أقلام فكرية

وليم هيوول ومكانته في فلسفة العلم في القرن التاسع عشر (2)

محمود محمد عليفي هذا المقال نتحدث عن  الفرض كمرحلة يمكن القول بإن الثورة العلمية التي أحدثها "نيوتن" قبل عصر هيوول في مجال الرياضيات والبصريات وما أستتبعها من نتائج عملية في مجال الرياضيات التطبيقية، وعلي وجه الدقة في الميكانيكا والفيزياء العملية، أفضت إلي استخدام التجريب بصورة تكاد تكون شبه دقيقة إلي حد ما في مجالات العلم المختلفة. ومع ازدياد التجريب أصبحت النتائج التي أمكن الحصول عليها من التجارب بمثابة محصول نظري جديد يسمح لنا بتنبؤات وتجارب أخري، وعلي هذا الأساس نتجه إلي مزيد من التجريب إذا ما أيدت هذه التنبؤات مشاهدات ووقائع جديدة تتفق مع المعطيات النظرية . أي أنه بصورة أو بأخرى يمكن لنا القول بأن حصيلة البحث في الاتجاه الاستقرائي ازدادت بصورة ملحوظة بعد عصر نيوتن، مما جعل الباحثين يتصدون لتفسير الوقائع علي أسس منهجية .

ومع أن هذه المرحلة تتسم بنزعة استقرائية واضحة، إلا أن وليم هيوول يكشف لنا في أكثر من موضع من مؤلفاته عن خصوبة الجانب العقلي المتمثل في ابتكار الفرض إذا ما أضيف كبعد جديد لتفسير الوقائع، حيث أن العالم وهو بصدد تفسير وفهم الظواهر الموجودة في العالم الخارجي، لا بد له أن يلجأ لأهم خطوة من الخطوات المنهجية، التي تتمثل في إضفاء مقولات العقل الخلاق، لتحديد الطريقة التي تعمل الظواهر وفقا لها، وهي خطوة الفرض .

وفي إثبات خطوة الفرض  لم يعمد وليم هيوول إلي حصر المنهج الاستقرائي في قواعد محددة كما فعل جون مل الذي يري أن الاستقراء جسر نعبر عليه من الوقائع إلي القوانين ؛ فهو عملية منطقية تثبت بها أن ما يصدق علي بعض أفراد فئة ما يصدق علي الفئة بأكملها، أو أن ما يصدق علي بعض أجزاء الصنف علي الصنف كله بوساطة تحقيق ظروف مماثلة، وإنما نحا هيوول منحي آخر أقرب ما يكون إلي الأسلوب العلمي    الدقيق، فلقد استقرا تاريخ العلم الحديث واستنتج منه أسس المنهج الاستقرائي الذي طبقه العلماء منذ جاليليو، وكانت الفكرة الأساسية التي خرج بها هي التالية: إن الاكتشافات التي توصلت إليها العلوم الاستقرائية إنما يرجع الفضل فيها إلي فعالية الفرض العلمي ؛ بمعني أن الكشف العلمي يرجع أساسا إلي الفرضية      لا إلي الاستقرائية  ؛ حيث يري هيوول أن الاستقراء وحده لا يكفي و بل لا بد من فرضية توجه البحث وتقوده قبل الاستقراء وخلاله وبهده . ولا توجد طريقة أو طرق محصورة يسلكها  الذهن، دون غيرها، للانتقال من الفرضية إلي القانون، بل ليس هناك ما يفصل بين الفرضية والقانون غير تلك التجارب والعمليات الذهنية التي تقودها الفرضية .

وانطلاقاً من هذا شرع هيوول يؤكد أن دراسة تاريخ العلم تكشف عن عملية استقرائية لا تماثل البتة حجة التعميم التي يتمسكون بها، بل ثمة ربط للوقائع التجريبية من خلال مفهوم عقلي عبقري، وهذا المفهوم متقدم من خلال العقل في القضية العامة ولا يوجد في أي من وقائع الملاحظة .

وهنا اهتم هيوول بوضع نظرية في الاستقراء مستمدة من تاريخ العلوم التي اتفق العلماء علي وصفها بالاستقرائية، فانتهي إلي أن تاريخ الاستقراء يدل علي أن الاستقراء الذي يقوم به العالم ليس برهانا منطقيا يصدق بقوة صورته، بل هو طريقة أخري للوصول إلي الحقيقة: إنه مسلك مغامر يتخذه العقل ويصنع فيه صنيع من يحاول حل لغز: فيجرب ويحاول عدة فروض، إلي أن يقع بحدس صائب علي الفكرة الصائبة .

ومعني هذا أنه ليست المسألة إذن مسألة ما هي الشروط التي بها يكون هذا المسلك صحيحا – وهو لا يمكن أن يكون صحيحا أبدا، بل فقط ما إذا كانت النتيجة سليمة .والعناية والتدقيق إنما يتعلقان بالرقابة التجريبية علي القضية الاستقرائية، لا بصياغتها مما يسمح للخيال بمجال واسع، ولا فائدة من وضع منطق استقرائي، وصياغة قواعد للاستقراء مناظرة لقواعد القياس، فالاستقراء لا يقوم علي تعميم وقائع الملاحظة، بل يقوم بربط بينهما برباط عقلي من خلال مفهوم جديد يزودنا به العقل لا الظواهر .

وهذا المفهوم الذي يتقدم به العقل هو الفرض، لأنه في كل استدلال نقوم به عن طريق الاستقراء يوجد تصور ما يقدمه العقل ولا تقدمه الظواهر . ونتيجة الاستدلال ليست محتواه في  المقدمات، ولكنها تحتويها عن طريق إدخال عمومية جديدة . وحتي نحصل علي استدلالاتنا فإننا نذهب بعيدا إلي ما وراء الحالات الماثلة أمامنا، وتعتبر هذه الحالات مجرد تبسيط لحالة ما مثالية تكون فيها العلاقات تامة . ونحن نأخذ معيارا معينا نقيس به الوقائع بواسطته، وهذا المعيار نحن الذي نؤلفه ولا تقدمه لنا الطبيعة .

ومن ناحية أخري يري هيوول أن الاعتقاد السائد الذي يري في الاستقراء الوسيلة التي نحصل بها علي قضايا عامة، انطلاقا من الأحوال الجزئية، والذي يقرر أن القضايا العامة تنتج فقط من تجمع هذه الأحوال وضم بعضها إلي بعض هو كما يقول هيوول – اعتقاد خاطئ تماما، حيث أن " الحقيقة الاستقرائية ليست علي الإطلاق مجرد تجميع فقط للوقائع .إن الشئ المعمول هو أكثر من ذلك وهو التمهيد لعنصر عقلي جديد والعقل لكي يكون قادر علي أن يقدم هذا العنصر يجب أن تتوافر له مواهب ونظام عقلي  مميز" .

كما أننا إذا رجعنا إلي الوقائع وتتبعنا الخطوات التي سلكها الباحثون، وجدنا أن الأحوال الجزئية لا تجمع هكذا عرضا، بل هناك دوما فكرة موجهة، فكرة أدخلت في القضية العامة نفسها ولا توجد في الوقائع الملاحظة . ولكن عندما تندمج هذه الفكرة الموجهة في معطيات التجربة لتشكل معها مركبا جديدا، ينسي الناس تلك الفكرة ويعتقدون أنها من صميم الواقع، تماما مثلما يعتقدون أن القلادة هي دوما قلادة، في حين أن الفكرة التي جعلت منها قلادة هي من الإنسان . فلا يوجد في العالم المادي إلا جواهر معزولة . إن الإدلاء بفكرة تجمع شتات الظواهر عملية تستلزم اقتراح فرضية . والفرضية تؤخذ من جملة أفكار أخرى ؛ أي تختار من بينها لكونها أقرب إلي تفسير الظواهر . واقتراح الفرضية من طرف الباحث عمل ينم لا عن ضعف، بل عن قوة ويتطلب جرأة وعبقرية .

ويؤكد هيوول أن اكتشاف كبلر لفكرة الاهليج يعد مثالا للاستقراء الحقيقي الذي يدعو إليه، فقد كانت المشكلة الأساسية التي واجهت العالم الطبيعي منذ عصر كبلر، هي مشكلة الحركة . كيف نفسر حركة سقوط الأجسام الطبيعية ؟ وكيف نربط بين حركة تفسير نقدمه لحركة الجسام الطبيعية علي الأرض، وتفسير حركة الكواكب . وقف كبلر علي أساس نظرية كوبرنيقوس في علم الفلك، وعرف عنه فكرته الأساسية القائلة بأن الأرض تدور حول الشمس في مدارات دائرية، وهو تصور يرجع إلي أرسطو الذي ذهب إلي أن الدائرة أكمل الأشكال .

وبالتالي لا بد وأن تكون الحركة دائرية . وضع كبلر ملاحظات تيكوبراهي موضع الاختبار الرياضي ليعرف العلاقة الرياضية التي تقوم بينها . وحاول أن يستنبط من هذه الملاحظات النسبة بين الزمن الذي يستغرقه الكوكب ليدور حول الشمس وبين بعده عن الشمس . هل هذه النسبة واحدة لجميع الكواكب ؟  لم تكن الأدلة التي توافرت لديه كافية للقيام باستنباط هذه العلاقة وتقديرها في قانون . والسبب في ذلك أنه كان يقوم بإجراء حساباته الرياضية علي أساس أن الحركة، كما تصورها كوبرنيقوس وأرسطو من قبل دائرية .

ومن ثم اتجه إلي وضع فرضه الأول وضعا جديدا: هل نسبة مربع الزمن والمسافة واحدة لجميع الكواكب ؟ وضع الفرض في صورته الأخيرة يعد تعديلا للصورة الأولي، وبالتالي احتاج كبلر لأن يقوم بإجراء حساباته علي كوكب واحد، ثم يقوم بتتبع نتائجه بالنسبة لجميع الكواكب، فاتخذ كوكب المريخ نموذجا له . لا حظ كبلر أن كوكب المريخ يتخذ مواضع متغيرة في أوقات مختلفة من السنة . كيف يمكن أن يحدث هذا التغير في وضع الكوكب ذاته؟ لقد تصور كبلر المشكلة من خلال الخيال الرياضي، فإذا مد خط من الشمس إلي كوكب المريخ، فإن هذا الخط بناء علي هذه المواضع التي يتخذها الكوكب، سيقطع مساحات متساوية في أزمنة متساوية .

والنتائج الاستنباطية  التي توصل إليها كبلر تدل علي صحة هذا التصور، ومن ثم وضع قانون تساوي المساحات الذي ينص علي أن " الخط الذي يربط الكواكب بالشمس يمر بمساحات متساوية في الأزمنة المتساوية . كان من الطبيعي أن يكتشف كبلر اختلافات جذرية في حساباته لأوضاع كوكب المريخ، عن  حسابات كوبرنيقوس، فتساءل عن شكل المدار الذي يتخذه الكوكب . إن فكرة كوبرنيقوس عن المدار الدائري لا تؤدي إلي نفس النتيجة التي توصل إليها كبلر في قانونه السابق . فما هو شكل المدار .

اتجه كبلر إلي معالجة الملاحظات التي دونها تيكوبراهي مرة أخري، فتبين له أن المدار لا يمكن أن يكون دائريا،فافترض أنه بيضاوي، وعن طريق الرياضيات وجد أن نتائج عملياته الرياضية تتفق مع الوقائع الملاحظة، وأن الكواكب فعلا تتخذ مدارات بيضاوية، فعمم فرضه عن المدار البيضاوي في قانونه القائل إن " الكواكب جميعا تدور حول الشمس في أفلاك بيضاوية تقع الشمس في إحدى بؤرتيها "، وقد أفضي به هذا الاكتشاف إلي التوصل لتجريدات تتعلق بالخصائص الفيزيائية لكل من الشمس والكواكب .

ومن هذه النتيجة أمكن لكبلر، أن يتوصل للإجابة علي سؤاله الأول، فقد تبين له أنه بالنسبة لجميع الكواكب يتناسب مربع الزمن تناسباً طردياً مع مكعب متوسط المسافة من الشمس "، وهو ما يعرف بالقانون الثالث .

وهنا يري هيوول أنه بالنسبة لاكتشاف كبلر، فإن النقاط التي لوحظت في مدار المريخ، كانت معروفة من قبل، ولكن عندما طبق كبلر "مفهوم" القطع الناقص، اكتشف وعلى الفور المدار الصحيح، وكبلر كان أول من طبق هذا المفهوم، القطع الناقص، على مسار مداري لكوكب، وذلك لأنه لدية فكرة واضحة للغاية في عقلة عن القطع الناقص . ولعل ذلك مهم لأن الأفكار والمفاهيم الأساسية مصدرها العقل، ولكنها لا يمكن استخدامها من منظور فطري،  فهي لا تقف وحدها. وهيوول يشرح ذلك بأن"البذور الأولى لهذه الأفكار كانت على الأقل موجودة في العقل البشري في مرحلة ما قبل الخبرة المكتسبة، ومن خلال عملية التفكير العلمي فهم يتجلوا للعيان في وضوح ونقاء .

وهيوول يقصد بهذا  "التجلي للعيان" عملية التحليل و التفسير المطول من قبل المفاهيم، فتلك العملية وهذا التفسير هما شرط أساسي سابق لأي اكتشاف، وهذا الاكتشاف يتكون من جزء تجريبي صرف وجزء عقلي صرف . العلماء يحاولون بداية تكوين مفهوم واضح ونقي في عقولهم، ثم يحاولون تطبيقه على الوقائع التي بحثوها بدقة، للوصول إلى الحكم عما إذا كان من الممكن جعل هذه الوقائع مؤلفة تحت قانون عام، وإذا لم يكن ذلك ممكن، فلعلهم يستخدمون هذا التمرين المتكرر لمحاولات مستقبلية. وبالتالي فإن استخدام كبلر لمفهوم القطع الناقص يعقب علية هيوول بقولة: "تغذية هذا المفهوم تتطلب تهيئة خاصة، ونشاط خاص ومميز داخل عقل المكتشف، ....الاكتشاف هو مجرد نقاط اتصال يجب أن يكون العقل مطلع عليها، أنواع محددة من الأشكال، وعلاقات محددة للمكان". وبمجرد أن تصبح المفاهيم واضحة، سيكون من الممكن اختيار المفهوم المناسب لأن يصبح مؤلفا، ولكن كيف يتم اختيار المفهوم المناسب لأن يكون مؤلفا، وبمجرد أن أمد كبلر مفهوم الأهليج علي الوقائع الخاصة بمدار المريخ، عممها علي كل أطراف وقائع الملاحظة ليصل في النهاية إليأن جميع النقاط الممتدة داخل مدار المريح، إنما تمتد علي هيئة قطع ناقص مع الشمس وفي مركز بؤري واحد .

ويعقب هيوول علي ذلك فيقول،: " ... ونفس الشئ يكون كذلك في كشوفات أخري، فالوقائع تكون معروفة، حتي وإن كانت منعزلة وغير مترابطة، إلي أن يأتي المكتشف، فيضع من مئونته الخاصة " مبدأ الربط"، فاللؤلؤ موجود ولكنه في حاجة إلي من ينظمه في عقد منتظم  فالمسافات والفترات الخاصة للكواكب كانت كلها تمثل وقائع عديدة متباعدة، إلي أن صاغ كبلر قانونه الثالث الذي استطاع أن يربط تلك الوقائع في حقيقة فريدة متباعدة، ولكن المفهومات الخاصة بتلك القانون كانت مستمدة من عقل كبلر،وبدون تلك المفهومات، فإن الوقائع تكون بلا فائدة . ومن الكواكب التي تصف الاهليجات حول الشمس تأملها الكثيرون بما فيهم نيوتن، إلا أن نيوتن أدرك أنها تنحرف في حركات  اهليجية في ضوء جديد – بفضل تأثير قوة رئيسية ناتجة عن قانون محدد، ولذلك فإن هذه القوة تم اكتشافها علي أنها موجودة فعلاً .

ثالثا: طرق التحقق من الفرض العلمي وقواعد استخراج المبدأ العام للوقائع:

إذا كان لكل من الخيال والحدس دوراً هاما ًفي نشأة الفروض، وإذا كان للفروض أن تخترع وتقترح بشكل في العلم، إلا أن هناك جانبان مهمان في الاستقراء عند هيوول: أما الجانب الأول و فيتمثل في أن كل استدلال استقرائي نقوم به يوجد مفهوم ما يفرض علي الوقائع . وأما الجانب الثاني فيبدو في أن اختراع المفهوم الذي يربط بين  الوقائع كان أعظم خطوة في الكشف، كما أن اختراع تحقيق القضية الاستقرائية كان أعظم خطوة هامة في البرهنة علي الكشف ذاته .

وعلي هذا الأساس، فإن هيوول يري أن عملية الاستقراء تتألف من الفرض والتحقق، ولهذا فإن ملكاتنا المنظرة هي التي تجعل العالم يستبصر التخمينات أو الفروض الجيدة ذات الصلة   بالوقائع، هي التي تجعل العالم يعشق الصدق ويعمل علي تبيين التمايزات من أجل صيانة الابتكار العلمي، فإذا أتضح للعالم أن الوقائع تتناقض مع الفروض كان لزاماً عليه أن يرفض الفروض ويقبل الوقائع بدون تردد،وفي هذا يقول هيوول:" إن التحقق من صدق الفروض يجب أن يتم من خلال تطبيقها علي الوقائع، وعلي المكتشف أن يكون مستعدا، وأن يلتزم الدقة في اختبار فروضه علي هذه الحالة، فإذا ما ثبت من خلال الاختبار أن هذه الفروض باطلة وغير مجدية فعليه أن يتركها .

ولهذا فإن التحقق في رأي هيوول يمثل عنصراً هاماً في الملية الاستقرائية، وقد قدم هيوول في مناقشته أربعة اختبارات للفروض، وذلك علي النحو التالي:-

الاختبار الأول: هو الملائمة، حيث أن " الفرض يجب أن يكون متسقاً مع القضية المستنبطة التي تعرض كل وقائع   الملاحظة " ؛ وهيوول في هذا الصدد يود أن يوضح أن الفرض المقترح يجب أن يكون وثيق الصلة بالظاهرة المراد تفسيرها أو المشكلة المراد حلها، فإذا كان الفرض لا صلة له بالظاهرة المراد تفسيرها، فإنه لن يحقق الهدف المرجو منه و ويكون الفرض فاشلاً.

الاختبار الثاني: التنبؤ بالوقائع التي لم تلاحظ بعد، يقول هيوول " إن الفروض يجب أن تفعل أكثر من وصف ما هو  ملحوظ ... فروضنا يجب أن تنبئ بالظاهرة التي لم تلاحظ بعد، وبالأخص كل الظواهر التي من نفس النوع كتلك التي للفرض الذي ثبت انه صحيح ومفيد ؛ ويقول في موضع آخر " إن الفروض التي نقبلها ينبغي أن تفسر الظواهر التي لاحظناها، وأكثر منهذا ينبغي ان نتكهن بالظواهر التي لم نلاحظها  بعد " .

وهنا يريد هيوول أن الفرض يكشف عن أصالته من خلال عنصر التنبؤ و التكهن إلي الجانب التفسيري، لأنه إذا اقتصر دور الفرض علي التفسير فقط، فإن هذا يعني بالضرورة أننا لن نعرف سوي ما نلاحظه، ولكن إضافة عنصر التنبؤ إلي التفسير، يعني إتاحة الفرصة أمام الباحث أو العالم لأن يقوم بمزيد من التجارب، مما يتيح لنا إمكانية الكشف عن ظواهر سوف ترد في المستقبل . فكأن الفرض بعد أن اقتصرت وظيفته في المرحلة الأولي من التجريب علي الجانب التفسيري، أضيف عنصر التنبؤ كوظيفة في عصر هيوول .

الاختبار الثالث: الذي ذكره هيوول هو قدرة الفرض علي التفسير والتنبؤ بالحالات ذات النوع المختلف التي تم تأملها في تشكيل الفرض . وحين نستخدم هذا فإننا سوف نصل إلي ما ذكره هيوول عن " ربط الاستقراءات " وهذا الربط يعني أن قانونين يمكن الحصول عليهم من خلال استقراءات مستقلة وتتضمن بوضوح أصناف متغايرة من الظواهر يمكن أن تتضمنهم جميعا وقابلة لأن تتجزأ من فرض واحد أو من نفس الفرض . وهذه المقومات تجعل الاختبار دقيق وحاسم في تصحيح الفرض؛ وفي فقرة أخري يؤكد هيوول أن ربط  الاستقراءات يمثل البينة الأكيدة علي مصداقية الفرض في أكثر من طرفين هما: حين يمكننا الفرض من تفسير وتحديد الحالات التي من نفس النوع تكون مختلفة عن تلك التي تأملناها في تشكيل فروضنا . وكذلك حين نفسر أثنين  أو أكثر من الأنواع المختلفة للظاهرة، كدوران الكواكب وسقوط الأحجار ومبادرة الاعتدالين" .

الأختبار الرابع: هو البساطة ؛ وفي هذا يقول هيوول " قد يحدث أن نجد فرضين متنافسين علي تفسير نفس الوقائع، وفي نفس الشروط، فأيهما يختار العلماء ؟ الحقيقة أنه إذا حدث ذلك، فإنه يتم اختبار الفرض الأبسط " ؛ ويقول أيضاً " كل الافتراضات

الإضافية تميل نحو البساطة والتناغم " .

هذه هي الاختبارات الأربع التي أضافها هيوول للتحقق من الفرض العلمي، والتي يحاول من خلالها هيوول أن يثبت مقارنة الفرضيات مع معطيات الواقع، وأنه لا بد من التخلي عنها عندما لا يكون هناك تطابق بينها . إلا أن هيوول لا يكتفي بذلك ح بل يؤكد أنه يمكن أن تستعمل الفرضيات في العلم وتؤدي دوراً كبيراً،  حتى ولو لم يكن هناك ما يؤكدها في التجربة . ذلك لأن دور الفرضية في العلم، شأنها شأن النظرية دور مؤقت، وتقدم العلم يصحح الفرضيات ويعدلها باستمرار .

وهناك في تاريخ العلم من الفرضيات ما أثبت العلم عدم صحتها، ولكن مع ذلك قامت بدور كبير، لا في تفسير الظواهر المدروسة وحسب، بل وفي التنبؤ بظواهر جديدة أيضا، يقول هيوول:" الفروض أحيانا ما تخدم العلم حتى وإن تضمنت جزء غير متكامل وقد يكون هذا الجزء علي خطأ، ويقول:" إن الفروض التي ثبت بطلانها قد أفادت في تقدم العلم، وذلك لكونها قد فسرت جوانب عديدة من الظاهرة، وإن كانت لم تفسر الظاهرة ككل  .

وهيوول اعترف أيضاً أن تاريخ العلم يحتوي علي العديد من الأمثلة للفروض الكاذبة التي قامت ببعض التنبؤات الصحيحة مثل نظرية " الفلوجستون " ولذلك فهو لم يعتقد أن القدرة التنبؤية المحددة تكفي لاقتناعنا بصدق الفرض، ولكن أكد أنه حين يجتاز الفرض أكثر من اختبار صارم، فإن ربط الاستقراءات طبقا لهيوول " تمثل البينة التي تقودنا إلي إثبات أن النظرية  صادقة " .

ويشرح هيوول ذلك فيقول " إن القول الذي يجب ان نتذكره دوما هو أن الفرض سيكون دائما في خدمة العلم، حتي وإن كان يحمل نصيب من النقصان وعدم الاكتمال، بل وحتي إذا كان خاطئا، فإنه يستحق منا الاهتمام به، وهل الاهتمام يتمثل في تجميع هذه الوقائع وفرضياتها معا، ليصبحوا في نسق واحد، ومن ثم فسيخرج وبصورة أوتوماتيكية الفرض الخاطئ، سنستبعده، بل سيستبعد نفسه عندما نفسر الظاهرة وفرضياتها، وبالأحرى عندما نربط أطرافها معا ". وهذا ما فعله نيوتن بلا شك، فقد صحح وحدد من استعمال بعض قوانين كبلر وشرح بصورة غير مباشرة كيف أنها ستكون في خدمة الجانب العلمي رغم وجود بعض الأخطاء .

ويعطينا هيوول مثالا لأهم الفرضيات التي تمكنت من التنبؤ الصحيح بظواهر جديدة، علي الرغم من أن العلم أثبت فسادها فيما بعد ؛ مثال ذلك قانون الانكسار الذي توصل إليه "سنل" Sneal   (1591-1626) الرياضي الفلكي الدانمركي، والذي ينص علي العلاقة الصحيحة بين زاوية السقوط وزاوية الانكسار بطريقة هندسية، تتلخص في أن نسبة قاطع التمام لزاوية السقوط إلي قاطع التمام لزاوية الانكسار ثابتة لكل وسطين، وعلق هيوول علي ذلك فيقول:" إن الافتراضات العقيمة المتعددة التي تم التوصل إليها لاكتشاف قانون الانكسار مهدت الطريق إلى اكتشافها الصحيح والحقيقي الذي توصل إليه Sneal " .

وننتقل إلي الكشف عن قواعد استخراج المبدأ العام للوقائع من خلال عملية التحقق ؛ حيث يقرر هيوول هنا أن لدينا ثلاث خطوات أساسية هي: اختبار الفكر، وبناء التصور، وتحديد المقادير .

أما من حيث اختبار الفكرة فإن هيوول يضع قاعدة بحثية هامة هي: يجب أن يكون هناك تجانس بين الفكرة والوقائع . فإذا لاحظنا الوقائع وقسناها بالرجوع إلي المكان فلابد من ربطها بفكرة المكان، لأن الفكرة تختبر عن طريق الوقائع .

وأما من حيث التصور وتحديد المقادير والأهمية فقد أشار هيوول إلي مجموعة من المناهج التي تميزت بالترابط والدقة في المعالجة، أكثر من اعتبارها إسهاما أصيلا من جانب هيوول، ومن بين هذه المناهج مايلي:

أ- منهج المنحنيات The Method of Curves هو الذي يتألف من رسم منحني تكون الكميات الملاحظة ممثلة علي الأحداث الرأسي، أما الأحداث الأفقي فيمثل مقدار التغير في الكمية الملاحظة . وكفاءة هذا المنهج تعتمد علي قوة العين التي تلاحظ مباشرة صور الاطراد أو عدم الانتظام . كما تبدو أهميته في أنه يمكننا من التوصل إلي قوانين طبيعية من الملاحظات الجيدة، ويجعلنا نستبصر الملاحظات الناقصة، كما أنه من جانب ثالث يمكننا من التوصل إلي معطيات تتجاوز الوقائع الجزئية .

ب- منهج الوسائل أو المتوسطات وهو الذي يتلافي بعض الصعوبات المشار إليها من في منهج المنحنيات، فيمكن لنا إجراء تصحيح للملاحظات التي أجريناها من خلال المنهج السابق عن طريق أخذ متوسط هذه الملاحظات،وهذا المتوسط حسابي فقط . ومن ثم فإن كفاءة هذا المنهج تعتمد علي أنه في الحالات التي تكون فيها الكميات الملاحظة متأثرة بعوامل أخري إلي جانب العوامل التي تحدد القانون، فإن الازدياد أو النقصان عن الكميات التي سوف ينتجها القانون موضع التساؤل سوف تتجمع في ملاحظات عديدة في موضع معين .

ج - منهج المربعات الصغري هو في الحقيقة منهج الوسائل، ولكن مع بعض الخصائص المميزة .فموضوعه يحدد الوسيلة الأفضل من عدد الكميات الملحوظة أو تكون غالبية القانون المحتمل مشتقة من عدد الملاحظات أو من بعضها أو من كله التي تسمح بأكثر أو أقل الملاحظات الناقصة . والمنهج يبدأ بافتراض أن – كل الأخطاء ليست محتملة بالتساوي، إلا أن الأخطاء الصغيرة ليست أكثر احتمالا من الأخطاء الكبيرة . ومن خلال التفكير تفكيرا رياضيا في هذا الأساس، نجد أن النتيجة الأفضل هي التي نصل إليها (حيث أننا لا نستطيع أن نصل إلي النتيجة التي تلاشت بسبب الخطأ) من خلال عمل لا يتمثل من الأخطاء ذاتها، ولكن بجمع مربعاتها في في القيمة الممكنة الصغيرة .

د- منهج البواقي: ينحصر منهج البواقي في إسقاط الكميات المعطاة من خلال أي ملاحظة، والكمية المعطاة من خلال أي قانون مكتشف بالفعل، وبعد أن يفحص الباقي أو المتبقي لكي يكتشف القانون الرئيسي اللازم عنه .وعند هذا يكون القانون الثاني قد اكتشف الكمية المعطاة من خلال ما تم إسقاطه من المتبقي الأول؛ وهذا يعطي المتبقي الثاني الذي ربما يكون مفحوص في نفس الحالة ...إلي آخره . وكفاءة هذا المنهج تعتمد بشكل أساسي علي ظروف قانون التنوع الذي يكون أقل وأقل في القيمة بالتتابع (أو علي الأقل في معناه الحقيقي)، وذلك لكي لا تعيق القوانين الغير مكتشفة بعد ذلك القانون موضع التساؤل الكائن البارز في الملاحظات .

وبعد أن تناول هيوول هذه المناهج الأربعة، وأشار إلي الأسلوب الذي تستخدم به تطبيقا في البحث الاستقرائي، أشار إلي ثلاثة مناهج أخري تتعلق بالبحث في خصائص الأشياء،  وهي علي النحو التالي:-

1- منهج الاتصال: وينص علي أن الكمية لا يمكن أن تنتقل من قيمة واحدة إلي قيمة أخري من خلال آيا من تغير الشروط بدون أن تنتقل عبر المقادير المتوسطة طبقا للشروط المتوسطة .وهذا المنهج غالبا ما يستخدم للتمييزات الغير محسنة التي ليس لها أساس حقيقي .

2- منهج التدرج وينحصر في أخذ عدد من المراحل للخاصية موضع التساؤل، ويتوسط بين الحالتين الأخيرتين التي تبدو مختلفة، وهذا المنهج  يستخدم لتحديد فيما إذا كانت الحالات النهائية متميزة حقا أم لا .

3- منهج التصنيف الطبيعي وينحصر في حالات التصنيف التي لا تكون طبقا لأي تعريفات مفترضه ولكن طبقا لسياق الوقائع ذاتها بحيث تجعلهم وسائل للحقائق العامة المثبتة .

من العرض السابق لأراء هيوول تبين أنه ركز علي ثلاث وظائف هامة للفرض العلمي. أما الوظيفة الأولي فتتمثل في تفسير الوقائع الخارجية والالتزام بالظواهر الموجودة فعلا في العالم المادي . وأما الوظيفة الثانية فتكمن في أن الفرض يجب أن ينبؤنا بكل ما جديد في مجال الظاهرة ويشير إلي الظواهر التي لم نلاحظها بعد . وأما الوظيفة الثالثة فتبدو في أنه يرشدنا إلي البحوث والتجارب المستقبلية التي يمكن للعالم القيام بها.

كذلك فإنه يرجع الفضل إلي هيوول إلي ابتكار بعض المناهج التي يمكن استخدامها للتوصل للقانون العام الذي يربط الوقائع معا، أكثر من الاهتمام بطرق تحقيق الفروض علي غرار ما فعل جون مل . والواقع أن المناهج التي أشار إليها هيوول تعتبر تدعيما للفرض حتى لا نضل الطريق ونحن بصدد استخدام الفرض في البحث العلمي، فإذا اتضح للعالم أن الفرض لا يمثل ما هو واقعي أخذ في البحث عن غيره حتي لا يفسد كشفه العلمي .. وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم