أقلام فكرية

إمري لاكاتوش ناقداً ستيفن تولمن (1)

محمود محمد عليكان تأثير تولمن بفتجنشتين تأثيراً بالغاً –  سواء كان ذلك الأثر مترتباً علي فلسفته الأولي، والتي صاغها من خلال كتابه "رسالة منطقية فلسفية " والذي يتضح من تأثيره في جماعة فيينا وفلاسفة الوضعية المنطقية -  أو كان مترتباً علي فلسفته المتأخرة والتي صاغها في كتابه " بحوث فلسفية "، والذي يتضح بصورة جلية في فلاسفة التحليل اللغوي المعاصر سواء في إنجلترا ؛ وبالأخص في كمبردج وأكسفورد أو في الولايات المتحدة .ويعبر عن هذا المعني "هوايت" بقوله " في هذه الأيام نجد أن تأثير فلسفة فيتجنشتين قد بلغ ذروته في الدوائر الأكاديمية وخاصة بعد ظهور كتابه " بحوث فلسفية "، فهو حين كان لايزال حياً يمارس التدريس في كمبردج، نلاحظ أن تأثيره كان واضحا ومركزا فيها . ثم انتشر تأثيره بعد ذلك فأمتد إلي أكسفورد التي كانت تعتبر منذ فترة طويلة معقلا من معاقل التفكير الميتافيزيقي ... هذا ويتضح تأثير فيتجنشتين في جامعتي كمبردج وأكسفورد، في توجيه اهتمام الفلاسفة بهما – إلي اللغة العادية ".

كما يقول " ألفر آيرAlfred Ayer  ":" إن تأثير فيتجنشتين  يمكن أن يكون هو الصفة التي ساءت تفكير الفلاسفة المعاصرين من الذين يسمون بفلاسفة اللغة "، ويقول أيضاً " إنني أعتقد أن فيتجنشتين كان هو المسئول الأول عن إهتمام الفلاسفة بالسؤال عن كيفية استخدام الألفاظ في اللغة العادية ".

ويعبر " برود " عن هذا التأثير الذي تركه فيتجنشتين في الفلسفة الأنجليزية بقوله في مقدمة كتابه " العقل ومكانه في الطبيعة " عام 1925: " إنني سأرقب بعين الأبوة حركات أصدقائي من الفلاسفة الشبان وهم يرقصون علي الأنغام الجميلة التي تنبعث من مزمار فيتجنشتين ".

ولقد كان ستيفن تولمن واحداً من هؤلاء الذين كانوا ينتشون طرباً بفلسفة فيتجنشتين المتأخرة، فقد كان تولمن كما يري بعض الباحثين " من أكثر الطلاب بمدرسة كمبردج مواظبتاً علي حضور محاضرات فيتجنشتين، وأثناء إعداده لرسالة الدكتوراة كانت لا تفوته ندوه أو محاضرة يلقيها فيتجنشتين في كمبردج " ، ولم يكتف تولمن بذلك بل حاول أن يخلد فكر وفلسفة فيتجنشتين كما صاغها في فلسفته المتأخرة، فتقمص دور " مورتز شليك Murtiz Schlick  " الذي كانت بفضله قد تأسست " دائرة فيينا "، ليتجسد من خلالها فكر " الوضعية المنطقية القائم علي فلسفة فيتجنشتين المبكرة من خلال " رسالة منطقية فلسفية ". فحاول تولمن أن يؤسس " دائرة فيتجنشتين " في مقابل دائرة فيينا ليجسد من خلالها الفكر التحليلي- الأداتي القائم علي فلسفة فيتجنشتين المتأخرة، وبالذات من خلال كنابه "بحوث فلسفية ".

وقد بدأ تولمن يطبق هذا البرنامج في دراسة له بعنوان " لودفيج فيتجنشتين " كان قد نشرها في عام 1969، ثم حاول أن يختبرهذا البرنامج في كتابه " الفهم الإنساني " في عام 1972، ثم تمكن من تنفيذه في عام 1973 مع  صديقا له وهو" ألن جانيك"، فأخرجا معا كتاب " دائرة فيتجنشتين" لتتجسد بعد ذلك " فلسفة التحليل العلاجي " لتنطلق من أفاق " مدرسة كمبردج " إلي أغلب الدوائر الفلسفية العلمية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولاسيما تلك الدوائر التي تشجب فكر الوضعية المنطقية .

بيد أن بعض فلاسفة العلم المعاصرين لتولمن والحانقين علي فلسفة فيتجنشتين والمتأثرين بالبوبرية، وبالأخص "إمري لاكاتوش " قد انتقدوا هذه الفكرة ؛ فنجده يكتب مقالة بعنوان " فهم تولمن Understanding Toulmin "، وفي هذه المقالة اتخذ لاكاتوش من نقد عقلانية تولمن ذريعة لنقد ونقض فلسفة فيتجنشتين المتأخرة.

وبصرف النظر عن نقد لاكاتوش لفيتجنشتين، فإن ما يهمني هنا هو نقد لاكاتوش لعقلانية تولمن، وقد استهل هذه المقالة بقوله " كتاب الفهم الإنساني للأستاذ تولمن هو الكتاب الخامس الذي يتبني التقليد الذي أخذه فيتجنشتين في فلسفته المتأخرة . فتولمن طبق هذه الفلسفة أولاً علي كتابه " مكانة العقل في الأخلاق سنة 1950، ثم في كتابه " فلسفة العلم " في 1953، ثم في كتابه "استخدامات الحجة" في  1958. وقد كانت الفكرة الأساسية تحذو نفس الفكر في الكتاب الذي صدر بعد ذلك وهو " البصيرة والفهم " والذي نشره تولمن في سنة  1961.

ثم يستطرد لاكاتوش فيقول:" بصراحة فإنني أعترف بأنني أحببت كتابات تولمن السابقة، وبالذات الكتب السابقة علي الفهم والبصيرة . وجون ويزدم قد كتب ذات مرة عن فلسفة تولمن: يستشعر المرء نفس الرسالة الفلسفية عند قراءة تولمن، وكذلك في حالة الفهم الإنساني، لكن المتاهة أكبر وأكثر تعقيداً في أوائل كتاباته . وأخشي أن هذه الرسالة لا يمكن ألا يكون إيصالها علي شكل ملخص   مصغر، ثم انتقاده بشده . وفي الحقيقة فإنه لإعطاء ملخص مصغر أو نقد حاد لعمل تمت كتابته في التقليد الفيتجنستيني يؤدي بالضرورة إلي الفشل . وما يجب علي فعله بدلاً من ذلك هو تحديد مشكلة واحدة رئيسية كانت تعني بها فلسفة العلم تقليدياً ثم محاولة رؤية موقف تولمن هذه المشكلة .

ولذلك يقسم لاكاتوش في هذه الورقة المحاور الأساسية لنقد العقلانية عند تولمن من خلال كتابه " الفهم الإنساني "، وذلك علي النحو التالي:

المحور الأول: المدارس الثلاثة للفكر حول المشكلة المعيارية لتقييم النظريات العلمية Three Schools of the Normative Problem of Appaising Scientific Theories، ويقصد لاكاتوش بتلك المدارس، المدرسة الشكية Scepticism والمدرسة التمييزية Demarcationism، والمدرسة النخبوية Elitism، ويشرح لاكاتوش كل واحدة من تلك المدارس علي حدة، ليصل في النهاية لي هذا السؤال: أين تصب عقلانية تولمن في المدارس؟ ويجيب لاكاتوش بأنها تصب في المدرسة النخبوية .

المحور الثاني: تولمن وشرطة الفكر الفيتجنشتينية  Toulmin and The Wittgensteinan Thought- Police، وفيه يشرح لاكاتوش كيف بدا تولمن في تطوير الجانب البرجماتي من فلسفة فيتجنشتين ثم كيف حاول أن يتجاوز شرطة الفكر الفيتجنشتينية التي تمنع التغير المفاهيمي، وهو التغير المشاهد بالعيان، وكيف أن أفكار تولمن ستشكل الحزام الواقي، الذي سيحاول الدفاع عن النواة الصلبة للبرنامج الذاتي – النخبوي لدي فيتجنشتين.

المحور الثالث: التركيبة الدارونية التي اقامها تولمن لفلسفة هيجل وفيتجنشتين Toulmin's Darwinian Synthesis of Hegel and Wittgentein  ، وفيها يبرز لاكاتوش كيف حاول تولمن أن يخفف من حدة ذاتيته الواضحة باللجوء إلي النزعة التاريخية أو مفهوم دهاءالعقل الهيجلي بمعاونة الدارونية الاجتماعية وكيف أن تلك الدارونية سوف تدعم من ناحيتها عدم المساس بالألعاب اللغوية عند فيتجنشتين.

وسوف نشرح الآن تلك المحاور بشئ من التفصيل ثم نكشف بعد ذلك ما هي توهجات لاكاتوش إزاء هذا النقد لعقلانية تولمن وهل كان لاكاتوش محقا في نقده لتولمن أم لا .

المحور الأول: المدارس الثلاثة للفكر حول المشكلة المعيارية لتقييم النظريات العلمية

1-  المدرسة الشكية، هي إحدي مدارس الفكر التي ترتد إلي التقليد اليوناني المتمثل في الشكية البيرونية  نسبة إلي " بيرون "، الذي يؤمن بوجود الإبستمية وينفي إمكانية وصول أية معرفة إنسانية إليه وهي الآن تعرف بالنسبوية الثقافية cultural relativism .

ويري لاكاتوش أن المدرسة الشكية ترفض مشكلة تقييم النظريات العلمية من أساسها وتعول علي أن المعرفة برمتها سواء علمية أو لا علمية هي مجرد اعتقاد، وبالتالي فالتغير العلمي لن يعبر عن أي تقدم موضوعي، بقدر ما سيعبر عن تغير في الاعتقاد، وهكذا يصير التغير العلمي مثله مثل أي تغير معرفي آخر، كما هو الحال في تغير وتبدل المعارف والمعتقدات الدينية مثلاً . أما الميثودولوجيا فهي الأخري مجرد اعتقادات تنسب العلمية لنفسها، ومن ثم فليس هناك مبرر للسؤال عن تقييم المعرفة العلمية عما سواها .وبناء علي ذلك لا يتبقي  للميثودولوجيا إلا الدور الطبي والأنثربولوجي اللذين أشار إليهما بول كارل فيرآبند إليهما ولاعجب فالصورة الأكثر إشراقا وأصالة لتلك المدرسة قد ترعرعت علي يد الابستمولوجيا الفوضوية Epistemological Anarchism .

2- المدرسة التمييزية، وهي المدرسة الثانية للفكر وهي تتنافس بشكل رئيسي مع الشكية التي كانت منشغلة بالحلول الوضعية لمشكلة التمييز بين ما هو علمي من جهة، وما هو غير علمي من جهة أخري . وتمتد جذور التمييزية إلي الدجماطيقية اليونانية المتمثلة في الفلسفة الرواقية . ولذا فإنني استخدم الدجماطيقية لكي نشير إلي  المعرفة الموضوعية – وأن الصواب والخطأ يكون محتمل، ثم التقليد الأولاني ويشمل " ليبنتز  Lebiniz (1646-1716)" و " بولزانو Bolzano " و " فريجه " الذين ينتمون لهذا التقليد .

وفي القرن العشرين تتمثل التمييزية لدي رسل وكارل بوبر . علاوة علي أعمال  "رودلف كارناب Rudolf Carnap (1891-1970)" المبكرة التي تنتمي للخط التمييزي الذي أفادني في منهجيتي في برامج الأبحاث العلمية . وفي التقليد التمييزي فإن فلسفة العلم تتمثل في مراقبة المعايير العلمية . والتمييزيون يقومون بإستعادة بناء المعيار الكلي الذي يفسر التقييمات التي يقوم بها العلماء العظام للنظريات أو برامج البحث المحددة، ولكن العلم في العصر الوسيط والفيزياء الجزيئية الأولية المعاصرة والنظريات البيئية المختصة بالاستخبارات يجب ألا تواجه ذلك المعيار . وفي هذه الحالات فإن فلسفة العلم تحاول أن تبطل الجهود المعتذرة عن البرامج المتفسخة .

ويختلف التمييزيون حول المعيار الكلي الذي يجعل التقدم دقيقاً، ولكن يتفقون علي عدة خصائص مهمة: أولاً – أنهم يؤمنون بالعوالم الثلاثة عند كل من فريجه وبوبر . العالم الأول هو العالم الفيزيائي والعالم الثاني هو عالم الوعي بالحالات العقلية وبالأخص الاعتقادات، والعالم الثالث هو العالم الافلاطوني المتعلق بالروح الموضوعية وهو عالم الأفكار . والتمييزيون يقومون بتقييم منتجات المعرفة مثل: القضايا والنظريات والمشكلات وبرامج البحث وكل ما يعيش وينمو في العالم الثالث (حيث تعيش منتجات المعرفة في العالم الأول والثاني).

3- المدرسة النخبوية : بعد أن استعرض لاكاتوش دور المدرسة الشكية والمدرسة التمييزية في عملية التقييم تساءل أين تتجسد عقلانية تولمن ؛ وبمعني أدق كيف يمكن تصنيف تولمن، هل يصنف ضمن المدرسة الشكية أم يصنف ضمن المدرسة التمييزية ؟ وأجاب بأنه يصنف ضمن المدرسة النخبوية  .

ولم يشرح لاكاتوش لنا تفاصيل ذلك  سوي أنه قفز فجأة لتوضيح معالم وملامح المدرسة النخبوية عبر تاريخها مؤكذا أن النخبوية في أبسط معانيها هي الأتجاه الميثودولوجي الذي يؤكد أن قبول النظريات العلمية هو قرار يعود إلي النخبة العلمية في نهاية الأمر،دون حاجة إلي معايير موضوعية . ويؤكد النخبويون إمكانية وجود وحدة للتقييم مثل الأنموذج المقياسي لدي توماس كون، وهم إذ يقبلون فكرة الموضوعية عن مضض وكذلك فكرة معيار عام للتقييم، إلا أنهم يعودون فيصورون هاتين الفكرتين بما يتوافق مع نزعتهم النفسية والذاتية – اللاعقلانية . فهم يقررون إمكانية تمايز المعرفة العلمية عن باقي المعارف الأخري، ولكن هذا ليس نتيجة لموضوعية المعرفة العلمية أو استقلااها الماهوي، فإذا كان هناك تمييزاً، فهو تمييز لأبعاد تشمل الموضوعية بداخلها والعكس غير صحيح . وتدخل تلك الأبعاد ضمن الأطر النفسية والأجتماعية والثقافية للمعرفة العلمية.

وعلي الرغم من إيمان النخبويين بوجود معيار للتقييم، فإنهم يعودون فيقررون أنه لا يوجد ولا يمكن أن يوجد معيار شامل بسيط أو حتي فئة من المعايير، من أجل ضبط التقدم والتدهور العلميين . فلا يوجد إلا معيار لحالات بعينها أو معايير وقتية، والعلماء وحدهم هم الذين لهم الحق في الحكم علي القضايا العلمية سواء بالرفض أو القبول .

ويري لاكاتوش أن النخبوية ترتد إلي بعض اليونانيين ( ويقصد لاكاتوش النحلة الأورفية)، وفي العصر الحديث نجد من أعلام  النخبوية كل من " فرنسيس بيكون " و " ديكارت" وكلاهما إنتهي إلي أن قبول النظريات العلمية يتوقف علي الصحة الذهنية للنخبة العلمية . ثم اتخذت النخبوية صورتها المعاصرة علي يد كل من ميشل بولاني وتوماس كون .

ويري لاكاتوش أن هناك عدة إتجاهات أو نزعات فلسفية تؤيد  فكر النخبوية ، وهي: النزعة النفسية، والنزعة السلطوية، والبرجماتية، والمفاهيم التي يقصدها لاكاتوش من تلك النزعات، هي المفاهيم  الفلسفية العادية، والنفسية الميثودولوجية هي النزعة التي تؤكد المعرفة المغلقة، والسلطوية هي النزعة التي تؤكد المعرفة المغلقة علي أصحابها، أو المجتمع العلمي المغلق .

أما البرجماتية فهي تأكيد عملية المعرفة ويؤكد لاكاتوش أنه يجب علينا أن نفهم تلك المفاهيم، ومدي ارتباط النخبوية بها، فحسب نظرية العوالم الثلاثة، فإن النفسية الميثودولوجية، هي إتجاه أو نزعة تدرس منتجي المعرفة أنفسهم أي العالم الثاني . وعلي هذا فإن النخبوية النفسية هي النزعة التي تري أن قبول النظريات العلمية، يرتكز في نهاية التحليل علي الصحة النفسية للعلماء .

ويؤكد لاكاتوش أن ابستمولوجيا " ميشيل بولاني Michael Polanyi (1891-1976)" أكثر من بالغت في الجوانب النفسية والاجتماعية لمشروعية النظريات العلمية قبل " ستيفن تولمن "، حيث إن بولاني قد تجاوز مفهومي المعرفة الموضوعية والذاتية معاً، وذلك في سبيل ما يطلق عليه المعرفة الشخصية وملمحها الأساسي هو البعد المعرفي المضمر . فكل جماعة معرفية لها  قواعد معرفية مطمورة وغير مصرح بها بين الذوات الابستمولوجية، وحتي وإن كانت مدركة بصورة شخصية فيما بينهم وبالنسبة لبعضهم البعض . وهذا البعد المعرفي لا يمكن التعبير عنه بلغة كشفية علي طريقة " بوليا" أو بلغة نقدية علي طريقة بوبر أو حتي بأي لغة ذاتية . وبناء عليه فإن البعد المعرفي النخبوي والخفي أيضا هو الذي يحدد شرعية النظريات العلمية . وبما  أن الشخص الخارج عن الجماعة الابستمولوجية ( العلمية) لا يجوز هذا البعد المعرفي الشخصي المضمر، فمن ثم لن يستطيع الحكم علي منجزات تلك الجماعة المعرفية إلا عن طريق نخبتها والثقة الشخصية في تلك النخبة، مما يدعم نخبوية المعرفة العلمية وتقدمها.

إذن وفقاً لتحليل لاكاتوش، فإن النخبويين حين يؤكدون أهمية البناء السلطوي الخفي والمضمر الذي لا يمكن إدراكه إلا لأصحاب السلطة العلمية (النخبة)، في اتخاذ القرار العلمي، بين جماعات أو أفراد المجتمع الثاني، المشتركين في تشييد المعرفة العلمية، برفض أو قبول النظريات العلمية، فهم بذلك يتبنون الأفكار السلطوية التي يصفها لاكاتوش بأنها بغيضة . وهذه الأفكار السلطوية، ترتبط بدورها بالنزعة التاريخية التي تنظر للتاريخ بصورة شمولية، يحكم سيره ونموه مبدأ ميتافيزيقي أو مادي . إن النخبوية لا تتصف بالتاريخية إلا حينما تنظر بعين الجد إلي واقعة اختلاف النخبة فيما بينها، مثلما حدث بين ليبنتز ونيوتن . وتلجأ النخبوية إلي التاريخية لتفسير ذلك التغير العلمي، فهي تفيد إما من تاريخية هيجل أو تاريخية بقاء الأصلح الدارونية . وهكذا فإن إختلاف أو اتفاق النخبة يتم إما علي أساس دهاء العقل Cunning of Reason الهيجلي أو مبادئ النشوء والارتقاء.

وتصبح النخبوية برجماتية مذمومة حين تؤكد أن قبول القرار العلمي، يتم علي أساس منفعة أو برجماتية وهذا القبول بالنسبة للنخبة أو أعضاء العالم الثاني . فمساهمات أبناء العالم الثاني لا تنفصل عنهم، فالموضوعية والصدق ما هي إلا إشباع معرفي وبرجماتي للذات الفردية والاجتماعية . ويري لاكاتوش أن كثيراً من البرجماتيتين، حين يحاولون أن بستعيدوا الحقيقة المطلقة، يضطرون من جانبهم لتبني تصورات فلسفية نخبوية مكررة، مثل دهاء العقل الهيجلي أو بقاء الأصلح .

ثم يعقب لاكاتوش بقوله: " من كل ما سبق فإن النخبويون يعتقدون أن العلم يمكن أن يمثل تقدم حقيقي وإن كانوا يزعمون بأنه ليس هناك وسيلة للتقدم . بل لا يكتفوا بذلك القول بل يرون أيضاً أن تغير في العلم، وإنما يعني أن تكون من خلال دهاء الهيجلي للعقل والتقدم في العلم . إن ما يصح هو الصحيح أو علي الأقل بين علماء حقيقين أو جماعات علمية حقيقية والبقاء الانتقائي هو معيار التقدم . ولسوف نري من خلال ذلك التقليد الثالث ينتمي تولمن فتولمن ، وهو يقيم ويقدر الجماعات أكثر من النظريات، ويلجأ مرارا إلي صورة من المذهب التاريخي وهذه الصورة قد يعجز عن تفسيرها تفسيرا صحيحا . وكتاب الفهم الإنساني لتولمن ككل إذا ما تمعن المرء فيه يدرك أنه لم يكن واضحاً كل الوضوح وأنه يمثل تقليد باهت في الفلسفة المعاصرة، وهي فلسفة فيتجنشتين المتأخرة، وهذه الفلسفة هي التي يدور حولها هذا الحوار الذي يتوائم مع النخبوية التي أوضحها الآن " ... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم