أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: الفلسفة الأبيقورية كعلاج للجسد والذهن؟

الأبيقورية هي نظام للفلسفة مرتكز على تعاليم الفيلسوف اليوناني القديم أبيقور، تأسست عام 307 ق.م. طوال التاريخ لم تتعرض فلسفة للإفتراء بقدر ما تعرضت له الفلسفة الابيقورية. بما ان المدرسة اعتبرت "اللذة"هي الخير الوحيد والأعلى، ذلك جعلها عرضة لإنتقادات حادة في العالم اليوناني- الروماني من جانب اولئك الذين نظروا الى اللذة كشيء ثانوي، ومن ثم لاحقا في اوربا المسيحية التي ربطت معظم اللذات بالانحطاط والعار.

الكلمة الانجليزية الحديثة لـ "الايبيقوري" تعني ان شخصا ما كرّس نفسه للمتع الحسية، خاصة الطعام الفاخر والشراب. وهذا ما تجلبه كلمة "اللذة" ايضا للذهن من انغماس حسي.

لكن اتّهام الايبيقورية كفلسفة فاسقة ومنحطة، هو ظلم كبير لتعاليم أبيقور الحقيقية. وبينما فلسفة أبيقور بالفعل تدعم المتعة، لكنها ايضا تضع مختلف انواع المتعة ضمن تسلسل هرمي صارم. وبالنسبة للايبيقوريين فان المتعة الأعظم أهمية هي حالة الهدوء atraxia وتعني حرفيا "عدم الانزعاج". لذا، بينما نحن نستطيع التمتع بالملذات الحسية المتحررة من الذنب، لكننا يجب ان لا نقوم بهذا ابدا بطريقة تهدد صفو الذهن. بالنسبة لإيبيقور، كل قرار نفعله يجب ان يسترشد بما يقودنا أقرب الى حالة الهدوء. وكما هو يوضح ذلك في رسالته الى مينويسيوس:

"عندما نؤكد على المتعة كهدف نهائي، نحن لا نعني مُتع المسرفين التي تتجسد في الشهوانية كما افترضها اولئك الذين هم اما جهلاء او لا يتفقون معنا او لا يفهمون، وانما هي تعني التحرر من الألم في الجسد ومن منغصات الذهن". لذا، بعيدا عن مذهب المتعة المتهورة، الايبيقورية في الحقيقة فلسفة تركز على إزالة الألم والقلق، والتمتع بأشياء بسيطة وبالنهاية السعي نحو حياة الهدوء.

الشاعر والفيلسوف الروماني الشهير لوكريتيوس Lucretius (1) وصف في عمله الايبيقوري الهام (حول طبيعة الاشياء) ان الهدف الايبيقوري هو ما يلي:

"لتجنّب ألم الجسد؟، ولتمتلك ذهنا متحررا من الخوف والقلق، ولتتمتع بملذات الحواس".

الفلسفة كعلاج: العلاج الرباعي للقلق

اذاً، كيف نستطيع العيش بهدوء؟ جواب أبيقور هو ان الجزء الاكبر مما نعانيه من خوف وقلق وتوق شديد انما هو ناتج عن عقائد زائفة لدينا حول أنفسنا والواقع. ابيقور يريد ان يبيّن لنا اننا سلفا لدينا كل ما نحتاج لنعيش حياة سعيدة، لكن عقائدنا الزائفة حول العالم تسبب لنا القلق وتقودنا الى الضلال. (في هذا تشترك الايبيقورية كثيرا مع الرواقية والبوذية". من خلال الاستعمال الحكيم والملائم للعقل، يريد ابيقور اظهار ان العديد من مخاوفنا وقلقنا هي بلا اساس. هو يعتقد انه عبر استعمال الفلسفة كعلاج، نحن نستطيع ان نريح أنفسنا من آلام الحياة.

أبيقور يحدد أربعة امثلة رئيسية عن الألم، ويقدم حلولا فلسفية له. وبهذا، الايبيقورية احيانا تسمى "العلاج الرباعي" الذي يمثل الأركان الأربعة لعقيدة ابيقور الرئيسية:

1- لا تخف من الآلهة

2- لا تقلق من الموت

3- ما هو خير من السهل الحصول عليه

4- ما هو مزعج من السهل تحمّله

اتّباع هذه الشعارات الأربعة سيجعلك جيدا في طريقة عيشك لحياة هادئة، حياة سعيدة حرة من القلق. سنحاول توضيح الثلاثة الاولى منها تباعا:

1- الخوف من الآلهة:

أحد المظاهر الهامة في فلسفة ابيقور هو رغبته باستبدال التفسير الغائي (الموجّه نحو هدف) للظاهرة الطبيعية بتفسير ميكانيكي. هذه التفسيرات الميكانيكية للظواهر الطبيعية تستبعد التوضيحات التي تلجأ لرغبة الآلهة. كذلك، ابيقور هو أحد اقدم الفلاسفة الذين أثاروا مشكلة الشر مجادلا بالضد من فكرة ان العالم هو تحت رعاية إله محب وذلك بالاشارة الى مختلف انواع المعاناة في العالم. هو رفض وجود أشكال افلاطونية وأنكر وجود الروح واعتبر الآلهة ليس لها تأثير على الناس.

ورغم هذا، يقول أبيقور ان هناك آلهة لكن هذه الآلهة تختلف تماما عن التصور الشائع عنها. نحن لدينا تصوّر عن الآلهة ككائنات سعيدة ومباركة للغاية . المأسي التي يعانيها الناس في العالم او محاولة ادارة العالم سيكون غير منسجم مع هدوء الحياة حسب أبيقور، لذا فان الآلهة ليس لها أي اهتمام بنا. في الحقيقة هي غير مطّلعة بوجودنا وتعيش الى الأبد في مكان ما من الكون. أبيقور يرى ان وظيفة الآلهة هي بالأساس كمُثل أخلاقية فيها نكافح لتقليد حياتهم لكننا لسنا بحاجة للخوف من غضبهم.

2- الخوف من الموت:

ان أول خطوة للوكريتوس في سعيه لتبديد الخوف من الموت هي إعلانه، بما اننا نعيش في كون ذري، يتبع ذلك ان أذهاننا ايضا يجب ان تكون مادية او جسمية في طبيعتها. من هذا الأساس – ان الذهن هو جزء من جسم مادي – لوكريتوس يقول لذلك نحن يجب ان نستنتج ان وجود الذهن مرتبط دون رجعة بمصير الجسم:

"ليس الذهن الاّ جزءاً واحدا من الانسان، يشغل مكانا محددا، تماما مثل الاذن والعيون والحواس الاخرى التي ترشد حياتنا، وبما ان العيون او الفم لا يمكن ان تشعر او تعمل عندما تنفصل عنا وانما تتعفن حالا، كذلك الروح لا يمكن ان توجد بدون الجسم او بدون الانسان ككل".

لذا، لو عرفنا بان ذهننا الواعي يعتمد على أجسامنا، يتبع ذلك انه طالما أجسامنا لم تعد حية فان أذهاننا ستتوقف عن الوجود: في الموت، لا يستمر أي عنصر واعي لأنفسنا. هذا يقود لوكريتوس للاستنتاج ان "الموت لا يعني أي شيء لنا" – لأنه في الحقيقة سيكون لا شيء بالنسبة لنا: لا شيء نمارسه في الموت لأن المُمارِس لم يعد موجودا.

شعار أبيقور كان "الموت لا شيء لنا. عندما نكون نحن موجودين، الموت غير موجود، وعندما يوجد الموت نحن لا نكون موجودين. كل الأحاسيس والوعي تنتهي بالموت ولذلك في الموت لا وجود للمتعة ولا للألم".

لكي نرى اننا لا نحتاج للقلق من الموت، يستمر لوكريتوس بالقول:

"انظر الى الزمن قبل ان نولد: لم نكن نشعر بالخطر عندما كان القرطاجيون يهاجمون روما من كل جانب، والعالم كله كان يهتز بالاضطرابات المخيفة للحرب .. ونفس الشيء في المستقبل، عندما لم نعد موجودين، ويحدث الإنفصال النهائي للبدن عن الذهن اللذان نتشكل منهما الآن في وحدة واحدة، لا شيء سيكون قادرا على ان يحدث لنا، او ينتج أي إحساس – حتى لو انهارت الارض في البحر او ينفجر البحر في السماء ..". ان فعل الموت او كونك ميت – لا شيء معقول يدعو للقلق لأنه مثلما نحن قبل الولادة، لا وجود هناك لجزء من وعينا كي نشعر به".

اضافة الى ذلك، نحن لا نختزل أي شيء من الزمن عندما نكون ميتين. حيث يصف لوكريتوس ذلك:

"لا يهم كم جيل انت تعيش فيه، نفس الموت الأبدي لايزال ينتظر، وان احدا ما الذي ينهي حياته مع غروب الشمس اليوم ستكون لديه فترة طويلة من عدم الوجود كالشخص الذي مات قبل عدة شهور او سنين. الموت هو جزء من طبيعتنا، نحن لا نتوقع من زهرة ان تعيش الى الأبد – وفي الحقيقة نحن نرى ان جمالها في الإزهار الكامل، يبدو واضحا فقط بوجودها المؤقت".

لا شيء يوجد عدى الذرات والفضاء الفارغ، كل شيء آخر هو مجرد رأي. في الحقيقة ابيقور أعلن ان العناصر الاساسية للعالم هي أشياء صغيرة جدا غير قابلة للقسمة تطير في الفراغ، وهو حاول توضيح كل الظاهرة الطبيعية بتلك العبارات."

3- ماذا نحتاج حقا لنعيش بشكل جيد؟

يؤكد ابيقور ان العديد منا يعتقد زيفا ان الرضا يعتمد على الحصول على الكثير من الاشياء البعيدة المنال. باتّباع اتجاهه العلاجي، هو يسعى لتجاهل هذا وأي عقيدة زائفة اخرى حول ما نحتاج للسعادة. هو يبدأ بالسؤال: ماذا نحتاج حقا لحياة سعيدة؟ الحداثة قد تحاول إقناعنا اننا نحتاج للكثير: نحتاج منزل كبير، سيارة جديدة، ملابس من أحدث طراز. ربما نشعر بالحاجة لدعم حياتنا بتجارب معينة ايضا – اجازة فاخرة، مطعم راقي، عرض لا يمكن تفويته، وبالطبع، لكي ندفع لكل هذا سنحتاج لنقود كثيرة.

بينما تتغير السلع والتجارب كثيرا منذ ايام ابيقور، لكن المشاعر لم تتغير: في كتاباته، يعترف ابيقور ان الناس يجب ان يبحروا بقلق في دوامة كبرى من الرغبات والمتع والتوقعات على اساس يومي. ابيقور لكي يساعدنا في هذا الابحا، يطرح نظاما بسيطا لمعرفة أي الرغبات جيدة وأي يمكن تجاهلها.

أي الرغبات ضرورية وطبيعية؟

أبيقور يبدأ بتجريد الأشياء نزولا الى أساسياتها. ماذا نحتاج حقا للبقاء الفيزيقي؟ طعام، ماء، وقاء. أبيقور يسمي هذه الأساسيات "طبيعية وضرورية". الآن، ماذا لو كنا نحب ان نعامل أنفسنا بطعام أرقى ومشروبات عالية ووقاء أكثر راحة؟ مرة اخرى، هذه رغبات طبيعية ومعقولة رغم انها ليست ضرورية. ولهذا يسمي أبيقور هذه الرغبات رغبات "طبيعية لكنها ليست ضرورية". وأي رغبة اخرى هي في الحقيقة "غير طبيعية وغير ضرورية". انت لا تحتاج لشراء أخر تلفون من آخر موديل او أسرع سيارة، او أرقى خزانة ملابس. هذا لا يعني بالضرورة اننا لا يجب ان نمتلك هذه الأشياء، وانما عبر إعترافنا اننا لا نحتاج لها وانها لا تخدم هدفا طبيعيا، سنستطيع منع أي قلق قد نشعر به من عدم إمتلاكنا لها.

متأملا بما نحتاجه حقا لنعيش بسعادة يكتب لوكريتيوس في (حول طبيعة الأشياء) وبلغة شعرية:

"من السهل ان نرى ان طبيعتنا الجسمية تحتاج الى عدد قليل من الأشياء لمنع الألم وإمتاعنا بالعديد من اللذات من وقت لآخر. الطبيعة ذاتها لا تشتكي لو ان القاعات غير ممتلئة بالتماثيل الذهبية لشباب يحملون مشاعلا متقدة لإضاءة الولائم المستمرة طوال الليل، او لو ان البيت لا يلمع ذهبا وفضة، عندما يتردد صدى الموسيقى حول العوارض الخشبية المذهّبة. على جانب النهر، الممتد على العشب الناعم تحت ظلال شجرة عالية، يمكن للناس الاسترخاء والتمتع أفضل بكثير بدون كل تلك الأعباء والتكاليف، خاصة عندما يبتسم الطقس بوجههم والربيع ينثر مروجه الخضراء بأزهارها اليانعة".

بالنهاية، عندما نكشف الطبيعة الحقيقية للعديد من رغباتنا، يعتقد ابيقور اننا يجب ان نشعر بالراحة من حقيقة ان العديد منها ليس له علاقة ابدا ببقائنا كبشر. العديد منها لا يضيف أي قيمة واقعية لحياتنا، ومحاولة إشباعها يسبب لنا فقط قلقا وخوفا غير ضروريين.

ما نحتاجه حقا للبقاء هو قليل جدا، ومن السهل تأمينه مقابل الرغبات الباهضة. يقول ابيقور:

"منْ يفهم حدود الحياة الجيدة يدرك ما يمنع الآلام الناتجة عن الحاجة وان ما يجعل كامل الحياة تامة يمكن الحصول عليه بسهولة، لذلك لا حاجة للمشاريع التي تتضمن صراعا من أجل النجاح".

لنسعى الى تحديد الرغبات غير الضرورية وغير الطبيعية في حياتنا. الحيلة تكمن ليس في تجاهلها او كبحها وانما في الاعتراف بها واعتبارها غير ضرورية وغير طبيعية. أبيقور يرى انها مسببة للقلق أكثر مما تستحق في مسيرتنا نحو السعادة الحقيقية والهدوء الذهني.

4- كيف نتعامل مع ضغوط الحياة الاستهلاكية؟

على عكس اليونان القديمة، نحن نعيش في وقت تتفشى فيه الاستهلاكية المعولمة. نتعرض يوميا لحملات من الخوارزميات الإعلانية المصممة بدقة والتي تعرف عنا افضل مما نعرف عن انفسنا، وتخبرنا ان أي مشكلة نواجهها يمكن حلها من خلال شراء المنتجات الجديدة اللامعة. لا أحد محصن من هذا الضخ الاعلامي للرغبات، ولكن الوسيلة لمنع تأثيرها هو ان نذكّر أنفسنا بما نحتاجه حقا. إرضاء نفسك بمعطف جديد لامع هو مجرد إمتاع او إرضاء. انه غير ضروري. وفي الحقيقة ان اولئك الذين يتطلب اسلوب حياتهم أدق الأشياء سوف يجدون ان المتع المرتبطة بشرائها سوف تهبط مع الزمن. يقول ابيقور:

"لا شيء يكفي للفرد الذي يجد في الكفاية شيئا قليلا جدا". ويقول ايضا عن الاشياء الأجمل في الحياة " لا تعتبرها مسلمة او حقيقة، ولا تتوقعها او تطلبها في كل الأوقات. صحتك الذهنية في المدى الطويل لا يجب التضحية بها لإجل اشباع قصير المدى من المطحنة الاستهلاكية. في الحقيقة، لو كان ابيقور حيا بيننا، سوف يصرخ بوجوهنا للخروج من الحلقة المفرغة ونحرر أنفسنا من هذه الاضطرابات الذهنية الضارة الغير الضرورية والغير الطبيعية .

في تحليله العلاجي للرغبة، يأمل أبيقور انه كشف لنا اننا لا نحتاج الكثير لنعيش بسعادة. ومع ان البعض قد يعتقد خلاف ذلك، لكننا من خلال التفكير الفلسفي الصحيح يمكننا ان نرى زيف عقيدتهم تلك . حاجاتنا الحقيقية يسهل تلبيتها: طالما لدينا طعام وماء ووقاء، نحن نستطيع العيش بهدوء، وعبر الحياة البسيطة نستطيع الاستمتاع بشكل كامل بما نحصل عليه من تلك المتع.

***

حاتم حميد محسن

....................

الهوامش

(1) لوكريتوس شاعر روماني وُلد عام 94 ق.م. قصيدته (حول طبيعة الاشياء) والتي تتألف من ستة كتب تستطلع كل شيء بدءاً من الطبيعة الاساسية للواقع، وما نستطيع معرفته، الى صفة الخيرية وكيف يجب ان نعيش بشكل أفضل. منذ ان نُشر الكتاب قبل 2000 سنة، جرى الاحتفال بهذه القصيدة من جانب مفكرين مثل الكاتب الفرنسي مونتين و توماس جيفرسون و اينشتاين.

في المثقف اليوم