أقلام فكرية

مفهوم الصدق عند ألفريد تارسكي (4)

محمود محمد عليفي هذا المقال نختتم حديثنا عن مفهوم الصدق عند ألفريد تارسكي بهذا السؤال: كيف يمكن أن نرى تصور تارسكي للصدق على شاكلة نظرية التطابق؟

نشير هنا إلى أن تارسكي قد بدأ بمحاولته لتعريف تصور الصدق، والتي لا يتضمن أية مشكلات (أو تناقضات) عن تصوراتنا العادية للغة والمتعلقة بالصدق .

فلقد قدم لنا تارسكي في بدايات القرن العشرين حساباًُ للصدق الذي عبر فيه عن نوعاً من الاستحسان للاهتمام اللغوي في الفلسفات المختلفة، بينما لم يعرض نظرية جوهرية في الصدق، وقد أضاف تارسكي حساباً منطقياً " لشروط التكافؤ"، والتي يجب أن تتكافئ مع نظرية الصدق . وقد أشار إلى أن أي تعريف للصدق يجب أن يكون متطابقاً مع عبارة صحيحة في اللغة (د) تكون صحيحة إذا وفقط إذا كانت (أ) حيث إن (د) إسم الجملة، (أ) هي تعبير عن الجملة، وعلى سبيل المثال، الثلج يكون أبيضاً تكون صحيحة إذا وفقط إذا كان الثلج أبيضاً .

والنظرية السيمانطيقية هي النظرية الناضجة بالقياس إلى نظرية التطابق، فهي تؤدي إلى حفظ النظرية من اللبس الذي قد يلحق بها من النظرية البدائية، ومن أجل إيضاح هذه النظرية نشير إلى أن " الجملة الألمانية (Scheeis Weiss) والذي تعني أن الثلج يكون أبيضاً تكون صادقة إذا وفقط إذا كان الثلج أبيضاً ويمكن كتابة شرط تارسكي في ثلاث نقاط .

1- العبارة يعبر عنها بواسطة الجملة الألمانية " الثلج يكون أبيضاً " .

2- إذا وفقط إذا .

3- كان الثلج أبيضاً – في العربية

ومن المهم ملاحظة أنه وفقاً لما صاغه تارسكي بالفعل، نلاحظ أن هذه النظرية سوف تنطبق على اللغة الصورية، حيث شعر تارسكي بأن اللغات الطبيعية معقدة وشاذة أيضاً . ولكن نظريته اتسعت عند دافيدسون إلى نظريات في المعنى الخاص باللغات الطبيعية والتي تتضمن معالجة الصدق بطريقة مبدئية بدلاً من التصور وقد طور تارسكي نظريته من أجل أن يعطي تعريفاً استنباطياً للصدق كالآتي :

1- فنفي (أ) يكون صحيحاً لو أن (أ) كانت صحيحة .

2- وأن أي ارتباط بين (أ) و(ب) يكون صادقاً لو أن (أ) كانت صادقة،(س) كانت صادقة .

3- وأي التقاء بين (أ، ب) يكون صادقاً إذا كانت (أ) صادقة، (س) صادقة.

4- أي عبارة عامة لكل من (ص، أ) تكون صادق، لو كان الموضوع يكافئ {(ص) أ}.

5- والعبارة الوجودية {(ص أ)} تكون صادقة إذا كان هذا الموضوع كان يتكافئ مع (ص أ).

وهذا الشرح يوضح كيف أن شروط الصدق في الجملة معقدة فالتعريف السيمانطيقي المعاصر للصدق يمكن أن يعرف الصدق في العبارات الذرية (71) والذي يصاغ على النحو التالي .

فالجملة (العبارة الذرية) {ق(ص1- ن ص)} صادقة تكون صادف نسبة إلي إشارة القيم إلي المتغيرات (ص1- ن 1)، ولقد حدد تارسكي نفسه الصدق في الجمل الذرية على نحو مختلف والتي لا تستعمل أية حدود تقنية من النظرية السيمانطيقية، فمثل (أبدي)، وذلك لأنه أراد أن يعرف هذه الحدود السيمانطيقية في حدود الصدق ولذا فإن هذا سيكون Circular عندما يستخدم تارسكي أي حد منهم في تعريفات الصدق، ورغم ذلك فإن تصور تارسكي في الصدق يلعب دوراً مهماً في المنطق الحديث وأيضاً في فلسفة اللغة المعاصرة .

فإذا أخذنا جملة مألوفة في اللغة الطبيعية تعبر عن حقيقة تجريبية مثل:

1) الثلج أبيض: وسألنا عن الشروط التي تجعل هذه القضية صادقة فإننا نقول ببساطة:

2) الجملة " الثلج أبيض ": صادقة إذا كان الثلج أبيضاً .

نلاحظ على الجملة الثانية أن " الثلج أبيض " قد وردت مرتين، مرة بين علامات تنصيص، وتعني رمزاً لغوياً مركباً، ومرة أخرى لتعني الحكم الذي يدل على ذلك الرمز اللغوي أو لنفي الواقعة التجريبية التي نعبر عنها في صورة هذا الحكم أو القضية، قالت الجملة الأولى مجموعة ألفاظ شيئاً عن العالم، وقالت الجملة الثانية حكماً بالصدق، ويرمز تارسكي للحكم أو القضية بالمتغير ق للجملة اللفظة بالمتغير س، ولذلك نقول:

3) (س) صادقة إذا كانت (ق)، ويري تارسكي أن س، ق متكافئتان منطقياً، خذ مثالين أخرين .

4) " الدم أحمر " . صادقة إذا كان الدم أحمراً.

5) " الأرض بيضاء " إذا كانت الأرض بيضاء .

6) الجملة في هذه الصحيفة مسبوقة بالرقم (6) كاذبة .

من الواضح أن الجملة (6) تشير إلي ذاتها وتقول عن ذاتها أنها كاذبة وإذن ما تقوله كاذب لكن إذا كانت كاذبة وتقول عن ذاتها إنها كاذبة فيجب أن تكون صادقة، وإذا كانت صادقة فيجب أن تكون كاذبة ولذلك نقول:

7) إذا كانت الجملة (6) صادقة فهي كاذبة .

8) وإذا كانت الجملة (6) كاذبة فهي صادقة .

ومن هاتين الجملتين يمكن استنتاج.

9) الجملة رقم (6) صادق إذا كانت كاذبة .

وفي هذا تناقض واضح . ولا يقبل المنطقي أية لغة ينشأ فيها تناقضات من هذا النوع. ولذا يرى تارسكي أنه يجب التخلي عن اللغات الطبيعية التي تنشأ عنها هذه التناقضات إذا كنا نريد صياغة نظرية في الصدق، وإن تتجه إلي لغة صناعية من أجل صياغة هذه النظرية . ويذكر سببين لوجود المفارقات في اللغات الطبيعية هما أنها تحتوي على كلمات (صادق) و(كاذب)، وإنه من الممكن إقامة جملة ذرية سليمة التركيب اللغوي لكنها عديمة المعنى، مثلما نقول، " قيصر عدواً لي " واللغة الصناعية التي يلجأ إليها تارسكي لغة منطقية بحتة .

ودالة القضية هي قضية جعلنا أحد حدودها رمزاً متغيراً، فمثلاً نقول عن القضية " اللبن أبيض" إنها قضية، بينما نقول عن(س) أبيض إنها دالة قضية . " قيس يحب لبنــى " قضيــة بينـما " س يحب ص " دالة قضية، والقضية توصف بالصدق أو الكذب. بينما لا توصف دالة القضية بالصدق أو الكذب.

فالتصور السيمانطيقي للصدق عند تارسكي له بطريقة أو بأخرى أعظم الأثر على كل نظريات الصدق اللاحقة، فهي حقاً من أعظم فلسفات القرن العشرين، وحقاً قد سدت الفراغ الموجود في النظريات الأخرى، ومن بين هذه الثغرات فهي ترغب في تعريف الصدق القائم على الدقة الصورية .

وفي كل وقت يمكننا القول (ما الذي نراه الآن ولا يعتبر صداقاً)، والذي يؤدي بنا إلي التناقض، لو أن ما نراه صادقاً " يتضح لنا لا يكون صادقاً " وإذا كان غير صادق فهو صادق"، وحقاً إن هذا لم يكن فقط في اللغة العادية، وهذه التناقضات من الممكن حدوثها فلقد رأي " كورت جودل" Kurt Gudel بطريقته الخاصة عدد من الأنسقة حول أن التناقضات من الممكن أن يكون (مسلينا) في الأنسقة الصورية، فتارسكي أراد الآن، في اللغة الصورية:- إن التعريف السيمانطيقي كالصدق على سبيل المثال يمكن تصوره بشكل كاف Adequately ووفقاً لتارسكي، فإن أي تصور يحتاج لأن يقابل بمتطلبين فهو يتطلب أن يكون صحيحاً صورياً حيث يجب علينا أولاً: أن نحدد الكلمات أو التصورات التي نرغب في استخدامها في تعريف مفهوم الصدق من أجل أن يتطابق مع هذا المفهوم، ومثال ذلك نقول " إن النظارة تكون خضــراء " . Glass Green (اسم الجملة) تكون متكافئة مع الجملة الحقيقة " النظارة تكون خضراء " فالجملة تكون صادقة إذا كانت مقبولة من جميع الموضوعات وتكون كاذبة في دالة العكس .

وهنا يمكن أن نعذو إلي سيمانطيقية تارسكي أهمية مباشرة،أكثر من نظرية الصدق، فهي تشير إلي العلاقة المتعلقة بمهام الموضوعات، وإلي المتغيرات فنقول (س ت) إلي (ص ت)، والفكرة تصبح على استعداد للتعامل مع المتغيرات، أو على الأقل المتغيرات الحرة على أنها نوع من الأسماء المؤقتة وكذلك بالنسبة للموضوعات المهمة، لذا نشير إلي { (س 1، س 2) = س (.} كإشارة إلي الموضوعية، ولكي نحدد إلي ......(ص1)، (ص2) . النسبية وتحت هنا نريد أن نعرف ما هي الشروط التي يجب أن يتصف بها القانون لكي يكون صادقاً، وهكذا فإن العلاقة الصادقة تشير إلي القاعدة.

أما اللغات الصورية فبما أنها لا تتصف بالعربية ؛ أي بعدم وجود تعبيرات في اللغة الواحدة تتحدث بها عن اللغة نفسها، فإنه لهذا السبب يمكننا أن نضع تعريفاً للصدق بالنسبة للغات الصورية، حيث لكل لغة رموزها الخاصة بها، وحيث يتم تحديد صدق لغة ما بلغة أخرى، واللغة التي اختارها تارسكي لتعريف صدقها هي لغة حساب الفئات .

ويحاول الابستمولوجيون تحديد الصدق بصورة جوهرية بالنسبة للمعتقدات، ويري تارسكي أنه من الصعوبة بمكان تحديد الصدق بالنسبة لسائر اللغات الطبيعية باعتبارها متميزة عن اللغات الصورية للمنطق والرياضيات. فليس هناك نهجاً نسقياً يحدد اللغة الطبيعية التي تضم تعبيراتها بوصفها جملاً تامة نحوياً وهي ليست كذلك .ولكن السبب المهم هو أن اللغة الطبيعية كما يعتقد تارسكي هي لغة مفارقية Paradoxical لأنها تعبر عما يطلق عليه تارسكي " اللغات الكلية " أو " المغلقة سيمانطقياً " Semantically Closed، واللغة المغلقة سيمانطقيا هي اللغة التي لديها القدرة علي وصف الخصائص السيمانطقية لعناصرها .

ويشير تارسكي إلي أننا نستخدم لغتين مختلفتين في مناقشة مشكلة تعريف الصدق بوجه خاص، وفي مناقشة أية مشكلة من المشكلات في مجال السيمانطيقا بوجه عام . أولي هذه اللغات هي اللغة التي تحدثنا عنها والتي هي موضوع بحثنا، وتعريف الصدق الذي نبحث عن تطبيقه علي جمل من هذه اللغة . والثانية هي اللغة التي تحدثنا فيها عن اللغة الأولي، وبوجه خاص مع بناء تعريف للصدق بالنسبة للغة الأولي .ونحن سوف نشير إلي اللغة الأولي " اللغة الشيئية Object Language، والثانية باعتبارها " اللغة الشارحة.

ويستطرد تارسكي: " يجب أن نلاحظ هذين اللفظين اللغة الشيئية واللغة الشارحة لهما معني متصل بالموضوع، علي سبيل المثال لماذا اهتممنا بتطبيق مفهوم الصدق علي الجمل، لا علي لغتنا الشيئية الأصلية وإنما علي لغتها الشارحة، فالأخيرة أتوماتيكياً لمناقشتنا، ولأجل أن تحدد هذه اللغة، فنحن نلجأ إلي لغة شارحة جديدة، وذلك لكي تتحدث مع لغة شارحة من مستوي أعلي . في هذا المنهج نصل إلي سلسلة ثالثة من اللغات وكلمات اللغة هي محتوي عريض يحدد من خلال تحديد الشروط المسبقة التي من خلالها نعرف الصدق، وسوف تعتبرها ملائمة مادياً. وكما تدعي فهذا التعريف يتضمن سائر المتكافئات من الشكل ((T:{ x is true if ,and only if,P (T)}. الصدق يتمثل في القول: إن س تكون صاقة إذا كانت، وإذا كانت فقط ص، فالتعريف نفسه وسائر المتكافئات التي تتضمنها صوغ في لغة شارحة . وعلي الجانب الآخر، فالرمز (ص) في الصدق ((T يقف باعتبارة جملة عشوائية من لغتنا الشيئية . وهنا نستنتج أن كل جملة ترد في اللغة الشيئية يجب أيضاً أن ترد في اللغة الشارحة، وبمعني آخر فإن اللغة الشارحة يجب أن تتضمن اللغة الشيئية باعتبارها جزء منها . والرمز (س) في (T) يتمثل في إسم الجمل التي تقف عندها الجملة (ص) .ونحن نري بناء علي ذلك أن اللغة الشارحة يجب أن تكون أكثر ثراء لتمدنا بإمكانيات إسم لكل جملة من جمل اللغة الشيئية، وبالإضافة إلي ذلك يجب أن تتضمن اللغة الشارحة بشكل واضح ألفاظاً لها خاصية منطقية عامة مثل تعبير " إذا " و" إذا كان فقط " .

واللغة الشارحة للغة Meta-Language حيث يمكن أن نجد منها اسماً مفرداً، مما يساعد على وضع تعريف لصدق لغة حساب الفئات، على هذا النحو تختفي وفقاً لتارسكي، المعضلات التي تنتج من جراء الحديث عن اللغة باللغة نفسها، وهو ما يحدث للغة الطبيعة نتيجة لصفة العمومية التي تتصف به.

ويشير تارسكي إلي أن أساس الحكم على قضية ما بالصدق هو مطابقتها أو ملاءمتها لكل ما يمكن أن ينطبق عليها من أشياء أو وقائع، وكان تارسكي كأي عالم منطقي صارم، يفصل استخدام، أصناف على أشياء أو وقائع، وهذه النظرية تضع الشروط الضرورية لصدق القضية وذلك لمطابقتها للواقع، وقد وضعت في صياغة منطقية بحتة، وقد أنجذب إليها كثير من الفلاسفة والمناطقة المعاصرين، خاصة أولئك الذين كانوا من قبل متحمسين لنظرية الإتساق مثل " كارناب " ومدرسته، ورغم ذلك يقدم بعض النقاد اعتراضات عليها نذكر منها:

1- أعرف أن الثلج مثلاً محقق الدالة " س أبيض " ما لم نكن نعرف من قبل أن الجملة أو القضية " الثلج أبيض صادقة " وكيف نعرف أن الدم يحقق الدالة " س أبيض " ما لم نكن نعرف من قبل أن القضية " الدم أبيض " كاذبة . وبالتالي لا نستطيع التعرف على الجزيئات التي تحقق حالات القضايا دون معرفة قيمة صدق القضايا التي تعطي لتلك الدالات قيمة، ولذا فإن من الوقوع في الدور أن تفسر الصدق في إطار دوال القضايا وإعطاء قيم تجريبية للمتغيرات .

2- رأي تارسكي أن اللغات الطبيعية تحوي متناقضات مع أنها جملاً سليمة التركيب، ولذلك فلا سبيل لنا في نظرة – لإقامة نظرية عن الصدق إلا في لغة أخرى شارحة تشرح الجمل في تلك اللغات، واللغة الأخرى الشارحة علي اللغة الصناعية التي قوامها رموز ودوال وقواعد المنطق. ولكن لن تكون هذه اللغة الجديدة ملائمة لتوضيح صدق أو كذب قضايانا في لغتنا الطبيعية .

وعلي الرغم من اتفاق "رسل" وتارسكي حول عدم اتساق اللغة الطبيعية، فإنهما يختلفان في نظرتهما إلي مفهوم التراتبية، فإذا كان " رسل " يتبنى فكرة التراتب حسب الأنماط، فإن " تارسكي يدافع عن موقف يرجع أصل التناقض إلي الجمع بين مستويين لغويين مختلفين، ويستشهد على ذلك " بمفارقة الكذاب " التي تخلط بين اللغة الشيئية ولغتها الشارحة، ولهذا فمن المستحيل تقديم حلول لهذا النوع من القضايا دون إقامة تراتب لغوي بشكل يجعل تصديق أو تكذيب قضية ما من مستوى أعلى من القضية المعمول بها.

كما أن تارسكي يشير إلي أهمية اللغة حيث يرى ضرورة أن تتمتع برغبة في استخدام اللغة للحصول على الوضع اليقين للنسق الرياضي والأنسقة الرياضية، فيجب أن نصنع مقابلة بين ثوابت اللغة والموضوعات الموجودة في الأنسقة الرياضية حيث إن أي تأكيد في اللغة وفقاً لتارسكي يعتبر صادقاً لو أن هذا قد تطابق مع قضايا النسق في الواقع .

فهو يشير إلي أننا في حاجة إلي تفسير كافي لموضوع اللغة داخل اللغة الشارحة من أجل تقديم نظرية مناسبة للصدق المتعلق بموضوع اللغة، وهذا يعني أن التفسير المتكافئ يعني توظيف اللغة لأجل تقديم نظريات اللغة ولكنها لا توظيف نظريات الصدق نفسها .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

 

في المثقف اليوم