أقلام فكرية

كيف رد ستيفن تولمن علي انتقادات إمري لاكاتوش؟ (2)

محمود محمد علييتساءل تولمن: فما سبب هذا التغير؟ هو أن استجابة لاكاتوش للجدل العام الذي أثارته نظرية توماس كون للثورات العلمية وخصوصاً للمواجهة المباشرة بين كون وبوبر في لقاء كلية بدفورد . ومنذ ذلك الوقت وبدأت ميثودولوجيا لاكاتوش في برامج البحث العلمي في التشكل سريعاً، وخصوصا فيما يتعلق بالتطور النظري في العلوم الفيزيائية . وبلغت هذه المرحلة ذروتها في الصورة المعدلة التي بحثها لاكاتوش لدى كلية بدفورد والتي على إثرها تم نشر" النقد ونمو المعرفة" والتي فيها بحثه المسمى التكذيبية وميثودلوجيا برامج البحث العلمي سنة 1970 .

وفي تلك المرحلة المتوسطة، يؤكد تولمن أن المصطلحات نفسها  التي استخدمها لاكاتوش لتصنيف برامج البحث العلمي بقيت كما هي، كما بقيت المصطلحات نفسها شبه المنطقية، والتي وضعها لتصنيف مناهج بديلة في الكشف الرياضي : أي الاستقرائي  - التجريبي والتكذيبي ... إلخ . وبعيداً عن هذا التغير من الرياضيات إلى الفيزياء، فإن الشئ الجديد في هذه الأبحاث، هو عدائية لاكاتوش للتاريخية بكل أشكالها، وأيضاً التأكيد على الوظائف النقدية للعقل والعالم الثالث والعلم على حد سواء . (وكلا السمتين، تأييد لاكاتوش لبوبر في معارضته لنظرية البراديم عند كون، وكذا النسبية التاريخية التي تفرضها رؤى كون المبكرة  سوف ينتقلان بنا إلي المرحلة التالية) .

3 ـ المرحلة الثالثة وهي أبحاث لاكاتوش في السنتين الأخيرتين، والتي نشرت ضمن Jerrusalem paper and the UCLA Copernicus paper))، وفي تلك الأبحاث نجد بدايات تغير أخر . ودوافع هذا التغيير الثاني تأتي من التركيز على الاستراتيجيات الفكرية الفعلية الممثلة في برامج البحث النظري المتغيرة في الفيزياء والفلك على مدى الثلاثة قرون الأخيرة . ولا يمكننا التمييز بدقة بين الأهداف والغايات الفكرية المختلفة التي أدت بفيزيائي مثل جاليليو ونيوتن أو ماكسويل أو أينشتين للسعي وراء خطوطهم الفكرية الخاصة بهم، إذا طبقنا المصطلحات الشبه منطقية وحدها . فالاختلافات في الاستراتيجية الفكرية بينهم لم تكن فقط اختلافات صورية ـ فالرجل فقط يلعب دوراً استقرائياً والآخر تكذيبياً والثالث إقليدياً وهلم جرا، وليس مستقلاً . والاختلاف بين أفكارهم واستراتيجياتهم كانت نتيجة لاختلاف الغايات التجريبية للكفاية التفسيرية والاكتمال النظري. ولذا فنجد في أبحاث لاكاتوش الأخيرة وخصوصاً التي أعدها مع إيلي زهار Elie Zahar . نجد أن لاكاتوش يتبنى مفهوما أشمل وأكثر استقلالية عن الاختلافات الجوهرية بين برامج البحث المتنافسة . (وهذه هي النقطة التي اعتقدت عندها أنني أرى فرصة حقيقية لإنتقاله للوضع الذي تتطابق فيها برامج الأبحاث المختلفة مع الاستراتيجيات الفكرية المختلفة بالمعنى الحقيقي للكلمة) .

ويذكر تولمن أنه على الرغم من هذه التغيرات فى اهتمامات إمري لاكاتوش إلا أن هناك أشياء معينة فى وجهات نظره أضحت بلا تغيير . فلنفترض أننا وضعنا نص من كتاب " براهين وتفنيدات " إلى جانب كتاباته المتأخرة، ولنفترض مثلا أننا قارنا النسخة الأخيرة لبحثه عن " تاريخ العلم وإعادة بناءاته العقلانية والتى عرضها فى القدس فى يناير 1971 ثم  أعيد نشرها بعد تعديلها فى 1973 والتى استهلها لاكاتوش بالقول: " إن فلسفة العلم  بدون تاريخ العلم خواء وتاريخ العلم بدون فلسفة العلم عماء وانطلاقا من مقولة كانط هذه فيعني هذه البحث بتوضيح كيف يجب أن يستقى تاريخ العلم من فلسفة العلم والعكس بالعكس " وعودة إلى مقدمة كتاب " براهين وتفنيدات " نجد أن  الفكرة نفسها يتم تطبيقها هذه المرة على الرياضيات  في ظل سيطرة الشكية فلا نجد بداً من إعادة صياغة ما قاله كانط : إن تاريخ الرياضيات بدون إرشاد من الفلسفة يصير أعمى . بينما فلسفة الرياضيات إذا أدارت ظهرها إزاء تاريخ الرياضيات صارت خاوية . وبالمثل يؤكد لاكاتوش الكلمات نفسها لبحثه في فلسفة العلم الذي نشره في (1973) هي اقتباس واضح في بحثه الذي نشره (1962) عن " الارتداد اللانهائي في فلسفة الرياضيات  ":

دعني أذكر قارئي بنكتتي المفضلة والمعروفة بأن تاريخ العلم و (الرياضيات)  هو كاريكاتير لإعادة صياغته . وإعادة الصياغة تلك هي كاريكاتير للتاريخ الفعلي. وأن بعضاً من تاريخ العلم و(الرياضيات) هو أيضاً كاريكاتير للتاريخ الفعلي وإعادة بناءاته العقلية  .

ونجد أن تولمن يري  كل المهام الفكرية التي اهتم بها إمري لاكاتوش منذ عام 1965 حول فلسفة العلم مع كثير من المصطلحات التي استخدمها لتوصيف الميثودولوجيا العلمية كلها ببساطة أعيد تطبيقها على إجراءات العلم الطبيعي وهي أفكار وضعت أساساً لمناقشة الميثودولوجيا الرياضية وفلسفة الرياضيات .

ومن المثير للاهتمام  كما يري تولمن - أن الاتجاه التطوري للاكاتوش نحو مشكلة بوبر المتعلقة بمعيار التمييز ومعايير الحكم العلمي . وخلال تلك المرحلة الوسطى تطور" لاكاتوش2 " بعد أن عبث بفكرة بوبر في أن للفلاسفة إلتزام راسخ ومعايير ثابتة للتفرقة بين العلم واللاعلم والعلم الجيد والعلم السيئ من خلال التجربة الفعلية للعلم الطبيعي وخصوصاً الإصرار على أن العلم يجب أن يلتزم بمعايير عقلانية بعينها في حججه والتي هي المنج النهائي لعمله . إلا أن لاكاتوش في أبحاثه النهائية الأخيرة آمن بأن الفلاسفة من أمثال بولاني لا يتفقوا مع اتهاماته المبكرة . فمثلاً في عام 1973 في مراجعته لورقة  القدس يمكن بوضوح أن نتفق مع إستنتاج بوبر القائل : يجب أن يكون هناك سلطة دستورية غير قابلة للتغيير قانوناً (باستخدام معيار التمييز) للتفرقة بين العلم الجيد والعلم السيئ . على أنه غير استقرائي . وعلى العكس فموقف بولاني المضاد أي أنه يجب ألا يكون ويمكن ألا يكون ـ هناك الحالة التشريعية إطلاقاً . فقط الحالة التشريعية هو ما يبدو به شئ كثير من الحقيقة .

وحتى الآن نجد أن كل القوانين التي طرحها فلاسفة العلم الاستقرائيين ثبت أنها خاطئة في ضوء ما حكم به أفضل العلماء . وحتى اليوم لا تزال المعايير العلمية التي يطبقها العلماء هي معيار للقوانين الفلسفية الجامعة . لكن لا يزال التطور المنهجي متأخراً فيما يتعلق بالعلوم المتقدمة . ليس إذن من العجرفة أن نقول بأنه إذا خالف نيوتن أو آينشتاين علمياً أياً من قوانين بيكون أو كارناب الاستقرائية فإن أمر العلم يجب أن يعاد النظر فيه من جديد . وأنا أعتقد أن الأمر كذلك  .

ويرى تولمن في هذه المرحلة الأخيرة (لاكاتوش3) فإن ميثودولوجيا برامج البحث كانت إذن تاريخية تماما كما هو الحال عندي أو عند بولاني . فلما إذن السخط حول نخبويتنا وفاشستيتنا المخربة كما يزعم لاكاتوش وما إلى ذلك تلك هي المشكلة فحسب .

ويتعجب تولمن أنه من سخرية القدر، حتى هذه التنازلاتِ النهائيةِ لسلطة العلماء فإن الحالة التشريعية يمثل فقط عودة لموقف إمري لاكاتوش فيما يتعلق بالرياضيات . وفي ذرورة الحديث الذي يشكل معظم " براهين وتفنيدات" يصر علي أن " الحالة التشريعية " المعروف قد يحدث تغيرات جذرية في الاستراتيجية الفكرية في تاريخ الرياضيات أيضاً .

ولذا يرى تولمن أن لاكاتوش منذ البداية منفتح علي فكرة أن مفهوم الحقيقة ومعايير الإثبات وأنماط النمو الرياضية يجب تحليلها وتطبيقها بطرق تأخذ في الاعتبار تطورها التاريخي، وأيضا فكرة أن القبول التاريخي للتغير في أفكار الحقيقة والإثبات والنمو لدي الرياضيين العاملين هو أمر أساسي لفلسفة الرياضيات، ولو أن هذه المواقف ليست تعبيراً عن التاريخية أو النخبوية التي اعترض عليها بعد ذلك بعض فلاسفة العلم الأخرين – فربما كان من حقنا أن نسأل – فما هي إذن ؟

ثم ينتقل تولمن إلي الحديث عن محتويات العالم الثالث موضحاً أن هناك سببين جعلا لاكاتوش يفرق بشدة بين موقفه الأخير وبين موقفي وموقف بولاني .وفي هذا الجزء من البحث سوف أتساءل حول الموازنة – أو انعدامها – بين فلسفة الرياضيات وفلسفة العلم الطبيعي : وخاصة لأن تجربته المباشرة قاصرة علي مجال الرياضيات، فلاكاتوش يخطئ الفهم عندما يفرط في تبسيط مكونات العالم الثالث، بحيث يصبح (لدي كل مؤيدي بوبر) المحتوي الفكري والمناهج والناتج لأي نظام عقلاني كل إعادة وتقييم ونقد، ثم في الجزء الأخير سأواصل توضيح كيف أن مثل هذا التبسيط المبالغ فيه جعله يعتقد أن كل هذه المواقف في فلسفة العلم والتي تلحق أهمية بالغة بتطبيق العلماء هي عرضة للاتهام بالنسبوية التاريخية، مثلما هو الحال مع الطبعة الأولي من " بنية الثورات العلمية" لتوماس كون .وفي المقابل سأقول بأن الحصول علي وصف للتطبيق العلمي أمر سهل المنال بما في ذلك كل ما يتطلبه من عقلانية مؤيدو نظرية العالم الثالث والتي كنتيجة تتحاشي وصمة النسبية والتي لا تواجه أية اعتراضات أو صعوبات لا تنشأ بنفس القوة حول موقف لاكاتوش النهائي ؟

ويبدأ تولمن بمقارنة الرياضيات والعلم الطبيعي قائلاً: إن فيلسوف العلم الذي يتكسب من عمله كعالم طبيعي دائما ما يجد نفسه في تناقض مع الزملاء الذين يتناولون الموضوع من جانب الرياضيات أو المنطق الرمزي . وقد ناقشت هذه الظاهرة في موضع ما من مؤلفاتي : فمثلا لو قلنا إن برنامجاً فلسفياً عاما للوضوح من خلال البديهية التي كانت رائجة بين فلاسفة العلم التجريبين في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين ويستقي ذلك المنهج معقوليته من شيئين مختلفين مربكين : أي سعي هلبرت للبديهية كهدف أو غاية للرياضيات وسعي هيتز النفعي بها كوسيلة للتغلب علي التناقضات النظرية في الميكانيكا كفرع من الفيزياء . ومثال ذلك كتاب " أسس علم الحساب " لفريجه أدي بالفلاسفة في فترة ما بين الحربين أن يطالبوا بمثالية أكبر وثبات في تحليلهم للعلم أكثر مما تسمح به الطبيعة الفعلية للعلوم الطبيعية . ورغم إنكارهم المعلن للوضعيين فإن كل ما يتعلق بها لم ينجح كل من بوبر ولاكاتوش في الابتعاد تماماً عن هذه السمة للموروث الفيييني . وفي حالة لاكاتوش خاصة فخبرته كرياضي يبدو أنها صرفت انتباهه عن ضرورة ذلك الابتعاد .

وفي رأي تولمن هناك سمتين للرياضيات الخالصة تشترك فيهما مع أي علم طبيعي إلي حد مشكوك فيه بشدة :

1- إن المحتوي الفكري لأية نظرية نسقية في الرياضيات يمكن تحديدها بدرجة عالية من التقريب بنسق من القضايا يمكن أن نعبر من خلاله عن ذلك المحتوي . ومن هذا المنطلق الرياضي فإن ذلك النسق هو نسق قضايا مع ارتباطها بالتطبيق – فمثلا الإجراءات العملية التي نحدد بها نموذجاً فيزيائياً محددا للكيانات المشار إليها في النسق، حيث النقاط عديمة الابتعاد والمثلثات متساوية الأضلاع وسرعات الضوء المتماثلة أو أياً كانت هي عناصر خارجة عن النسق . فمثل هذه الأمور التطبيقية ليس لها أثر مباشر علي صحة النظام الرياضي محل التساؤل باعتباره جزءً من الرياضيات .

2- في بعض فروع الرياضيات (إن لم يكن كلها)، فالمعالجة الأكثر مثالية أمر ممكن : أي أننا يمكن أن نتخيل مواقف يمكننا فيها أن نفكر في الشكل الحالي لنسق رياضي علي أنه شكل نهائي وحاسم . عندما طور فريجه تحليله المنطقي للحساب مثلاً قال بنهائيته . وكان يمكن (كما يزعم) لفلاسفة الرياضيات أن تجريد الحساب من الإضافات الخارجية التي حجبت مفاهيمه في شكلها الخالص عن أعين العقل . وهذه الحركة الأفلاطونية كان لها أثر فصل الحساب عن تاريخه، ولم يعد هناك مساحة للنظر للمفاهيم الحسابية كمنتج تاريخي يمكن مقارنته بما هو قائم . والسؤال الوحيد الذي سمح لنا فريجه بطرحه هو : هل هذا التحليل صحيح ؟ فإما أنه علي صواب في وصفه للشكل الخالص للمفاهيم الحسابية معتبرا إياها من مكونات العالم الثالث أو أنه كان علي خطأ؟  وبدلاَ من أن يري نظريته توصف بأنها تحسين مؤقت سوف يستبدل في المستقبل بتغير مفاهيمي أخر مع تطور الرياضات فهو لا يرجو سوي أعلي الحدود وأقصاها .

ويري تولمن أن الفلاسفة الذين اعتادوا العمل في المنطق الصوري والرياضيات البحتة ربما يعتقدون أن الكيانات والعلاقات التي من شأنها الحكم بشروط عقلانية – والتي هي أساس مكونات العالم الثالث غير التجريبي عند بوبر (وأفلاطون) – تشكل القضايا والعلاقات المنطقية بينهما . إلا أنها تبقي موضع شك في أمرها حول فيما يتعلق بما إذا كان هذ1الاعتقاد قائماً علي أساس أم لا . وحتي في العلم الطبيعي الذي يمكن صياغة نظرياته في شكل رياضي، فإن المحتوي التجريبي للعلوم يمتد إلي ما هو أبعد من حدود تلك النظريات الرياضية . فمثلا الطريقة التي تحدد بها النماذج التجريبية الفعلية للكيانات التي تناقش في أية نظرية – عكس الموقف في الرياضيات البحتة – هي مشكلة داخلية في العلم المناظر : هي في الواقع مشكلة تعتمد عليها صلاحية ومعقولية النظرية العلمية . (فالحالة العقلانية للفيزياء المعاصرة تقوم علي وجود الالكترونات الفعلية بطريقة لا تقوم عليها الحالة العقلانية للهندسة التي لا تحاول اكتشاف نقاط أبعاد الحياة الواقعية تجريبياً) . وفي حالة أي علم طبيعي تجريبي ليس من المنطقي أن نفترض شكله الحالي، هو في الوقت نفسه شكله النهائي والحاسم، فمثلاً : حتي في " الكيناماتيكا Kinematics (وهو علم الحركة المجردة – فرع من الديناميكا)، فإن العلاقات التي تبدو قادرة علي أن تكون بديهية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر تغيرت نتيجة لتطور نظرية النسبية . وبالمثل فالطريقة الوحيدة لتحويل الميكانيكا العقلية لفرع من الرياضيات البحتة هي الابتعاد عن أية علاقات تجريبية .

ويلاحظ تولمن أن هذين الاختلافين بين الرياضيات والعلم الطبيعي لهما معاني مهمة بالنسبة لشكل ومضمون " العالم الثالث " والذي يلعب دورا مهما في نظريات كارل بوبر وإمري لاكاتوش .ولو أن المحتوي الفكري لأي علم طبيعي لا يتضمن فقط قضايا ولكن براكسس praxis، ليس فقط العبارات النظرية theoretical statements ولكن أيضا الإجراءات العملية للتطبيق التجريبي فلن يستطيع العلماء ولا الفلاسفة أن يقصروا أنتباههم العقلي والنقدي علي التعقيل الصوري formal idealization لنظرياتهم . فمثلاً تمثيل تلك النظريات علي أنها تتكون فقط من أنساق من القضايا والاستدلالات في شكل رياضي منطقي . وعند بعض فلاسفة العلم فإن هذا محير ومربك، فهم معتادون علي معاملة النقد العقلاني علي أنه مسألة ذات صدق صوري أو صرامة منطقية وما شابه ذلك بحيث إن ظهور أي جانب تطبيقي قائم علي التغيير التاريخي هو بالنسبة لهم أمرا يمثل لاعقلانية، وبالتالي يهدد العقلانية علي الساحة .وعندما يزعم ميشيل بولاني أن جزء من التطبيق معروف ضمنيا وليس مصرحا به تزداد شكوكهم .

بيد أن تولمن يري أنه قد  حان الوقت لمواجهة تلك الشكوك والرد عليهم بأنهم أساءوا الفهم . فما هو معروف في العلم الطبيعي لا يري في المصطلحات النظرية والقضايا وحدها . فالإجراءات التطبيقية التي تمنح تلك الأفكار النظرية صفة تجريبية تمثل مكونا لا غني عنه في العلم، ومهما كانت هذه الاجراءات ضمنية في الممارسة العملية، فهذا لا يعني أنها ليست عرضة للنقد العقلاني .

وفي الحقيقة، يرد تولمن الهجوم المضاد  قائلاً :"  فبعيدا عن عدم قدرة فلاسفة العلم الذين يميلون تاريخيا إلي فهم أهمية النقد العقلاني أو ربط أنفسهم بالنسبويين، فكثيرا منهم يعي تلك الأهمية ويحترمها إلي حد بعيد . وما يميزني أنا وبولاني عن بوبر ولاكاتوش هو إصرارنا علي النقد العقلاني يجب تطبيقه ليس فقط علي كلمات العالم، بل وعلي عمله أيضا – ليس فقط علي قضاياه النظرية ولكن علي تطبيقاته التجريبية أيضا – وأن قانون النقد العقلاني ذلك لا يحوي فقط حقيقة " الصدق العقلاني والصحة الاستدلالية، ولكن أيضا الكفاية أو عدم الكفاية العلمية للأنواع الأخري "  .

ولذلك فإن تولمن يؤكد علي أنه إذا ما احتفظنا بالصورة البوبرية للعالم الثالث، فعلينا أن نتبع طريقة بحيث نوسع من منظورها وأبعادها، فحيث إن المحتوي الفكري للعلم الطبيعي يتضمن مصطلحاته اللغوية وقضاياه وإجراءاته غير اللغوية والتي منها أفكار ذات صلة تجريبية وتطبيقية، فإن نموذج العالم الثالث يجب أن يفرد مساحة للتطبيق الأساسي للعلم الطبيعي بجانب قضاياه واستدلالاته ومصطلحاته وحقائقه، وبالرغم  من أن بوبر يري أن العالم الثالث من إبداع الذوات العارفة، إلا أنه يعتقد أن هذا العالم مستقل عن هذه الذوات ويولد مشكلاته الخاصة . وتنتمي المعرفة العلمية إلي هذا العالم، إذ أنها معرفة بدون ذات عارفة .

ويستطرد تولمن فيقول :" يرفض لاكاتوش التسليم بذلك . فبالنظر لخلفيته الرياضية ينكر كل تلميح للتطبيق علي أساس أنه تسليم بعلم النفس التجريبي  وعلم الاجتماع التجريبي . وبذلك فهو يغالي في الاستهزاء برؤي خصومه ويسفه أفكارهم، ويمكن لميشيل بولاني أن يدافع عن نفسه دون مساعدتي، لذا سأتحدث هنا عن نفسي فقط " .

ومفهوم التغير المفاهيمي في المجلد الأول من الفهم البشري في نظر تولمن قائم علي التمييز، حيث الضمنيات النقدية التي يصر عليها بوبر عندما يفصل بين العالم الثالث وبين العالمين الأول والثاني (المادي والعقلي) للحقيقة التجريبية : أي الفرق بين النظم Disciplines والمهن Professions  . فأي شئ يتعلق بالعلوم يعتبر نظاما  Discipline هو عرضه للنقد العقلاني بما في ذلك الأجزاء المتعلقة بالمضمون الفكري التي تبدو عملية أكثر منها قضايا . وفي المقابل فإن المعاملات المؤسساتية Institutional Transactions التي تجسد أنشطة العلم تعتبر مهنا عرضة للنقد، لكن بشكل غير مباشر من خلال التساؤل حول مدي اشباعها للاحتياجات الفكرية في النظام المفترض أن تدعمه .وبشكل عام ليس هناك صعوبة في التمييز بين تطبيق العلم وبين سياساته . وتبقي مسألة التطبيق فكرية أو منهجية ومسائل الساسيات دائماً مؤسساتية أو مهنية ... وللحديث بقية...

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم