حقوق الإنسان لإثبات أن هذه المعايير يمكن أن تستند بشكل أساسي إلى مفاهيم دينية حول كرامة الإنسان وحرية إرادة إنسانية مقدسة. تنطوي العقائد الدينية على إمكانية العمل من أجل إجماع متقاطع حول الفقرات أو المبادى المهمة في الإعلان؛ إجماع على حقوق الإنسان لايمكن للمنظرين العلمانيين تجاهله. إن المطلوب هو إعادة دراسة الخطاب المعياري للإعلان بسبب افتراضاته العالمية حول السمة الإنسانية المتاصلة في البشر في ضوء الخطاب اللاهوتي الذي تواصل لغته العالمية الشاملة توجيه القيم الأخلاقية والفقهية للحياة المشتركة.

أتفق من حيث المبدأ أنني مع المنظرين العلمانيين لحقوق الإنسان الذين يدافعون بنشاط في الوثائق الدولية والتعددية، ويتجنبون الأشتباك مع مفاهيم ميتافيزيقية ودينية معينة مثل الكرامة الإنسانية والقانون الطبيعي والأغراض الإلهية للبشرية حتى لا يتضاءل الهدف الحقيقي للوثيقة الدولية، أي حماية البشر من سوء المعاملة والقمع والقسوة. من البديهي أن نعيد التأكيد على القلق العلماني بأنه عندما تكون كرامة الإنسان نفسها في خطر، فإن كل الجدل الأكاديمي حول أسس الأخلاق العالمية  قد كثف الرضا الأخلاقي  لكن غير الحاسم  بأتجاه حماية حقوق الإنسان الفردية؛ ومع ذلك، فإن تجاهل الانتقادات الإسلامية بشأن المركزية الأثنية والأهداف المهيمنة للإعلان، مهما كانت لا أساس لها، ينطوي على خطر زيادة تهميش حقوق الإنسان في العالم الإسلامي.

رغم أنني أود في هذه الدراسة أن أقصر نفسي على المشكلات اللاهوتية والقضائية المرتبطة بفقرة رئيسة واحدة من الإعلان هي تلك التي تتحدث عن حرية الدين والتحقيق في تلك الحرية في التقليد الإسلامي؛  لكن كلما حاولت أن أفهم ثقافة حقوق الإنسان التي تسود في الخطاب الحالي حول هذا الموضوع، كلما كنت مقتنعاً بتوسيع نطاق استفساري في مواضيع أوسع يبدو أنها تفصل السياق العلماني للإعلان عن التقاليد الإسلامية كما يمثلها كل من العلماء التقليديين والمثقفين العلمانيين المسلمين. إن السبب وراء متابعة هذا الخط من البحث هو أمر شخصي تمامًا ولكنه أكاديمي بدرجة كافية للسماح لي باستكشاف فكرة الحقوق وأبعادها الأخلاقية والسياسية. عندما بحثت في الأدبيات ذات الصلة في الإسلام، وجدت أن الأدب الخاص بحقوق الإنسان الذي أعده علماء المسلمين التقليديون يفتقر إلى الصرامة المطلوبة والدقة اللازمة. إن تحليل صريح لمشكلة انتهاك حقوق الإنسان على أرض الواقع يكشف عن أن المفكرين المسلمين العلمانيين على حق في تحليلهم للسجل الحالي لحقوق الإنسان في العالم الإسلامي بوصفه  يفتقر إلى الأسس الضرورية  اللازمة في التقاليد الدينية.

القانون الطبيعي والمعرفة الأخلاقية

تتمثل وظيفة التوجيه الديني في أمكانية توفيرأرضية للتشريعات الاجتماعية والقانونية في ضوء تعاليمها الأخلاقية العامة. لكن كيف يمكن الوصول إلى التوجيه والأرشاد الديني العالمي دون اللجوء إلى وحي محدد يرسله مؤسس الدين؟ هذا هو التحقيق المعرفي حول مصدر الأخلاق البشرية في الوحي الإلهي. هل يميل البشر إلى فهم الحقائق الأخلاقية أو تطوير الفضيلة الأخلاقية بغض النظر عن خاصية التربية او التعليم الإنساني أو الحساسيات الأخلاقية ومتطلبات الوحي الإلهي؟ هل العقل الطبيعي مرشد أو موجه كافٍ ومناسب للحياة الأخلاقية دون مساعدة الوحي؟ تؤدي هذه الأسئلة إلى الفهم الغائي للطبيعة البشرية وتشكل الأساس لوضع معايير عالمية تناشد جميع الشعوب عبر الثقافات والتقاليد المختلفة. علاوة على ذلك، تتيح هذه العالمية الأخلاقية لحقوق الإنسان العالمية المطالبة بالشرعية الدولية. والأمر الأكثر أهمية هو أن هذه الأخلاق هي التي تطرح قانونًا طبيعيًا مناسبًا للتعامل مع أولئك الذين لا يشترك معهم أي شخص أكثر من إنسانيته.

أن قواعد الدين والحقوق  الفطرية للإنسان مصدران متشابكان ونظم قيم موجودة جنبًا إلى جنب في جميع المجتمعات البشرية، بغض النظر عن الزمان والمكان والثقافة. إن كل تقليد ديني يتمتع بكل من المعايير الأخلاقية العالمية والخاصة التي تعزز أو تتعارض مع بعضها البعض، في بعض الأحيان. تسببت الحقوق المستوحاة من الدين طوال تاريخ تفاعلهم مع حقائق الوجود الإنساني، في تفكير جديد في مجال التطبيق في السياقات الاجتماعية والسياسية، مما يتطلب من التقاليد القانونية الناشئة أن تقف في انسجام جدلي مع الدين. وقد سعى التقليد الديني، من جانبه، للتصالح مع التقاليد القانونية عن طريق تحقيق التوازن بين المثالية والواقعية والربط بين المعتقدات والمثل المجتمعية للبنى والعمليات القانونية لتنفيذ حلول ملموسة لمشاكل العلاقات البشرية.

طورت الشريعة في التقاليد الإسلامية في قرون عديدة، هيكلًا قانونيًا راسخًا نظم المبادئ الثابتة للعقيدة الإسلامية إلى مبادئ متطورة للعمل البشري. سعى إلى تطبيق المعايير الأخلاقية الإسلامية في شكل أوامر زجرية للتأكيد على الطابع المنطقي للمقولات القانونية للإشارة إلى أهمية بعض المواقف والحقائق من زاوية معيارية معينة. ومع ذلك، واجه الفقه الإسلامي المشكلة المحتملة المرتبطة بالطبيعة الدينية المتأصلة لنظامه دائمًا، وتبعاتها في الظروف الاجتماعية والسياسية المتغيرة. لقد واجه الفقه الإسلامي عندما تعين على الإسلام إعادة صياغة التقليد الموروث في العصر الحديث لتحقق التوازن بين الموثوقية الدينية وقوى التطور الاجتماعي تحدي إعادة تعريف العلاقة بين المقاييس المعيارية ("الواجبات") التي تتطلبها نصوص الوحي والقوى الدنيوية ("الحقائق الواقعية") التي تشكل المجتمع. وهنا يُطرح سؤال عن المجريات الفعلية عن:  كيف كانت محاولة تجنب علمنة النظام الديني من خلال التبني الحتمي للقواعد والمبادئ القانونية الغربية، التي كانت غريبة عن الروح الشاملة للفكر الشرعي الإسلامي؟

بصرف النظر عن الضعف النظري فيما يتعلق بتحديث التراث القانوني للمسلمين، فإن المشكلة المستمرة بين الفقهاء التقليديين تتمثل في تجنب مناقشة القضايا الفلسفية المتعلقة بالفكر الديني من حيث الأفكار الفلسفية والتاريخية السائدة الحديثة. لا توجد على المستوى التأسيسي لغة واضحة لحقوق الإنسان في المصادر الإسلامية. كما هو مفهوم عادة، تتصور "حقوق الإنسان" مواطنين متساوين يتمتعون بحقوق غير قابلة للتصرف تؤهلهم للمساواة في الاهتمام والاحترام من الدولة. أما المفهوم الحديث للمواطنة فغائب بشكل واضح في المصادر التقليدية للإسلام. بالإضافة إلى هذا القصور المفاهيمي، فإن سجل حقوق الإنسان للحكومات الإسلامية المعاصرة على المستوى السياسي يكشف عن مدى ألنتهاكات الحاصلة.

لا شك أن لغة التقاليد كما هي في أحكام الشريعة الإسلامية هي في المقام الأول لغة المسؤوليات والواجبات وليس الحقوق أو الحريات. وليس الإنسان المرجع النهائي للأخلاق فيها. وإن الله هو غاية الحياة الأخلاقية. تبنى غالبية  الفقهاء المسلمين الأصول أو الكلام الأشعري الذي برّر سيادة إرادة الله على العقل (الأمر الذي أدى إلى تحديد الأخلاق بقانون إلهي وإنكار أن القيم الأخلاقية يمكن أن يكون لها أي أساس آخر سوى إرادة الله)، لكن قاوم العقلانيون وتحدث علماء الكلام المعتزلة عن القيمة الأخلاقية الفطرية للبشرية المستقلة. كانت الطبيعة والعقل بالنسبة للفقهاء التقليديين غير كافية للأخلاق. فليس الفعل  حسن  لأنه يفسر على هذا النحو من خلال الطبيعة الأساسية للإنسان، ولكن لأن الله يشاء. ونتيجة لذلك، فسر هؤلاء الفقهاء  نظامًا طبيعيًا للأخلاق على أنه أجنبي ورفضوه بوصفه غير إسلامي، الأمر الذي ينكر بسخرية أنه يمكن للإسلام  أن يقدم قدرًا من كرامة البشر وله قدرة المشاركة في هذا النظام الأخلاقيالعالمي لحقوق الإسنسان. فلم يكن هناك معيار للخير والشر متاحًا لجميع المخلوقات العقلانية ولو بالحد الأدنى. إن مفهوم الله كسلطة تعسفية  مطلقة يعني ضمناً اختزال جميع القوانين الأخلاقية إلى مظاهر غامضة للقدرة الإلهية الكلية.

تم التخلي عن اللاهوت المعتزلة في تأكيده على دور جوهري للعقل البشري لتمييز الحقائق الأخلاقية، وإمكانيته في تقديم تفسير للفهم الغائي للطبيعة ضمن معايير الوحي، لصالح أخلاق الأمر الإلهي. وبهذه الطريقة نفى اللاهوت السياسي الإسلامي في غالبيته قدرة الإنسان على أن يكون مسؤولاً في المقام الأول ويستجيب لأوامر الله ومقاصده.

نتيجة لذلك، رفض أيضًا الاعتراف بالفاعل الأخلاقي الراغب في الوفاء بواجبه تجاه رفاهية مجتمعه ككل، وكذلك أفراده. إن الاعتراف بكرامة الإنسان كأساس كافٍ لحرمته، بغض النظر عن الاختلافات في العقيدة أو اللون أو الجنس، يجب أن ينتظر خطاب حديث عن حقوق الإنسان.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

 

 

في المثقف اليوم