أقلام فكرية

تجديد الخطاب العقدي في المدرسة الأشعرية (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن تجديد الخطاب العقدي في المدرسة الأشعرية، وهنا نقول: طور الإمام "القاضي أبو بكر الباقلاني" منهج الجدل الأشعري، حيث أضاف إلي هذا المنهج ما يمكن اعتباره بوادر لتطور أعظم لدي من جاء بعده في منهج الجدل الأشعري، ذلك أن المنهج الجدلي عند "الباقلاني" يقوم علي عدة أصول هي:

أ- إن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول:

ويعد الباقلاني، أول من استخدم هذه القاعدة، حيث يقول ابن خلدون ": إن أُبا بكر الباقلاني وضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار ومنها أن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول ".

وهذه القاعدة التي سلكها الباقلاني تتكون من مرحلتين:

الأولي: أن تتلمس أدلة المثبتين للشئ وتثبت كذبها وضعفها، بحيث لا نجد دليلاً آخر علي ثبوت الشئ سواها .

الثانية: أن يقوم بعملية حصر وجوه الأدلة، ثم نقوم باستقراء دقيق لها ينتهي إلي نفي هذه الوجوه كلها، بحيث لا نجد وجوها أخري، هي الأولي بعينها، إذ أنها تنتهي إلي عدم وجود أية أدلة غير الأدلة المنفية، إلا أنها تمتاز عنها بفكرة الحصر.

ب- قياس الغائب علي الشاهد:

وهو المعروف في علم أصول الفقه بالقياس الأصولي، وقد استخدم الباقلاني هذا القياس في آرائه الكلامية، ليرد علي المعتزلة الذين أخذوا بهذا القياس .

ج- الدليل اللغوي التوفيقي:

وهو يمثل أحد عناصر المنهج الجدلي عند الباقلاني، فقد استخدمه في كثير من المسائل التي تتعلق بالمصطلحات الكلامية، كبيان لمعني العرض ومعني القديم والمحدث وشرحه لحقيقة الإيمان وغير ذلك من المسائل.

د- الدليل الشرعي:

ومثلما اهتم الباقلاني في منهجه الجدلي بالأدلة العقلية، فقد إهتم بالأدلة السمعية الشرعية المستمدة من القرآن والسنة والإجماع والقياس .

هـ- الإلزامات:

وإذا كان الباقلاني قد استخدم في منهجه كلا من الأدلة العقلية والنقلية، فإنه قد سلك في نقده لخصومه طريقة الإلزام علي الخصم، وهذه الطريقة تمثل أحد جانبي القياس الأصولي، وهو " قياس الطرد"، وهذا القياس يعني طرد حكم الأصل في الفرع سواء كان الحكم ثبوتا، فيكون الطرد في الإثبات، أو عدميا فيكون الطرد في النفي ".

و- رد الإشكال بإشكال مثله:

ومن الطرق التي سلكها الباقلاني أيضا، طريقة رد الإشكال بإشكال مثله . وهذه الطريقة تقوم علي أساس أن يثير المناظر أشكالا علي دعوي مناظرة فيقوم هذا برد الإشكال بإشكال مثله علي دعوي الأول، بحيث يجعله بين أمرين: إما أن يتخلى عن أشكاله الذي أثاره ويسلم بالدعوي أو يتمسك بإشكاله، فيؤدي إلي تسليمه بدعوي الخصم ويسلم الخصم بدعوي خصمه الأول، فيصير الرأيان صحيحين مسلمين . وهي طريقة لا تفيد يقيناً وإثباتاً قاطعاً لأي من وجهتي النظر اللتين قام الإشكالان ضدهما، وإن كانت تفيد حسم المناظرة أو الجدال القائم بين المتناظرين .

هذه هي سمات المنهج الجدلي عند الباقلاني، ولقد طور كبار الأشاعرة الذين جاءوا بعد الباقلاني المنهج الجدلي الأشعري .

فقد ساير أبو المعالي الجويني وأبو حامد الغزالي وفخر الدين الرازي، أستاذهم الأشعري، حينما استثني من خصومته المنطق، لأن قوانينه فيما يقول هي قوانين العقل الذي اتفق عليها جميع بني البشر .

وباختصار، فإن علماء الكلام، اعتبروا المنطق جزء من الدراسات الكلامية أو مقدمة ضرورية لها، وأطلقوا علي هذا الجانب من كتاباتهم المتعلقة بالمنطق اسم " كتاب النظر " تارة، و " كتاب الجدل " تارة أو " مدارك العقول " تارة أخري ؛ وفي هذا يقول الغزالي:" نعم قولهم أن المنطقيات لا بد من احكامها هو صحيح، ولكن المنطق ليس مخصوصا بهم، وإنما هو الأصل الذي نسميه " مدارك العقول "، فإذا سمع المتكايس المستضعف ام المنطق، ظن أنه فن غريب لا يعرفه المتكلمون، ولا يطلع عليه إلا الفلاسفة، ونحن لدفع هذا الخيال واستئصال هذه الحيلة في الإضلال، نري أن نفرد القول في " مدارك العقول " في هذا الكتاب، ونهجر فيه ألفاظ المتكلمين والأصوليين، بل نوردها بعبارات المنطقيين، ونصبها في قوالبهم، ونقنفي آثارهم لفظا لفظاً، ونناظرهم في هذا الكتاب بلغتهم – أعني بعباراتهم في المنطق، ونوضح أن ما شرطوه في صحة مادة القياس في قسم البرهان من المنطق، وما شرطوه في صورته في كتاب القياس وما وضعوه من الأوضاع في " إيساغوجي" و" قاطيغورياس " التي هي من أجزاء المنطق ومقدماته، ولم يتمكنوا من الوفاء بشئ منه في علومهم الإلهية .

وقد كان أمام الغزالي للتخلص من هذا الإحراج أد أمرين:

1- إما أن يطور هجومه ليشمل المنطق فيرفضه، كما رفض الفلسفة، ويظهر تهافت المناطقة، كما أظهر تهافت الفلاسفة .

2- وإما أن ينظر له علي أنه علم قائم بذاته، ويمكن الإفادة منه في علوم أخري، وليس مجرد آلة للفلسفة أو مدخلا لها، ولما كان من غير المعقول، أن يتبني الغزالي الموقف الأول لم يكن أمامه سوي أن يأخذ بالموقف الثاني، ويعتبر المنطق علما قائما بذاته، وليس جزء للفلسفة أو مجرد مدخل لها، وبهذا الموقف يهاجم الفلاسفة في دعواهم الاستئثار بهذا العلم " المنطق " واضعا له أسماء أخري يشاركه فيها المتكلمون والأصوليون ويحاول أن يلتمس له أصلا غير فلسفي، فهو فن " الكلام" الذي يسميه " كتاب النظر "، وقد وجه لهذا الاسم الأصلي بعض التغيير من قبل الفلاسفة لمجرد التهويل، فسموه باسم " المنطق" .

ومعني هذا أن الغزالي، يعتبر أن الخلاف بين المنطقين وغيرهم من نظار المسلمين، يكاد يكون خلافاً لفظياً، ويري أنه لكي يتخلص المسلمون من الخطأ في الاستدلال في شتي علومهم يجب عليهم أن يستخدموا المنطق، فيقول:" وليكن للبرهان بينهم قانون متفق عليه، يعترف به كلهم فإنهم إذا لم يتفقوا في الميزان، لم يمكنهم رفع الخلاف بالوزن، وقد ذكرنا تلك الموازين الخمسة في كتابنا " القسطاس المستقيم"، وهي الهي يتصور الخلاف منها  بعد فهمها أصلاً، بل يعترف كل من فهمها، بأنها " مدارك العقول " قطعا، والمحصلون لها يسهل عليهم عقد الإنصاف والانتصاف وكشف الغطاء، ورفع الاختلاف، ولكن لا يستحيل فهم الاختلاف أيضاً، إما لقصور بعضهم عن إدراك تمام شروطه، وإما في رجوعهم في النظر إلي القريحة والطبع دون الوزن بالميزان كالذي يرجع بعد تمام تعلم علم العروض في الشعر إلي الوقوق للاشتقاق عرض كل شعر علي العروض، فلا يبعد أن يغلط .

فهو يري أن نظار المسلمين لا بد وأن يتفقوا علي معيار أو قانون أو ميزان من الموازين الخمسة التي يفردها كتابه " القسطاس المستقيم " في برهانهم، وأن يعتبروا هذه الموازين الخمسة الاحتكام إليها في البرهان بالذي يتعلم الشعر، فعليه أولا تعلم علم العروض .

وتتمثل الموازين الخمسة التي ذكرها الغزالي في الأصل إلي ثلاثة أقسام: " أولها: ميزان التعادل، وثانيها، ميزان التلازم، وثالثها، ميزان التعاند، ولكن ميزان التعادل ينقسم إلي ثلاثة أقسام، إلي الكبر، والأوسط، والأصغر، فيصير الجميع خمسة " .

ثم خطا الغزالي خطوة واسعة في سبيل ربط المنطق بعلم الكلام، إذ بدأ واضحا لديه، أن المتكلم ينبغي أن يكون في مقدوره تقدير وزن الآراء المتعارضة، ووزن الحجج هو مادة موضع المنطق، فهو الذي يميز الحجة " الصحيحة" من الحجة " الخاطئة "، كما يميز الحجج " الإقناعية " و" المغالطية " و " الشعرية" عن الحجج البرهانية، وهكذا أصبح المنطق بشكل متزايد أداة أساسية للدراسات الكلامية، كما هو كذلك بالنسبة للفروع الأخرى من المعرفة .

وقد دافع الغزالي عن المنطق دفاعا كبيرا، وكان له مع أستاذه الأشعري الفضل في إبقاء الدراسات المنطقية في المشرق الإسلامي بصورة نهائية.

وهنا نتساءل متي تم للأشاعرة إدخال المنطق في دراساتهم الكلامية ؟

يري بعض الباحثين أن الأشاعرة بدأوا يستخدمون المنطق الأرسطي منذ القرن الخامس في علومهم الدينية، بحيث يعتبر أواسط القرن الخامس من تاريخ الفكر الإسلامي فاصلاً بين عهدين دقيقين: " عهد لم يلجأ (الأشاعرة) فيه إلي مزج علومهم بالمنطق والفلسفة اليونانية ؛ وعهد بدأو فيه (الأشاعرة) عملية المزج هذه، وخاصة في نطاق المنطق .

ويذكر ابن خلدون أن هذه الحركة الأخيرة قام بها الغزالي، حيث يقول:"إن أول من كتب علي منحي المتأخرين، هو الغزالي، وقد عاد إليه من جاء بعده".

وطريقة المتأخرين هنا كما يسميها ابن خلدون، هي الطريقة التي تم فيها تطعيم الأساليب الكلامية بالمنطق الأرسطي؛ لذا "غلب علي طريقتهم الأسلوب القياسي" .

علي أن هناك طريقة أخري، يسميها ابن خلدون بـ "طريقة المتكلمين"، ويمثلها من وجهة نظره "الباقلاني"؛ وهي طريقة قائمة علي المذهب الذري أولا ثم علي العلاقة المثبتة بين الأصول الفلسفية والعقيدة، وعلي القول بأن " بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول" .

ولكن ما هو القطب الذي يدور حوله منهج المتقدمين؟ أهو عدم اهتمام بالمسائل الفلسفية والمنطقية؟ كلا ما دام الأشعري قد تأثر بمنطق أرسطو، لكن الغريب حقا، أن الباقلاني لا يستعمل اصطلاحات أهل المنطق في دراسته الكلامية ؛ إذ لا نعثر علي مؤلف من مؤلفاته، ما يدل علي خوضه في علوم الفلسفة والمنطق ؛ بل بالعكس هاجم الفلسفة والمنطق هجوما عنيفا ؛ حيث يذكر ابن " تيمية" ( ت: 728هـ)، أن للباقلاني كتباً في نقد المنطق الأرسطي، ومن أشهر كتبه "القائق" الذي رد فيه علي الفلاسفة والمنجمين ورجح فيه منطق المتكلمين من العرب علي منطق اليونان ".

وهنا يتضح لنا أن الباقلاني كان أول أشعري يرفض منطق أرسطو، باعتباره منهجا أدي بصاحبه إلي آراء وأفكار تخالف العقيدة الإسلامية في كثير من أصولها .

ويمكن أن نفهم المقصود بطريقة المتقدمين التي أشار إليها ابن خلدون، وهي تمثل كل من لم يأخذ بالمنطق الأرسطي في العلوم الإسلامية؛ ولذلك فالباقلاني يمثل القطب الأساسي لطريقة المتقدمين؛ وهذه الطريقة تمثل قاعدة منهجية تعد أصلا من أصول المنهج عند الباقلاني، وهي أن " بطلان الدليل يؤذن ببطلان الملول"؛ ولم يكتف الباقلاني بهذا، بل راح يستخدم الأدلة العقلية والأقيسة الأصولية وقياس الخلف والإلزامات ؛ إلي جانب الأدلة النقلية والشرعية من القرآن والسنة والإجماع ؛ فضلا عن الأدلة التوفيقية من كلام العرب ولغتهم؛ إلي جانب الاستشهاد بأخبار وآثار الأئمة والعلماء من السابقين عليه، والمعاصرين له بهدف ابطال دعاوي الخصوم، والكشف عما في آرائهم ومذاهبهم من ضعف وتهافت عن طريق إبطال أدلتهم وحججهم عليها .

ولعل هذه هي الأسباب التي جعلت الباقلاني ممتلكا لناصية الجدل الذي تأثر فيه بالمعتزلة، فقد كان متمكنا من الأساليب اللازمة للحجاج من الدليل الحاضر – حصر موقف الخصم في قضيتين لا ثالث لهما لإبطالهما معاً إلي مقابلة الإشكال بالإشكال أو معارضته نظرية الخصم من نتائج فاسدة، فضلا عما وهبه الله من قوة ذاكرة وحضور بديهة .

إن أهم أثر خلفه الباقلاني في تطور المذهب الأشعري، هو هذا النسق المنهجي لموضوعات علم الكلام، وقد تأثر به معظم من جاءوا بعده من متكلمي الأشاعرة .

وهذا يدل علي أن الباقلاني، لم يكن في آرائه مجرد تابع لأستاذه الأشعري مؤسس المذهب، ولا مجرد مواصل لحمل تراث الأشاعرة السابقين عليه، بل لقد تم علي يديه توضيح بعض النقاط، وتحديد كثير من لمفاهيم والمصطلحات وتقديم بعض الآراء والأفكار الجديدة في بعض المسائل التي يشملها المذهب، وهو ما أدي إلي تطوير المذهب من بعض الوجوه، وإلي تقريبه من رأي المعتزلة، وهذا ما لم يفعله بعض العلماء المتقدمين .

إذن الباقلاني يمثل في حد ذاته مرحلة في تطوير الأشعرية، فهو المؤصل الحقيقي للمذهب الأشعري، فلقد نظر المنهج الذي وضعه الأشعري، فبدأت الملامح الأساسية للأشعرية تبرز وتتضح علي يديه . وقد عبر عن هذا المعني ابن خلدون حينما قال:" واخ ذ عنهم (أي تلاميذ الأشعري) القاضي أبو بكر الباقلاني، فتصدر للإمامة في طريقتهم، فهذبها، ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار، وجملت هذه الطريقة، وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية" .

وكان الباقلاني مالكي المذهب، حتي أن بعض المؤرخين يقولون عنه بأنه " إنتهت إليه رئاسة المالكيين في وقته " .

ومن هنا يمكن لنا أن نفسر سر نقده للمنطق الصوري الأرسطي بتمسكه بالفقه المالكي ؛ حيث أن الفقه عموما والفقه المالكي خصوصا، ليبدو منافيا منافاة جذرية للمنهج الاستدلالي في المنطق اليوناني، فهذا الأخير يتقوم بالصورة الذهنية ويقيس الحقيقة بما تكون العلاقة بين الصورة والأخري في الذهن بقطع النظر عن الواقع . أما الفقه فهو أكثر العلوم ارتباطا بالواقع ؛ إذ هو يعالج قضايا واقعية تخص أمور الناس المتجددة، وهذه الأمور كما يقول الشاطبي (ت: 790هـ) لا تضبط بحصر ولا يمكن استيفاء القول في احداها، فلا يمكن أن يستغني عنها بالتقليد ، فمنهج استدلاله يقوم علي الاستقراء وتتبع الجزئيات .

والفقه المالكي يحمل هذا المعني بأكثر مما يحمله أي فقه من المذاهب الأخري، ويظهر هذا باستعراض أصول المالكية التي منها يستخرجون الحكام الفرعية، والتي هي التسعة التالية: الكتاب – السنة – والإجماع – والقياس- والاستحسان- والعرف – وعمل أهل المدينة – والمصالح المرسلة – وسد الذرائع .

وهي إلي جانب كثرتها أو تنوعها، إذ أنها تزيد علي أصول الشافعية بالخمسة الأخيرة، وعلي أصول الحنفية بالثلاثة الأخيرة، إلي جانب ذلك فإنها تصطبغ بالصبغة العملية التي تتمثل في مراعاة مصالح الناس وما تقتضيه تلك المصالح بدراسة واقع المجتمعات دراسة ميدانية .

ولذلك فإن الفقه المالكي يمتاز من بين أنواع الفقه المختلفة، بأنه يغلب عليه مراعاة المصالح  ؛ حيث أنه يجري في أصوله علي منطقها، وإن كان فقهاء المذهب المالكي يأخذون بالقياس، ولكنهم يخصونه في علله لمنطقهم الفقهي، وهو " جلب المصلحة ودفع المضرة "  . ولقد عبر الإمام الشاطبي عن هذا المعني إذ يقول متحدثا عن الاستحسان:" ...مقتضاه الرجوع إلأي تقديم الاستدلال المرسل علي القياس، فإن من استحسن لم يرجع إلي مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما يرجع إلي ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة كالمسائل التي تقتضي القياس فيها أمرا، إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلي فوات المصلحة من جهة أخري، أو جلب مفسدة كذلك وذلك حسب قول  عبد المجيد النجار في كتابة فصول الفكر الفلسفي بالمغرب.

وإذا ما كان الفقه المالكي علي هذا النحو من الواقعية التي تشده إلي ما هو جارٍِِ في حياة الناس الزاخرة المتغيرة لمراعاة مصالحهم، وتطبعه لذلك بالطابع التتبعي الاستقرائي الذي تكون فيه الحقيقة في إصدار الأحكام علي أشد الصلة بالواقع، وإذا ما كان المنطق اليوناني علي ذلك النحو من التجريد الذي لا ترتبط فيه الأحكام إلا بما هو جار في الذهن من الصور، فإنه من الطبيعي أن لا يتأثر الفقه المالكي في صلب منهجه بالمنطق اليوناني لما بينهما من المنافاة في الطبيعة .

إن الفقه المالكي يعالج " سير الحياة المتشابك المعقد ( وهذا) لا يمكن أن يخع لقواعد مقررة جامدة تستنبط استنباطا منطقيا من أفكار عامة معينة، ولو نظرنا إلأي سير الحياة بمنظار المنطق الصوري الأرسطي لبدأ أليا بحتا ليس له في ذاته أصل يبعث فيه الحياة والحركة .

وهنا يتضح لنا أن الفقه المالكي كان له دور بارز في إعراض الباقلاني عن منطق أرسطو .

وثمة إشارة "لأبن خلدون" جديرة بالاعتبار ؛ حيث  يقول:" ثم انتشرت من بعد الجويني علوم المنطق، وقرأه الناس، وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية، بأنه قانون ومعيار للأدلة فق يسبر به الأدلة منها يسبر من سواها، ثم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في فن الكلام للأقدمين، فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدت إلي ذلك، وربما أن كثير منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات، فلما سبروها بمعيار المنطق ردوها إلي ذلك فيها ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله، كما صار الإمام القاضي (الباقلاني)، فصارت هذه الطريقة من مصطلحهم مباينة للطريقة الأولي ".

ويشير ابن خلدون إلي ذلك بقوله:" إن الأولين يتقيدون بمبدأ الباقلاني في أ، بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول، علي حين أن المتأخرين، وبخاصة الغزالي يرفضون بعد ذلك دخول المنطق الأرسطي ".

وإذا تساءلنا عن هذا التمييز والفرق بين الطريقتين، نجد أن بعض الباحثين المعاصرين يري أنه ليس إلا الصلة الضرورية المتبادلة، التي أثبتها المتقدمون بين فلسفتهم الطبيعية وبين العقيدة، وها نحن نري هذه الصلة تنفصم، والذي أدي إلي ذلك، هو استخدام منطق جديد، وهذا المنطق الجديد هو الذي يقوم فاصلا، وهو أمر لا نلبث أن نلاحظه لدي الجويني في كتابه " البرهان في أصول الفه"، وليس المنطق في طريقة المتقدمين، إلا منطقا عربيا إسلاميا جاء من الأصول الفقهية التي يعتمد عليها الفقه في سياقه، ولم يظهر فيه القياس الأرسطي بعده، وقد اشتهرت هذه الطريقة بالباقلاني".

في حين أن طريقة المتأخرين إشتهرت بالغزالي، بينما كان الجويني نقطة الوسط بين طريقة المتقدمين وطريقة المتأخرين ؛ فهو يعتبر أول أشعري أسهم في بناء طريقة المتأخرين، التي تخلت عن الأخذ بقياس الغائب عن الشاهد ؛ وفي هذا يقول الجويني:" فإما بناء الغائب علي الشاهد فلا أصل له، فإن التحكم به باطل وفاقا . والجمع بالعلة لا أصل له، إذ لا علة ولا معلول عندنا، وكون العالم عالما هو العلم الحادث، مخالف للعلم القديم، فكيف يجتمعان في الحقيقة مع اختلافهما؟ والقول الجامع في ذلك: أنه إن قام دليل علي المطلوب في الغائب، فهو المقصود ولا أثر لذكر الشاهد، و؟إ، لم يقم دليل علي المطلوب في الغائب فذكر الشاهد لا معني له وليس في المعقول قياس ".

ولما كان الجويني قد أسهم في بناء طريقة المتأخرين التي تخلت عن الأخذ بقياس الغائب علي الشاهد، فقد استخدم أساليب قياسية منطقية، كفكرة " السبر والتقسيم"، حيث يقول:" السبر والتقسيم، ومعناه علي الجملة أن الناظر يبحث في معان مجتمعة في الأصل، وينتقيها واحدا واحدا، ويبين خروج آحادها عن صلاح التعليل به، إلا واحدا يراه ويرتضاه، وهذا المسلك يجري في المعقولات علي نوعين: فإن كان التقسيم العقلي مشتملا علي النفي والإثبات حاضرا لهما، فإذا بطل أحد القسمين تعين الثاني للثبوت ".

وحتي في الوقت الذي تم فيه اعتماد اساليب قياسية منطقية من طرف الجويني بغية تطعيم المناهج اللامية، لم تستطع فيه تلك الأساليب ممارسة نفسها في وضوح وتميز واستقلال، بل انطبعت بالطابع البياني، أي " طريقة المتقدمين "، فالمقدمات أو ألأصول التي تم للجويني أخذها من منطق أرسطو كانت ناقصة ... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم