أقلام فكرية

القطائع المعرفية في التحليلات الأولي الأرسطية (1)

محمود محمد عليعندما وضع أرسطو تصنيفه للعلوم ميز بين ما كان منها علماً نظرياً غايته المعرفة كالفيزيقيا الرياضيات والفلسفة الأولي، وما كان منها عملياً غايته السلوك مثل الأخلاق والسياسة، وما كان منها إنتاجيا غايته إنتاج شئ جميل أو مفيد، مثل فن الشعر. أما المنطق فلم يذكره ضمن هذه العلوم . ولعل السبب في عدم اعتباره علماً من العلوم، هو أن موضوعه أوسع من أي منها . لأنه يدرس التفكير الذي يستخدم فيها جميعاً، بل يدرس أيضاً التفكير الذي لا يدخل في نطاق العلم، كالتفكير الشائع عند جمهور الناس، والذي يستخدم في البلاغة، وكذلك يقدم المنطق القواعد التي تجنب الإنسان الخطأ وترشده إلي الصواب . ومن هنا فقد عُد المنطق عند أرسطو مقدمة للعلوم تساعد علي التفكير السليم .

ويقال عن أرسطو أنه الواضع الحقيقي لعلم المنطق ؛ حيث كان له العديد من المؤلفات المنطقية التي جمعها تلاميذه وشراحه، وأطلقوا عليها أسم " الاورجانون arganun (أي الأداة أو الآلة)، وظل هذا الاورجانون المنهج الوحيد للتفكير حتي مطلع العصور الحديثة .

وقد جري العرف علي ترتيب الاورجانون الأرسطي طبقاً لاندرنيقوس الرودسي (القرن الأول ق.م) في ستة كتب علي النحو التالي: المقولات، ثم العبارة، ثم التحليلات الأولي، ثم التحليلات الثانية، ثم الطوبيقا، وأخيراً كتاب السوفسطيقا .

ويقوم هذا الترتيب علي أساس تحتويه المؤلفات . فيتناول كتاب المقولات دراسة الحدود، ويتناول كتاب العبارة القضايا، ويتنول كتاب التحليلات الأولي الأقيسة، ويتناول كتاب التحليلات الثانية الأقيسة الضرورية، ويتناول كتاب الطوبيقا الأقيسة الاحتمالية، ويتناول كتاب السوفسطيقا الأقيسة المموهة القائمة علي المغالطة (أي الأغاليط الصورية).

إلا أن أرسطو لم يتبع هذا الترتيب في مؤلفاته . ولا يوجد أي دليل يؤيد الرأي الشائع القائل بأن أرسطو قد أعتبر كل هذه المؤلفات (فيما عدا التحليلات الأولي والثانية) فصولا متتابعة في مؤلف مرتب عن المنطق .

وموضوع هذا المقال هو " القطائع المعرفية في التحليلات الأولي الأرسطية"، وفيه نحاول أن نطبق هذا المبدأ المعرفي " يمر العلم في انتقاله من مستوي الممارسة التلقائية العفوية إلي مستوي الصياغة النظرية لقواعد العلم بما يسمي القطيعة المعرفية ".

ولتوضيح ما يعنيه هذا المبدأ نقول مع أستاذنا الدكتور " حسن عبد الحميد" في بحثه الرائع بعنوان " التفسير الابستمولوجي لنشأة العلم": "أن أي علم علي الإطلاق قد مر في تاريخه بمرحلتين أساسيتين ومتميزتين: مرحلة الممارسة اليومية التلقائية التي يغلب عليها الطابع الإيديولوجي، ومرحلة الصياغة النظرية للقواعد الأساسية والمبادئ العامة التي تجعل من المعرفة معرفة علمية بالمعني الدقيق للكلمة . أو هو الانتقال مما هو ضمني إلي ما هو صريح وواضح، فالطفل أو الرجل الأمي – علي سبيل المثال - يستطيع كلاهما أن يستخدم اللغة استخداماً صحيحاً نسبياً وبدون حاجة إلي تعلم قواعد النحو الخاصة بهذه اللغة أو تلك، ولو سألنا أحدهما أن يستخرج قواعد اللغة التي يتحدث بها، وأن يصيغها صياغة نظرية، لما كان هذا في إمكانه، والسبب في ذلك أننا ننقله في هذه الحالة من مستوي الممارسة اليومية للغة إلي مستوي الصياغة النظرية لقواعدها" .

والانتقال هنا هو انتقال من مستوي الممارسة اليومية العفوية للمعرفة إلي مستوي الوعي بالقواعد النظرية التي تنظم هذه المعرفة وقد أصبحت علماً . وهذا الانتقال من المستوي الأول إلي المستوي الثاني لا يتم إلا عن طريق " قطع الصلة" بالممارسات اليومية ذات الطابع الحدسي والتلقائي التي تسيطر علي المعرفة قبل أن تتحول إلي علم.

والقطيعة المعرفية هي الحد الفاصل الزمني اللحظي أو هذا التغير السريع الذي ينتج عنه أمراً جديداً كل الجدة، ولكنها عبارة عن مسار معقد متشابك الأطراف تنتج عنه مرحلة جديدة متميزة في تاريخ العلم ؛ ومعالم القطيعة المعرفية التي تحدثها الثورات العلمية داخل العلم يمكن تتبعها علي ثلاثة مستويات: مستوي لغة العلم من جانب، ومنهجه من جانب آخر، ومستوي نظرية العلم من جانب ثالث .

ويمكن تطبيق هذا المبدأ المعرفي علي الكتاب الثالث من الاورجانون الأرسطي، وهو كتاب التحليلات الأولي ؛ حيث أن هذا الكتاب يمثل ثورة داخل ميدان المنطق، وهذه الثورة قد أنجزها أرسطو بمفرده ونقل بها هذا الفرع من فروع المعرفة من مرحلة الممارسة العفوية (والتي تمثلت في التفكير المنطقي في الفكر الفلسفي اليوناني السابق علي أرسطو في القرن الخمس والنصف الأول من القرن الرابع ق.م وبالأخص لدي الأيليين والسوفسطائيين وصاحب الأكاديمية "أفلاطون") إلي مرحلة الصياغة النظرية، والتي تسمي بالقطيعة المعرفية .

وبالتالي يمثل كتاب "التحليلات الأولي" مرحلة القطيعة المعرفية ليس فقط مع كل صور الممارسات السابقة للفكر المنطقي عند الأيليين والسوفسطائيين وأفلاطون، بل إن هذا الكتاب يقطع الصلة بينه وبين مؤلفات أرسطو المنطقية .

والمتفحص لكتاب التحليلات الأولي يجده مختلفاً تمام الاختلاف عن كل ما سبقه من تراث منطقي – أي بدون أن يلغيه أو ينفيه، بل يتعداه ويتجاوزه .

1- ونستطيع أن نجمل الجدة المنطقية التي تميز هذا الكتاب فيما يلي:

2- لغة جديدة كل الجدة صاغها أرسطو للتعبير عن نظرية القياس وقواعده وأشكاله وضروبه، وهي لغة المتغيرات .

3- منهج جديد استخدمه أرسطو لأول مرة في تاريخ علم المنطق، وهو المنهج الاستنباطي .

4- نظرية مكتملة في الاستدلال المنطقي التحليلي هدفها العلم الاستنباطي البرهاني.

ولقد بقي علم المنطق كما صاغ أرسطو نظريته ووضع لغته وحدد منهجه كما هو حتي منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، وهذا حدا بالفيلسوف الألماني "كانط" Kant (1724-1804) حينما لاحظ في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه " نقد العقل الخالص" بأن المنطق لم يتقدم خطوة واحدة منذ أيام أرسطو، وأن نظرية القياس – وهي صلب المنطق الأرسطي – قد وجدت صياغتها الأخيرة والنهائية في كتاب التحليلات الأولي.. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم