أقلام فكرية

مفهوم الصدق عند ألفريد تارسكي (2)

محمود محمد علينعود نكمل حديثنا عن مفهوم الصدق عند ألفريد تارسكي، وهنا ننتقل لحديث عن "نظرية الإتساق" The Coherence Theory في الصدق؛ فهي من النظريات التقليدية المنافسة لنظرية المطابقة – وقد نادى بها كبار الفلاسفة العقلانيين المحدثين مثل " ليبنتز"Leibniz (1646- 1716) و "اسبينوزا " Spinoza (1632-1677)، والفلاسفة المثاليين المحدثين والمعاصرين الذين يؤلفون ما يسمى عادة بالمثالية الجديدة، أو الهيجلية الجديدة التي سادت منذ منتصف القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن الحالي، وقد تمثلت في فلسفات توماس هل جرين .T. H. Green  (1836 – 1882) وبرادلي Bradly    (1846 – 1924) وبوزانكيت Bosankquet (1848 – 1923) و " هـ . يواقيم H. Joachim في إنجلترا، ورويس J. Royce (1855-1916) وبلانشارد Blanshard (1982) في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن الملاحظ أيضاً أن بعض أصحاب الوضعية المنطقية مثل " أوتيراث " Otto Neurath(1882- 1945) وكارل همبل Karl Hempel (1905 -1997) تحمسوا لهذه النظرية رغم أنهم تجريبيون متطرفون.

وبالتالي فإن نظرية الإتساق في الصدق، يمكن أن تعزى إلي عدد مختلف من الفلاسفة أمثال " فشته " Fichte (1762- 1814)، و" هيجل " Hegel  (1770-1831)، و " برادلي " و" بلانشارد " Blanshard (1892- 1987) ؛ فالفكرة في بعض الأحيان يمكن أن ترد إلي كانظ ومن قبله اسبينوزا، ولكن لا بد من الإقرار، بأن هؤلاء الفلاسفة قد اختلفوا في تناولهم لتصور الصدق، فيجب علينا أن نعرف نظرية الاتساق في الصدق، على نحو أن الصدق يتسق عضوياً في فئة اتساق الاعتقاد المثالي والفعل، وفي نفس اللحظة يجب علينا أن نحاول وصف هذه النظرية على هذا النحو .

(م) تكون صحيحة في حالة واحدة فقط، وهي أن تندرج (م) تحت فئة صنف القضايا المتسقة . ويوجز بلانشارد نظريته في الإتساق، إذ أنه يقول لا يمكننا أن نقدم تعريفاً تعريفاً مقنعاً تماماً للإتساق . والمعرفة المتسقة، معرفة نجد فيها كل حكم يتضمن سائر الأحكام الأخري، وقد نجد في نسق الهندسة الإقليدية مثالاً للإتساق، رغم أن ذلك لا يحقق هذا النسق المثل الأعلى للإتساق لأنه لا برهان فيه على المصادرات الواردة، كما أن هذه المصادرات مستقل بعضها عن بعض، بمعنى أنه لا يمكن اشتقاق بعضها من بعض .

ويمكن تبسيط نظرية الاتساق بوجه عام كما يلي : الصدق اتساق، والاتساق علاقة معينة بين قضايا نحكم على مجموعة معينة منها تؤلف نسقاً بأنها صادقة، إذا كانت متسقة وأول معاني الاتساق ألا تكون إحدى قضايا هذا النسق كاذبة وباقي قضايا النسق صادقة وثاني معاني الاتساق أن يتحقق بين قضايا النسق الواحد لزوم منطقي متبادل أي يمكن اشتقاق أية قضية من باقي قضايا النسق وأن تعتمد هذه القضايا على بعضها البعض .

ويعني الاتساق ألا يكون في النسق قضية مستقلة بذاتها منعزلة منطقياً عن المجموعة. ولذلك يصبح الاتساق معياراً نحكم من خلاله بصدق قضية ما، وتقول نظرية الاتساق أيضاً إن الاتساق مثل أعلى لا يمكن تحقيقه من حيث إننا كائنات عاقلة محددة القدرة، ولكن كلما حققنا قدراً من الاتساق اقتربنا من المثل الأعلى، ويستشهد أصحاب النظرية – باتساق الرياضيات البحتة والمنطقية كنماذج للاتساق وأن تبين لهم أنها لم تبلغ الاتساق الكامل، ولا تكتف نظرية الاتساق بتفسير صدق قضايا الرياضيات والمنطق، وإنما تفسر أيضاً صدق قضايا الواقع، إذا أخذنا إحدى قضايا التاريخ وقلنا وقعت " موقعة والتروا " عام 1815م، فإن صدقها يتوقف على كتب التاريخ، والوثائق والآثار، وكذلك الحال في ساحات القضاء حين يقارن القضاة شهادات الشهود في قضية ما فإنهم يقبلون الشهادات المتسقة ويرفضون الأقوال المتعارضة، بل أننا نقيس صدق القضايا التجريبية – مثل أحكام الإدراك الحسي – بمعيار الإتساق.

فالإتساق هو العلاقة بين القضايا، وليس العلاقة بين القضية وشيء آخر كما يحدث في نظرية التطابق ويكون بين القضية والواقع، والذي لا يكون من قبيل القضايا .

أما عن النظرية البراجماتية : The Pragmatic Theory  ؛ يحلل الفلاسفة البرجماتيون مفهوم " الصدق " علي أنه مرادف تماماً لمفهوم الحقيقة Reality، أو بتعبير آخر أدق علي أنه يعني التطابق التام بين الحكم والحقيقة "، ويري " تشارلز ساندرز بيرس " Charles Sanders Peirce (1839- 1914)، أن الحقيقة قابلة للتحديد وللتعبير عنها من خلال الفكر .

وتعد نظرية الصدق أو مشكلة الصدق كما يحلو للبعض أن يسميها من أهم وأعقد الموضوعات في البراجماتية، ويكاد لا يخلو كتاب من الكتب التي تتناول نظرية الصدق من الإشارة إلي نظرية الصدق البراجماتية The Pragmatic Theory of Truth . بالإضافة إلي إشارتها إلي نظريتي التطابق Correspondence والاتساق Coherence، فالواقع من وجهة نظر " وليم جيمس " William James (1842-1910)، يتألف من ثلاثة عناصر،هي الأشياء والوقائع والعلاقات الجزئية بينها، فلم يري العلاقات صناعة إنسانية لكي نفهم الأشياء في ترابطها كما رأي " التجريبيون الإنجليز" السابقون، وإنما هي عنصر في تركيب الواقع كالجزيئات تماماً، ومما هو جدير بالذكر أن العلاقات بين الأشياء عند جيمس خارجة عن هذه الأشياء، وليست جزءً من تركيب الأشياء .

وفي هذا السياق ينتقد "جيمس" نظرية العلاقات الداخلية عند المثاليين وخاصة برادلي . لكنه يضيف إلي هذا التصور للواقع تصوراً آخر هو أن الواقع لا صدق فيه ولا كذب وإنما هو موجود أخر ونحن الذين نحكم عليه، نخضع للوقع من جهة لأنه المصدر الوحيد لمعرفتنا، لكنه من جهة أخرى يخضع لنا بمعنى أنه لين مرن يقبل التشكل بما يناسب أغراضنا المختلفة في السياقات المختلفة، وبالنسبة للمطابقة يعرفها "جيمس" على نحو يتجنب صعوبات المطابقة التقليدية التي كانت ترى أن المطابقة، إما إعطاء نسخة ثانية للواقع، أو أن بين الفكرة والواقع تشابهاً في التركيب، وقد كان هذا التصور للمطابقة مثيراً للاعتراضات، فلتعريف " جيمس " للمطابقة ثلاثة جوانب : يجب أن تذهب لب الفكرة الصادقة إلي شيء محسوس في الخارج أو واقعة تكون موضوع تلك الفكرة، كما يجب أن ننتقل من الفكرة إلي موضوعها عن طريق سلسلة من خبرات جزئية محسوسة، وينتج عن ذلك إحساس بالرضاء والارتياح والاقتناع .

إذا قيل لي " يوجد مكتب في الحجرة المجاورة "، فإني اختبر صدق هذه القضية بالذهاب إلي تلك الحجرة لأرى ذلك المكتب فعلاً رؤية حسية واضحة، بحيث يمكنني وصفه بالتحديد، حينئذ تكون الفكرة صادقة. أما إذا ذهبت إلي الحجرة ولم أجد ذلك المكتب على النحو السابق وطلب مني مثلاً أن أتخيل وجوده فالقضية كاذبة، ومن الواضح أن الفكرة الصادقة تحقق لي رضاً وارتياحاً Satisfaction .

وطبقاً لمعيار الصدق في شكله البسيط والواضح نجد أن البراجماتية تحدد الصدق على النحو التالي " لو أن فكرة تعمل، وبعدها تكون صادقة، فطبقاً لذلك فإن قدرة هذه الفكرة على العمل يؤكد صدقها، وفي عبارة أخرى، لو أن فكرة ما غير هامة (غير منطقية) ولا توجد حقائق تؤيدها فإن هذه الحقيقة تكون غير ذات معنى Meaningless .

وقد أراد جيمس أن يطبق منهجه العلمي على مشكلة طبيعة الحقيقة، فذهب إلي أن ما يحدد معنى الحقيقة Truth، إنما هو ما يترتب عليها من نتائج Consequences، فالنظرية الصحيحة إن هي إلا تلك النظرية التي تقودنا بالفعل إلي النتائج العملية الفعالة .

بيد أننا نجد عند "جيمس" تعريفاً أخر للحقيقة يختلف عن التعريف السابق من بعض النواحي، إذ نراه يقول إن القضية لا تكون صحيحة (أو حقيقية) إلا إذا كان في قبولنا لها ما ينتهي بنا إلي نتائج مرضية، أعني أن صدق القضية رهن بما يترتب على التسليم بها من إرضاء لحاجات الفرد البشري سواء كانت حاجات بسيطة أم معقدة . وبينما نجد أن التعريف الأول للحقيقة لا يكاد يخرج بنا عن مجال الإدراك المباشر للموضوع، بينما نجد التعريف الثاني يكاد يكون مستقلاً تمام الاستقلال عن كل إشارة إلي الإدراك .

فالنظرية البراجماتية في الصدق هي واحدة من النظريات التي تجعل الصدق يدخل في علاقة بين القضايا والمؤمنين بها . فالصدق في النظرية البراجماتية يتضمن علاقة هامة مع المؤمنين بها، وطبقا لهذا تكون النظرية البراجماتية على علاقة مع النسبية وعلى خلاف مع نظرية التطابق في الصدق، فإخفاق النظرية البراجماتية في الصدق سوف يشجع التأكيد على أن الصدق يستلزم مثل هذه العلاقة الهامة العميقة بالنسبة للمؤمنين بها لكي يتجهوا إلي نظرية الإتساق في الصدق .

كما يشير " جيمس " إلي أن الأفكار، تغدو صادقة بقدر ما تعيننا على الوصول إلي علاقات مشبعة مع الأجزاء الأخرى بخبرتنا . " ففكرة ما تكون صادقة بقدر ما نعتقد أنها مفيدة لحياتنا، والحقيقة هي نوع من أنواع الخير وهي ليس مقولة منفصلة، والصدق يطرأ علي الفكر، فالأحداث هي التي تجعلها صادقة، ومن الصواب أن نقول مع العقليين أن فكرة صادقة، يجب أن تتفق مع الواقع، ولكن الاتفاق مع الواقع ليس معناه " نسخه " .

وبالتالي فإن الأفكار الصادقة أو الحقيقة هي الأفكار التي يمكن أن نتحقق منها، التي يمكن أن نثبت صحتها، والتي يمكن لنا تقويتها وتدعيمها، والأفكار الكاذبة هي التي لا نستطيع أن نقوم بشيء من هذا إزاءها، فالصدق على ذلك محدث للفكرة، وهذا الصدق ذاته يتولد من الأحداث، فصحة الفكرة مرهونة بحادثة أو بعمل، فامتلاكنا لأفكار صادقة يعني أننا نمتلك أدوات للعمل، ومن المقطوع به أن للمعتقدات الصادقة المتصلة بالواقع أهمية بالغة في حياة الإنسان، فنحن نعيش في عالم وقائع Realities قد تكون نافعة وقد تكون ضارة، والأفكار التي ترشدنا إلي الوقائع التي نأخذ بها هي أفكار صادقة .

أما عن نظرية الإضافة غير الضرورية : The Redundancy Theory.، فهي أخر النظريات في حلقات تطور مشكلة الصدق، وتقول باختصار أن الكلمات والعبارات (صادق) و(كاذب) . " من الصدق أن ..... " . " ومن الكذب أن ...... ". لا تصف قضايا بقدر ما توجه الانتباه إلي تأكيد ما تقول أو التسليم به أو دفع الشك في صورة منطقية موجزة هو فريجه عملاق الرياضيات والمنطق في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فقد رأي أن " ق صادقة " (ق ترمز إلي قضية هامة لا تزيد شيئاً عن مجرد قول " ق " نفرض أن شخصاً نطق بجملة وأدعى أنها تعبر عن قضية صادقة، مع أنها ليست كذلك مثل: " أرى برتقالة أمامي " . فقد أكون مخدوعاً فيما أرى، لا يتناول " فريجه " هذا النوع من القضايا التي تقرر صدقها بطريق أو بأخر، ويضرب مثلاً بقوله " بروتس قتل  قيصر " .

وقد أفاض في هذه النظرية الفيلسوف والرياضي  الإنجليزي المعاصر" فرانك بلوبتون رامزي Frank Plumpton Ramsey (1903-1930) " في مقال كتبه عام 1927، وقال فيه أن القضية (من الصدق أن قيصر مات مقتولاً لا تعني أكثر من القضية  (قيصر لم يمت مقتولاً)، ولذا فإن (صادق) و(كاذب) لا تصف القضايا .

ولهذه النظرية وجاهتها من عدة أمور:

1- كثرت نظريات الصدق وتعددت لكن كلاً منها كان موضع النقد والاعتراض، وقد يعني هذا أننا حين نبحث عن الصدق نبحث عن مشكلة لا وجود لها، كما يعني أن هناك مشكلة فعلاً، لكن النظريات السابقة لم تقدم حلاً مرضياً، وإذن فنحن في حاجة إلي نظرية جديدة.

2- قيمة صدق أية قضية (ق) هو ذاته قيمة صدق القضية (ق صادقة)، وبالمثل قيمة صدق (لا – ق) هي ذات قيمة صدق (ق كاذبة)، وقد تقوم هذه الهوية في قيمة الصدق دليلاً على هوية المعنى، مثلما نقوم (محمد أعزب) تساوي في المعنى (محمد رجل غير متزوج) .

ورغم ذلك فلا تخلو النظرية من النقد وذلك كما يلي :

- توجد شكوك منطقية حول الهوية المزعومة بين الصدق والمعنى، إذا كان لدينا قضيتان متساويتان في الصدق، فهما متكافئتان أي يمكن استبدال إحداهما بالأخرى، لكن لا يلزم أن تكون القضيتان المتكافئتان متساويتان في المعنى، لأن التكافؤ المنطقي لا علاقة له بالمعنى.

- " أول من صاغ قانون الطفو " أرشميدس "، وأول من صاغ نظرية الجاذبية الكلية هو "نيوتن" – قضيتان متكافئتان في صدقهما . لكن معناهما مختلف. ومن الواضح أنه توجد قضايا لها معنى لكنها ليست صادقة فمثلاً (الأشباح مخيفة) قضية لها معنى لكنها ليست صادقة.

- قد نقول عن قضية أنها صادقة دون أن نعرف معناها، ومثال على ذلك حين أصدر حكماً بأن " كل ما يقوله هذا الشاهد صدق " . حتى قبل أن نسمع أقواله، وذلك اعتماداً على ثقتي في صدقه .

- يمكننا أن نسأل دائماً عن الأسباب أو المبررات أو المعايير التي تدعونا إلي التسليم بقضية ما أو عدم الشك فيها أو الثقة في مضمونها .

مما سبق يتضح لنا أنه إذا كان الفلاسفة لم يقنعوا بالمعني اللغوي الدقيق للصدق، فإنهم عالجوا الصدق من جميع جوانبه وقدموا نظريات متنوعه ومتباينة كان من أبرزها نظرية الإتساق القائلة بأن الصدق يكمن في علاقة الإتساق بين الاعتقادات الصادقة . أما نظرية التطابق فلا تعول علي علاقة القضايا بعضها ببعض، وإنما علي علاقتها بالعالم، فالقضية تكون صادقة عندما تطابق الوقائع وتناظرها. أما النظرية البراجماتية فترتبط بصلات حميمة مع نظرية الإتساق والتطابق وتقرر أن الاعتقادات الصادقة هي التي تكون مثمرة وتتمتع بقيمة فورية في حدود الخبرة . أما نظرية الإضافة فتعول علي أن الصفة " صادق" إضافية لأن القول بأن من الصدق أن "ق" يكون مكافئا للقول بأن " ق"، وأخيراً نأتي هنا لنوضح في الصفحات التالية النظرية السيمانطقية (الدلالية) لدي تارسكي وفيها يؤثر المفهوم الدلالي للصدق عند تارسكي بطريقة أو باخري في سائر نظريات الصدق السائدة، وفي الواقع يعد أحد المعالم العظيمة لفلسفة القرن العشرين . ويحاول تارسكي صياغة للصدق يكون لها صدي بصورة صورية ومثمراً من الناحية النظرية، ولا يتعادل مع المفهوم التقليدي للصدق باعتباره تطابقاً مع الواقع، ويتجنب الصعوبات التي تتعلق بالكيانات والعلاقات التي كان لها وقعاً كارثياً علي العديد من النظريات السابقة . فهو يحاول تعريف الصدق بالأتصال بلغة محددة، ولذلك فمادته يستخدمها فقط من خلال دمج المنطق الرياضي بتلك اللغة التي يعرف بها الصدق .

ويتجنب تارسكي في نظريته العديد من الغايات النظرية البائدة، من خلال وجود إمكانية لافتراض أن الصدق هو القابلية للتجاوب مع الواقع . وهكذا فمفهوم تارسكي للصدق له قيمة أداتية هامة .. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم