أقلام فكرية

وليم هيوول ومكانته في فلسفة العلم في القرن التاسع عشر (1)

محمود محمد عليهناك رواد تنحسر عنهم أضواء الشهرة في تاريخ فلسفة العلم الحديث بسرعة لافتة للنظر، مع أن هذا التاريخ يؤكد عند استنطاقه أنهم أسهموا قدر استطاعتهم في الارتقاء بالمنهج العلمي، وعملوا قدر طاقتهم علي أن ينقلوا ما عرفوه إلي بني وطنهم، وعلي أن يبدعوا في أكثر من مجال مثل أقرانهم الأكثر شهرة الذين كان عليهم الإسهام في كل مجال من مجالات العلوم المختلفة، استجابة إلي تحديات التخلف في مجتمعهم ورغبة في الوقت نفسه في الارتقاء بهذا المجتمع .

ويعد " وليم هيوول " William Whewell (1794-1866) واحداً من هؤلاء الرواد الذين انحسرت عنهم أضواء الشهرة في تاريخ فلسفة العلم الحديث ؛ حيث أنه قلما يذكر اسمه في الكتابات التي تتناول تاريخ العلم وفلسفته، مع العلم بأن هذا الرجل كان واحداً من أهم وأشهر فلاسفة العلم في القرن التاسع عشر الذين اهتموا بنظرية البدء بالفرض، وهي نظرية منهجية قد فرضتها طبيعة العلم والابستمولوجيا العلمية بعد ذلك في القرن العشرين، كما كان أحد الذين اهتموا بمشكلة المعرفة أكثر من مشكلة الوجود، فتناول بالنقد كل العلوم القائمة، وناقشوا أسسها ومبادئها، وأعادوا النظر فيها من جديد من خلال المعايير التي حاول كل مذهب فلسفي من خلالها أن يميز بين العلم واللاعلم من خلال التحليل والضبط المنطقي في ضوء الحاجات الجديدة للعلم .

وكان أيضاً عالماً وعضواً في الجمعية الملكية للعلوم، وبفضله وضعت الجمعية مصطلح  " عالم " – Scientist  علي كل من يعمل بالعلم الطبيعي. درس علم المعادن، وله أعمال في الفلك والفيزياء العامة والميكانيكا، قيل عنها إنها أساسا كتابات تعليمية، ولكنه ساعد " فرادي "- faraday في وضع عدد من المصطلحات المهمة في مجال الصلة بين الكهرباء والتحاليل    الكيمائية ؛ مثل: القطب الموجب (Anode)، القطب السالب (Cathode)، والأيون (Ion) .

وهو أيضا مؤرخ للعلم في عصره الذي لم يهتم بتاريخ العلم إلا قليلا وتركه للمحاولات الفردية . أصدر هيوول في العام 1837 " تاريخ العلوم الاستقرائية منذ البداية حتى العصر الراهن ":،   History of The Inductive Sciences From The Earliest to The Present Time  في ثلاثة مجلدات،في هذا الكتاب يؤكد هيوول أن تقدم العلم واطراده مسيرته يعتمد في الأساس علي قدرة رجال الفكر وعباقرة العلم علي الإتيان بتصورات وخلق الفكر وعباقرة العلم علي الإتيان بتصورات جديدة وخلق أفكار واضحة ليعملوا بعد ذلك علي تطبيقها في شتي مناحي الحياة العلمية . وكان هيوول يري أنه لما كانت مسيرة العلم تجسد حلقات أو أزمنة يحيا فيها العلم وينتعش من بعد جمود، فإن العلم يزدهر بطبيعة الحال خلال فترات أطلق عليها اسم " الفترات الاستقرائية " . أما فترات الجمود فإنها هي التي تفصل بين فترتين استقرائيتين علي امتداد الزمن . ولذا صارت ظاهرة ازدهار العلم فيهما يرتفع شأنه حينا، ثم ما يلبث أن يتراجع وتخبوا جذوته حينا آخر وهكذا . ولم يتوانى هيوول عن طرح أمثله لتصوراته، فراح يذكر أن أول فترة استقرائية هامة قد حدثت في عهد اليونان القدامى، ثم أعقبتها بعد ذلك فترة جمود تعرف بالعصور الوسطي . وعلي الرغم مما يبديه التصور العادي من تأييد لوجهة نظر هذا الرجل، إلا أن المشكلة تظل قائمة دونما حل أكيد . إذ لم يذهب هيوول علي نحو مقنع تماما: لماذا يزدهر العلم في الفترة أو ينحسر أثره في تلك.

ثم أصدر هيوول عام 1840 كتابا آخر بعنوان " فلسفة العلوم الاستقرائية المؤسسة علي تاريخها ": Philosophy of The Inductive Sciences Founded Upon Their History. وفي مواجهة النزعة الاستقرائية التجريبية المتطرفة اللاتاريخية، يؤكد هذا الكتاب أن فلسفة العلم لا تدرك المنهج العلمي حق الإدراك إلا من خلال فاعليته عبر تاريخ العلم، لذلك يتلاحم في عنوان الكتاب الطرفان: تاريخ العلوم الاستقرائية وفلسفة العلوم الاستقرائية، وصدرت لهذا الكتاب طبعة ثالثة مزيدة  وموسعة تحت ثلاثة عناوين مستقلة " الأول " تاريخ الأفكار العلمية " History of Scientific Ideas  في مجلدين سنة 1858، والثاني في العام نفسه بعنوان " إحياء الأورجانون الجديد " Novum Organon Renovatum، والثالث " في فلسفة الكشف " on The Philosophy of Discovery سنة  1860 .

وبهذا تتجسد محاور المقالات علي النحو التالي:

أولا ً: نقد وليم  هيوول للنزعة الاستقرائية عند فرنسيس بيكون  وجون ستيورات مل.

ثانيا: الفرض كمرحلة أولي.

ثالثا: طرق التحقق من الفرض العلمي.

رابعا: جون ستيوارت مل يناظر هيوول.

أولا ً: نقد وليم  هيوول للنزعة الاستقرائية عند فرنسيس بيكون  وجون ستيورات مل

كان الاهتمام الرئيسي لأصحاب الاتجاه الاستقرائي ينصب حول الطريق المؤدي إلي الكشف عن القوانين، واعتقدوا أنه من الممكن رسم منهج لتحقيق ذلك، فنجد أن كل من بيكون ومل، قد حاولا تشييد منطق للكشف موازيا لمنطق البرهان، وقاما بصياغة المناهج التي من وجهة نظرهما، تمكن من اكتشاف قوانين الظواهر كنتيجة لتحليل وقائع الملاحظة والتجربة، كما وضع كل منهما منطق منهجيا علي غرار المنطق الأرسطي من أجل التوصيل إلي الحقائق   الكونية، ومن ثم ادعت بأن قواعد الاستقراء تفسر العملية المنطقية للكشف عن القوانين .

ولذلك نشأ تصور للاستقراء باعتباره وسائل منطقية لصياغة العمليات الخاصة بتكوين واكتشاف المعرفة العامة للارتباطات القائمة بين الظواهر علي أساس معرفة الوقائع الجزئية . وبصفة عامة رد الاستقراء إلي ما يسمي بالمنهج الاستقرائي للبحث والذي تمثل في الخطوات التالية:

الخطوة الأولي: الملاحظة التجريبية . فلابد أن العالم بملاحظة أمثلة عدة للظاهرة موضوع الدراسة، ملاحظة دقيقة مقصودة منتقاة وهادفة، مرتبة ومتواترة، تتصف بالنزاهة والموضوعية والدقة التي توجب استخدام الأجهزة المعملية إلي أقصي حد ممكن للتكميم الدقيق . وما التجربة المعملية إلا اصطناع الظروف المطلوب ملاحظتها .

الخطوة الثانية: هي التعميم الاستقرائي للوقائع التي لوحظت، فإذا اشتعل الخشب كلما تعرض للهب في سائر الوقائع التي لوحظت، أمكن الخروج بالتعميم الاستقرائي: الخشب قابل للاشتعال.

الخطوة الثالثة: هي افتراض فرض يعلل أو يفسر هذا التعميم، كافتراض أن الخشب قابل للاشتعال لأنه يتحد بالأكسجين .

الخطوة الرابعة: هي التحقق من صحة الفرض عن طريق اختباره تجريبيا . ويكون قبول الفرض أو تعديله، أو رفضه والبحث عن فرض آخر إذا دحض كل هذا وفقا لنتائج محكمة التجريب، تنفيذ حكمها يعني الخطوة الأخيرة للمنهج، وهي بلوغ معرفة جديدة والإضافة إلي بنيان العلم .

وتجدر الإشارة أن " بيكون " أهمل الخطوة الثالثة (وضع الفروض)، بينما اعتبرها " مل " مرحلة أساسية . وبذلك يكون مل هو الممثل الحقيقي للمنهج الاستقرائي بخطواته الأربعة (وهي ملاحظة ثم تعميم، افتراض فرض، التحقق منه، البرهان أ، الدحض، وبالتالي المعرفة).

أكد بيكون أنه لكي يتقدم العلم لابد من تناول الأشياء ذاتها بدلا من تناول المفاهيم . فلقد كان مهتما بالبحث في الحقائق الغفل التي لم يتوصل إليها العقل الإنساني بعد، وأوضح بيكون أن الاستقراء الجيد الذي يفيد في الكشف والبرهان في مجال الفنون والعلوم هو الذي ينبغي أن يفصل طبيعة الأشياء بالفرض أو الاستبعاد الدقيق، وما يعنيه بيكون بهذا المنهج يتمثل في    أمرين :

الأول: إذا ظهرت حالة واحدة سالبة تخالف الملاحظات التي تم التوصل إليها فلابد من رفض القانون الذي تأسس بناء علي الملاحظات الأولي ولأنه مهما كان عدد الأمثلة التي تؤيد القانون، فإن ظهور حالة سالبة واحدة كافية لرفضه تماما .

أما الأمر الثاني، فيتمثل في أن إثبات قانون ما يكون بإثبات أن كل القوانين والنظريات المعارضة له خاطئة . وقد عرض بيكون منهجه في مؤلفه المرسوم " الأورجانون الجديد " Novum Organum، وعنوانه الفرعي " إرشادات في تفسير الطبيعة " Directions Concerning Interpretaion of Nature، سنة 1620 . وما زال يمثل هذا المؤلف لما يعتقد كثير من الناس أنه منهج العلم .

نبه بيكون في هذا الكتاب علي ضرورة التخلي عن الآراء السابقة وضرورة البدء من الملاحظات . ولقد صاغ منهجه في جزأين: جزء سلبي بعنوان " تفسير الطبيعة وقدرة الإنسان " وجزء إيجابي بعنوان " تفسير الطبيعة وسيادة الإنسان " . ويعتمد المنهج الإيجابي عند بيكون أن كل ما في العالم يمكن أن يرد إلي عدد محدود من الطبائع البسيطة التي تتألف الموجودات من اجتماعها وتفرقها . وكان يري أن الموضوع الأساسي للبحث في العلم يجب أن يدور حول معرفة تلك الطبائع البسيطة واكتشاف قوانينها وأسبابها . ويري بيكون أنه يمكن الكشف عن تلك الطبائع البسيطة بواسطة استخدام القوائم الثلاثة " .

1 – قائمة الحضور وفيها يقوم بتسجيل الحالات الموجبة التي توجد فيها الظاهرة

2 – قائمة الغياب، وتسجل فيها الحالات التي تغيب فيها    الظاهرة .

3 – قائمة درجة المقارنة، وفيها نقوم بتسجيل الحالات التي تحضر فيها الظاهرة، عن طريق الإشارة إلي تغيرها أو اختلافها مع درجة الحرارة .

ومن جهة أخري، فلقد اعتقد مل هو الآخر أنه بالإمكان صياغة قواعد آلية الكشف العلمي، وعرف الاستقراء بأنه " عملية كشف وبرهنة القضايا العامة . فالعملية غير المباشرة لتأكيد الوقائع الفردية هي عملية استقرائية مثلها مثل تلك العملية التي نصل بواسطتها إلي الحقائق " .

واعتبر جون مل أن طرائقه هي طرائق اكتشاف وبرهان في نفس الوقت: " الطرائق الأربعة هي طرائق اكتشاف، ولكن حتى إذا لم تكن طرائق اكتشاف، فإنها الطرائق الوحيدة للبرهان " ؛ وعلي الرغم من أن مل يتحدث عن أربع طرائق إلا أنه خمسة وهي: طريقة الاتفاق، طريقة الاختلاف، الطريقة المشتركة للاتفاق والاختلاف، طريقة البواقي، طريقة التلازم في التغيير . وبعد أن شرحها ظل مصمما علي أنها أربعة، واختلف الباحثون أي الطرق هي الزائدة وتمسك كل فريق بواحدة منها . ولكن يمكن ملاحظة أن طريقتي البواقي والتلازم في التغيير يعتمدان علي الطرق الثلاثة الأولى، وأن الطريقة المشتركة للاتفاق والاختلاف مجرد ربط الطريقتين الأولى والثانية معا . وأن طريقة الاختلاف نفى لطريقة الاتفاق، فلا ينبغي إلا الطريقة الأولي وهي معروفة منذ أن دعي بيكون إلي التجريب .

وجملة القول أن الاستقرائية التقليدية اعتقدت أن الاستقراء هو عملية الكشف عن القوانين، كما أن كل عملية للتوصل إلي معارف عامة بخصوص قوانين العلم إن هي إلا عملية استقرائية .

كما افترض الاستقرائيون أن المنهج العلمي يبدأ بإبعاد كل التصورات والفروض المسبقة عن الطبيعة وكانت المقولة الرئيسية لهذا الاتجاه " لا تفكر " معناه find out ويبدو أن هذه المقولة ناتجة عن توجهات بيكون بأن الأفكار المتصورة مسبقا قد تؤدي إلي الانحياز وعدم الموضوعية، ومن ثم فإنه من الضرورة أن تكون الأولية لجمع الوقائع، ولكن في الحقيقة أن هذه البداية ستعرض البحث العلمي لأكبر مشكلة، وهي مشكلة تحديد الوقائع التي نبدأ منها .

كما أن اعتبار منطق الاستقراء هو منطق الكشف عن المعرفة العامة علي أساس معرفة الوقائع الجزئية أدي إلي خلق وهم مؤداه أن مناهج البحث الاستقرائي الخاصة بكل من بيكون ومل كافية لتفسير العملية المنطقية في اكتشاف القوانين العلمية، وأدي ذلك إلي اعتقاد مضلل بأن الإنسان يكون عبقريا إذا ما اتبع فقط قواعد الكشف المتمثلة في تلك المناهج .

أما عن موقف هيوول من الاتجاه الاستقرائي، فقد كان من أشد المعجبين بفرنسيس بيكون، خاصة أنه كان هيوول ينظر إليه بوصفه أحد المفكرين الذين دعوا إلي تطبيق العلم من أجل زيادة مقدرة الإنسان المعنوية والمادية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى بوصفه رائداً من رواد النهضة العلمية الحديثة بما لها من مميزات تخلف بها عن العصر القديم والعصر الوسيط اختلافاً أساسياً .

وكان هيوول قد عقد العزم علي أن يكون عنوان الجزء الثاني من كتابه فلسفة العلوم الاستقرائية هو إحياء الأرجانون الجديد وهو مؤلف من جزأين: جزء نظري بعنوان حول بناء العلم of the construction of science، وجزء تطبيقي بعنوان حول المناهج المستخدمة في تشكيل العلم of method in the formation of science . وأسلوب الكتاب شيق بليغ حيث يتضمن تشبيهات رائعة وشيقة . وقد ألف هيوول الكتاب علي صورة فقرات منفصلة أو جمل قصيرة لا يربط بينها أي منهج دون أن يدعوا أو يزعم أنها تشتمل علي علم كامل، وهي نفس الطريقة التي كان قد كتب بها بيكون كتابه الأرجانون الجديد .

وإذا نظرنا إلي خطة إحياء كتاب الأرجانون الجديد نجد أن الكتاب ينقسم إلي فقرات موزعة علي بابين وبينها كما يأتي:

الباب الأول: في الفقرات من 1: 3 يبحث هيوول موضوع بناء العلم، فيبين أن العمليان اللتان من خلالهما يبني العلم هما تفسير المفاهيم وربط الوقائع .

- من 4: 10 يبين هيوول أن المفاهيم تمثل جزء ضروري لكل استقراء وبدون المفهوم ليس بإمكاننا معرفة الأسباب والوصول للمعرفة الموضوعية، لا يقلل من تدخل كل العوامل الذاتية .

- من 11: 22 يتحدث هيوول عن ربط الوقائع، وأن هذا الربط يكون من خلال فرض .

- من 23: 29 يوضح هيوول كيفية ربط منطق الاستقراء ومنطق الاستنباط علي أساس أن كل منهما يكمل الآخر .

- في الفقرة 24 يتحدث هيوول عن قوانين الظاهرة والعلل .

- من 25: 26 يشرح هيوول موضوع العلاقة بين العلم والفن .

في الفقرة 27 يعرض هيوول لتصنيف العلوم .

الباب الثاني: إذا كان الباب الأول من إحياء الأرجانون الجديد يمثل الجانب النظري للمنهج العلمي في معظم أجزاءه، فإن الباب الثاني تطبيقي، يطبق فيه هيوول نظرياته الجديدة في العلم والمناهج الثلاث المشهورة التي تشكل البحث العلمي لديه وهي مناهج الملاحظة ومناهج إحراز الأفكار الواضحة ومناهج الاستقراء .

وفي مناهج الاستقراء يقدم هيوول رؤية جديدة تختلف عما ذهب إليه كل من بيكون ومل، وهذه الرؤية تقوم علي التحليل المادي للوقائع وقياس الظاهرة، وتفسير التصورات، واستقراء قوانين الظاهرة واستقراء قوانين العلل، وتطبيق الكشوف الاستقرائية، وذلك من ثلاث خطوات هي اختبار الفكرة، وتركيب المفاهيم، وتحديد المقادير .

ولا شك أن من الأسئلة الهامة التي ينبغي الإجابة عنها في صدد الكلام عن كتاب إحياء الأرجانون الجديد، السؤال عن السبب الذي دفع هيوول عن إحياء أرجانون بيكون ! .

اعتقد أنه ربما يكون هيوول قد نظر إلي كتاب بيكون علي أنه ليس كتابا مستقلا بالمعني الصحيح وإنما هو جزء واحد من ستة أجزاء كان بيكون يعتزم تأليفه تحت عنوان شامل هو الإحياء العظيم . وبهذا يكون قد اعتبر أن الأرجانون الجديد ليس كتابا مستقلا وإنما هو جزء من كتاب، أو علي الأصح جزء من خطة عامة لإصلاح العلم وللنهوض بحياة الإنسان .

ومن الواجب دائما أن ينظر إليه داخل سياقه الطبيعي لا أن يأخذ علي أنه بحث منفصل يمثل أهم كتابات بيكون . وقد تضمن القسم الثاني من الأرجانون الجديد خطة فرعية لهذا الجزء، لم يستطع بيكون أن يتمها بدورها . وهكذا فإن الأرجانون الجديد جزء من خطة شاملة لم تكتمل منها إلا جزء بسيط وذلك بشهادة بعض الباحثين .

وبالتالي فإن الأرجانون الجديدة قد ظل كتابا مبتورا لم يحقق إلا جزء ضئيلاً من برنامجه، مثلما أن هذا البرنامج بدوره جزء من كل أكبر لم يكتمل . والإضافات الجديدة التي أسهم بها بيكون في نظرية الاستقراء لا تكفي علي أهميتها، لكي تجعل منه فيلسوفا من فلاسفة الصف الأول، وذلك لأن موضوع الاستقراء بأسره غامض، يصعب تحديد قيمته هو ذاته بالنسبة إلي تقدم العلم، كما يصعب إدراجه ضمن النظريات الفلسفية  المعروفة .

وربما يكون ذلك هو السبب الذي دعا هيوول إلي تأليف كتاب إحياء الأرجانون الجديد لكي يعالج الأمور المنهجية التي عجز بيكون عن معالجتها وبالذات إهمال بيكون لقضية الفرض العلمي فمن المعروف أن الهدف الذي كان يسعى إليه بيكون من منهجه كما يري بعض الباحثين وخاصة الجانب السلبي منه، أن يبدأ العلم الصحيح من الملاحظات .

فالعالم الحق بالنسبة لبيكون هو النموذج الملاحظ الموضوعي الذي يخلص الناس من أوهام وأساطير الماضي، وهذا هو موضع النقد لبيكون، لأن ما يؤخذ عليه هو أنه بدأ بملاحظات بدون فروض ويستلزم هذا المطلب للملاحظة غير المسبوقة بافتراض لاختيار العلل الصحيحة للأشياء، أن يلاحظ العالم كل شئ في محيط الحالات الإيجابية .

حقيقة أنه ليس من السهولة للعالم أن نقول له أبدا بالملاحظة وتجميع الوقائع ذات الصلة بالبحث لأن الانتباه للوقائع غير ذات الصلة ليس مجديا . إلا أن الوقائع ذات الصلة لا تكون منفصلة عن بقية الوقائع الأخرى كما أنها لا كشف طواعية عن سماتها المميزة لها .

إذا لابد وأن يكون الأخذ بالاعتبار لوقائع بعينها ذات الصلة بالبحث معتمدا علي أفكارنا، وبدون هذه الأفكار المرشدة أو الفروض لا يكون هناك ما يمكن أن يلاحظه العالم . فمما لا معني له القول أنه يجب البدء بجمع الوقائع كلها ذات الصلة بالمسألة المراد بحثها . وقد يكون من المعقول جمع أنواع مختلفة من البيانات مما لا تقيده مسألة البحث ولكن بالاستناد إلي فرض ما . فجمع الوقائع يكون بالاستناد إلي فرض بعينه، وليس بالاستناد إلي معضلة معينة . ومن ثم فإن جمع الوقائع من غير ما توجيه أو فرض سابق خاص بمشكلة البحث، إنما هو يكون جوهريا  خطأ . ذلك أن الفروض تحدد نوع البيانات التي يجب جمعها .

ولذلك فإن أهم أوجه القصور عند بيكون أنه بدأ بملاحظات بدون فروض، ورغم ذلك فإنه عند إعداد الحالات طبقا لقوائم بيكون، فإننا سنضيف الحوادث المراد بحثها تحت تصورات بعينها حتى يمكن أن نري الحوادث المتشابهة أو غير المتشابهة .

ولكي يتم ذلك لابد من الفروض المسبقة والتي علي أساسها تلتقط التماثلات والاختلافات الهامة أو ذات الصلة بموضوع البحث، ونهما بقية التماثلات الأخرى . فبدون افتراضات لا تكون هناك قوائم، كما أنه لا يمكن أن ينفذ منهج بيكون الإيجابي، ومن ثم يجب أن نقوم بتحليل الوقائع وتصنيفها علي أساس الفروض، لأنه من غير استناد إلي شئ من هذه الفروض، فإنه لن يكون التحليل والتصنيف ذا فائدة تذكر .

ويؤكد هيوول مثلا أن القوائم الفلكية التي قدمها " تيكوبراهي " لم توضح في ذاته قوانين كبلر (1571 – 1630)، بل عكف كبلر علي دراسة نتائج براهي المسجلة عن حركات الكواكب وخاصة كوكب المريخ . وبعد سنوات طويلة من الأفكار المتأملة استطاع كبلر أن يقدم الصياغة الرياضية والقوانين التي تعبر عن حركة الكوكب .

ويوضح ذلك أن الملاحظة لم تكن الخطوة الأولية وإنما فحص الأفكار المقصودة مسبقا بواسطة مقاسة أو محددة بدقة هي الأساس . فبدون الأفكار الجيدة لم يكن ممكنا للباحثين البدء لأنه لن يكون هناك ما يمكن تحقيقه .

وخلاصة القول، فإن كتاب: إحياء الأرجانون الجديد " جاء استكمالا لأرجانون بيكون الذي لم يشر في متن منهجه لخطوة الفرض العلمي باعتبارها من مراحل المنهج العلمي الأساسية . وقد فسر هيوول موقف بيكون هذا من الفرض بأنه كان يعتقد أن الفروض تفضي إلي أغاليط، وهذا مما جعله يهتم بالملاحظة والتجربة دون الفروض .

وبالتالي فإن بيكون لم يدرك أهمية أن تكون الملاحظات أو التجارب موجهة بالفرض العلمي، كما أن إنكاره للفرض، إنما نتج من حذره الشديد في قبول آراء لم تمحصها التجربة، رغم أنه استخدم الفرض العلمي دون أن يدري، وبالتالي وضع هيوول " إحياء الأرجانون الجديد "، إحياء لأفكار بيكون، وصاغ هيوول الأفكار التي توصل إليها في صورة فقرات علي غرار ما فعل بيكون .

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة، يؤكد عليها هيوول، وهي أن أصحاب النزعة الاستقرائية، لم يفطنوا لدور التصورات الرياضية والاستدلال الرياضي كأدوات جيدة يمكن للمنهج الاستقرائي أن يتزود بها، وهنا نجد هيوول يلقي باللائمة علي جون ستيوارت مل وليس بيكون، فهيوول يري أن بيكون لم يكن في موقف يسمح له بوضع نظرية في المناهج الاستقرائية للفيزياء الرياضية، لأن الفيزياء الرياضية كانت لا تزال في مهدها ؛ حيث أنه لم يتضح إمكان استخدام المناهج الاستنباطية مقترنة بالاستدلالات الاستقرائية إلا بعد ظهور نظرية الجاذبية عند    نيوتن .

وعلي ذلك فليس بيكون هو الذي ينبغي أن يلام علي دراسته للمنهج من خلال أنموذج مفرط في البساطة يغفل دور الرياضيات في الفيزياء، وإنما الواجب أن يوجه هذا اللوم إلي جون ستيوارت مل الذي وضع منطقا استقرائيا لا يكاد يرد فيه ذكر المنهج الرياضي، وكان في أساسه صياغة جديدة لأفكار بيكون .

ومن هذا المنطلق شرع هيوول في كتابه " إحياء الأرجانون الجديد " ليؤكد أن دراسة تاريخ العلم تكشف عن عملية استقرائية لا تماثل البتة حجة تعميم الملاحظات المستقرأة، الذي اعتمدته استقرائية مل، بل ثمة ربط للوقائع التجريبية من خلال مفهوم عبقري . وهنا نظر هيوول إلي الخطوة الغامضة التي ننتقل بها من ملاحظة الوقائع الجزئية بعضها ببعض، وهذه الخطوة معتمدة علي أفكار صاغها الفهم . وهذا يعني أنه من أجل وضع قانون علمي أو نظرية علمية لا يكفي مجرد جمع الوقائع، وإنما الضروري هو الربط الحقيقي للوقائع عن طريق مفهوم يكون صحيحا ملائما، وفي هذا يقول هيوول: " الاستقراء هو مصطلح ينطبق علي وصف عملية الربط الصادق للوقائع من خلال تصور دقيق وملائم".

والواقع أن هيوول هنا وفي مواضع أخرى من كتابه " إحياء الأرجانون الجديد " ؛ إنما يصف منهج الاستنباط الذي يبدأ من فرض نظري فتراه يقول مثلا " أن النجاح فيما يبدو يتحقق بوضعنا لعدة فروض نتحسس بها المواقف لنختار منها ما هو صحيح " .

وهذا التأكيد علي قيمة الفرض في العلم هو الإضافة الباقية التي أضافها هيوول، ولما كانت الوقائع المراد شرحها يمكن عندئذ أن نستنبط من الفرض، فإن الاستقراء والاستنباط ليسا نوعين مختلفين من الاستدلال كما رأي جون ستيوارت مل ؛ بل إن كل منهما هو الآخر علي نحو معكوس " ؛ " فالاستنباط يبرر بالحساب ما قد حدسه العقل حدسا موفقا".

وعلي هذا فإن الاختلاف بين " هيوول "و "مل " يتمثل في أن هيوول كان مهتما بمنطق الاكتشاف في العلم، ولا شك أنه كان علي الصواب فيما يتعلق بذلك، بينما كان مل معنيا أساسا بمنطق الاستقراء من حيث أنه طريقة برهان أو عملية تحليل تتدرج مني مقدمات جزئية تنتهي عادة إلي نتيجة عامة، وهذا في نظر هيوول خطأ ذلك أن مل لم يميز بين عملية الحصول علي عبارات هامة من الوقائع وعملية تأييد أو برهنة هذه العبارات .

فطبقا لتعريف ميل يكون الاستقراء عملية كشف وبرهنة الجمل العامة للعلم . فلقد تناول عملية الكشف والبرهان باعتبارهما وجهين متساويين في الأهمية لنفس العملية  الاستقرائية . ولكن الممارسة العملية أوضحت الاختلاف بين هاتين العمليتين . ولقد ظهر هذا الفارق بين هذين الوجهين للبحث العلمي فالعلماء وثبت أن عملية اكتشاف الجمل العامة للعلم لا يمكن أن يخضع لمشروع ثابت يكون جزء من منطق اكتشاف .

فالتفكير الفعال يتطلب إطلاق العنان للفكر والخيال . الالتزام بقواعد جامدة من شأنه أن يعوق التفكير . إن أكثر الأفكار  خصوبة غالبا ما تكون تلك الأفكار التي لم تستطع القواعد أن تحكمها . وبصفة عامة لا يوجد منهج محدد للكشف عن حقيقة جديدة . فالكشف عما هو غير معروف إلي الآن يتضمن وثبة في الظلام .

وفي أواخر حياته انتاب هيوول شعور حاد بأن الاستقراء القائم علي التعميم لا يكفي . لم يكن عصره يسمح بإسقاط الاستقراء، فأكتفي هيوول بأن الاستقراء والاستنباط يصعدان ويهبطان الدرج نفسه، وعلي أساس المفهوم العقلي العبقري أو النقطة الغامضة، عمل هيوول علي تطوير المنهج التجريبي ليتخذ إلي حد ما المنهج الفرضي الاستنباطي الذي يعني إبداع فروض علمية ثم اختيارها تجريبياً، والحكم عليها والاختيار بينها وفقا لنتائج التجريب .

ولم تعرف قيمة هذه الدعوة إلا في النصف الثاني من القرن الثاني العشرين، حين تبلور صورة المنهج التجريبي بوصفه اختياراً للفروض وليس البتة تعميماً لوقائع مستقرأة، وأصبحت الأطراف المعنية تتفق علي أن المنهج التجريبي هو المنهج الفرضي الاستنباطي .

وفي هذا نجد هيوول بشهادة بعض الباحثين سبق روح  عصره، خاصة وأنه أدرك بجلاء أن المسألة أعمق من التعميم الاستقرائي، وأن المعرفة العلمية ليست محصلة التجريب، بل محصلة تفاعل العقل مع معطيات الحواس . وبينما انشغل أصحاب النزعة الاستقرائية بالوقائع الجزئية الملاحظة، انشغل هيوول بإبداع الفرض العلمي وبالنظرية ودور العالم وإمكاناته العقلية، مؤكدا خطأهم في إهمال الفرض والتعويل علي التعميم .

إلا أن آراء هيوول لم تسلم من نقد الاستقرائيين له، فقد صب جون ستيورات مل جام نقده علي هيوول واعتبر فكرة الفرض عنده تأثرا منه بكانط ونزوعا نحو المثالية الألمانية، وقد كانت المثالية الألمانية في زمن هيوول مضطهدة في إنجلترا، فتراجعت نظرية هيوول الأكثر نفاداً واستبصاراً التي تقرر دور العقل الإنساني المحوري في الإنجاز العلمي، مثلما تراجعت رؤيته لفلسفة العلم المسلحة بتاريخه . وساد الاتجاه المقابل لأصحاب النزعة الاستقرائية التبريرية اللاتاريخية والذي جسده " جون ستيورات مل " في ذلك العصر .. وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم