أقلام حرة

موت رواية ما بعد الحداثة وولادة الأوتو سرد

صالح الرزوقجوناثان ستورجيون

ترجمة: صالح الرزوق

الرواية ما بعد الحديثة ماتت. ولم تعد ما يسميه وليام جيمس “نظرية حية”: ولا يوجد حاليا روائي يختار كتابة رواية ما بعد حديثة. لكن بالتأكيد سيواصل الروائيون كتابة المزيد من أعمال التشويق والإثارة، مع إضافات بأسلوب هجين يجمع ما بعد الحداثة مع فخامة التفكير الفكتوري. وحاليا لا يبدو مشروع بينشون وديلايلو وكوفير، وحتى دافي فوستر والاس، متنوعا. وبالعكس التزمت إصدارات عام 2014 بأسلوب المذكرات التي تؤكد على وجود ذات الكاتب نفسه. وهذا يعني أن الذات لم تغرق في نظام تفكيك المعلومات والبارانويا والفوضى، وهذا يتضح أكثر ما يتضح في أعمال بينشون وديلايلو. فالأسلوب الواقعي أو غير الواقعي لم ينجحا في تدمير وإلغاء الذات، وها هي على خير حال في أعمال بالارد المعروف بلغته (البودليرية). كما أن الرواية لم تلتزم بمنطق الرأسمالية المتأخرة، على الأقل لم تستسلم لها تماما. ويغزو المشهد الروائي دخول نوع جديد من المذكرات والسير الذاتية وروايات الميتا رواية - ويمكن إجمال كل ذلك باسم موحد هو أوتو سرد - وكلها تنقل منطق ما بعد الحداثة إلى مرحلة جديدة ومختلفة.

وهو ما يشرحه لنا الكاتب بين ليرنير في روايته 10:04 الصادرة عام 2014 وهي ميتا سرد، فالبطل، وهو رجل يدعى بين، يقوم بزيارة لـ “معهد الفنون الشاملة”، ومعه منحوتة لجيف كونز، ولكنها مكسورة بعد أن ضربتها عاصفة. كانت المنحوتة، مثل سواها، ذات قيمة ثمينة وتحمل صفات ما بعد الحداثة أو ما يقول عنه الناقد فريدريك جيمسون “منطق الرأسمالية المتأخرة”. أماالآن فهي مفتتة، وبين يدي بين، وليس لها معنى. لقد تحررت من “طغيان قيمتها المادية”. ويبدو أن المنحوتة المفتتة كانت بنظره شيئا من الماضي أو من المستقبل: “كانت بين يديّ تشبه وزنا ملموسا لكنه متحول ومتبدل في كل لحظة: إنها واحد وعشرون غراما تهرب بروحها من السوق، ولم تعد ذات معنى فيتيشي، بل هي فن يسبق المادة أو يأتي بعدها” كما يقول.

وفي خاتمة أول رواية لنيل زينك وهي “متسلقات الجدار”، تنوح البطلة الكئيبة لفترة قصيرة لوفاة زوجها الشاب قبل أن تعيد النظر بفكرة الحزن من أساسها. وبالعكس، من رالف والدو إيمرسون، مثلا، الذي نعا ابنه، إنها ترفض رؤية وفاة زوجها كمدخل لحياتها الشخصية. وعوضا عن ذلك، وبموقف حاسم ضد جوهر فكرة الرواية بعد الحديثة - والتي تعرف غالبا على أنها انعدام للثقة بالميتا سرد - تتبنى نوعا بليغا من ميتا السرد وبشكل إفرادي: وتؤكد إيمانها الكامل بحياتها الشخصية، والتي تتركب من حكايات ترويها لنفسها ولغيرها. وهكذا تبدأ بكتابة “متسلقات الجدار”. وتتحول الرواية إلى künstlerroman سيرة فنان (عن حياة فنان من شبابه حتى بلوغه).

في أيار، وبمقالة مكتوبة خصيصا لمجلة لندن لمتابعات الإصدارات الحديثة LRB يصارع بين ليرنير ضد المجلد 3 لكارل أوف نوسغارد وهو بعنوان كفاحي (2014)، وموضوعه رواية نفهم منها أنها “البحث عن الزمن الضائع” بنسخة معاصرة. لكن ليرنير وحده ينتبه أن رواية نوسغارد عبارة عن سيرة ذاتية (وبالضد من عمل بروست) كل شيء فيها مثل أي شيء: فرقائق الذرة هنا بأهمية وجه شخص ما. وكما يقول ليرنير: كل شيء يقع تحت هيمنة تكهنات نوسغارد وموته الرمزي. ويقول عن الرواية إنها إعلان أدبي بالانتحار. ويضيف إنهاا “رواية حياة فنان”. ثم يتابع بقوله: كل هذه الروايات تشير لمستقبل جديد حيث الذات تعتبر شيئا حيا ويتكون من سرد. ومع أن النقاد سيتابعون النقاش المرهق بخصوص السرد وعلاقته بالواقع (وعليه سيستهلكون النقاش عن “الواقعية”)، لن يضيفوا شيئا هاما. وإن الذي يحصل أن الرواية الجديدة - مثل المذكورة سابقا (10:04،متسلقات الجدار، وكفاحي) - تعيد توزيع العلاقة بين الذات والرواية.  ولا يمكن بعد الآن النظر للرواية على أنها “تزوير” أو “أكاذيب” أو “اختلاقات”. بل هي، كما يقول كينيث بروك، في تعريفه للأدب:” جهاز للحياة”. إن الرواية تتضمن السرديات التي نخبر أنفسنا بها، والقصص التي سمعناها، خلال رحلة طريقنا من الولادة إلى الموت.

لكنه لا يوجد أي “إضافة” من ما بعد الحداثة الشريرة في حصاد هذا العام الذي غلب عليه الأوتو سرد. لقد بدأ الأدباء برفض الحصاد السابق لهذا النوع وهذا الأسلوب وهذه الأسطورة، إيمانا منهم أن حياة الكاتب هي المبدأ الذي يرتب روايته به. إن الحياة، التي تخلصت من دينيتها، تقود غالبا لأسئلة عن جسم الإنسان وبيئته. وما يدهشنا الآن، ويفاجئنا، أن “متسلقات الجدار” لزينك تهتم جزئيا، بالإرهاب البيئي، أو أن 10:04 لليرنير تهتم غالبا بأثر الكارثة البيئية. أما ليرنير نفسه فيقترح أن رواية “كفاحي” لنوسغارد “ليست حكاية مشبعة بنكهة البيئة”.

كلا. الأوتو سرد ليس جديدا. ويمكن أن تقول إنه قديم قدم الأدب نفسه. وبالأخص إذا اعتبرت أن كتاب هزيود “العمل والنهار” هو أيضا أوتو سرد. لكن من المؤكد أن ما كان يميز سابقا  (معظم) روايات الأوتو سرد هو التوتر بين الحقيقي وغير الحقيقي،  ما بين “المختلق” و“الصادق” (وهذا ربما يفسر أسباب استمرار النقاد مع هذه المناقشة).

إن الصنف الجديد من الأوتو سرد، من ناحية أخرى، وبعد أن مر بتجربة حداثة بروست وجويس في تصوير الفنان لنفسه، وكذلك بعد أن تجاوز النسبية العنيدة لما بعد الحداثة ونظرية ما بعد البنيوية، وضع الحقيقة الشاملة أمام جدل السرد ولصالح الأسئلة التالية: كيف لك أن تعيش وكيف عليك أن تبدع. أو، باقتباس عنوان نموذج ممتاز لشيلا هيتي وهو أتو سرد، يصبح السؤال:  كيف على الإنسان أن يكون؟.

 أفضل طريقة يمكنني أن أصف بها رواية الأوتو سرد الجديدة: أن الفن هو روحها. لقد حلت كتلة العمل الفني، بكلمات أخرى، محل المثل الدينية للروح الخالدة. ولهذا السبب أصبحت سيرة الفنان سلاحا اختاره عدد كبير من روائيينا المثابرين: وحكاية نضج الفنان أو عملية إبداع عمله السردي تتراكم حتى تتفتح الروح على الصفحة. ومن المفترض أن إعادة اكتشاف الأوتو سرد بعد عام 2014 قد أخذ مكان الصدارة ولا سيما في روايات اهتمت بسيرة الفنانين بعد الحرب، و هذه الروايات لم تكن منسجمة مع قالب بعد الحداثة. وكمثال على ذلك أذكر “الإجازة  Leavetaking” لبيتر وايس.

وهناك اتجاه معاصر في الأوتو سرد، وهو كما تقول كريس كراوس، اتجاه تقوده كاتبات فضوليات برزن عام 1990 وما بعد. وأود أن أعتقد أنها محقة. وفي كلتا الحالتين، هناك تنشيط للذات وبأشكال مختلفة - في السيطرة، والتبلور، والمعلومات، وما شابه - وهذا ما بدأ يحد من انتشار ما بعد الحداثة.

مع ذلك إن صعود أو عودة الأوتو سرد ليس نتيجة موجة أو حركة، أو حملة، ولا هو مخطط له. بل إنه مجرد محاولة للمناورة مع الفن الروائي، وهو ما يترك عندنا الانطباع أن الأدب حي، ومستمر بالتشكل - وأنه نظرية تجدد نفسها. 

 

.....................

جوناثان سيرجيون Jonathon Sturgeon   صحافي. عمل بصفة رئيس تحرير أو محرر مساعد في عدة صحف ومجلات أمريكية. 

 

 

في المثقف اليوم