أقلام حرة

محمد الورداشي: زلزال مفاجئ

تناولت عشائي على عجل ثم تمددت في فراشي متعبا، وبعد هنيهة أحسست بأن السرير يميل بي ذات اليمين وذات الشمال، والأرض تهتز وترتعد.. فقفزت من فراشي كأن أفعى سامة لذغتني، ثم غادرت الغرفة مسرعا، وما إن اقتربت من النوافذ المطلة على الشارع حتى رأيت الناس زرافات ووحدانا فارين من بيوتهم، وصراخهم ملأ الزقاق كله.. كنت أسعى إلى النجاة، فاقتربت من الباب لأفتحه، ولكني وجدتني قد أغلقت الباب الخشبي وحتى الحديدي، لتبدأ حكاية البحث عن المفتاح، ذاك المفتاح الذي يبدو لي منفذ نجاة، ذاك المفتاح المألوف لدي صار مجهولا... ارتجت أمعائي لما قيل لي إنه زلزال، خفت قليلا، وتملكني العجب والذهول، واضطربت حتى كدت أرى الملجأ في النافذة. بيد أني ما إن رأيت تلك النظرات الصغيرة، نظرات العيون المشعة بالبراءة والاستغراب؛ لأنها صغيرتي استيقظتْ فزعة خائفة على وقع الأمور التي اضطربت حولها، والعويل والضجيج اللذين ملآ المكان.. تمالكت نفسي وأمعنت النظر في المفاتيح حتى ألفيت المفتاح الذي نسيته بسبب الخوف والاندهاش، ففتحت البابين، وألفيت جاري وأبناءهم مضطربين، وقد علا الخوف ملامح وجوههم، وأخذ بريقه يشع في أعينهم.. وما هي إلا لحظات قصيرة حتى غادروا البيت جميعا، وتركوه خاويا إلا من الأثاث والفراش، ثم توجهوا نحو الزقاق حيث تكدس سكان الحي.

أما أنا فقد حملت صغيرتي، وأخذت أفكر رفقة أهلي في الخروج، وما إن وطنت أنفسنا على ذلك حتى بدأت الأرض تعود إلى سيرتها الأولى.. فأخذت أنظر إلى الثريا المعلقة في سقف إحدى الغرف، فوجدت مصابحها الصغيرة تتحرك بقوة، وتصدر صوتا ينذر بأن كل الأشياء المعلقة في البيت ساقطة لا محالة.. ولكن الله تعالى لطف بنا؛ لأنه عالم بأننا كائنات ضعيفة: تدعي القوة وهي أضعف خلق الله.

خفت لأني قرأت بعضا مما كتب حول ظاهرة الزلازل باعتبارها ظاهرة طبيعية، ولكني لم أعش لحظة الزلزال يوما، لم يسبق لي طوال السنوات الماضية أن أحسست بالأرض تميل بي يمينا وشمالا، لم أعش هذه التجربة في ما مضى، لذلك تملكني الخوف والعجب، وأخذت أنظر إلى الناس في ذهول وشرود.. رأيت في نظراتهم الخوف، لكن من ماذا؟

يخاف الناس من الموت، وهذه طبيعة محفورة في النفس البشرية، هذه النفس التي تتشبت بالحياة حتى الرمق الأخير؛ لأنها تعشق الحياة كثيرا، ومتعطشة لعيشها طولا وعرضا في كل الأحوال والظروف.

بدأ الهدوء يعود إلى النفوس الوجلة، والحركة الصاخبة في الخارج تضعف شيئا فشيئا، فيدأ الناس يعودون إلى منازلهم، وتتملكهم الحيطة والحذر والترقب.. حملت هاتفي وأخذت أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، فعلمت أن الزلزال قد زار أغلب المدن المغربية، وأن بؤرته أو نقطة انطلاقه هي منطقة في الحوز، وأن هناك أخبارا تقول بأن نسبة الزلزال بلغت 7.1 على سلم ريتشر، وأنها درجة خطيرة وقوية حسب هذا السلم العالمي، فتملكني حزن وخوف شديدين... تذكرت أهلي وكل من يعيشون في مناطق الهشاشة؛ لأن بيوتهم بنيت بالتراب ولا قاعدة صلدة لها، فخطر لي خاطر أخافني كثيرا.. حاولت الاتصال بهم، بيد أن خط الاتصال متوقف، وبعد محاولات عديدة، تمكنت من ربط الاتصال بهم، فبلغ سمعي كلام أخي الصغير يخبرني أنه كان نائما في سطح البيت، وأن باقي أهلي جالسون في الأسفل، فسألته عن حال البيوت والمنازل هناك؛ لأني أعرف جيدا مادة بنائها ومدى هشاشتها وضعفها، فأخبرني أن ثمة جدارا قد انشق، ولما تحدثت مع أمي وأختي وجدتي، واطمأن قلبي عليهم، أخبروني أن سكان القرية جميعهم قد غادروا منازلهم الهشة، وتجمعوا في أماكن عمومية.. حاولت قدر الإمكان أن أقنع أهلي أن لا يخافوا، وأن الأمور قد مرت بخير، بيد أن هناك من ساق لهم معلومات ترهيبية، فزرع الرعب في نفوسهم، لذلك أصروا على أن ثمة هزات وترددات أخرى آتية لا محالة، فاختلفوا بين من يقول إنها ستحدث في الواحدة والنصف من تلك الليلة، ومن يقول الساعة الثانية أو الثالثة.. آلمني حال جدتي المريضة؛ إذ غادر الجميع وبقيت وحيدة في البيت، وقدماها لم تسعفاها للفرار، فظلت في مكانها خائرة القوة.. طلبت الحديث معها محاولا تهدئتها وطمأنتها، بيد أنها مصرة هي الأخرى على أن الزلزال سيعود إن عاجلا أو آجلا.

تصفحت مواقع التواصل الاجتماعي مرة أخرى، فهالني ما تعرضت له مدينة مراكش والمناطق المجاورة لها.. أناس كثيرون فقدوا حياتهم، وآخرون قابعون تحت الأنقاض يلفظون أنفاسهم في صمت.. تألمت وتأسفت لحال ساكنة مولاي إبراهيم، هذه المنطقة التي لم تشف جروحهم بعد من فيضان جرف البشر والحجر والشجر.. اخترق أذني نداء شاب من سكان المنطقة وهو يستنجد السلطات، يطلب منهم سيارة إسعاف أو مروحية عسكرية تنقذ الأشخاص الذين تم انتشالهم تحت الأنقاض، لكنه يصرخ بأنهم لمدة ساعة وهم يطلبون النجدة ولا من يمد لهم يد العون.. فتساءلت في مرارة عن السبب الذي يحدث هذه الفجوة السحيقة بين المسؤولين والمواطنين؟ هل سببها انعدام المسؤولية، أم اللامبالاة وعدم الاهتمام؟ أم أن هناك سببا عميقا نتج عن فقدان الثقة التي باتت تملأ نفوس المواطنين؟

لفت انتباهي شيء آخر قد يبدو تافها بسيطا، ولكنه ليس كذلك في حال الكوارث الطبيعية التي تحل بالبلاد.. ففي اللحظة التي ينتظر المواطنون معلومات رسمية موثوقة من قبل المراكز العلمية المكلفة، نتفاجأ ببلاغات وبيانات تصدر باللغة الفرنسية، قد يفهمها الذين يعرفون الفرنسية، ولكننا نعلم أن الغالبية العظمى من المواطنين المغاربة لا يعرفون ولا يفقهون اللغة الفرنسية.. وهذه أزمة أخرى تضاف إلى الأزمات التي تقتل سبل التواصل والحوار بين الجهات المختصة والمواطنين.

تأتي حاجة المواطنين إلى المعلومات الرسمية حينما يكثر القيل والقال، ويأخذ الجاهلون الآفاكون في نشر معلومات مغلوطة بين المواطنين، الشيء الذي ينتج عنه خوف وهلع لديهم، ومن ثم تضاف إلى خطورة الزلزال خطورة الاضطراب بين المواطنين.

لم أستطع النوم ليلة أمس، فأخذت في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، ومتابعة المقابلات الإعلامية المباشرة التي تحاول أن تنقل ما يبلغها من معلومات، وأن تطلع الرأي العام المغربي والدولية على الخسائر المادية والبشرية في المغرب.. إلا أن النوم قد تملكني، فتبدد الخوف من نفسي، وما إن استيقظتُ صباحا حتى أخذت في متابعة ما استجد من أخبار ومعلومات في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، فأحزنني عدد الموتى والمصابين في وطني، والخسائر المادية التي لحقت بالعمران في أماكن محددة في البلاد.

وفي هذه المناسبة الأليمة، أعزي نفسي والشعب المغربي، وأسأل الله تعالى أن يرحم أمواتنا ويشفي الأحياء المصابين، ويحفظ بلادنا من الإحن والمحن، وينعم عليها بالأمن والخير والاطمئنان.

***

محمد الورداشي

في المثقف اليوم