أقلام حرة

المرتزقة الجدد والمخطط الأمريكي لتفتيت العراق (4)

محمود محمد علي"مرتزقة بلاك ووتر وسياسة القتل والحرق"

نعود ونكمل حديثنا في هذا المقال الرابع، حيث نتحدث هنا عن مرتزقة بلاك ووتر وسياسة القتل والحرق، وهنا يمكن القول:  نشأت شركة بلاك ووتر بسرعة هائلة حتي ؟أصبحت توصف بأنها تنين ضخم مرعب، تتسع أذرعه إلي مشارق الأرض ومغاربها، فبعد عام واحد من ونصف في سبتمبر 1999، مدرسة للتدريب خاصة بها سميت بـ (آر.يو. ريدي)، فتعاقدت معها الجمعية الوطنية للضباط التكتيكيين علي تدريب أربعة آلاف ضابط شرطة كل عام، ليتلقوا التدريب العسكري فيها.

وتعاقبت علي الشركة العقود المجزية، ومن ضمنها العقد الذي وقعته مع إدارة الخدمات العامة في الحكومة الأمريكية ومدته خمس سنوات، تقدم فيه الشركة خدمات للمؤسسات الفيدرالية المتعددة، وتبيعها بضائع ذات طابع عسكري، وبلغت قيمة العقد الأول في البداية 125 ألف دولار، ثم بدأ يزداد إلي أن وصل إلي ستة ملايين دولار في العقد الثاني ومدته خمس سنوات . ثم حظيت بفرصتها الثمينة في عام 1999 بعد أن فجرت المدمرة الحربية الأمريكية " يو. أس . أس . كول" في مياه عدن،وقعت عقدا مع الشركة للقيام بتدريب مكثف لمشاة البحرية الأمريكية علي طرق الحماية المتطورة .

نالت شركة بلاك ووتر شهرة أكثر في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كشركة ذات نفوذ واسع في الأوساط الحاكمة في الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، عندها وقعت عقودا بعد الأحداث بأسبوعين مع مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي بقيمة 610 ألاف دولار لتدريب جنوده، وتعاقبت عليها عقود التدريب العسكري الأمني لوزارات ودوائر الدولة كوزارة الطاقة، دائرة الأمن النووي، دائرة فرض القانون في الخزينة المركزية ووزارة الصحة والخدمات الإنسانية .

وتضم شركة بلاك ووتر عتاة المجرمين من العسكريين المدربين علي القتل والحرق، يلقبوا بأن صدورهم خالية لا يوجد فيها قلوب، أي أنهم لا يعرفون الرحمة والشفقة، لهذا فهم بعيدون كليا عن القيم الإنسانية. عناصرها مرتزقة من مختلف أنحاء العالم، كما تجمع أعدادا من كبار مسئولي البنتاجون والمخابرات المركزية الأمريكية السابقين، ويحضون فيها بمراكز عالية .

شعار مرتزقتها ( أقتل ثم أقتل حتي تبقي حيا)، تتضمن الاتفاقية التي يوقعها المرتزقة مع الشركة، إجبار المجند المرتزق علي تنفيذ كل ما يطلب منه دون تردد . ومن التقاليد الرئيسية للشركة أن يؤدي المرتزق الذي تجنده قسم الولاء للدستور الأمريكي، تأكيدا علي وضع نفسه في خدمة المشروع الأمريكي . وأعلنت شركة ( غراي ستون) إحدى شركات بلاك ووتر بأنها تجند مرتزقة من مختلف الجنسيات من الفلبين وتشيلي والنيبال وكولومبيا والأكوادور والسلفادور وهندراوس وبنما وبيرو، ومن المعروف عالميا أن هذه الدول تحتفظ قواتها المسلحة بسجل حافل بانتهاكات حقوق الإنسان. وقد نشرت شركة بلاك ووتر في العراق مرتزقة من الكوماندوز التشليين، سبق لهم وأن تدبروا وعملوا في الأجهزة الأمنية القمعية التابعة للدكتاتور السابق ( أغستو بنوشيه)، وصرحت الشركة أنها بعثتهم إلي العراق تحت ذريعة حماية آبار البترول، وصرح نائب رئيس شركة بلاك ووتر ( غراي جاكسون) أن:" الكوماندوز التشليين حرفيون عاليو المستوي، وهم يتناسبون كثيرا لمنطقة بلاك ووتر .

يعتمد العاملون في "بلاك ووتر" خوذات معدنية وسترات واقية من الرصاص، وهم مجهزون بمعدات مماثلة لمعدات جيش حقيقي تشمل أسلحة خفيفة من أنواع مختلفة ورشاشات ثقيلة وآليات مصفحة وحتي مروحيات، ويعرف موظفو هذه الشركة ببطشهم، ويشتهرون بأنهم يفتحون النار دون تمييز على السيارات والمارة الذين يقتربون من قوافلهم.  ويتصرفون بكل استقلالية ولا يحاسبون على أعمالهم سوى أمام مسؤوليهم، كونهم لا يتبعون القانون الدولي الخاص بالنزاعات. وقد جذبت "بلاك ووتر" انتباه الرأي العام عندما وقع أربعة من موظفيها الأمريكيين في كمين في الفلوجة في أبريل ٢٠٠٤ ثم في نوفمبر ٢٠٠٤ .وانتقمت قوات المارينز من سكان المدينة وحولتها إلى رماد .

ويتسلّح  جنود البلاك ووتر في العراق بأحدث التجهيزات العسكريّة إضافة إلى المركبات المصفحة رباعية الدفع، وطائرات مروحية، وأجهزة كومبيوتر متطورة جداً، وكذلك تسخير الأقمار الصناعيّة في خدمة تحركاتهم وإرشادهم نحو أهدافهم. يتمتع المرتزق بمغريات قد تدفع أشخاصاً إلى مغادرة مهنهم الاعتيادية في بلدانهم الأصلية، كسائقي الشاحنات وحراس السجون وعناصر الوحدات الأمنية الخاصّة المتعاقدين وغيرهم، والتحول للعمل كمرتزق في أماكن الصراعات الدوليّة . ومن أهم المغريات، الأجور العالية المعروضة عليهم، والتي تتراوح ما بين ( 500 – 1500 دولار أمريكي يومياً ) . فيما لا يتعدى معدل راتب الجندي النظامي 3000 دولار شهرياً، وهو ما شجّع الكثير من الجنود على الالتحاق بشركات الحماية الأمنية الخاصّة، ومقارنة بظروف العمل المتشابهة مع المرتزقة، يتقاضى الشرطي العراقي أقل من 400 دولار شهرياً، وهو ما يلقي المزيد من الضوء على تعدّد أساليب نهب الثروات العراقيّة، حيث تحقق الشركات الأمنية الخاصّة ( عوائد سنوية تصل إلى 100 مليار دولار في العراق وأفغانستان .

اتبع مرتزقة "بلاك ووتر" في العراق سياسة "اقتل... ثم تحقق بعد ذلك إن كان هو العدو"، ونتيجة عدم وجود أي مساءلة قانونية، أو ملاحقة قضائية لأي أعمال قتل يقوم بها مقاولون؛ فقد سجل العديد من أعمال القتل الفردية التي أمن فيها من العقاب حراس "بلاك ووتر" المتورطون فيها، وتم كشفها صحفيا. يقول سكاهيل: "ماذا فعلت هذه القوات في العراق؟ كم قتلت من الناس؟ وما هو عدد الذين قتلوا منها أو جرحوا ؟ تبقى كلها أسئلة بدون أجوبة؛ لأنه ما من أحد يشرف علي نشاطاتهم في البلاد، وحتي إعداد هذه الدراسة لم يلاحق أي من مقاولي الجيش الأمريكي بسبب جرائم ارتكبت في العراق " .

وتبين الدراسات والأبحاث أنه تم تكليف مرتزقة تلك الشركة بمهام مختلفة بعد التطور الزمني للاحتلال، بدأت من مهام حراسة مشاريع بما سمي بإعادة أعمار العراق، وحماية قوات الاحتلال التي تقيم في المنطقة الخضراء مع الحكومة العميلة وعدد من الشخصيات العراقية، وحماية الوزرات المهمة مثل وزارة النفط والمؤسسات الهامة، وحماية الشخصيات المهمة من الأمريكيين والعملاء في السلطة المشكلة من قبلهم، وحماية قوافل إمداد قوات الاحتلال . ثم انتقل استخدام المرتزقة إلي الاستجواب والتحقيق للمعتقلين، وتعذيب السجناء بأساليب بشعة، ومثل هؤلاء المرتزقة شركة (تيتان) العسكرية الخاصة، الذين استجوبوا السجناء والسجينات العراقيين في سجن أبو غريب، واستخدموا معهم أبشع وسائل التعذيب الوحشي، والتي أدت إلي استشهاد العديد منهم تحت التعذيب، وقد أثارت تلك الممارسات شعور واشمئزاز شعوب العالم عبر وسائل العالم، ومن أجل امتصاص الاستياء الدولي بهذه الممارسات، وذكرت سلطة الاحتلال بأنها قامت بمحاسبة الجنود النظاميين، الذين مارسوا التعذيب. في حين لم تتحدث عن محاسبة المرتزقة، الذين مارسوا التعذيب كونهم محصنون قانونيا بموجب قانون (بول بريمر) .

ومن جهة أخري  يذكر الكاتب الصحفي الكبير "محمد حسنين هيكل" إلي أن الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم شركة البلاك ووتر في العراق لأسباب وأهداف دينية، حيث يذكر في حديثة لقناة الجزيرة في ابريل2007م (إن الجيش الأميركي يستخدم فرسان مالطا كجيش بديل في العراق من اجل استمرار وجودها في العراق وتقليل نسبة الخسائر بين صفوفها وأن أحد فرسان مالطا كوّن شركة لتجنيد الناس لتقديمهم إلى الجيش الأميركي لاستخدامهم في العراق ودارفور تحت شعار الصليب) أوضح هيكل (أن وجود قوات المرتزقة بالعراق ليس مجرد تعاقد أمني مع البنتاجون تقوم بمقتضاه هذه القوات بمهام قتالية نيابة عن الجيش الأمريكي، بل يسبقه تعاقد أيديولوجي مشترك بين الجانبين يجمع بينهما، ألا وهو "دولة فرسان مالطا الاعتبارية آخر الفلول الصليبية التي تهيمن على صناعة القرار في الولايات المتحدة والعالم) وقال هيكل: (لأول مرة أسمع خطابا سياسيا في الغرب واسعا يتحدث عن الحروب الصليبية.. هناك أجواء حرب صليبية)، مشيرا إلى حقائق كشف عنها الصحفي الأمريكي جيرمي سكيل في كتابه الحديث - السابق الإشارة إليه - عن شركة "بلاك ووتر" أكبر الشركات الأمنية المتعاقدة مع الإدارة الأمريكية في العراق، حيث أظهر العلاقة "الدينية" التي تجمعهما أن الغرض من إنشاء هذه الشركات غرض ديني أو بالأصح غرض صليبي هدفه إحياء الحروب الصليبية التي حدثت في الماضي، وقد استشهدوا علي ذلك من العلاقة الحميمة بين هذه الشركات ومنظمة فرسان مالطا أو فرسان المعبد أو فرسان القديس يوحنا، التي توقف وراء بعض هذه الشركات، وأيضا العلاقة والأساس الذي قامت عليه كبري هذه الشركات وهي شركة بلاووتر في الولايات المتحدة التي يقف وراء إنشاءها وتمويلها التحالف المسيحي الصهيوني أو المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية.

وثمة نقطة جديرة بالإشارة وهي أنه في شهر يونيه من عام 2004 أصدر بول بريمر في العراق القرار 117، وهو منع المساءلة القانونية علي ما يقوم به مرتزقة شركة بلاك ووتر من جرائم، واعتبرهم ذوي حصانة دبلوماسية يتمتعون بالحصانة، وقد منع القضاء العراقي من مساءلتهم أو استجوابهم وفقا لمعاهدة فيينا التي أبرمت عام 1961، وأكدت علي منع ملاحقتهم قضائيا في المحاكم العراقية .

وجاء في نص ( قانون بريمر) ما يلي: ( العناصر التابعة للشركات الأمنية الخاصة لا تخضع للقانون العراقي، ولا تتحمل أي التزامات قانونية خاصة بالدستور، بل هي تابعة لقوات التحالف المتعددة الجنسيات، إلا أنهم يتعهدون باحترام القانون العراقي) .

وذكر نص القرار عن حصانة المرتزق في المحاكم العسكرية: ( يحظر تماما علي القوات المتعددة الجنسيات أن تطبق قوانينها العسكرية علي الأفراد التابعة للشركات الأمنية الخاصة، كما يحظر اعتقالهم أو دخولهم السجن العسكري، ولو لفترة مؤقتة) .

رجح قرار بريمر المرتزقة علي الدبلوماسي في عدم المساءلة القضائية وساوي بين الدبلوماسي وبين المرتزق، لأن الدبلوماسي وبين المرتزق، لأن الدبلوماسي يحاكم في بلده عن أي مخالفة قانونية، في حين المرتزق لا يتم مقاضاته، لأن العناصر التي تعمل ضمن الشركة الأمنية من جنسيات مختلفة، وبالتالي لا يمكن محاكمتهم في محاكم بلادهم، أو في المحاكم العسكرية الأمريكية، مما يسمح للمرتزق بأن يرتكب بما شاء من جرائم، لأنه أصبح محصنا أكثر من الجندي في قوات التحالف، وهذا ما حدث فعلا في معظم الجرائم التي ارتكبتها المرتزقة، فلم يحاكموا علي جرائمهم، ولم يشهد العالم محاكمة أي مرتزق في محكمة عراقية ولا أمريكية ولا بريطانية، رغم الجرائم التي ارتكبوها، كما حدث في ساحة النسور في بغداد عام 2007 أمام أعين السلطة العراقية وقوات الاحتلال، في حين تمت محاكمة جنود أمريكيين وبريطانيين أمام محاكم عسكرية أمريكية وبريطانية .

وبسبب عدم المساءلة القضائية للمرتزقة، وجدناهم يرتكبون أقذر وأبشع الجرائم ضدّ المدنيين العراقيّين، حيث يذكر شون ماكفيت:" إن الجميع تناسوا الحادث الأفظع علي الإطلاق مجزرة حديثة بالعراق عام2005، والتي ارتكبها فرقة من المشاة البحرية الأمريكية المارينز وقتلوا 24 عراقيا من المدنيين في عملية قتل انتقامية أثناء مداهمة أحد المسلحين منهم خمسة كانوا يستقلون سيارة بالقرب من حي حديثة في بغداد ثم دخلوا المنازل وقتلوا 14 عراقيا آخرين تتراوح أعمارهم بين 3 سنوات و76 سنة، وقاموا بإطلاق الرصاص عليهم من مسافات قريبة جدا حتي إن البعض من هؤلاء الضحايا كان خالدا في نومه ومنهم مسن يجلس علي كرسي متحرك!. مشيرا إلي أنه رغم الاتهامات التي وجهها البنتاجون في ذلك الوقت لهؤلاء الجنود إلا ان الجيش الأمريكي قام بتبرئتهم من تهمة القتل، ولم يعاقب سوي قائدهم الذي تم إنزال رتبته إلي جندي وتم سحب الاتهامات عنه. وقال ساخرا إن الولايات المتحدة علي ما يبدو مازالت تتمسك بالمعايير الأخلاقية العالية التي ينبغي أن تتوافر بالجنود المرتزقة علي عكس قواتها المسلحة التي تنتهك كل المعايير، ولم تخضع للعقاب، متسائلا عن السبب وراء عدم تحويل أي من المسئولين الأمريكيين للتحقيق أو السجن لمدة 30 عاما، كما فعلوا مع حراس البلاك ووتر رغم الجرائم التي ارتكبوها في سجن أبو غريب  .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

......................

المراجع

1- أحمد أنور صيتان العزام: دور الشركات الأمنية المتعددة الجنسية في الحروب والصراعات العسكرية في الوطن العربي (2003- 2015): دراسة في حالة العراق، رسالة ماجستير غير منشورة بكلية الآداب  جامعة اليرموك، الأردن، 2016.

2- نسمة حسين: المرتزقة في القانون الدولي الإنساني، مجلة العلوم الانسانية –الجزائر، العدد 46، 2016.

3- نمر محمد الشهوان: مشكلة المرتزقة في النزعات المسلحة، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الحقوق، جامعة الشرق الأوسط، 2012.

4- جيرمي سكاهيل: بلاكووتر أخطر منظمة سرية في العالم، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، لبنان، 2010،.

5-  شون ماكفيت: المرتزقة الجدد- الجيوش الخاصة وما تعنيه للنظام الدولي، ترجمة إبراهيم البيلي محروس وآخرون، مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث، 2016.

6- د. السيد مصطفي أحمد أبو الخير: الجوانب القانونية والسياسية للشركات العسكرية   الدولية الخاصة، دراسة نشرت في مجلة شئون خليجية العدد(52) يناير2008م.

7- أحمد أنور صيتان العزام: دور الشركات الأمنية المتعددة الجنسية في الحروب والصراعات العسكرية في الوطن العربي (2003- 2015):دراسة في حالة العراق، رسالة ماجستير غير منشورة بكلية الآداب – جامعة اليرموك، الأردن، 2016.

8- محمود جميل الجندي: مسؤولية الشركات الأمنية عن انتهاك حقوق الإنسان: بلاك ووتر نموذجا، المستقبل العربي، المجلد 36، العدد 422، بيروت، لبنان، 2014.

9- الأستاذ/ محمود عوض، المرتزقة.. بأوامر عليا، جريدة الحياة، 5/9/2004.

10- محمد حسنين هيكل: الخليج العربي مكشوف، دار الشروق، القاهرة، 1998.

 

 

في المثقف اليوم