أقلام فكرية

إمري لاكاتوش ناقداً ستيفن تولمن (2)

محمود محمد علييري بعض أساتذتنا المعاصرين، أن مساهمة فيتجنشتين في الفلسفة تشكل تدبذباً بين آراء "رسل (1872-1970) "وآراء" جورج مور G. Moor ( 1873-1958)، فهو يبدأ في المرحلة المتقدمة علي أساس من أراء رسل، وينتهي في آرائه المتأخرة مناصراً لمور . فنظريته عن اللغة كما وصفها في " رسالة منطقية فلسفية" تقوم علي أساس التحليل الميتافيزيقي الذي وضعه رسل . أما فلسفته المتأخرة كما بدت في كتاباته ؛ وبالذات كتابه " بحوث فلسفية " فهي تبتعد عن نظريته الأولي التي وضعها في " الرسالة "، لأن هذه النظرية الأولي كانت تستلزم نسقا ميتافيزيقياً، فرفضها، ورجع أساساً إلي موقف " مور " . وباختصار، فقد كان في الطور الأول "رسليا" مع حبكة لغوية، أما في الطور الثاني فقد كان "مور" معبراً عنه في حدود لغوية .

ولقد توصل فيتجنشتين في آرائه المتأخرة إلي الاعتقاد بأن طريقة توضيح المشكلات الفلسفية لا يتحقق بترجمتها إلي اللغة الصورية، بل بالأحري، بالإشارة إلي أن الإرباك الفلسفي لا بد من إظهار الاستخدام الصحيح للمفاهيم الأساسية التي تشكل الحديث في الفلسفة، وتوضح الطريقة التي يمكن أن تجعل استخدام الفيلسوف لهذه المفاهيم استخداماً خاطئا .

لهذا بدأ فيتجنشتين بتصوير الملامح الفعلية للحديث اليومي خلال منهج معروف اليوم بأسم " ألعاب اللغة Games – Language ؛ حيث يشبه فيتجشتين اللغة في هذه الحالة باللعبة – أو هي لعبة بالفعل – نستخدم فيها الألفاظ، كما نحرك البيدق مثلا في لعبة الشطرنج، إلا أن الإنسان أثناء لعبة الشطرنج لا يكون حرا في تحرك البيدق حسبما يريد، بل يحركه وفقا لقواعد اللعبة التي تسمح بتحريكه علي نحو معين وتسمح بتحريك قطعة أخري من قطع الشطرنج علي نحو آخر.

وهذا ينطبق علي اللغة، فنحن نستخدم الألفاظ وفقا لقواعد معينة، وقد أوضح فيتجنشتين هنا كيف تستخدم اللغة في استعمالها العادي من قبل المتكلمين العاديين بها، وكيف يمكن أن يؤدي التوسع في هذا الاستعمال إلي صعوبات فلسفية . وعلي ذلك، فإنه بدلاً من محاولة اكتشاف معني مفاهيم معينة خلال التحليل بالمعني الذي استخدمه رسل، تكون مهمة الفيلسوف هي توضيح مغزي هذه المفاهيم بالإشارة إلي الطريقة التي تستخدم بها في الواقع . لهذا قيل أن فيتجنشتين كان مسئولاً عن ذلك القول المشهور المميز لنشاط فلاسفة اللغة العادية : " لا تسأل عن المعني، بل اسأل عن الاستعمال ".

ومن ثم فإن كافة الاصطلاحات والمفاهيم والقواعد والتعبيرات اللغوية ... لا تصبح كذلك، إلا لأنها " ألعاب – لغوية "، يقتضي فهمها وممارستها معايشة نفسية واجتماعية للمجتمع الذي يمارسها ويستعملها، وهو الأمر الذي الذي يتجاهله الفلاسفة المرضي – من وجهة نظر فيتجنشتين – لذا فهم يبتدعون الفلسفة وفلسفة العلم واحدة من تلك البدع .

