أقلام حرة

الوعي الإنساني في زمن كورونا

دعونا نفكر في فيروس كورونا أو ما أصبح يعرف اليوم بـ Covid-19، بعيدا عن التأويلات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، لأن ذلك من شأنه أن يحجب عنا حقيقة ما نصبوا إليه. فهذا الفيروس Virus في اعتقادنا هو محض حدث Evénement عابر في تاريخ البشرية، فقد عرف الإنسان سلالات وعائلات من الأوبئة التي كانت تهدد حياته منذ الأزل. لكن أن نقرأ ونسمع عن تلك اللحظات العصيبة التي مرت على الإنسان قديما، أو حتى في زمن قريب، يختلف تماما عن أن نعيش نفس التجربة، وإن اختلفت حدود زمانها ومكانها. فالذي يعيش المشهد ليس كمن يراه أو يسمع عنه.

إن ما ينبغي الانتباه إليه بنوع من الحذر الشديد هو أن هذا الحدث (كورونا) الذي أخد يحدث هنا وهناك، قد جعلنا في صميمه، واحتوانا في لحظة ضعف وشرود بشري، في غفوة إنسانية تطبع التاريخ البشري، فلم نعد خارجه منعزلين كما كان ممكنا أن يكون. بل أصبحنا جزءا من هذا الذي ما يفتأ يحدث. فأجسادنا المريضة أو على الأغلب تلك التي تهاب المرض، هي مسرح ومكان وقوع الحدث نفسه (كورونا) فالحدث هو ما يفعلنا بشروطه، وليس ما نفعله.

يقول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز G-Deleuze، أننا لا نفكر إلا ونحن في عنق الزجاجة، فالتفكير يولد من رحم المعاناة والآلام، وفي زمن الاضطرابات والأزمات. ونحن اليوم نعيش تجربة الألم والخوف أفرادا وجماعات. إلا أن هذا الوضع يجعل الذات أو الأنا الواعي بشروط وجوده في قلب الشعور بالقلق والحيرة، خصوصا عندما يعي الإنسان أن هذا العالم الذي يعيش فيه ليس إلا ما كان في لحظات زمنية متفرقة، مجرد ممكن من بين ممكنات، وهو الأن عالم واقعي نتيجة اختيار وإرادة حرة للذات حيال عدد لا متناهي من العوالم الممكنة الحدوث.

أمر مؤلم جدا ومفزع أن نتكبد بنوع من الحتمية والجبرية نتيجة اختياراتنا، مثل ما يحدث معنا اليوم، خصوصا مع هذا الوعي الشقي الذي يبعث على اللاتوازن النفسي والمعرفي للذات في خضم ما يحصل. فبشاعة فيروس كورونا Coronavirus وقدرته على إماتة البشر، توازي بشكل أو بآخر علاقتنا بالعالم عموما وبالطبيعة خصوصا، فكلما تدخلنا في الطبيعة بشكل لا إنساني، كلما كان رد فعلها قاسيا ومستفزا لقدرات العقل أكثر. لهذا علينا اليوم وفي كل مرة يواجهنا فيها حدث مهدد للحياة البشرية، أن نقوم أولا بإعادة التفكير في وجودنا من حيث هو نمط وجود ممكن، لا من حيث هو قدر مفروض علينا قسرا، لكي تكون لنا قوة الإرادة في ترجيح ما هو إنساني على ما هو حيواني.

انعطف تاريخ العلم منذ القرن 17 نحو تمكين الإنسان من تفسير الطبيعة قصد التحكم فيها وتسخيرها، ولعل هذا ما تحقق فعلا من خلال مختلف المناهج التجريبية التي أبانت منذ ذلك الحين إلى اليوم عن تطور تدخل الإنسان في الطبيعة، وسيطرته النسبية عليها. ولعل ما نعيشه اليوم من أوبئة دقيقة جينيا بشكل متناهي، والتي لم تظهر قديما بنفس الخصائص الوراثية على حد ما توصل إليه علم الأوبئة L’épidémiologie  ، يعبر عن تلك النتائج الوخيمة التي بدأت تنكشف من سوء ووحشية العلاقة القائمة بين العقل وموضوعه، أو بين الإنسان والعالم.

إن التطور التجريبي في مجال البحث العلمي لا يعني مطلقا أن العقل قد انتصر على الطبيعة، وصار سيدا ومالكا لها، فأحداث وبائية مدمرة للحياة على سطح الكوكب، تدل على أننا ضعاف إزاءها، فهي الكل ونحن الجزء، وهي الجذور ونحن الفروع، فكما سبق وعبر عن ذلك الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون بقوله "أنا من ينتمي إلى الطبيعة وليست الطبيعة هي التي تنتمي إلي". ولن ينفعنا في الدفاع عن بقائنا كأحياء سوى رصيدنا الإنساني، من تضامن وتعاون وتكافل وتآزر ووحدة، وليس رصيدنا المادي. فأي رقم سيكون مقابل أول جرعة تشفي من وباء كورونا أو من أي وباء مستقبلي آخر؟ أكيد أنه رقم هين أمام ما نعيشه من رعب وقلق وخوف وضعف، ونحن في قلب العتمة !

إن الوعي الإنساني اليوم أصبح يدرك أكثر من أي وقت مضى، أن الإنسان مادة وروح، جسم وعقل. ولا ينبغي اختزاله في أحد مكونيه، بل إن عقله لا يوجد إلا في جسم، أو بدن. لهذا وجب على كل أصناف التفكير المختلفة (الفلسفة-العلم-الفن) أن تنطلق على المدى القريب والبعيد، نحو غايات إنسانية أرقى وأسمى، كحفظ الصحة وتحقيق شروط الحرية والسعادة ... وأن تخلص الإنسانية من الفكر السائد المتحكم، الذي يخضع لمنطق  الإنتاج والاستهلاك. فما أحوجنا في كل لحظات وجودنا، إلى علم يدبر حياتنا وفق منطق إنساني كوني. وفن يغوص بنا في عمق نفوسنا لاستبطان الممكنات. وفلسفة تتأمل كل هذا وذاك، لألا نضيع ونتيه في قعر هذا الكون المظلم.

 

ذ يونس البرودي أستاذ الفلسفة في الثانوي التأهيلي

 

في المثقف اليوم