أقلام فكرية

علي رسول الربيعي: الكراهيات والجماعات.. تنظير ونقاش للمصادر (1-3)

علي رسول الربيعيهذه دراسة بحثية عن الكراهية جاءت نتيجة حوار أجراه معنا الأستاذ الدكتور نابي بوعلي، لكن ليس حوار بالمعنى التقليدي سؤال وجوابه مباشرة؛ فقد ارتاينا ان تكون أجوبة كدراسة موسعة تتناول قضية تُعد مركبة أنتظاماتها ومعقدة في ابعادها تتضمن قراءة لأهم المصادر الاساس واقتراح راهنة منها لهذا الحقل المعرف. وهي معمقة لأن تحتوي مراجعة تحليلية- نقدية لنظريات بارزة في هذا الحقل، تنطلق من رؤية وأطار نظري محدد.

يدور اهتمامنا هنا حول قضية الكراهيات المتصاعدة التي تؤدي الى صراعات وعنف، ومجال الدراسات[1] التي تتناول هذه الظواهر من خلال مجموعة من الأسئلة المقلقة إلى حد ما حول ما يستطيع البشر العاديون القيام به في هكذا أوضاع وظروف. لقد بلورالأستاذ الدكتور نابي بوعلي مجموعة من الاسئلة بهذا الخصوص وطرحها علينا وهي:

- ما التحديات التي يطرحها خطاب الكراهية، على الأمن الثقافي والمجتمعي واستقرار المجتمعات.

- لماذا الناس على استعداد للموت من أجل الجماعة الدينية/ الطائفة أو العرقية ؟

- ما الذي يدفع الناس إلى محاربة جيرانهم أو أعضاء مدينتهم أو معارفهم باسم العرق والهوية الدينية؟"لماذا يتحول الجيران إلى أعداء؟

- ما الذي يحصل للناس العاديين ما يجعلهم يرتكبون الفظائع أوحتى يدعمونها ضد الأشخاص الذين عاشوا معهم بسلام على مدى عقود؟

- هل من السهل تفكيك خطاب الكراهية والوقوف على جذور المشكلة؟

- كيف ولماذا تلجأ جماعة ما إلى الكراهيات والعنف؟

يبدو من وجهة نظر تحليلية والمستوى الأساس للمعرفة العمليًة والحكم الذي نحتاج إليه جميعًا لمساعدتنا على العيش بطريقة معقولة وآمنة أن فهم علم النفس الاجتماعي لهذه المشكلة أمر بالغ الأهمية. هناك تفسيرات ذرائعية تركز على صانعي الكراهيات والصراع والعنف الجماعي بحسابات الدم البارد من أجل الكسب والسلطة. وهناك القوة العاطفية للانتماء الجماعي كأساس للكراهية للصراع العنيف.

سنركز على القوة العاطفية لارتباطات الجماعة، وكراهية الجماعات الأخرى أو الكراهية خارج الجماعة باعتبارها تحفيزًا للصراع العنيف، من خلال عدسة مقاربات[2] الهوية الاجتماعية. على الرغم من أن تحليلات مكائد النخبة ومصالح السلطة والحرمان من الموارد المهمة بلا شك لفهم حصول الكراهيات وصراعاتها، إلا أنها لا تمثل القصة بأكملها. ما نناقش هنا هو أن الكراهيات والصراع العنيف ليس من المرجح أن يحدث في غياب عمليًة تصعيدية لديناميكيات جماعات الهوية. تتناول هذه الدراسة مجموعة منتقاة من مناهج الهوية الاجتماعية التي تبحث في العلاقة بين تكوين الجماعة وكراهية الجماعة الأخرى الخارجية والعداء والعنف ازاءها. الافتراض الكامن وراء مقاربة أو نهج الهوية الاجتماعية هو أن الكراهيات الجماعية مرتبط بطبيعتها بمجموعة من الاحتياجات البشرية الأساسية إلى حد ما، مما يعني أن الكراهيات بين الجماعات قد تنتج عن آليًات اجتماعية لا مفر منها تقريبًا.

هل من السهل تفكيك خطاب الكراهية والوقوف على جذور المشكلة؟

نحن وهم: التصنيف الاجتماعي وعواقبه

يكمن في النظريات الاجتماعية والنفسية للكراهيات والصراع الجماعي عدد من الافتراضات: لدى الناس حاجة عامة وأساسية للتصنيف، وحاجة للأنتماء وحاجة إلى إحساس آمن للنفس: هذا غالبًا ما يشار إليه باسم "الدافع للهوية".

نحتاج جميعًا إلى تكوين أوصاف للعالم كطريقة لمحاولة اكتشاف ما يجري. فهناك حاجة عند الإنسان لفرض النظام على العالم من خلال العمليًات العقلية. ونشكل، على هذا النحو، فئات من الوصف: لكل من بيئتنا المادية والاجتماعية. نصنف الناس أيضًا عن طريق نماذج أولية معينة مثل: "طفل"، "بالغ"، "ذكر"، "أنثى". لا يمكن التعبير عن التصنيفات التي نلتزم بها بسهولة، في كثير من الأحيان ، لأنها عادة ما تكون غير واعية. ينظر علم النفس الاجتماعي، إلى هذا الميل لتصنيف العالم الاجتماعي بوصفه عملية معرفية تدعمها حاجة طبيعية للنظام والتبسيط. وفقًا لتاجفل:

تنشأ القوالب النمطية من خلال عمليات التصنيف. فهي تقدم البساطة والترتيب حيث يوجد تعقيد وتنوع شبه عشوائي. إنها يمكن أن تساعدنا في التأقلم فقط إذا تم نقل الاختلافات الغامضة بين الجماعات إلى اختلافات واضحة، أو اختلافات جديدة حيث لا توجد اختلافات.[3]

لكن ليس التصنيفات للفئات الاجتماعية مجرد مفاهيم معرفية تساعد الأفراد على فهم عالمهم الاجتماعي. أنها تقيميًة وعاطفية أيضًا.[4] فبمجرد أن يتحد الناس كجماعة، تصبح هذه الجماعة أساس التفكير والشعور والتمثيل.[5] يعني "تصنيف الذات/ النفس كعضو في في جماعة استيعاب واستغراق الذات في النموذج الأولي لفئة الجماعة وتعزيز التشابه مع أعضاءها الآخرين".[6] تضع عملية التصنيف هذه الأساس للتمايز الاجتماعي. يهتم علماء النفس الاجتماعي الذين يعملون في تقليد مناهج الهوية الاجتماعية بعواقب التصنيف الاجتماعي. لقد تطورت مناهج الهوية الاجتماعية منذ الثمانينيات، إلى منظور نظري أثر على طريقة فهم الذات الجماعية وسير العمليات المشتركة بين الجماعات.[7] ركزت التجارب البحثي، على قضايا مثل الكتابة، والتحيز والتمييز، والتصور الذاتي، والحد من عدم اليقين، والتصنيف المتعدد والتنوع.[8]

سنناقش هنا مجموعة محددة من مناهج الهوية الاجتماعية التي تتعامل مع الكراهيات والصراع العنيف بين الجماعات فقط. إن حاجتنا البشرية للتصنيف الاجتماعي، جنبًا إلى جنب مع القيمة والأهمية العاطفية المرتبطة بعضوية أي جماعة، أمر بالغ الأهمية لشرح الكراهيات والعنف بين الجماعات. تجادل المقاربة او النهج الأول، الذي يجد قاعدته في نظرية الهوية الاجتماعية، بأن الأشخاص يتماهون مع الجماعات كوسيلة للشعور بالرضا عن أنفسهم، وهو ما يعرف بـ ("مبدأ الإيجابية الداخلية"). تصبح الكراهيات والعنف الجماعي محتملًا إذا شعر أعضاء الجماعة أنه لا يمكنهم تحقيق هذه الإيجابية إلا من خلال إهانة الجماعة الأخرى اوالخارجية بالنسبة لهم. تجادل، المقاربة الثانية، نظرية بروير للتميز الأمثل، بأن ، إذا تعرضت حاجتنا إلى هوية آمنة للخطر، قد تسبب الكراهية والاشمئزاز تجاه "الآخر"، والاستعداد لاستخدام العنف. سنناقش هاتين النظريتين هنا.

نظرية الهوية الاجتماعية

على الرغم من أن نظرية الهوية الاجتماعية معروفة بشكل كبير، إلا أن أهوال الحرب العالمية الثانية هي التي ألهمت "الأب المؤسس" هنري تاجفيل (1919-1982) لتطوير منهجيته النفسية- الاجتماعية للكراهيات والصراع بين الجماعات. شكلت تجارب تاجفيل بصفته يهوديًا بولنديًا في أوروبا أثناء صعود النازيين، (الحرب العالمية الثانية)، والمحرقة، وإعادة توطين الأوربيين النازحين بعد الحرب اهتمامه بالتحيز والتمايًز واالكراهيات والصراع بين الجماعات. رفض تاجفل ما أسماه "نموذج الدم والشجاعة" للعلاقات بين الجماعات التي هيمنت على علم النفس الاجتماعي في حقبة ما بعد الحرب العالمية بتركيزها على الغريزة (علم الأحياء) واللاوعي (التحليل النفسي) باعتبارهما من الدوافع المهمة للعلاقات الاجتماعية بين الجماعات. كانت حجته الرئيسة هي: لا يمكن اختزال الظواهر الجماعية مثل الكراهيات والعنف في دوافع الفرد أو غرائزه أو سماته الشخصية، ولكن يجب فهمها بوصفها ناتجة عن عضوية الفرد في جماعة. فلا يمكن فهم العلاقات بين الجماعات بشكل صحيح دون مساعدة من جوانبها الأدراكية (المعرفية). يعتقد تاجفيل، مثل آخرين، أن القوى الاجتماعية هي التي تشكل الفعل الفردي.[9] وأن التحدي الذي يواجه علم النفس الاجتماعي هو تنظير كيفية حدوث ذلك.[10] تكمن، في نظرية الهوية الاجتماعية، فكرة أن الأفراد يسعون إلى تقليل حالة عدم اليقين وتحقيق شعور إيجابي وآمن للذات من خلال مشاركتهم وانتماءهم للجماعة. ينتج عن هذه النزعة البشرية تكوين جماعات داخلية وخارجية. إن دراسة الكراهيات والعنف بين الجماعات هي الطريقة التي تسلط بها نظرية الهوية الاجتماعية الضوء على كيفية قيام التصنيف الاجتماعي بديناميات تصعيدية حركية للمقارنة الجماعة، والمنافسة الجماعية، وفي النهاية، العداء الجماعي. ليست فكرة وجود علاقة بين تكوين الجماعة والكراهيات والعنف بين الجماعات جديدة. فقد قدم الدارويني الاجتماعي ويليام جراهام سُمنر مصطلح "المركزية العرقية" وصفًا لها أذ يرى:

ينشأ التمايز داخل الجماعة أومقابل الجماعة الأخرى. ويرتبط الأشخاص المنتمون الى الجماعة نفسها بالسلام والنظام والقانون وحكوم بعضهم البعض. وأن علاقتهم بالغرباء، أو الجماعات الأخرى، هي علاقة عداء وربما حرب، إلا بقدر ما قامت الاتفاقيات بينهما بتعديلها. إن علاقة الرفقة والسلام بين اعضاء الجماعة وعلاقة العداء والحرب تجاه الجماعات الأخرى متلازمان مع بعضها البعض. إن المركزية العرقية [والطائفية] هي الأسم المعبر عن وجهة النظر هذه للأشياء والتي تكون فيها جماعة الفرد هي مركز كل شيء، حيث يتم تحجيم كل الآخرين وتصنيفهم بالرجوع إليها. كل جماعة تغذي كبريائها وغرورها، وتتباهى بتفوقها، وتمجد آلهتها، وتنظر بازدراء إلى الغرباء.[11]

شكلت هذه النظرة حول ميل البشر إلى "الانقسام والمقارنة '' الأساس لـ نظرية الهوية الاجتماعية. لا تزال تعتبر عناصر سمنر الأربعة عن المركزية العرقية العمود الفقري للعديد من النظريات التي تعالج الكراهيات والصراع العنيف بين الجماعات. يمكن تمييز المبادئ الأربعة التالية من نص سُمنر.[12]

1. مبدأ التصنيف الاجتماعي. لدى البشر حاجة عامة وأساسية لتصنيف عالمهم الاجتماعي: يتم تنظيم الجماعات البشرية في فئات منفصلة داخل جماعة وخارجها.

2. مبدأ الإيجابية داخل الجماعة. يقدر الأفراد جماعاتهم بشكل إيجابي ويحافظون على علاقات إيجابية وتعاونية مع أعضاء هذه الجماعة.

3. مبدأ المقارنة بين الجماعات. يتم تعزيز الإيجابية داخل الجماعة من خلال المقارنة الاجتماعية مع الجماعات الأخرى التي يتم فيها تقييم السمات والنتائج داخل الجماعة على أنها أفضل من تلك الخاصة بالجماعات الأخرى أو متفوقة عليها.

4. مبدأ العداء للجماعة الأخرى. تتميز العلاقات بين الجماعة في داخل وخارجها بالعداء والصراع والازدراء المتبادل.

ادعى سمنُر أن هذه العناصر الأربعة تترابط في نمط مميز للعلاقات بين الجماعات. تكمن، وراء الافتراض القائل بأن البشر لديهم حاجة طبيعية للهوية والانتماء، ويتم التعبير عنها في ارتباطات الجماعة (الخطوة الأولى)، وأن لديهم حاجة إلى تقدير ايجابي للذات (الخطوة الثانية) العديد من النظريات الاجتماعية النفسية المعاصرة بخصوص العلاقات بين الجماعات. ولكن بينما يُنظر الى المبدأين الأولين على أنهما أساسيان وعامان شاملان، هناك نقاش كبير حول التحول من الخطوة الثالثة إلى الرابعة، أي من مقارنة الجماعة نفسها مع الجماعات الأخرى الى عداءها لتلك الجماعات، إما باعتبارها متأصلة في عملية تشكيل الجماعة أو تتطلب شروطًا محددة وإضافية. أصر تاجفيل وتورنر، على سبيل المثال، على إدخال "المنافسة" كعنصر إضافي لشرح التحول إلى الكراهيات والعنف الجماعي. سنناقش هنا الخطوات واحدة تلو الأخرى: المقارنة، المنافسة، والعداء.[13]

المقارنة ونرجسية الاختلاف الطفيف

إن إحدى النتائج الرئيسة لـ نظرية الهوية الاجتماعية هي أن البشر يسعون إلى إحساس آمن بالنفس من خلال السعي لتحقيق هوية اجتماعية إيجابية أو الحفاظ عليها. يمتلك يعتبر الأفراد أن من واجبهم هو أدراك أن جماعتهم مناسبة ومواتية، حتى لو تم فرض التصنيف عليهم أن يكونوا في جماعة بشكل عشوائي. مما يعني ضمنيًا أن جذور التحيز والقوالب النمطية تكمن في عمليات التفكير العادية إلى حد ما، وعلى وجه الخصوص، في عمليات التصنيف. نريد جميعًا أن "نفتخر بأنفسنا كمتفوقين"، على حد تعبير سمنر. ولكن كيف يتم تأسيس هذه الإيجابية، لا سيما في أوضاع "الحياة الواقعية"؟

يعد مبدأ المقارنة الخاص بـُسمنر[14] أحد المكونات المهمة لنظرية الهوية الاجتماعية: فنحن نقيًم حالتنا من خلال مقارنة أنفسنا بالآخرين. لكن معايير التقييم ليست مطلقة، والإيجابية نسبية في الغالب: فلا يمكننا أن نكون "أغنياء" إلا إذا كان هناك "فقراء" و"مجتهدون" الأً إذا كان الآخرون "كسالى" و "متقدمون" الأً اذا " كان الآخرون "متخلفين". إنه يعتمد، إلى حد كبير، على ما إذا كان المرء ينظر إلى الهوية الاجتماعية بشكل إيجابي وعلى مدى تفضيل الجماعة التي ينتمي اليها مقارنة بالجماعات الأخرى.[15] تنتج عملية المقارنة بين الجماعات هذه ديناميكية تنافسية تحاول الجماعات فيها تحسين وضعها بالنسبة إلى الجماعات الأخرى. "إن محاولة تحقيق مكانة متفوقة نسبيًا للجماعة الداخلية، ايً داخل الجماعة نفسها، على أساس أبعاد القيمة والتقدير، هي العامل الرئيس المؤدي إلى السلوك التمييزي بين الجماعات".[16]. تعتبر هذه الخطوة من المقارنة إلى المنافسة، بالنسبة لمحللي الصراعات، مهمة، لأنها تعني التحول إلى صراع علني. لكن دعونا أولاً نلقي نظرة فاحصة على مبدأ المقارنة. كما ذكرنا سابقًا ، يحاول أعضاء الجماعة تحقيق هوية جماعية إيجابية من خلال المقارنة مع الغرباء. تصبح معرفة حالة الغرباء مهمة لتقييم حالة أو وضع الجماعة الداخليًة نفسها. هذا هو الحال، خصوصًا، عندما يكون هناك عدم يقين بشأن الوضع الاجتماعي للجماعة.[17] ولكن لن تؤدي أي مقارنة إلى النتيجة نفسها. فمثلما سأعزز تقديري لذاتي فقط كسباح مدرب جيدًا من خلال تجاوز سباح قوي بنفس القدرة (أو بالأحرى متفوقًا) وليس بضرب مجموعة من الأطفال في سن الخامسة، كذلك يميل أعضاء االجماعة إلى أن يقارنوا أنفسهم بالآخرين ذوي الصلة بذات المستوى. الملاءمة المطلوبة مثيرة للاهتمام بشكل خاص لأنها تعني أن الذات ( داخل الجماعة ) والآخر (خارج الجماعة) يجب أن يُنظر إليها على أنها متشابهة إلى حد ما.

إذا كانت لا تعني المقارنة لغرض تعزيز القيمة الذاتية (الجماعية أو الفردية) شيئًا إلا عندما يُنظر إلى الآخر على أنه وثيق الصلة بالمقارنة، وبالتالي فهو مشابه بمعنى ما، كما يبدو أن نظرية الهوية الاجتماعية تشير إلى ذلك، فإن هذا يساعد بشكل مهم في الإجابة عن السؤال المطروح في بداية هذه الدراسة "لماذا يتحول الجيران إلى أعداء؟" ونعني بالجيران أولئك الأشخاص الذين لديهم الكثير من القواسم المشتركة، والذين بنقلبون على بعضهم البعض. كلما كان الناس أكثر تشابهًا، كلما كانوا أكثر صلة بملاحظة الآخر لغرض مقارنة الهوية وزادت حدة المنافسة المحتملة بين الجماعات. هذا ما أطلق عليه فرويد "نرجسية الاختلاف الطفيف". فقد لاحظ، في مقال كتبه قرب نهاية الحرب العالمية الأولى،[18] أن "الاختلافات الطفيفة بين الأشخاص المتشابهين هو الذي يشكل أساس مشاعر النظر للآخر كغريب وكذلك مشاعرالعداء بينهم". كان تحليل فرويد في الأصل يركز على الاختلافات الجنسية، لكنه قام لاحقًا بتطبيق فكرة نرجسية الاختلافات الطفيفة على الجماعات. يشرح كيف تكمن النرجسية في صميم تعريفات الذات العدائية قائلًا:

قد ندرك التعبير عن حب الذات - النرجسية في الكراهية غير المقنعة والنفور الذي يشعر به الناس تجاه الغرباء الذين يتعين عليهم التعامل معهم. يعمل حب الذات هذا من أجل الحفاظ على الفرد، ويتصرف كما لو أن حدوث أي اختلاف في مسار تطوره الخاصة ينطوي على انتقاد لهم ومطالبة بتغييرهم.[19]

أقترح مايكل أغناتيف[20] مستنيرًا بفكرة فرويد عن الاختلافات الطفيفة،أن التفكير في القومية العرقية هو نوع من النرجسية. الأهم من ذلك، أنه يشير إلى كيف يلفت تحليل فرويد انتباهنا على العلاقة المتناقضة بين النرجسية والعدوان. ولأن الاختلافات بين الجماعات طفيفة على وجه التحديد، يجب التعبير عنها بقوة وبطريقة عدوانية. فكلما قلًت الاختلافات الجوهريًة بين جماعتين كلما كافح كلاهما لتصوير تلك الاختلافات على أنها مطلقة''. [21] يجادل إغناتيف أن القومي يأخذ "الاختلافات الطفيفة" غير المهمة في حد ذاتها - ويحولها إلى اختلافات رئيسة: تؤدي المبالغة المنظمة في تقدير الذات إلى تخفيض منظم لقيمة الآخر ومكانته. هذا مسعى لمرض انفصام الشخصية في كثير من الأحيان. وكما أشار فرويد، يدفع الأفراد ثمنًا نفسيًا للانتماء الجماعي: يجب عليهم تحويل الرغبة في التوافق مع الجماعة ضد فرديتهم. يستشهد إغناتيف بمثال القرويين الذين أنقلبوا ضد بعضهم البعض خلال الحرب الصربية الكرواتية في أوائل التسعينيات. كان الرجال على جانبي خط المواجهة جيرانًا ذات يوم: ذهبوا إلى المدرسة نفسها، وعملوا في نفس المرآب، ولعبوا في ملعب كرة القدم نفسه: "الآن عليهم قمع ذكرياتهم عن العلاقات المشتركة والصداقات السابقة مع أولئك الموجودين على الجانب الآخر، والتواصل حصريًا مع بعضهم البعض كـ" صربي "مقابل" كرواتي". كما أشار إغناتيف:" يجب عليهم القيام ببعض العنف لجعل قناع الكراهية مناسبًا'.[22]

تسمى هذه العملية- طبقًا لمصطلح تاجفيل- نزع الشخصية (المرحلة التالية غالبًا ما تكون نزع الإنسانية) من أعضاء الجماعة الأخرى.[23] تحولت طبيعة علاقاتهم، كما في حالة القرويين، بوصفها سلسلة متصلة من العلاقات الشخصية (يتم تحديد التفاعل بين الناس من خلال علاقاتهم الشخصية وخصائصهم الفردية) إلى علاقة بين جماعات (إن ما يحدد سلوك الأفراد تجاه بعضهم البعض عضويتهم في جماعات مختلفة). إن تفسير كيف ينتهي المطاف بالمجتمعات الى الانقسام الى جماعات متطرفة سيعزز بشكل مهم فهمنا للكراهيات والصراع.

نلاحظ، بالعودة من وجهات النظر أعلاه إلى مبدأ المقارنة، أنه إذا كانت المقارنة (سواء بين الأفراد أو بين الجماعات) تخدم الغرض من تقييم الحالة (من هو السباح الأفضل؟)، فسنرى تبدأ المنافسة فقط عندما يرى أعضاء الجماعة " الآخر أنه ذو صلة لأغراض المقارنة الاجتماعية. عندها فقط سيبدأون في محاولة تطوير هوية إيجابية فيما يتعلق بالجماعة الأخرى. وبالتالي، كلما كان الحكم على "الآخر" أنه أفضل، كان تقييمنا الذاتي له أسوأ. هذه هي الطريقة التي تتحول بها المقارنة إلى المنافسة: لا يمكن تحقيق التقييم الذاتي الإيجابي إلا على حساب الآخر.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

................................

[1] للتوسع أنظر:

Ashmore, Richard D., Lee Jussim and David Wilder (2001) Social identity, intergroup Conflict, and Conflict Reduction, Oxford: Oxford University Press.

Hogg, Michael A., Arie Kruglanski and Kees van den Bos (eds) (2013) 'Special Iss ue: Uncertainty and Extremis m' , Journal of Social Issues 69 (3).

lgnatieff, Michael (1999) 'T he Narcissism of Minor Difference' in The Warriors Honor. London: Vintage, pp. 34-71.

Tajfel, Henri ( 198 1) Human Groups and Social Categories, Cambridge: Cambridge Unive rsity Press.

[2] نستعمل كلمة مقاربة ونهج بمعنى مطابق

[3] Tajfel, Henri, ( 1981) Human Groups and Social Categories, Cambridge: Cambridge University Press, 132.

[4] Tajfel, Henri, (1981) Human Groups and Social Categories, 229.

[5] Verkuyten, Michael (2007) 'Social Psychology and Multiculturalism', Social and Personality Psychology Compass 1: 280-97,350.

[6] Brewer 2001. 'Intergroup Identification and Intergroup Conflict: When does intergroup Love become Outgroup Hate?' in: R. Ashmore, L. Jussim and D. Wilder (Eds.) Social Identity, Intergroup Conflict, and Conflict Reduction, Oxford: Oxford University Press,20.

[7] Abrams, D. and M. A. Hogg (1998) 'Prospects for Research in Group Processes and Intergroup Relations', Group Processes & Intergroup Relations l: 7-20.

Robinson, W. Peter (Ed.) (1996) Social Groups and identities: Developing the Legacy of Henri Tajfel,

Oxford: Butterworth-Heinemann.

[8] للحصول على فكرة عامة ، أنظر:

Hogg (2012) 'Uncertainty-identity Theory' in: P.A. M. Van Lange, A. W. Kruglanski and E.T. Higgins (Eds.), Handbook of Theories o f Social Psychology, Thousand Oaks: Sage, 62-80.

[9] Sherif, M., 0. J. Harvey, B. J. White, W.R. Hood and C. W. Sherif (l961) Intergroup Conflict and Cooperation: The Robbers Cave Experiment, Norman: University of Oklahoma Book Exchange.

[10] Hogg, M.A. (2006) 'Social Identity Theory' in: P. J. Burke (Ed.) Conlemporary Social Psychological Theories, Palo Alto: Stanford University Press,112.

[11] Sumner, William G. (1906) Folkways and Mores, New York: Schocken Books,12-13.

[12] Brewer, Marilynn (2001) 'intergroup Identification and Intergroup Conflict: When does lntergroup Love become Outgroup Hate?' in: R. Ashmore, L. Jussim and D. Wilder (Eds.) Social Identity, Intergroup Conflict, and Conflict Reduction, Oxford: Oxford University Press,19 .

[13] Tajfel, Henri and John Turner ( 1986) 'The Social Identity Theory of Intergroup Behaviour' in:

S. Worchel and W. Austin (Eds.) Psychology of intergroup Relations, Chicago: Nelson-Hall.

[14] Sumner, William G. (1906) Folkwa ys and Mores.

[15] SeuI, Jeffrey R. (1999) "'Ours is the Way of God": Religion, Identity, and lnter-Group Conflict',

Journal of Peace Research 36 (5): 553-69.

557.

[16] Tajfel, Henri and John Turner ( 1986) 'The Social Identity Theory of Intergroup Behaviour' in:

S. Worchel and W. Austin (Eds.) Psychology of intergroup Relations, Chicago: Nelson-Hall.83.

[17] Festinger, L. (1954) 'A Theory of Social Comparison Processes', Human Relations 7: 117-40.

[18] Freud, Sigmund. (1918) 'The Taboo of Virginity', أنظر . 11: 191-208.

[19] Freud, Sigmund. (1918) 'The Taboo of Virginity', 199.

[20] lgnatieff, Michael ( 1999) The Warriors Honor, London: Vintage.

[21] lgnatieff, Michael (1999) The Warriors Honor, London: Vintage,51.

[22] lgnatieff, Michael ( 1999) The Warriors Honor, London: Vintage,51.

[23] Tajfel, Henri, (1981) Human Groups and Social Categories, ,240.

 

 

في المثقف اليوم