وهنا نصل إلي نقطة هامة وهي نظرة فيتجنشتين إلي الفلسفة بوصفها نشاطا علاجيا، فليس من شأن الفلسفة أن تبحث عن إجابات من نوع خاص لتقدم تفسيراً لنوع خاص عن" الوقائع " التي لا تفسرها العلوم الوصفية . فليس هناك شئ من قبيل المسائل الفلسفية أو المشكلات الفلسفية من حيث هي كذلك، فما يبدو لنا مسائل فلسفية أو مشكلات فلسفية إنما هو أمر ناتج عن سوء فهمنا لـ" منطق  لغتنا " . ولا بد أن ينظر المرء إلي الشخص الذي تقلقه مشكلة فلسفية علي أنه شخص يعاني من نوع التصلب العقلي أو يعاني من عقدة نفسية راسخة تسيطر علي فكرة نمط لغوي معين . وحين يتكشف له مصدر هذه العقدة أو السيطرة عن طريق التحليل، وحين يدرك المريض ذلك الأمر، ويعرف طبيعته فإنه يتوقف عن الرغبة في الحديث "لغوا" ولا يعود راغباً في وضع أسئلة لا يمكن أن تكون لها إجابة، وتكون إجابة المرء علي الأسئلة الفلسفية ببيان أنها ما كان يجب أن تثار.

وهكذا يتمتع الفيلسوف الجيد، عن أن يضع أسئلة ليست لها إجابة أو يثير مشكلة لا حل لها، إذ ينبغي أن تكون معالجة الفيلسوف لمشكلة ما شبيهة بمعالجة المريض أو كما يقول مرة أخري ما غرضك من الفلسفة ؟ - هو أن تبين للذبابة الطريق الذي يخرجها من الزجاجة .

ويري بعض الباحثين أن فلسفة فيتجنشتين تشكل نقداً عنيفاً للمدرسة التبريرية التي يرتكز عليها فكر لاكاتوش، فرفض فلسفة العلم هو رفض لمشكلة التقييم، والتأكيد علي أن العلم والمعرفة العلمية يقتصران فهمها علي الجماعة العلمية وحدها . ولا عجب أن فيتجنشتين يستنفد صفحات طويلة من كتابة " بحوث فلسفية " من أجل نقد فكرة بناء لغة شخصية . ذلك أن الإيمان بوجود تلك اللغة يعني الموافقة علي شرعية التبريرية، سواء في اللغات الصورية التي حاولت بناءها في الربع الأول من القرن العشرين، مثل لغة التركيب المنطقي عند " كارناب " أو حتي في لغة بعدية للعلم تميزه عما دونه من معارف مثلما فعل " بوبر" و" لاكاتوش " .

وبالتالي فإن نقد لاكاتوش لنخبوية فيتجنشتين هنا سيتمحور حول تأكيد تدعيم فيتجنشتين للنزعة النسبية ومن ثم السلطوية . والحقيقة أن نقد فلسفة فيتجنشتين بالذات ذو أهمية بالغة، إذ أن فلسفته كانت بمثابة النواة الصلبة لكثير من الفلسفات النسبوية، وعلي راسها فلسفة " توماس كون "و "بول فيرآبند " و "ستيفن تولمن " . ومن أجل نقد فلسفة فيتجنشتين، فإن لاكاتوش ينتقي مجموعة من المفاهيم الرئيسية في فلسفة فيتجنشتين والتي تعد مقومات رئيسية لفلسفته، ولا يتم فهمها أو بناءها إلا بها، مبينا مدي ضررها علي البحث العلمي . ويمكن أن نعد تلك المفاهيم النواة الصلبة للبرنامج النخبوي، وهذه المفاهيم هي :

- اللعبة اللغوية

- المفهوم

- الفهم

- الأسئلة الحدية

يري لاكاتوش أن مفهوم فيتجنشتين عن " اللعبة – اللغوية " يربط فلسفة فيتجنشتين المتأخرة بفلسفة فيتجنشتين المبكرة، ذلك أن كليهما نخبوي سلطوي . فلقد أكد فيتجنشتين المبكر أننا ننظر للعالم من خلال إطارنا المفاهيمي، الذي يتم التعبير عنه بواسطة اللغة، وهو الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلي فلسفته المتأخرة أو مفهومه عن " اللعبة – اللغوية" . فمجمل الألعاب اللغوية التي يتعلمها تشكل رؤيته ووجوده في العالم، لذا فهي عبارة عن مهارات اجتماعية يلزم تعلمها لتأطير العالم أو لفهم تأطير جماعة معينة للعالم . وعلي هذا النحو تصبح المفاهيم، بما فيها المفاهيم العلمية، مجرد " ألعاب – لغوية "، أي مهارات وتقاليد علمية تتوارثها الجماعات العلمية وحدها .

وبناء عليه تصبح فلسفة العلم جزءً من علوم الإنسان التي تدرس " المهارات " اللغوية - الاجتماعية " لدي جماعة العلماء . فالأسئلة العميقة بخصوص فعاليات الحياة العلمية الحقيقية يجب أن تسبق الأسئلة المصطنعة التي هي أشبه بالظلال، بخصوص صدق أو كذب القضايا .

وعلي هذا الأساس يقوم تحليل لاكاتوش لإدراك فيتجنشتين وتولمن للفهم العلمي . فالفهم العلمي، كغيره من الفيتجنشتينية هو فهم لتقاليد و" عادات اجتماعية – لغوية " علمية، دون الحاجة إلي فهم الأسس الموضوعية والعقلانية لهذه التقاليد والعادات، ذلك أن بعض الشكوك مصرح بها، لكن الشكوك الأخري بصدد الأسس تبين أن الشخص الشاك لا يفهم اللعبة، بل وغير قادر علي تعلمها، وقد يصل الأمر إلي إعتباره مشوش الذهن .

وهكذا يبدأ الارتباط الواضح بين فلسفة فيتجنشتين من جهة، والسلطوية من جهة أخري في الظهور الصريح . إن المرء أو العالم لا يمكنه أن يوافق أو لا يوافق بل إما أن يفهم أو لا بفهم، وفي الحالة الأخيرة يبدأ في الشك ومحاولة التغيير . ومن هنا يتم نبذه خارج الجماعة العلمية بواسطة تلك الأخيرة . هذا الوضع يطلق عليه لاكاتوش " شرطة الفكر " .

يأتي الآن دور الأسئلة الحدية : إن الأسئلة الحدية في فلسفة فيتجنشتين، هي الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عليها من داخل أطر الجماعة اللغوية، ويدل سؤالها علي عدم فهم قواعد " الألعاب – اللغوية " للجماعة المعنية .

ويؤكد لاكاتوش الدور السلطوي الهام الذي تلعبه الأسئلة الحدية، فبواسطتها يرفض أصحاب السلطة أو النخبة العلمية الإجابة علي الانتقادات التي توجه إليهم، علي اعتبار أنها استفسارات عن أسئلة مشروعة أو لا قياسة. وهكذا يمنح فيتجنشتين الأداة اللازمة لأصحاب النزعة الذاتية، من أجل أن يرفضوا الأسئلة الموضوعية، مثل ما العلم؟، وما معايير قبول أو رفض النظريات العلمية، علي اعتبار أنها أسئلة حدية تعبر عن عدم فهم لعبة العلم.

وينتهي لاكاتوش من تحليله للأسئلة الحدية لدي فيتجنشتين، إلي التأكيد أن عقلانية المعرفة العلمية ستصبح عقلانية جماعة معينة، وليست عقلانية تاريخية موضوعية في العالم الثالث، يقول لاكاتوش :" إن العقلانية تتباين من قبيلة إلي أخري، ومن لعبة لغوية إلي لعبة لغوية أخري، ومن مجتمع إلي مجتمع إلي آخر، والمجتمعات متعدد ... بل في المجتمع الواحد هناك ألعاب لغوية متنوعة، ألعاب تظهر تباين مفاهيمي، علي حد وصف تولمن، ففي المجتمع الغربي، علي سبيل المثال، هناك لغة أخلاقية ولغة علمية ولغة تجارية ولغة دينية إلي آخره .

وليس معني نص الفقرة السابقة كما يري بعض الباحثين، أن لاكاتوش يرفض وجود تنوع اللغات، فهو أمر تثبته التجربة، ولكنه يرفض الوقوف عند حد تأكيدها وعدم الصعود منها إلي اللغة الموضوعية، لغة العالم الثالث . فإذا كانت لغات فيتجنشتين لا قياسية، فإن لغة العام الثالث هي علي النقيض لغة قياسية . وعلي أية حال فإن عقلانية فيتجنشتين تؤدي إلي العزلة السيمانطقية للجماعات اللغوية بين بعضها البعض بصورة رئيسية، ومن ضمنها الجماعات العلمية سواء في الحاضر أو الماضي . فكل جماعة لغوية سيكون لها قواعدها المستقلة التي تتصارع وتتنافر وتتعاند مع قواعد الجماعات المختلفة، بصورة لا تقبل التصالح.

ويبدو أن شرطة الفكر سوف تمنع فيتجنشتين من تفسير التغير، وأوله التغير العلمي . والحقيقة اتي لا حظها لاكاتوش، هي أنه نتيجة لنخبوية وسلطوية فيتجنشتين، فهو نفسه سيدعو إلي رفض التغير، فهو ضد الحرب بصورة متعصبة، ونتيجة لهذا فهو يدعم نسبيته الثقافية بالعنصر التقييمي العلاجي والسلطوي . فحين يتوقف الفيلسوف عن بناء لغته الموضوعية الخالصة، والتي تثير حروب الألعاب اللغوية ستتخلص الفلسفة من مشاكل عقيمة وعلي رأسها مشكلة الاستقراء . وهكذا فإن فيتجنشتين لا يرفض العالم الثالث فحسب، بل يحول اشكالياته بدورها إلي اشكاليات ذاتية (بناء لغة خاصة)، منتهيا إلي عدم القدرة علي تفسير التغير العلمي بصورة موضوعية، وبذلك يقدم الأسس الفلسفي للاقياسية المعرفة العلمية لدي توماس كون وفيرآبند أو الفلسفات النخبوية – الشكية علي وجه العموم .

ولا شك أن النقد الذي يوجه لاكاتوش إلي فيتجنشتين يعود إلي أمرين، الأول، السلطوية، والثاني، عدم القدرة علي تفسير التغير العلمي ويبدو الأمر الأول وكانه معلق في الهواء ! فأين نقد لاكاتوش للسلطوية ؟ وما هي مبررات رفضها؟ وخصوصاً وأن النواة الصلبة في برامج الأبحاث العلمية، يمكن أن ينظر إليها علي أنها مكون سلطوي في فلسفته ! سنترك الإجابة علي هذا التساؤل فيما بعد حين تكتمل رؤيتنا لنقد لاكاتوش للنخبوية لدي تولمن . أما الأمر الثاني، فتبدو أكثر قبولاً ففلسفة فيتجنشتين تتجاهل بالفعل التغير المفاهيمي وهو الأمر الذي حاول تولمن تداركه، عندما تجاوز شرطة الفكر الفيتجنشتينية التي تمنع التغير المفاهيمي، وهو التغير المشاهد بالعيان، لذا فأفكاره ستشكل الحزام الواقي، الذي سيحاول الدفاع عن النواة الصلبة للبرنامج الذاتي – النخبوي لدي فيتجنشتين، وذلك بتعديل آليات الشرطة، أو نبذها علي أقصي تقدير.

إن تولمن كما يري لاكاتوش يرفض بصراحة مشاكل العالم الثالث علي اعتبار أنها مشاكل ميثودلوجية، وبالتالي فإن فلسفة لدي تولمن تعول وتحلل علي ما يدور بالفعل داخل الممارسة العلمية،وذلك من خلال تحليل الممارسة اللغوية العلمية الفعلية، وكذلك دراسة أنواع الحجج التي لا يمكن أن يعبر عنها المنطق التقليدي أو المنطق الرياضي المعاصر، وبعيدا عن ماهية تلك الحجج، فإن رفض تولمن للمنطق، لا يعني إلا الارتماء في أحضان النزعة الذاتية أو السيكولوجية، تدعيماً لمواقفه النخبوي . ومرة أخري بعيداً عن تلك الحجج التي حاول دراستها في خمسينيات القرن العشرين، فلقد حاول تولمن في " الفهم الإنساني " أن يفسر التغير المفاهيمي وضمنه التغير العلمي، هادفاً تجاوز القصور الميثودولوجي في فلسفة فيتجنشتين، والذي أدي إليه عدم القدرة علي تفسير التغيير العلمي بسبب شرطة الفكر ... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم