أقلام فكرية

القطائع المعرفية في التحليلات الأولي الأرسطية (2)

محمود محمد عليمن المعروف أن المنطق هو العلم الذي يبحث عن المبادئ العامة للتفكير الصحيح، إذ يضع الشروط الضرورية والكافية التي يتم بواسطتها الانتقال من قضايا نفترض صدقها إلي النتائج اللازمة عنها، ومن المعروف كذلك أن أرسطو أول من صاغ بطريقة علمية نظرية هذا العلم الذي سبق تاريخياً كل العلوم في التأسيس، ولكن الناس لم ينتظروا صياغة لقواعد المنطق حتي يفكروا، والإنسان حيوان مفكر منذ أن وجد علي سطح الأرض . المنطق كعلم يفترض – مسبقاً – المنطق كممارسة يومية تلقائية، شأنه في ذلك شأن النحو الذي يفترض المقدرة علي الاستخدام المسبق للغة، فالعلم آياً كان لا يبدأ إلا حين يتجه المفكر إلي الواقع العملي لهذا العلم، ولكي يصيغه صياغة نظرية .

 ولقد أخذت مرحلة الممارسة العفوية التلقائية للتفكير المنطقي في الفكر الفلسفي اليوناني السابق علي أرسطو في القرن الخامس والنصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد صوراً عدة، وذلك علي النحو التالي:

1- الفكر الجدلي كما تمثل في فلسفة الأيليين وحججهم الخاصة بنفي الكثرة والحركة ...الخ، والجدل الأيلي استمد جزء من مفاهيمه الأساسية من الفكر الرياضي الذي بلغ حداً معقولاً من التطور في هذا الوقت، مثل مفهوم القسمة الثنائية ومفهوم اللانهاية .

 ويري " ديوجين اللائرسي " Diognes Leartius أن أرسطو كان يعذو اختراع فن الجدل إلي " زينون الأيلي"، تلميذ " بارمنيدس " (540-547 ق.م) الذي كان يري أن العالم واحد، لا كثرة فيه ولا انقسام حقيقي، وثابت لا حركة فيه ولا انتقال، وكان زينون أول من استخدم برهان الخلف كأداة جدلية لدحض آراء خصوم أستاذه من الفيثاغوريين الذين رأوا أن العالم مكون من وحدات منفصلة أو أعداد .

 ويبدو أن أرسطو حينما قال أن " زينون " هو الذى أسس فن الجدل، إنما كان يشير إلي مفارقات زينون التي دحضت بعض فروض خصومه، بأن استخرجت منها نتائج لا يمكن التسليم بها، كما أنه من المحتمل أن يكون "أرسطو " قد وضع متناقضات زينون في الاعتبار، كما لو كانت أمثلة بارزة عن الجدل ؛ بمعني دحض فروض الخصوم بإظهار النتائج غير المقبولة الناشئة عن تلك الفروض . فعلي سبيل المثال فإنه من غير المعقول أن " آخيل " لن يلحق بالسلحفاة أبداً . ومن ثم فإن الفروض التي تقود إلي هذه النتيجة يجب أن ترفض، طالما أن هذه الطريقة تعتمد علي قانون المنطق الصوري، وهي معروفة " ببرهان الخلف" أو " القياس الشرطي المتصل في صورة نفي المقدم Modus Tollens " .

 ويمكن توضيح ذلك بشئ من التفصيل إذا ما رجعنا إلي ما أورده أرسطو من حججه في امتناع الكثرة والحركة، نجد ثماني حجج، أربعة منها في نفي الكثرة وأربعة منها في نفي الحركة .

 نبدأ بحجج نفي الكثرة، حيث تمثل الحجتان الأوليان في الحقيقة حجة واحدة ذات فرعين، يستندان معاً علي المقدمة المشتركة: إذا كانت هناك كثرة فلا تخلو الكثرة من أن تكون إما كثرة مقادير ممتدة في المكان أو كثرة آحاد أو أعداد ممتدة وغي متجزئة . وتعتمد الحجة الأولي علي الفرض الأول من فرض التالي . فإذا كانت هناك كثرة، فإنها تكون كثرة مقادير ممتدة في المكان، ومعني ذلك أن المقدار يكون قابلاً للقسمة إلي آحاد غير متجزئة، لا تؤلف مقداراً منقسماً، وبذلك يكون المقدار المحدود المتناهي حاوياً أجزاء حقيقية غير متناهية العدد، وهذا خلف.

وهذه الحجة تمثل رداً إلي المحال، وبالتالي تكون صيغتها المنطقية كالآتي:-

[ق> (ك . ~ ك) .ك]:>: ~ ق .

 ولننتقل إلي الحجة الثانية القائمة علي الفرض الثاني: لو كانت هناك كثرة، إنها تكون مكونة من آحاد غير متجزئة . وهذه الآحاد تكون متناهية العدد لتعينها، ما دامت حقيقية، وهي منفصلة، والمنفصل يفصل بينه أوساط، ويفصل بين هذه الأوساط أوساط أخري، وهكذا إلي ما لانهاية مما يناقض المفروض .

 وهذه الحجة تعتمد علي الصيغة المنطقية بشكل مضمر، وذلك علي النحو التالي:

[(ق > ك) . ~ ك]:>:~ ك).

 وتقوم الحجة الثالثة علي أنه إذا كانت الكثرة حقيقية، كان كل واحد من آحادها يشغل مكاناً حقيقياً، ولكن هذا المكان يجب أن يكون في مكان وهكذا إلي غير نهاية، وهذا خلف، فالكثرة غير حقيقية .

 وهذه الحجة تعتمد علي الصيغة المنطقية بشكل مضمر، وذلك علي النحو التالي:

[(ق > ك) . ~ ك]:>: ~ ق .

 حيث تشير " ك" إلي الأماكن المتناهية التي تشغلها آحاد المكان المتناهية المتعينة، وتشير "ك" إلي الأماكن اللامتناهية التي يتسلسل الاحتواء فيها إلي ما لانهاية .

 وإذا انتقلنا إلي الحجة الرابعة نجدها تختلف عن الحجج السابقة، إذ يذهب " زينون " إلي أنه إذا كانت الكثرة حقيقية وجب أن يقابل النسبة العددية بين كيلة الذرة وحبة الذرة وجزء علي عشرة آلاف من الحبة، نسبة مساوية لها بين الأصوات الحادثة من سقوطها إلي الأرض، ولكن الواقع يخالف ذلك، فالكثرة إذن ليست حقيقية .

 وهذه الحجة تعتمد علي الصيغة المنطقية بشكل مضمر، وذلك علي النحو التالي:

[(ق > ك) . (ق > ~ ك]:>: ~ ق .

 حيث تشير " ك" إلي ما ينتج عن تسليم الخصم . وتشير " ~ ك " إلي ما هو في الواقع مما يخالف ما نتج عن الفرض المحال .

 أما بالنسبة لحجج نفي الحركة، نجد أن الحجة الأولي والتي تسمي بحجة القسمة الثنائية، وهي تعتمد علي فرض إذا كان المكان موجود فهو موجود في شئ، ولكن الشئ الذي يوجد في شئ يوجد أيضا ي مكان، فالمكان إذن يجب عليه أن يوجد هو نفسه في مكان . وهذا إلي ما نهاية، فالمكان إذن غير موجود .

 وهذه الحجة تعتمد علي الصيغة المنطقية بشكل مضمر، وذلك علي النحو التالي:

ق > ق:>: ~ ق .

 ومعناها إذا كان يلزم عن قضية ما كذب هذه القضية فهذه القضية كاذبة.

 أما الحجة الثانية من حجج نفي الحركة، هي التي تسمي بحجة " آخيل والسلحفاة " وهي شديدة الصلة بالحجة الأولي أو بالأصح تطبيق لها علي مثال، فلو كانت هناك حكة لاستطاع آخيل وهو أسرع عداء في اليونان، أن يسبق سلحفاة تتقدمه بمسافة، إذا بدأ السباق في وقت واحد، ولكنه لا يسبقها لأنه عندما يقطع المسافة الفاصلة بينهما، تكون السلحفاة قد قطعت مسافة أخري، وعندما يقطع المسافة التي قطعتها، تكون السلحفاة قد قطعت ثانية وهكذا إلي ما لانهاية .

 وهذه الحجة تعتمد علي الصيغة المنطقية بشكل مضمر، وذلك علي النحو التالي:

[(ق > ك) . ~ ك]:>: ~ ق .

 وأما الحجة الثالثة فهي التي تسمي بحجة السهم، وهي قائمة علي أن الزمان مؤلف من أنات غير متجزئة، يشغل السهم في كل منها مكاناً مساوياً لطوله، لا يبارحه في كل آن، وبذلك فإنه ساكن غير متحرك في كل آن، أو أنه لا ينطلق إلي هدفه .

 وهذه الحجة تعتمد علي الصيغة المنطقية بشكل مضمر، وذلك علي النحو التالي:

[(ق > ك) . ~ ك]: >:~ ق .

 حيث تشير " ك" إلي انطلاق السهم ووصوله إلي هدفه، وتشير " ~ ك " إلي عدم انطلاقه وعدم وصوله إلي هدفه .

 أما الحجة الرابعة والأخيرة و وهي الحجة المعروفة بحجة الملعب، وهي تقوم كذلك علي كون الزمان مؤلف من أنات غير متجزئة وكون المكان مركبا من نقط غير منقسمة . يحاول "زينون" أن يثبت أن فرض وجود الحركة يؤدي غلي تناقض، فلو تحرك جسم مكون من أربع وحدات (طوله نصف طول ملعب) في عكس اتجاه جسم آخر موازي له ومتحرك بنفس السرعة مركب من أربع وحدات (طوله نصف طول الملعب نفسه)، فإن كلا منهما يقطع طول الآخر في نصف الزمن الذي يقطع فيه كل منهما طول جسم ثابت مكون من أربع وحدات موازي لهما . وعلي ذلك فإن الحركة تقطع نفس المسافة في زمن معين، وفي ضعف من الزمن، فيكون نصف الزمن مساوياً لضعفه، وهذا خلف، فالحركة وهم .

 وهذه الحجة تعتمد علي الصيغة المنطقية بشكل مضمر، وذلك علي النحو التالي:

[(ق> (ك . ~ ك) ]:>: ~ ق .

 يتضح لنا مما سبق أن زينون كان رائداً من رواد المنطق في مرحلة الممارسة العفوية التلقائية، حيث كان لا يوجد أي دليل أنه كان بمقدوره أن يصوغ بعض قوانين برهان الخلف، فقد ترك لأرسطو فيما بعد ليضع صراحة القواعد التي تحكم هذا النوع من الجدل، وكذا لينشئ علم المنطق الصوري . وزينون كما نري لا يدعي أنه سيبرهن علي نظرية من النظريات، وإنما يقتصر علي دحض نظرية خصومه وخصومه هم الفيثاغوريين، ولم تكن غاية زينون المباشرة في بادئ الأمر أن يقيم نظرية أو يبرهن علي صحة نظرية من النظريات، بل كان هدفه أن يهدم نظريات خصمه، وهذا هو الجدل السالب .ثم أن هذا الجدل لا يأتي من مقدمة ثابتة، بل من مقدمات يتقبلها الخصم أو يحبذها . إنه جدل يتجه إلي تبيان عيوب الخصم ومغالطاته ad haminem ... وللحديث بقية...

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم