أقلام فكرية

حسين علاوي: هيجل وتأويل الروح

حسين علاوياتسمت فلسفة تأويل الروح عند هيجل بسمات خاصة فكانت بمثابة نقطة تحول هامة في مجرى التفكير في العصر الحديث.. ورغم ان بعض آراء هيجل اصبحت اليوم اراء كلاسيكية.. الا ان الفلاسفة اللاحقين له عملوا على نشرها ودعمها.. بعد ان اخفوا الماركسيين جوانبها الروحية لان هيجل يأبى ان ينسب الى الطبيعة أي المادة.. ما دامت الطبيعة في نظره لا تعرف ترقيا او تطويرا بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة.. لا لأن في الطبيعة الشيء الكثير من مظاهر التغيير بل لأنها لا تخرج عن كونها عمليات تكرارية ذات حركة دائرية.. ولا تتطور، ولا تترقى في الزمان، بل تظل دائما على ما هي عليه.. واذا كان الفارق جوهريا بين الطبيعة من جهة والروح من جهة اخرى، فذلك لان للروح تاريخا يتحقق في الزمان.. فمنذ الأزل وضعت الروح نفسها في حركة سرمدية لا يمكن أن تتوقف.. أو كما وصفها هيجل بأنها روح العالم التي كانت كالمخلوق الوحيد اليتيم الذي دخل حيز المكان والزمان اللامتناهييْن، وكان عليها بالتالي أن تؤمّن نموها واستمراريتها من خلال الصراع.. (هيجل وفيورباخ، حنا ديب، ص291).

والروج عند هيجل تمرّ بمجموعة من المراحل المعرفية، فهي عندما تكون حاسة، أو مدركة حسياً، فإنها تجد موضوعها في شيء حسي.. وحين تتخيل تجد موضوعها في تصوير ذهني.. وهي حين تريد تجد موضوعها في هدف أو غاية.. لكن في مقابل ذلك كله لا بد أن تشبع حياتها الداخلية العليا، وهي الفكر.. وهو أعمق ما في الذات.. وهنا تعود الروح إلى نفسها بأعمق معنى الكلمة.. (هيجل الموسوعة الفلسفية، د. إمام عبد الفتاح إمام، ص23).

فالإنسان جزء من الطبيعة، فهو وجود مادي خارجي يخضع لسيطرة قوانين الطبيعة.. وهو من ناحية أخر وجود روحي أو كائن حي عاقل له عالم روحي واسع.. ورغم أن الطبيعة أداة لأجل بلوغ الإنسان الوعي فيها، إلّا أنه تغرب فيها..

ويُشكِل فيورباخ على هيجل وتقسيمه لوجود الإنسان في الطبيعة، ويعتبر أنَّ مكان هذه الوحدة هو الفرد الإنسان من خلال الحواس التي هي نوافذ العقل الذي يفكر.. (هيجل وفيورباخ، مصدر سابق، ص292)

ويعتبر هيجل إن ما هو روحي يتميز عما هو طبيعي.. كما يتميز بصفة خاصة عما هو حيوان.. فالحياة الروحية لا تتسم بأنها مجرى متصل محض من النزوع، وإنما هي تنقسم على نفسها لكي تحقق ذاتها.. (هيجل الموسوعة الفلسفية، مصدر سابق، س108).

 في حين ان كل تحقق طبيعي لا يكاد يعدو حدود المكان.. وبهذا يمكن ان نقول ان التاريخ في نظر هيجل وقف على الروح دون الطبيعة.. لان الروح وحدها التي تستطيع ان تبدع ذاتها، ولان التاريخ انما هو النتيجة المترتبة على فاعلية الروح حين تخلق وجودها بفعلها وتديمه بانطلاقتها.. وقد وقع في ظن الكثيرين ان التاريخ مجموعة من الصدف او الاحداث العارضة في حين ظن اخرون ان التاريخ هو من خلق بعض الافراد الممتازين كالقادة او الزعماء او الابطال.. الا ان هيجل يعتبر ان التاريخ هو وليد عمل الشعوب، لا الافراد رغم تأثر الكثير من كتاباته بنابليون.. وهيجل يعارض شتى النزعات الفردية المتطرفة.. فيقرر بكل قوة ان سائر المبدعات الهائلة التي حققتها الروح البشرية، عبر العصور المختلفة، انما هي من خلق ذلك الجهد الجماعي المشترك الذي قامت به الانسانية منذ الاف السنين، والتاريخ بتطوره في نظر هيجل هو تحقيق لملكوت الله على الارض.. فيقول في مقدمة كتابه (فلسفة التاريخ).. ليس هناك مبرر لليأس من مصير الانسان، او الطعن في عدالة الله.. واذا عرفنا ان البشر ليس الا لحظة مؤقتة في تاريخ التطور العلمي الشامل، امكننا ان ندرك كيف ان الحقيقة الموجبة هي التي تجيء فتستوعب في ثناياها على حقيقة سالبة وليس في وسع العقل ان يعلق كبير اهمية على ما قد يلحق ببعض الافراد من غنى، فان من شأن امثال هذه الوقائع الجزئية، ان تمحي بالضرورة في تلك الحقيقة الشاملة ومعنى هذا ان الغايات الجزئية تذوب في طوايا التاريخ الكلي بحيث ان الفيلسوف ليجد نفسه مدفوعا الى القول بان التاريخ على الرغم من كل ما يتوطي عليه من مظاهر تناقض وصراع والم.. انما هو في صميمه تحقيق لملكوت الله على الارض.. وفي كتابه (فينومينولوجيا أو ظاهريات الروح) يؤسس هيجل لمعرفة علمية تجمع العلم بحرية الذات.. والمطلق عند هيجل هو الذات.. وعندنا المطلق هو الله.. وفي الصوفية، إنَّ الله هو الذات، وإن الذات الإلهية والإنسانية هي ذات واحدة.. (وإنه أقرب إلينا من حبل الوريد).. إلّا أنه يعتبر التطور هو المطلق أيضاً، لأنه يخلص الإنسان من الأوهام.. ويعتقد عدم وجود ظواهر مدركة وغير مدركة، وإنّ كل الظواهر تُدرك بالحس.. وإنَّ العقل قادر على وصف الظواهر.. وإنَّ الوعي بالذات ثم العقل أعلى درجة من درجات الوعي.. ثم المعرفة المطلقة التي تتجاوز الوعي بالذات والعقل.. (أنظر: هيجل، مقدمة فينومينولوجيا أو ظاهريات الروح، ترجمة: ناجي العونلي)..

فهناك تداخل بين العقل والروح عند هيجل.. فهو لا يفرق مثلما نفرق نحن في كتب الفلسفة الإسلامية والصوفية، بين العقل والروح والنفس والوجدان..

ويعتقد ان الروح بدأت تدرك نفسها وتحقق حريتها من خلال الاغريق .. الا انه يقول لم تكن حرية الروح قد بلغت كمالها، ولم يتمتع بالحرية عند الاغريق الا طائفة قليلة بينما كانت كثرتهم عبيدا ارقاء.. وبعد سقوط روما ظهرت الام الجرمانية على مسرح التاريخ وهنا بلغت الفكرة ذروة الادراك الكامل لأول مرة وجاءت الوحدة الروحية بين الناس مكان الوحدة الدنيوية.. وكما سادت العقيدة المسيحية بين الناس اعترف الانسان بإنسانيته كما اعلن الاخاء بين البشر..

ان هيجل اول كاتب حاول ان ينظر الى سير العصور كلها كحركة واحدة شاملة من خلال الروح التي تتجلى فيها وتظهر.. ورغم ان هنالك عدم دقة في بعض التفصيلات ومن اختياره للحقائق، لا يقوم الا على تفسير خاطئ للأحداث.. واخيرا بعد ان سارت الروح هذا الشوط الطويل، واجتازت تلك المراحل المتتابعة فإنها تصل اخر ما تصل الى مرتبة الروح المطلق، حيث تمحي كل الفوارق بين الذات والشيء.. وبين الفكر والوجود.. بين اللانهائي والنهائي المحدود.. وتبلغ الروح بعد هذه الشقة الطويلة آخر مرتبة ادراك نفسها..

والدين يمثل في تصور هيجل جزءا من سلم آليات ادراك ماهيّة الروح.. وبحسب (والتر ستين) اكثر المتخصصين بفلسفة هيجل.. ان ماهيّة الروح ليس الشعور والوجدان ولا الانفصال او الوعي الحسي ولا حتى الفهم بل العقل.. وبعبارة اخرى هي الفكرة الشاملة.. وماهية الروح هي الفكر بما هو فكر او الكلي.. وبالتالي ان أي ادراك حقيقي للمطلق لا بد ان يتعرف عليه لا بوصفه موضوعا من موضوعات الحس وانما على انه فكر خالص او عقلي كلي.. ومثل هذه المعرفة لا توجد الا في الفلسفة.. وتجري الروح هذه المصالحة بواسطة الخشوع والعبادة.. أي بواسطة الشعور.. وهو يؤكد انه لا المادة ولا الوعي البشري يمكن اعتبارها اولية.. لأنه لا يمكن منطقيا استنتاج الوعي من المادة.. كما لا يمكن استنتاج المادة من الوعي الانساني.. بل يجب ان ينظر لهذا الوعي نتيجة لجوهر اولي مطلق.. وكل هذا ينظر اليه من خلال وحدة الوجود والفكر.. والفكر عند هيجل ليس نشاطا انسانيا ذاتيا فحسب.. بل هو ايضا ماهيّة موضوعية مستقلة عن الانسان.. ومصدر اساسي اولي لكل ما هو موجود.. وهذا ما يؤكده السيد محمد باقر الصدر في نظام العبادات حيث يقول: ان العبادة ثورة على المادة.. لا لرفض الاخيرة، بل لإخضاعها الى القيم الالهية.. فالسير نحو المطلق كله علم وكله قدرة، وكله عدل، وكله غنى، يعني ان تكون المسيرة الانسانية كفاحا متواصلا باستمرار ضد كل جهل وعجز وظلم وفقر..

وفلسفة الروح عند هيجل قمة الآراء الفلسفية عن تطور المعرفة الفردية والاجتماعية.. وعن التطور العقلي للبشرية.. وتاريخ البشرية لا يكون الا من خلال الفن والدين والفلسفة.. وهي الأشكال العليا لوعي الروح.. وهو ما رفضه مفكري الماركسية.. واعتبروه ديالكتيك أي جدل يفهم على انه حركة للفكر الخالص ميتافيزيقيا.. وان وعي الانسان هو انعكاس للواقع الموضوعي الموجود خارج هذا الوعي وبشكل مستقل عنه.. واعتبروه آخرون تقدم نحو الحرية العقلية في سياق عملية الحركة ولتطور الطبيعي للإنسان وللبشرية.

 

حسين علاوي

 

 

في المثقف اليوم