أقلام حرة

نعمَ المُسمى بالمختار

مجدي ابراهيمتلك الأريحيّة الخُلقية الفياضة لا شك كانت هى الحلية الباطنة التي تمت بها حلية محمد عليه السلام في عيون الناس، وهى جواب محمد عليه السلام لما كان في قلوبهم من حبّ وإعظام، أو هى الآصرة التي تجمع بين قلبه وتلك القلوب في نطاق الأسرة الإنسانية.

فيوض أنواره مسّت قلوبهم ولامست أرواحهم، يحبونه ويحبهم، ويشعرون به ويشعر بهم، وكان نعم المسمى بالمختار؛ فقد أجمعت روايات التاريخ على أنّ النبيّ عليه السلام كان مثالاً نادراً للرجولة العربية؛ كان كشأنه في جميع شمائله مستوفياً لكمال الصفة من جميع نواحيها كما يقول الأستاذ العقاد في عبقرية محمد.

ولا تتم تلك الأريحيّة الخلقية الباطنة ما لم يكن خلفها كمال الصفة المستوفية لسائر الصفات الخلقيّة.

فليس من مستغرب أن يكون جماع شمائله الشريفة هو التكافؤ الخُلقي بهذا المقياس، وهو الذي لم تعرفه الحياة الواقعية لإنسان غير محمد، وهو في شبابه عليه السلام مفطور مجبول، لم يصنعه علم ولا تثقيف؛ لأن بيئة محمد عليه السلام في شبابه لم تكن بيئة علم وثقافة، ومن الطبيعي أن تكون ثمرات هذا التكافؤ الخُلقي محدودة بحدود البيئة التي عاش فيها، حتى إذا أتيح له أن يمتد ويتسع مع الرسالة العامة الخالدة أمتد وأتسع، فكان هو العنوان الذي رسم به القرآن الكريم الفضيلة العليا في حياته، فوصفه مادحاً (وإنِّك لعَلَى خُلِقٍ عَظيم). وهو وصف إلهي لأدب ربانيّ وهو القائل عليه السلام (أدّبني ربي فأحسن تأديبي)، فاستحق الوصف بالخلق العظيم لأنه كان خليقاً بالأدب الرَّبانيّ. ولا يختار الله وصفاً أقلّ ولا أدنى من العظمة لمن أختاره وأحبٍه وأرسله رحمة للعالمين، وهو نعمَ المُسمى بالمختار.

وخلاصة سمته وآدابه صلوات الله عليه أنها سماحة في الأنظار وسماحة في القلوب؛ فالسماحة هى الكلمة الواحدة التي تجمع خصاله الشريفة من أطرافها، والسماحة هى الصفة التي ترَقّت بمحمد إلى ذروة الكمال. ومَنْ يكون الرسول إنْ كان ولابدّ من تعريف وجيز لعلامات الرسالة؟

يجيب العقاد في عبقرية محمد : الرسول هو الذي له وازع من نفسه في الكبير والصغير ممّا يتعاطاه من معاملات الناس؛ لأن عمل الرسول الأول أن يقيمَ للناس وازعاً يأمرهم بالحُسن وينهاهم عن القبيح، ويقرّر لهم حدودهم التي لا يتخطونها فيما بينهم، ومن كان هذا عمله الأول فينبغي أن تكون صفته الأولى بل صفته الكبرى أن يستغني عن الوازع وأن يغني الناس عن محاسبته وطلب الحق منه. وهذه هى السليقة السابقة الشاملة التي سرت في خلائقه صلوات الله وسلامه عليه، وامتزجت بجميع أعماله وأقواله، فلم يحاسبه أحد قط كما حاسب نفسه في رعاية حق الصغير والكبير وصيانة الحرمات للعاجز والقدير.

هذه علامة "رسالة" لا علامة أصدق منها، ولا أجدى منها بالقبول؛ لأنها علامة من داخل السريرة، وليست علامة من خارجها، قد تلازم أو تُفارق من تعروه. وليس للنوع البشري مقياسٌ صحيح يقاس به محمد عليه السلام؛ فيعطيه مرتبة دون مرتبة الحب والتبجيل؛ يعطيه هذه المرتبة من يدين بالإسلام ومن يدين بغير الإسلام ومن ليس له دين من أديان التنزيل.

وواضح أن علامة الرسالة الأولى "أخلاقية" من أول درجة، وإنما الأخلاق جوهر هذه الرسالة وأساس قيامها بكل تأكيد، وهذا يفسّر لك سبب التردي الخلقي الظاهر في مجتمعاتنا العربية والإسلامية : دعوى عريضة تقوم في الناس بغير دليل أساسها محبة الله ورسوله ثم في الوقت نفسه أخلاق منافية لأخلاق الله ورسوله، الإيمان مجرد كلام لا يصدقه عمل، والأفعال تنقض الأقوال. فكيف تتقدم أمة وازدواجية المعايير الخلقية تلفها لفاً مبالغاً فيه؟

ومن البديهي أنه ليس للنوع البشري أصلٌ من أصول الفضائل يرمي إلى مقصد أسمى وأنبل من تقديس تلك المناقب الشريفة التي كان محمد صلوات الله عليه قدوة فيها للمقتدين؛ فلا أقلّ من أن يكون؛ وسمْته وسماحته على هذا النحو، قدوة منيرة لكل ذي خلق كريم. ومن يتعمّق صفة الخُلق الكريم في شخصه الشريف يستجليها ويستبطنها، فلا مناصّ له من أن يقيم الحياة الروحيّة في الإسلام كلها على أساس تلك الصفة الباطنة. ولا يزال الوجود الإنساني قاصراً ما لم يرق بالجهاد إلى تحصيلها وترقية نزوعها بالعمل والتقرير.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

في المثقف اليوم