أقلام فكرية

علي محمد اليوسف: افلاطون مفهوما الجدل والتخارج

الزمان والنظام: عن جاستون باشلار "النظام ليس في الزمان، وإنما الزمان هو تكريس نظام مفيد وفعال نفسيا ولعلنا نستطيع التسليم مع برجسون بأن إختلال النظام في المكان ليس إلا نظاما غير متوقع، وجدلية النظام واللانظام ليس لها قاعدة مكانية "1.

بضوء هذا الإجتزاء نضع التساؤلات التالية المتعالقة بها وهي:

- الأسبقية الوجودية الإدراكية لمن هي؟ هل للزمان أم للمكان؟، أم لا توجد أسبقية تزامنية بينهما؟، فالمدرك مكانا هو المدرك زمانا في ملازمة تمليها قابلية الادراك العقلي، ولا يمليها تكامل أو إنفصال الزمان عن المكان؟ فحيثما ندرك مكانا ندرك زمانيته الملازمة له وبغير هذا التداخل الادراكي الزمكاني المشترك لا ندرك مكانا ولا زمانا لوحدهما ...

- إذا كان الزمان جوهرا لا إدراكيا للعقل وهي مقولة فلسفية دارجة، والمكان بخلافه جوهر إدراكي للعقل، فهل نستطيع إدراك المكان بغير دلالة ملازمة الزمان له؟ وفي إستحالة إمكانيتنا إدراك الزمان بغيردلالة موجودية المكان. كما ليس متاحا لنا إدراك مقدار الزمان بغير دلالة مقدار حركة اجسام المكان داخله .

- هل المكان و(الطبيعة) وجود عشوائي أم وجود منظم بقوانين ثابتة على مستوى الطبيعة وقوانين متغيرة وضعية على مستوى تنظيم المكان؟ وهل الزمان جوهر إفتراضي منّظم تلقائيا أم عشوائيا غير منظم لكنه ينتظم إدراكيا بدلالة مدركاته من الاشياء؟ ومن ينّظم عشوائية الآخر هل عشوائية المكان سابقة وجودا على إمكانية تنظيم عشوائية الزمان لتلك العشوائية المكانية ؟ هنا نفرّق بين المكان كموجودات ثابتة في الطبيعة عن موجودات واشياء العالم الخارجي المتغيّرة من حولنا. فالطبيعة معطى إدراكي يحمل قوانينه النظامية الثابتة، عليه تكون عشوائية المكان لا تنسحب على نظام الطبيعة الثابت.

- افلاطون يعتبر المكان معطى سابق على مخلوق الزمان اللاحق، والمكان منّظم من خالق أعطى المكان مهمة تنظيم عشوائية الزمان المطلقة. بخلاف الفهم السطحي الذي إعتدناه الزمان هو ادراكنا تنظيمه عشوائية المكان. حيث يؤكد افلاطون عشوائية الزمان تتم بدلالة المكان وليس العكس. من المرجّح أن افلاطون يقصد بنظامية المكان السابق على عشوائية الزمان هو ثبات قوانين الطبيعة الفيزيائية المحكمة. التي قطعا لم يكن افلاطون في عصره يدركها ويعرفها علميا كما هو الحال اليوم. افلاطون كان يحدس التنظيم الاعجازي في الطبيعة ويجهل القوانين الفيزيائية التي لم يكن اكتشفها العلم بعد.

- لكن السؤال المقلق حقا لماذا جعل الخالق الموجد للكون نظام المكان أو الطبيعة تلازمه عشوائية الزمان؟ وماهي الآلية التي تستطيع نظامية المكان إنجازها تنظيم عشوائية الزمان من خلال االتخارج المعرفي الإدراكي التكاملي وليس الجدل الديالكتيكي الماركسي بمعنى التضاد بينهما الذي يمكننا فهمه؟

- افلاطون يعتبر تداخل الزمان الإدراكي مع المكان المنتظم هو الكفيل بتخليص الزمان من عشوائيته بدلالة نظامية المكان التي جعلها خالقها بنظام ثابت يفتقده الزمان في المطلق غير الثابت. والمكان جوهر سابق على جوهر الزمان. وهنا يقصد بالمكان هو المعطى الناجز بنظام تحكمه قوانين طبيعية ثابتة وليس المقصود عشوائية الموجودات المكانية في العالم من حولنا. توضيح أكثر أن افلاطون يرى وهو احتمال إنقاذ الزمان من عشوائيته المطلقة غير المدركة لا يكون إلا من خلال محدودية الزمان بوجود مكاني محدود إدراكيا. حينها يصبح كل مدرك مكاني كوجود منظم مدرك اكتسب منه الزمان العشوائي وجوده المنظم بدلالة مكان محدودية إدراكه.

- مقولة ارسطو الرائعة التي سبقت عصرها هي (الزمان لا يحده زمان) اي عدم وجود زمانين احدهما كوني والاخر تحقيب وقتي ارضي بمعنى زمان. لكن واقعية المكان المتعيّنة وجودا انطولوجيا يمكن ان نحد الزمان بها؟ لماذا؟

مقولة ارسطو تؤكد التجانس الزمني وماهيته الفيزيائية التي لا تتبدل التي ينطبق عليها عبث المقولة التي نتداولها عربيا (فسّر الماء بعد جهد جهيد بالماء) أما إمكانية أن نحد الزمان إفتراضا بالمكان فهو وارد جدا كون ماهية المكان او صفاته الخارجية لا تجانس الزمان الذي لا يمتلك صفات ولا ماهية يمكننا ادراكها بمعزل عن تداخل الزمان بالمكان على صعيد الادراك فقط وليس على صعيد الجدل الديالكتيكي المتعذر تحققه بين المكان والزمان بسبب اختلاف المجانسة النوعية الوادة بينهما ان يكونا قطبي تناقض وتضاد داخل ظاهرة وجودية واحدة تجمعهما. حسب الجدل الديالكتيكي ارتباط المكان بالزمان ليس جدليا لافتقاد كلا قطبي التناقض للمجانسة النوعية الواحدة. اذن ما تعليلنا لاندماج المكان والزمان اي الزمكان؟ هذا النوع من العلاقة بين المكان والزمان هي علاقة تكامل معرفي تخارجي في التاثر والتاثير.

- بضوء مقولة افلاطون نرى الزمان في إحتوائه المكان إدراكيا هو يقوم بتنظيم عشوائيته الوجودية بدلالة نظام المكان أو بدلالة قوانين الطبيعة الثابتة. عشوائية اللانظام الزماني المستمد من إدراك تنظيم المكان له، لا يعني عشوائية الزمان التي اكتسبها من نظامية المكان في جدل غير متجانس الصفات ولا الماهية ولا أية رابطة تجمعهما تجانسيا. المجانسة المادية للمكان لا تجانس المجانسة غير المادية للزمان. وجوهر المكان يختلف جدا عن جوهر الزمان والاكثر اهمية انهما لا يتناقضان جدليا في ازاحة احدهما الاخر بل يتكاملان ادراكيا.

- جدلية الزمان الادراكي مع المكان ليس جدلا (ماديا) يقوم على تضاد سلب مع إيجاب بل هو جدل يقوم على تغيير إدراكي وليس على إستحداث ظاهرة إدراكية جديدة ثالثة هي وليدة جدل تناقضي متضاد. والسبب بذلك هو إختلاف المجانسة الماهوية النوعية بين المكان والزمان التي أشرنا لها في الفقرة السابقة. علاقة التداخل الادراكي الذي يجمع الزمان بالمكان ليس علاقة جدل ديالكتيكي بل علاقة تكامل إدراكي معرفي تخارجي .

- حسب باشلار ومن قبله برجسون كل عشوائية مكانية في نظام الاشياء والطبيعة، يبتني عليها نظاما طارئا جديدا لا يلغي بصفاته الخارجية عشوائية المكان. هذه العشوائية المكانية التي تنظّم نفسها بدلالة عشوائية الزمان التي اعتبرناها خاطئة حسب فلسفة افلاطون. لذا يكون معنا الزمان لا ينّظم المكان بل يدركه كما هو كموجود. والمكان ينظم نفسه بدلالة تنظيمه عشوائية الزمان المتعالق مع موجودات المكان. لكن هذه فرضية لا يمكننا اثباتها.

- أيضا بضوء مقولة افلاطون المكان معطى قبلي منظم يستبق الزمان وجودا. يجعلنا ندرك حقيقتين : اولاهما رغم عشوائية الزمان المنسوبة له من قبل افلاطون إلا أن ميزة الزمان الإطلاقية عشوائيا التي تعجز كل موجودات عالمنا مجاراتها هو أن الزمان نظام يحتوي الوجود والطبيعة والمكان بغض النظر عن دوره السلبي أو الايجابي لهذا الإحتواء الإدراكي. المكان لا يدركه العقل مجردا عن زمن إدراكه والغريب بالأمر كيف يكون المكان معطى قبليا نظاميا يعقبه معطى بعدي زمانيا يفتقد النظام؟. علما أن مصدر خلقهما واحد هو الله حسب افلاطون وفلاسفة مؤمنين عديدين أعقبوه. لماذا يكون للطبيعة نظاما تحكمه قوانين فيزيائية ثابتة، ويفتقدها الزمان بعشوائيته اللانظامية في تعالقه الوثيق مع الطبيعة؟ لماذا تكون الطبيعة جوهرا مدركا ثابتا بقوانينه، ولا يكون الزمان مدركا بقوانين فيزيائية تحكمه بثبات ادراكي كما هو حال الطبيعة؟

جاستون باشلار والوجود

يتناول باشلار قضية فلسفية عالقة كانت مثار اهتمام عباقرة الفلسفة هي الوجود والعدم، وابرز ميراث سبق به هذه العلاقة سارتر في كتابه الشهير (الوجود والعدم) واعقبه هيدجر بكتابه (الكينونة والعدم) وتقوم فلسفة باشلار في معالجته هذه العلاقة على ما يلي:

- "إمتلاء الوجود يقابله العمل الثابت للوظائف"2،

بمعنى توضيحي الوجود الناقص الإمتلاء ناقص القدرة على إداء وظائفه الحيوية المترتبة عليه بالحياة. رغم أن تعبير الإمتلاء الوجودي مفهوم ملتبس غير واضح من الناحية الادراكية او العملانية. فالامتلاء الوجودي غير محدد بماذا يمتليء؟ والوجود ليس فراغا إحتوائيا ليمتليء، وماهي معيارية هذا الإمتلاء بالتمام والنقصان؟ وبأي شيء يكون الوجود ممتلئا؟ باشلار ربما لا يعني بالوجود الممتليء هو الوجود الطبيعي الذي يدرك بموجوداته، وهو غير الوجود النفسي الذي ربما يقصده باشلار الممتليء بموجوداته المجردة غير المادية التي مصدرها الذاكرة والخيال والنفس وجميعها مفردات تجريد.

- إرادة الحياة دائمة السيرورة ولا تتوقف، والوجود يريد خلق حركة ولا يريد خلق راحة حسب تعبير باشلار. والوجود تناغم دقيق لخلق التنوع. والوجود الناجح المتحقق لا يكتفي الوقوف من غير سعي لاضافة نجاحات أخرى جديدة عليه.

وجدلية الوجود والعدم تتبدل وتتغير وفقا للظروف الموضوعية الخارجية حسب باشلار، وليس بتضاد داخلي يجمع وحدة المتناقضات حسب الجدل الماركسي. لماذا لا يكون تناقض الوجود والعدم يحكمه ديالكتيك على النمط الماركسي التقليدي؟

أولا من الخطأ الفادح أن نعتبر إمكانية حصول جدل بين وجود وعدم، أي بين شيء مدرك من جهة ولاشيء غيرمدرك غير موجود من جهة أخرى، الجدل الديالكتيكي المنبثق عنه ظاهرة مركبة ثالثة مستحدثة إنما تكون هي نتيجة تضاد جدلي داخل مجانسة نوعية واحدة تجمع متضادين إثنين في ظاهرة واحدة. والجدل الديالكتيكي لا يكون بجمع مدركين خارجيين منفصلين بل الجدل يكون في تناقض قطبين داخلين ضمن الظاهرة المتجانسة الواحدة. لنا توضيح لاحق لهذا الالتباس في اسطر لاحقة.

- يؤكد باشلار أن فهمنا الصحيح للوجود يتوقف على جملة من الامور منها : الوجود حسب تعبيره تناغم دقيق وخلق التنوع فيه، وطبيعة الوجود هو ان يتغير، والوجود الناجح يريد دوما تجاوز مرحلة نجاحه الى اخرى متقدمة عليها، كما يجد باشلار الحياة لا تنفي نفسها بالفشل، بل هي تبني اعادة نفسها في ديناميكية تقودها ارادة التغيير والتجديد المتقدم الى امام. ملاحظة مهمة باشلار يقصد بالوجود هو الموجود الانساني، ولا يقصد الوجود كفهوم مطلق.

لا نجانب الصواب قولنا ان كل ماذكره باشلار لا يشكل رؤية فلسفية جديدة لم يسبقه بها أحد غيره، ويمكننا أن نجمل تعقيبنا باختصار شديد، أنه من المسلمات أن الحياة لاتصنعنا على الدوام دونما ارادة واستعداد مسبقين منا كبشر من جنس نوعي متمايز على صعيدي الفرد والمجتمع، الحياة نحن من يمنحها إمتياز التدخل في رسم معظم ملامح سلوكنا الوعوي الذي نجد تكيفنا معه ميسورا بسيطا. وكل تقاطع مع إرادتنا في تصنيع حياتنا مع ارادة الحياة الواجب التكيف الايجابي معها في ممارستنا تعديل الخاطيء الذي لا يناسبنا نحو الافضل، سيقود الى انكفاء ذاتي على مستوى الفرد والى استلاب اغترابي على صعيد المجتمع. الحياة تصنع وجودنا الحقيقي الحي بنفس مقدار صناعتنا نحن للحياة التي نرغبها.

جدل الزمان والمكان

في سطور سابقة جرى توضيحنا لها لا يوجد جدل ديالكتيكي مادي يحكم المكان والزمان، واوضحنا ان علاقة الزمان بالطبيعة وموجوداتها المكانية هي من نوع الادراك التكاملي وليس من نوع التضاد الجدلي في خلق الظاهرة الجديدة. وسبب ذلك أن الجدل الديالكتيكي المادي وجدل التاريخ لا يكون إلا على صعيد المجانسة الواحدة التي تجمع نقيضين لا يمكنهما التعايش معا داخل المادة المتجانسة الواحدة.. الديالكتيك يحدث داخل متناقضات النوع المادي أو التاريخي الموحد في المجانسة. مثال ذلك لا يمكن أن يحدث ديالكتيك بين حيوان وانسان أو بين نبات وانسان او بين زيت وماء او بين منضدة وكرسي الخ.الديالكتيك تضاد بين نقيضين متجانسين نوعيا ينتج عنهما مرّكبا ثالثا جديدا لا يلبث أن يخلق تناقضه التالي..

تناقض الاضداد جدليا داخل المادة أو الموضوع المتجانس الواحد لا يكون مدركا من طرف ثالث محايد باستثناء العوامل الموضوعية المحيطة بهما من أجل تسريع وحدة التناقض الداخلي لينتج عنه المركب الثالث أو الظاهرة المستحدثة الجديدة التي لا تشبه أحد المتناقضين. أما الجدل على صعيد تنازع وتفاوت مصالح الطبقات المتناحرة اقتصاديا كما يحصل بين الطبقة الفقيرة العاملة التي تبيع قوة وناتج عملها للطبقة الغنية الراسمالية التي تستثمر قوة عمل هؤلاء الفقراء.

كما تحكم الجدل المادي قوانين تحولية انتقالية خاصة من مرحلة الى مرحلة أخرى وهي القوانين الكلاسيكية الثلاث التي أرستها الفلسفة الماركسية، قانون وحدة وصراع الاضداد، وقانون تحول التراكم الكمي الى تراكم نوعي جديد يحمل خصائص نوعية مغايرة، والقانون الثالث الذي يحكمه التطور الحتمي بقانون ما يسمى نفي النفي في استحداث الظاهرة الجديدة التي تحمل معها عوامل التناقض داخلها وحتمية انحلالها. ما يعنينا من كل هذا التوضيح هو كيف يكون الفكر او الوعي الذي هو تجريد لا يشارك المادة التي يدخل معها بجدل ديالكتيكي وكل منهما(الفكر والمادة) يحمل صفاته النوعية الخاصة به التي تقاطع وحدة التجانس الجدلي داخل الظاهرة النوعية في الخواص الواحدة.؟ لا يوجد جدل منطقي على صعيد الميتافيزيقا ولا على صعيد الفكر المجرد. جدلية الزمان التي يعالجها جاستون باشلار هي جدلية ميتافيزيقية، وبنى على تلك الفرضية الفلسفية على نوع من تقلبات النفس. اننا ندرك الزمان على انه سلسلة من الانقطاعات التي تتحكم بها ذاكرتنا.

لكن الحقيقة الجوهرية للزمان تقاطع هذا التوجه الاستدلالي به. وهي ان تفكيرنا خارج فاعلية الزمن الجدلية هي التي تكون سلسلسة من الانقطاعات المتتالية. قطوعات الذاكرة التعاقبية هي التي تقود الزمن. بمعنى استكمال الادراك بدلالته. قطوعات التفكير الاسترجاعي المستمد من مصدره الذاكرة، إنما يكون افكارا مكتسبة مخزّنة خارج تعاقبية زمنية يتعالق بها الماضي مع الحاضرالمؤقت.

قطوعات التفكير هي خارج فاعلية جدلية الزمان بها، فالجدل الحقيقي لا يحصل في ميتافيزيقا الافكار بل يحدث في الوجود المادي للاشياء. وتبقى قطوعات التفكير خارج جدلية الزمان هي استذكارات نتخيلها بالفكر الملازم لزمانيته الذي في حقيقته لا زمان يقود الاستذكارات التي نرغب استحضارها، ولا دخل للزمن فيها الا بدلالة أن نعرف استكمال ادراكاتنا بدلالة زمنيتها في حاضرنا الذي نفكر فيه.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

.....................................

الهوامش: 1،2، جاستون باشلار/ الجدل والزمان /ت: خليل احمد خليل/ ص 36 – ص 38

في المثقف اليوم