مقاربات فنية وحضارية
الفن والسياسة: المُعلن والمسكُوت عنه في المُمارسة الفنيّة الإيرانيّة المُعاصرة
إنّ قضيّة علاقة الفن بالسياسة تُعتبر من إحدى الإشكاليّات الكبرى التي أثيرت ولا تزال تُثار في مجال البحث الفنّي وتحديدا داخل المُمارسة الفنيّة الإيرانيّة المُعاصرة، وهي إشكاليّة تتمحور أساسا حول أوجه التقاطع أو التوازي القائمة بين حريّة الإبداع والمُعلن صراحة أمام الجميع، وبين الرّقابة والمسكوت عنه في التعبير الفنّي. وغالباً ما تُعطي الإنقلابات العنيفة الاجتماعيّة والصّراعات الثّوريّة دفعة للأشكال الإبداعيّة للتعبير الفنّي السياسيّ. ومن أجل بناء "وعي ثائر" يردّ هذا الفن الجواب بسلاطة على السّلطة، ويقلب صلاحيّتها رأساً على عقب، ويقترح طرقاً مُعارضة بديلة للتفكير والسلوك. ومن جهة أخرى وفي وقت الاضطراب الشديد، عندما تكون السيطرة أو الزّعامة السياسيّة مقيّدة بصورة أفضل، فإنّ الفن يشترك في عمليّة إنشاء رموز جديدة، أساطير مُضادة، وفي نهاية المطاف معانٍ جديدة.
الأيقونات المُتعدّدة كالصور الفوتوغرافيّة والبوسترات (المُلصقات) السياسيّة التي كانت منتجة ومنتشرة أثناء الثورة السياسيّة في إيران لم تكن استثناء لذلك. والصّور الفوتوغرافيّة والمُلصقات التي استحدثها الفنّانون المُلتزمون بالثّورة (الثورة الإيرانيّة الإسلاميّة سنة 1979) قد هدفت بصورة جليّة إلى إعادة تعريف القيم والأعراف الاجتماعيّة. وبعد اضمحلال سلطة الشاه قام الفنّانون بإنتاج المُلصقات التي عارضت تصويرها الأيقوني أو الرّمزي وقلبت الأفكار والصور التي دعّمت الوضع الرّاهن. يجب أن نُقرّ أن هذا ليس مُجرّد تأمّل ثانويّ للحركة الثوريّة، حيث لعب التصوير الفوتوغرافيّ والمُلصقات دوراً حيويّاً في الصّراع من أجل التغيير وفي نطق الإيديولوجيّات الجماعيّة. وبالتالي كانت هذه الثورة والفنّ مؤسّسين بصورة مُتبادلة فيما بينهما.
ينطلق الفنّان الإيرانيّ من قراءة للذّاكرة الجماليّة الفارسيّة التي تحبل بالعديد من الإبداعات والتعبيرات الفنيّة البصريّة، زمنيّة ومكانيّة، والتي جسّدت علاقة الفنّ بالسّياسة في ظاهرها وباطنها، وانطوت على معانٍ سياسيّة شديدة الحساسيّة ساهمت إلى حدّ كبير في إيقاظ الضمير الشعبيّ وتكسير حدّة الرّقابة التي تفرضها السّلطة على المُجتمع. غير أنّ الفن في حقيقة الأمر لم يكن ضدّ السياسة دائماً، بل خدمها في الكثير من المُناسبات، ووقف الفنّانون طويلاً إلى جانب نساء ورجال السياسة لتجاوز المعضلات، وحشد التعبئة في الحروب السياسيّة والفكريّة والإعلاميّة. فالسياسة هي مجال من مجالات الإبداع الفني بما يتضمنه من أفكار ورُؤى وتخييل، وقد تتحوّل إلى أداة مطواعة في يد الفنان بوصفه صائغا للقيم الجماليّة وصانعا للمواقف الإنسانيّة.
مثّلت الثّورة الإيرانيّة لحظة حاسمة في التاريخ الحديث لإيران. حيث ظهرت طبقات متعدّدة من المعاني والصور الأيقونيّة أو الرمزيّة. وبُني جسراً بين فنّ التصوير الفوتوغرافيّ، وبين الماضي مع الحاضر، والمقدّس مع غير المقدس، والحديث مع التقليديّ، والقوميّ مع الدوليّ. لكنّنا أمام هذا الكمّ الهائل من الأعمال التشكيليّة الإيرانيّة المُعاصرة تعجز كل المعاني المتعدّدة وكل التفسيرات المُختزلة للثورة كمعنى "إسْلاميّ" بحت وتتحدّى النظرة النمطيّة للإسْلام كفكرة متعلقة بالتنكّر للمُعتقدات والأنظمة المأثورة.
انطلاقا من الصُّورتين (انظر إلى الصورتين السّابقتين عدد7 و8) للفنانتين شيرين نشأت وشادي غادريان، نُلاحظ ذلك النّفس السّياسي الطاغي عليهما، فالحسّ الثّوري حاضر وغائب هناك. يثور الجسد الأنثويّ بين ثنايا الحشد الرّجالي، ويتمرّد في حنايا الوضع الذي يعيشه.هو جسد تلك المرأة الثائرة على نظام المؤسّسة البطريركيّة داخل العائلة. فصورة "نساء بلا رجال" (صورة رقم7) تكشف لنا عن الوضع السياسيّ الذي تعيشه المرأة خلال فترة معيّنة من تاريخ إيران. فدور الصورة الفوتوغرافيّة والفيديو في هذا العمل لشيرين نشأت أصبح ذو أسلوب محلّي وآخر دوليّ، تقليديّ وحديث. وبهذه الطريقة ينظرون إلى الفنون البصريّة على أنّها من قبيل الشعار أو العلامة الخاصّة للطّابع الهجين ما بعد الحديث للتشكيلات النّاشئة في إيران. ويعتبر هذا الفيلم (نساء بلا رجال) الأوّل للفنّانة التشكيليّة شيرين نشأت، يقدّم صورة فنيّة لإيران من خلال قصص أربعة نساء سنة 1953، وانقلاب تدعّمه بريطانيا والولايات المتحدة، يسقط الحكومة المنتخبة (أي حكومة محمد مصدّق). وهو أوّل فيلم روائيّ طويل للفنّانة الإيرانيّة "شيرين نشأت"، تلقي فيه الضوء على حياة أربع نساء في ظلّ الانقلاب الذي شهدته البلاد صيف عام 1953.
أدركنا من خلال هذا الفيلم سيطرة الفنّانة على شخصيّاتها النسائيّة وتحكّمت في هنّ عن طريق الكشف والمُوارية. فهي تفضح من جهة الأوضاع السياسيّة التي كانت تعيشها المرأة في عهد الشاه، وتغوص في المسكُوت عنه من خلال كشف السيطرة الذكوريّة وغطرسة المؤسّسة الدينيّة تُجاه المرأة في بعض الاحيان .
لم تكن صُورة حذاء المرأة في العمل الفنيّ "لاشيء،لاشيء"(انظر صورة عدد8) للفنّانة شادي غادريان اعتباطيّة، فقد وُضعت جنبٍ إلى جنب مع حذاء الرّجل. وترمز هذه الصورة لأحداث الثورة الإسلاميّة (كان عمرها حينذاك خمس سنوات) والتي بقيت أحداثها راسخة في ذاكرتها. وترمز كذلك لآثار الحرب الإيرانيّة-العراقيّة والتي كانت مُخلّفاتها وخيمة على المُجتمع كالفقر، الظلم الاجتماعيّ والسياسيّ، الحرب، الجريمة، الحرمان، الكارثة، والمُعاناة. وتستحضر المصوّرة في هذه السلسلة صورة الحرب من خلال الحضور والغياب (الرّجل والمرأة) لكن بعيدا عن ساحات القتال. فالحرب في هزائمها وانتصاراتها تحدث شرخا في الحياة، بحيث لا تعود مطلقا كالسابق، تترك آثاراً نفسيّة أكثر تركيباً وعمقاً ممّا نظن في نفس من جرّبها وعاش تحت تهديدها وذاق صدماتها المُتتالية. كما أنّ الكثير من آثارها تكون بعيدة المدى فتمتد طيلة عمر الإنسان وتؤثر على مجرى حياته كاملاً في بعض الأحيان. فتحوّل مشهد الثورة والحرب في هذا العمل التشكيليّ إلى "الاّشيء"، العدم، الموت، الفناء... فلم يبقى من الثورة سوى صور للشهداء، الحذاءان المتروكان هناك، والدّماء المنثورة على الجدران.
لكنّ السؤال الذي يدور في مخيّلتنا ويُحيّر أمرنا ألا وهو: هل سيكون تحرير نهائيّ لكلّ فنّان داخل إيران؟ هل هناك فائدة من الثورة أم سيظلّ الأمر دائماً على ما هو عليه؟ وهل لدى الفنّانات الإيرانيات الحقّ في الثورة أم لا؟
يقول ميشيل فوكو في كتابه "فوكو صحافيّا: "لم تخضع الحركة الإيرانيّة لـ"قانون" الثّورات ذلك الذي يبدو أنّه أظهر للعيان تحت الحماسة العمياء الاضطهاد الذي يسكنها في الخفاء. ويتعلّق ما كان يُشكّل أكثر جوانب التمرّد صميميّة، والذي عرف بشدّة أكبر من غيره، دون واسطة بمسرح مزدحم"[1]. قد يُخاطر الفنّان بحياته لأجل الدّفاع عن حريّته وحريّة غيره أمام سلطة يعتبرها غير عادلة. فالحركات الاحتجاجية لا تقهر، لأنّه لا يوجد أيّة سُلطة في مقدورها القضاء على إمكانيّتها بشكل مُطلق. وبالتالي فإنّ بين الفنّ الإيرانيّ (سواء في الخارج أو الدّاخل) والسياسة ليست ثمة مسالك مرسومة سلفا للعلاقة بين العالمين. العلاقة -بصيغة أصحّ- هي بين الفنان والسياسيّ.
هل يختار الفنان أن يضع نفسه في حضن سلطة تحميه وتفسح له مكاناً في الهرم السياسيّ للاستفادة من البعد المادي والاعتباري، أم يخوض المغامرة الصّعبة في شقّ طريق الإبداع المستقلّ المدافع عن قيم الحق، حتى وإن صادمته خيارات السلطة وإملاءات المُجتمع؟ وهل يقبل السياسيّ أن يخلي مساحات اجتماعيّة تنبت فيها أصوات الحريّة والإبداع خارج مدار المُمارسة السلطويّة أم يرتضي وقوف الفنّان في طابور الجنود المؤتمرين بسطوته؟
نحن هنا لا نكتفي بتجربتيْ الفنانتين شيرين نشأت وشادي غادريان، بل ننطلق منهما للغوص في أعماق المُمارسة الإيرانيّة المُعاصرة في الخارج والدّاخل. من هنا نبدأ بالكشف عن الإيقونات السياسيّة التي ساهمت في اختراق المسكوت عنه من مواضيع وتقنيّات فنيّة مختلفة. نقدّم ثلاثة بوسترات (مُلصقات) كنقطة انطلاق. على سبيل المثال، وفي إحدى "البوسترات" للمُصوّر الإيراني مورتيزا مومايز ( إشتغل في ورشة عمل البوسترات في معرض الفن الإيرانيّ سنة 1962، ثم انتقل إلى الولايّات المتحدة) نجد في هذا العمل ثلاثة "تواليب" (نوع من الزهور) حمراء اللّون، جُسّدت في شكل قبضات يد، مغروسة على خطّ فارسيّ مقتطف من قصيدة شعريّة تُقرأ "ازدهرت التواليب من دم شباب الأمّة". (انظر الصورة ).
ترمز حركة الأيادي في هذه الصورة إلى الحقوق المدنيّة (قبضة اليد الأمريكيّة المرفوعة)، غُرست فوق حرف من الحروف الفارسيّة. ونلاحظ في هذه الأيقونة كيفيّة مجيء الفنون المرئيّة لتعمل كشكل أكثر مُباشرة وإلحاحاً للتدخّل الاجتماعيّ. ومن خلال الانسلاخ الحرّ من السياق المؤسّساتي لإنتاج وعرض الفن، أخذ الفنانون الإيرانيون أعمالهم مباشرة إلى الشارع . وهذه العلاقة التكافليّة بين الكلمة والصورة التي شكّلت حيزاً ثقافيّاً جديداً بالنسبة لشيرين نشأت والعديد من الفنانين المُعاصرين، تميّزت بطابع نقديّ اجتماعيّ داخل المُمارسة الإيرانيّة التي أصبحت أكثر وضوحاً بالكامل في الفنون البصريّة. حيث إنّ القنوط أو السّخط الاجتماعيّ ازداد على مدار فترة السبعينات من القرن العشرين.
أصبح بعض الفنّانين المُعاصرين سواء في المنفى أو في الداخل الروّاد المشتركين في إنتاج المُلصقات السياسيّة. وشكّلت هذه "البوسترات" سجلاً تاريخياً لدور الفنون المرئيّة والصور الفوتوغرافيّة في الثورة الإيرانيّة سنة 1979. ويُعدّ هذا النّوع من الفنون فناً إحتجاجيّاً بالأساس، ومن أهمّ عوامل الترويج للثورة، إلاّ أن مفردات هذا الفنّ تأتي من مفردات وقواعد الفن التشكيليّ.
إنّ الفنّ في الحقيقة هو الخوض في قلب هذه المشاكل، وإعادة تقديمها من جديد بهدف الوصول إلى حلول واقعيّة لمشاكل الإنسان لا الهرب به إلى عوالم لونيّة وفكريّة حالمة. فهو اليوم غير منعزل عن الجدالات السياسيّة الكبرى الدائرة خارج مدينة أفلاطون الفاضلة التي هربنا إليها فنياً، فالعصر اليوم هو عصر التواصل والانفتاح، وهذه الأحداث ستصل يوما وبكل تأكيد إلى مدينتا الفاضلة، وستقتحم ما ورائيّاتنا ومخابئنا الحالمة، وستنتهك كل قواعد علم جمالنا، وألواننا الدافئة التي اتّخذت من جسد الأنثى على سبيل المثال مخبئا نختبئ فيه تحاشيا لأيّ مواجهة مع الأحداث السّائدة. إنّ الفنان عموما اليوم هو إنسان متفاعل مع حركة التاريخ بموضوعاته الحياتيّة اليوميّة ذات العمق الفكريّ، ووعي الفنّان السياسيّ هو وسيلة التعبير المطلوبة لتحقيق غايات الإنسان وحاجاته الملحّة. فهو الواعي سياسيّاً يكون منسجما مع مقتضيات العصر عبر دوره الإبداعيّ والفكريّ الذي يترجمه بأشكال بصريّة مختلفة، ليصبح راصدا لكل التحوّلات الفكريّة والوجدانيّة والعقائديّة من حولنا.
هل أنّ الفنّ يجب أن يبقى بمنأى عن أي ارتباط صريح بالسّياسة، خشية أن يدفعه ذلك الارتباط للتنازل عن نزاهته الفنيّة؟ أم أنّه يجب أن يُعلن صراحة عن انتمائه السّياسي ويُساند بشكل مُباشر القضايا السياسيّة وإلاّ يستبعد ويوصم بأنّه رجعي؟
القائمة التي تضمّ أسماء الفنّانين الإيرانيّين، الذين قد مُنعت أعمالهم من العرض في إيران كبيرة. فلم تكن تجربة الفوتوغرافيّ الإيرانيّ المنفيّ "عباس كيارستمي" بمنأى عن تجربة شيرين نشأت وشادي غادريان، وهو فوتوغرافيّ إيراني سينمائيّ مُعاصر، وبدأت تجربته الفنيّة في رواية قصّته عن الثّورة الإيرانيّة في عام 1979. وعندما بدأت الثورة الإيرانيّة، أخذ عبّاس كاميراته إلى الشوارع وقد وضّح فيها التصوير الوثائقيّ. وكان حريصا على التّمثيل الفُوتوغرافي للأحداث وإنشاء ونقل المعنى الثّوريّ. وعلى مدار الثّورة، قضّى عباس جزءا كبيرا من أيامه في الشوارع لنقل المشاهد الثوريّة. وكان يستثمر جزءا من الجماهير ويدخل في حركاتهم، مستثمرا في فهم مضامين ما كان ينكشف من حوله. وقد صوّر كذلك، نساء مُحجبات وأيديهنّ مرفوعة إلى السّماء في انتظار عودة الخمينيّ، ومن جانب آخر من الصورة توجد نارا موقدة تحترق في داخلها صور فوتوغرافيّة للشّاه. وبالتالي فإنّنا نستلهم انعكاسات هذه الثّورة الإسلاميّة من خلال نماذج عديدة اهتمت بالصُّورة الفوتوغرافيّة كوسيلة احتجاجيّة على الأوضاع التي يعيشها المُبدع في زمن الرّقابة والممنُوعات.
من خلال أفلامه وصُوره الفوتوغرافيّة الثوريّة، سعى كيارستمي إلى خلق نوع جديد من السينما التي لا تعتمد على حبكة أو أحداث دراماتيكيّة أو مؤثّرات خاصّة وحيل بصريّة أو ميزانيّة ضخمة أو نجوم محترفين، إنها سينما متقشفة لكن عميقة في الرؤية، تعتمد على إظهار التناقضات والمفارقات - الصّارخة والكامنة أو المموّهة - فيما هي تحتفي بالحياة اليوميّة، وتدعو إلى التأمّل والتفكير، نائية عن الحالات الوجدانيّة "الميلودرامية". ونحن في الحقيقة نعلم أن أغلب أعماله الفنيّة ممنوعة من العرض في إيران فيقول حول ذلك:"سواء أكانت هناك رقابة أم لا، فإن أعمالي قادرة أن تعبّر عن نفسها بطريقتها الخاصة. أيضاً أشعر بأن كلمة الرّقابة توفّر أحياناً درعاً أو حجاباً نستطيع أن نخبئ خلفه نواقصنا ونقاط ضعفنا، ونحلّ أنفسنا من واجب المسؤولية تجاه أعمالنا... أظن أنّنا، نحن الإيرانييّن، ليس لدينا أيّ خيار غير أن نستمرّ في الكفاح من أجل تحسين وجودنا الخاص، مثلما يفعل أي شخص يكون في خطر الموت، فيتشبث بالحياة حتى النهاية المريرة"[2]. ومن الثيمات التي يهتمّ كيارستمي بتناولها: العلاقة بين الصورة والواقع، اللاّعدالة الاجتماعيّة، تجاور الحياة والموت وعمق غريزة البقاء. وتبدو أفلامه ذات منحى وثائقيّ، مبنيّ على أحداث واقعيّة، ويستعين فيها بممثلين غير محترفين. ومن خلال أعماله نستنتج الدّعوة إلى التسامح ونبذ التعصّب والتعاطف مع نقاط الضعف البشريّة، وغالباً ما تطرح نقداً اجتماعياً تشمل حتى الحرب الإيرانية - العراقية، ووضع المرأة الاجتماعيّ.
ومع أن هذه الأفلام لا تحمل طابعاً سياسياً مباشراً، على نحو صريح، إلا أنّها تقدم مضامينها بلغة مجازيّة، معتمدة على الحسّ الشعبيّ في تشكيل الموقف الحقيقيّ وبلوغ رُؤية صانع الفيلم. وعلى سبيل المثال يُجسّد العمل الفنّي الذي أمامنا (صورة رقم1) صُورة لامرأة في تظاهرة مُعادية للشّاه،في شوارع طهران،سنة 1978، للمُصوّر الإيراني عباس كيارستمي. تقف المرأة وحيدة وراء صفاً من الرّجال. وهذا دليل على حضُور العُنصر النّسائي في هذه الثورة.
لكن ما يُثير الانتباه في سلسلة أعمال هذا المصوّر، هو تكرار تصوير "السيّدات المُحجبات" المُشاركات في الثورة واللاّتي تجنبن "التغريب" ووقفن جنباً إلى جنب مع بقيّة المُتظاهرين في الشّوارع. وأصبحت هذه السيّدات المُصوّرات في أكثر الأحيان، مُجرّد رُموز. فيقول حول ذلك عباس: "إنّني أتذكّر في الأيّام الأولى عندما وقعت الثورة، كنّا دائماً نبحث عن صورة لحجاب أو عمامة لشيخ مُسلم من علماء الدّين، وذلك بسبب الضغوطات التي تشنّها علينا الحكومة في ذلك الوقت، ثم تعبتُ من هذا وقرّرت أنّني لا يمكن لي أن أعمل مع رُموز"[3]. في حين تحمل المرأة الثانية (صورة رقم2) ورقة عُملة ريا مطويّة أمام عينها، مُفتخرة بعرض صورة الشاه على العملة النقديّة. ثم يجول نظرك حول معطفها المصنوع من الفراء والألماس في خاتمها، ومن جانب آخر يوجد ذراع رجل يدفعها للأسفل بشكل يبعث على التّهديد من فوق كتفها. ومن وراءها رجل يرفع قبضة يده في حالة من الغضب والقنوط، وفمه مفتوح في صراخ صامت.
رُبما أنّ لا تناقض على الإطلاق بين الالتزام السياسيّ الصّريح والإبداع الفنيّ في أعلى مراتبه. فمن الواضح أنّ مثل تلك الأعمال الإيرانيّة تساعد القضيّة الثوريّة أو التقدميّة من خلال كسب وعي الآخر بالقضيّة. كما أن صنع الفن عمليّة معقدة ومتناقضة وليست دائما بالكامل تحت السيطرة الواعية للفنان، ولذا نجد في بعض الأحيان أن الفن يتعدّى محدوديّة/ حدود إيديولوجيّة الفنان. ومن جانب آخر، تكون الصورة الفوتوغرافيّة تفاعليّة، وكوسيلة تتبع الأحداث. فيكون الفنّان مُستثمراً جزءاً من الجماهير التي يُصوّرها. ويدخل في حركاتهم، متوقّعاً الأحداث.
قد لا تجسّد الصور الفوتوغرافيّة واقعاً حقيقيا، بل الإيهام بالواقع من عدّة وجوه منها أن الصورة هي عبارة عن سطح مستوي لها طول مع العرض وهذا ما لم نجده في الواقع، إذ أنّ الصورة تفتقر إلى البعد الثالث، إلاّ أنّها تتضمّن البعد الرّابع إضافة إلى استخدام العدسات المُختلفة كالبعد البؤريّ سواء كانت قصيرة أو طويلة البعد. وفي كلا الأنواع تعطي لنا معاني دلاليّة مختلفة إضافة إلى استخدام الزاوية من حيث مستوى النظر لهذه الأسباب وغيرها جعلت من الصورة تتجاوز المفهوم الطبيعي وتتحول من العملية الآليّه إلى عملية فنيّة وهذا ما يدعو إليه المُنظّر في علم النفس والسّينما الألمانيّ رودلف آرنهايم" في كتابة "فن الفلم" الذي أصبح ثورة فنيّة في عالم الصورة الفوتوغرافية "لتحويلها من العالم الميكانيكيّ إلى العالم الإبداعيّ الجماليّ الفنيّ والتي على أساسها تمّ تحويل الصورة إلى لغة ضوئيّة أو بالأحرى الرّسم بالضوء أي جعل الضوء هي الفرشاة التي يقوم بها الفنان الفوتوغرافي برسم لوحتة البصرية والتي على أساسها تجوّلت الصورة من البعد الوثائقيّ إلى البعد الفنيّ الجماليّ.
نحن نعلم أن الصورة في الحقيقة هي مجرّد لمسة جماليّة في حقل من الرّموز والإشارات، تتآزر لتكوين نوع من السّرد البصريّ لفكرة مُقتطعة، ومشهد مُختار يحمل رسالة لمتلقٍ نشطٍ واعٍ في العديد من المجالات العلميّة، المعرفيّة والثقافيّة، فهي "عُنصر فاعل مُرتبط بالإدراك والوعي والخيال، والفهم"[4] وهي أيسر السّبل إلى المعرفة. وتُعتبر الصورة الفوتوغرافيّة، في هذين العملين السابقين، إعادة إنتاج آليّ للواقع، أي أنّها رسالة خياليّة من مدوّنة الثورة الإيرانيّة الإسلاميّة. فنّد الباحث الفرنسيّ"رولان بارث" هذا الاعتقاد للصورة، إذ أكّد أنها تحمل بعدين: بعد تعييني (يعني وصف ما هو موجود في الصورة ) وبعد تضمينيّ (ونقصد هنا ما نقوله عن الموجود في الصورة) والبعد الثاني لا يُفهم بدون البعد الأوّل. والصّورة في حدّ ذاتها، هي مادّة اتصال تقيم العلاقة بين المُرسل والمُتلقي، فمرسل الصُّورة لا يقترح رُؤية مُحايدة للأشياء، والمُتلقي يعيد قراءتها كما يسميها الباحث الفرنسي "جون دافينيو" بالتجربة الجماليّة والمخيال الاجتماعي، وذلك لانّ الصّورة لا تُخاطب حاسّة البصر لدى المُتلقي فقط، بل تحرك حواسه وأحاسيسه، وميراثه العاطفي والاجتماعيّ.
كيف يُجسد التصوّر في صورة؟ وكيف تؤثّر الايدولوجيا كنظام من أفكار مسبقة في صنع عملية تجسيد تصوّر الفنّان؟ وهل تُصبح الصورة المُجسّدة، حقاً، نتاجاً لذات متصورها؟ أم تتجسّد، في الوقت نفسه، من تصورات أخرى مماثلة أو متعارضة؟
إنّ التصوّر في مجال الفنون الفوتوغرافيّة أو في فنّ الفيديو، هو أداة فكريّة تولّد مخيالها الخاصّ من ظواهر واقعيّة، في صور ذهنيّة. يُحاول الفنّان تجسيدها في أشكال فنيّة، وتقترب، بهذا القدر أو ذاك، من جوهر وجودها الحقيقي في الواقع. ويحدّد التصور علاقة الصورة بالواقع، من حيث هي علاقة بين "ذات مُتصوّرة وموضوع مُصوّر". فضلاً عن ذلك فإنّ تصوّر الأشياء والواقع في العمل الفنّي، يخضع لعمليّة إدراك ظواهر العالم الواقعيّ ويقترب من محاكاته ويكون غالباً ذا طبيعة بصريّة تُجسّم تجربة حقيقيّة.
تحتلّ الصّورة عُموما مكانة مُهمّة في المجال السّيميائيّ الذي لم يحظى بأهميّة في عالمنا العربيّ مع كونها ذات شأن لدى الغربيّين في مجالات شتّى، لأنها تشكل ثوبا من ثياب المعرفة. والتصوير التمثيليّ الأيقوني يُعتبر في حقيقة الأمر مُشابهة ومُماثلة، ويأخذ المنحى السّيميائي الذي يُعدّ الصورة علامة تقوم على المُحاكاة والتماثل ذات أبعاد تواصليّة.
عندما نُشاهد الصور الفوتوغرافيّة، عموما، للفنان كيارستمي فإنّنا نحسّ منذ الوهلة الأولى بصدمة حدث الثورة الإيرانيّة، وبالتالي فإنّ كلمة "الثورة" تعني"الخروج" لطلب الحقّ. فالخروج هنا بدايةً ليس خروجا على الجماعة، ولا حتى على السلطان بل هو خروج إلى الناس طلباً للحقّ. ومن جهة أخرى قد مثّل لنا عبّاس الواقع السياسيّ حين التقط صُورة فوتوغرافيّة إبّان الثورة الإيرانيّة، لعجوز تنظر إلى الكاميرا أثناء جريانها في الشّارع، مُلطّخة بالطين والمطر، ويقبض عليها شابّ مُمسكا قضيباً من الحديد في يده يدفعها إلى الأمام، وآخر يسْحب ويُشمّر على ساعد سترتها. ورجل غاضب على يمينها يصرخ وهو يصْفعها على وجهها. هذا كلّه حدث لأنّها مُوالية للعدوّ ومُتعاونة معه. يقول عبّاس:"لهذا السّبب أخذت الصُّور مثل تلك الخاصّة بالعجوز لكونها مقتولة من الجمهور استبدادا وبدون رحمة. وإني لم التقط فقط هذه الصُّور، بل قمت بعرضها... هذا التعصّب أو التصلّب في المذهب، هذا الأمر المُعادي للمرأة - كلّ هذا هناك. وبكلّ تأكيد، كان واجبي موجّها نحو الثّورة، ولكن أيضا لمهنتي، ولحرفتي"[5]. ومن جهة أخرى تصف لنا إحدى صور عباس الفتوغرافيّة عن الثورة الإيرانيّة، كومة من الحطب التي تحرق بها جثث الموتى في الجنازة من هذه الأصناف.
يُذكر التّاريخ العديد من الثورات الشعبيّة التي إنتهت بسيطرة الإيديولوجيّات السياسيّة الفكريّة والحركيّة المُعلنة، والتي انتهت إلى أنظمة ذات إيديولوجيّة رسميّة، كما في الحالات الروسيّة والإيرانيّة والكوبيّة... كانت في البداية ثورات ضدّ الظلم والاستبداد، أو لتغيير نظام الحكم، أو للتحرّر من الاستعمار، ثم سيطرت الأحزاب المهيمنة على الثورة في نهايتها، أو على السلطة بعد انتهائها، إلى نشوء هذا النوع من الأنظمة.
كما يقول عزمي بشارة في كتابه " في الثورة والقابليّة للثورة": "الثورات الشعبيّة شعبية لا حزبية، لكن الأحزاب التي تسيطر على الثورة بعد تحولها إلى سلطة تنشئ تاريخياَ للثورة يتسم بالتفخيم الذاتي، ويُبنى على أسطورة أو متخيل يشير إلى أن هذه الأحزاب هي التي قادت الثورة، أو لم تقم هذه الثورة من دونها، في حين أن قوى وأحزاباً أخرى تتهمها بأنها لم تفعل إلاّ سرقة الثورة"[6]. وبالتالي فإنّ خطاب الهويّة في إيران بعد الثورة، هو الأقرب إلى عامة الشعب الذي تبيّن انه في حاجة، في ظلّ التحوّلات العالميّة والإقليميّة والوطنيّة الرّاهنة، إلى إشارات استدلال تضيء طريقه. فالإحساس بالانتماء يمثل وقاية وحماية يعود لها الفرد في أزماته.
من جهة أخرى، أصبحت الصور الفوتوغرافيّة داخل المُمارسة الإيرانيّة المُعاصرة، ذاكرة الحدث وأرشيفاً تاريخيّا للفترة، فأضحت بذلك مجرد أيقونات ورموز للثورة. فخبرة المنفى التي شاركها عباس مع شيرين نشأت، تُؤثر في المعنى الذي تكتسبه الصور مع مرور الوقت. فالصورة الفوتوغرافيّة تشتغل وفق وحدة تامّة تقدم نفسها على شكل كلية. فمجموع العناصر المشكلة للعلامة الأيقونيّة تفرض على المتلقي تصوّرها بوصفها وحدة شاملة يصعب التقديم أو التأخير في نظامها المُتجانس. إن هذه الوحدة هي التي تنتج الصدمة لدى المتلقي، وتحفز عملية الاستقبال لديه، وتشحن في الآن نفسه فعله التأويلي بإمكانات متعددة. ولعلّ ما يبرّر مشروعيّة البحث السيميائيّ للصورة الفوتوغرافيّة، هو هذا الاكتساح المُلفت الذي فرضته الصورة الفوتوغرافية بتجليّاتها وأشكالها المختلفة في حياتنا اليوميّة. فهي تغمرنا في البيت، في الشارع، في المؤسّسة. ربما تكون لدينا طريقة للمُقاومة لا تقهر لاعتقادنا بالماضي، في التاريخ، إلاّ إذا كان ذلك في شكل أسطورة أو حكاية.
قد تكون المُمارسة الفنيّة الإيرانيّة المُعاصرة، عبارة عن مُحاولة لتحريك السّاكن والتعامل مع دائرة المحرّمات اجتماعيّاً وثقافياً من أجل الإسهام في رفع الوعي المُجتمعيّ الإيرانيّ للبحث والحديث فنيّاً حول المُشكلات الاجتماعيّة والثقافيّة وتحويلها من دائرة التناول الضمنيّ والتعبير الرمزي من خلال وسائل الإبداع الفنّي، ولاسيما أنها أكثر الأساليب الشائعة لتمرير والتعبير عن المسكوت عنه ضمن إستراتيجيّة هي إيثار السّلامة وتجنّب التّصادم مع المُجتمع والسّعي من أجل تحريكها أو إحالتها إلى المجتمع. وتناولها باللغة المباشرة لتنقية الفضاءات الإجتماعيّة من الشّوائب المُتعلقة بالعادات والتقاليد.
تُسعى شيرين نشأت وشادي غادريان عبر صُورهما الفوتوغرافية النظر في الآثار المترتبة عن المسكوت عنه الذي يعيق الانطلاق والتحرّر للمرأة الإيرانيّة داخل منظومة الأسرة والعائلة. لأنّ المسكوت عنه في هذا الإطار يتعلّق بموضوعات وقضايا فيها الحساسيّة وترتبط بجوانب عميقة تنال من المصداقيّة وتكون خصماً على طبيعة العلاقة التي من المفترض أن تتميز بالحميميّة والصدق والأمان والطمأنينة باعتبار المرأة في العائلة هي ملاذ للأمان والحماية والرّعاية في أبعادها الماديّة والمعنويّة. ومن أجل المُقاربة بشكل متعمّق لثقافة العيب. بالرغم من عدم وجود كتابات تناولت موضوعات وقضايا المرأة داخل المُمارسة الفنيّة كدراسة علميّة منهجيّة، إلاّ أن هنالك مقالات تناولت هذا الموضوع من مداخل مختلفة لذلك من الصعب إيراد تعريفات علميّة قاطعة مانعة لمفهوم المنع حيث يمكن إيراد هذا التعريف والذي يمكن تصنيفه ضمن التعريفات .
في الحقيقة، إنّ المسكوت عنه هو التسليم طواعيّة أو كرهاً بعدم الحديث وتبادل الآراء والمعرفة أو إعادة دراسة الكثير من الوقائع والأحداث أو المفاهيم المستُورة أو المخفيّة بسبب الخوف من المُجتمع، وذلك لأنّ الأمر أو الموقف أو السلوك أو الحديث يعتبر ضمن المحرّم اجتماعيا أو الشائع أو المعروف عنه "العيب". فيتحوّل عبر ذاكرة المُجتمع العديد من الموضوعات والقضايا إلى دائرة المسكوت عنه فيلفّها الغموض والإخفاء. فالنسيج الاجتماعيّ في مُجتمعاتنا يقوم على ما استقرّ في قاع الموروث الثقافيّ والاجتماعيّ والفكريّ من أمور نرفض استدعاءها وجعلها في دائرة المُتاح أخذ وعطاء من أجل حركة اجتماعيّة متحرّرة من تلك المواريث والتي لا تعبر عن مصلحة شرعيّة أو دنيويّة.
من هنا نعرض هذا المفهوم داخل المُمارسة الإيرانيّة المُعاصرة وتحديدا من خلال تجربة شيرين نشأت وشادي غادريان. فنُحاول اختراق تلك المناطق القصّية عن ذاكرة مسكونة بالمحرّمات في مجتمعات عربيّة إسلاميّة أو حتى مسيحيّة مناطق للصّمت والخوف. وتذكّرنا إشكاليّة المسكوت عنه في الفنّ التشكيليّ الإيرانيّ المُعاصر، بتجربة الفنّانة المنفيّة الفلسطينيّة "منى حاطوم" التي تقمّصت جسد الذات، للتعبير عن موضوع "المرأة" وعن العالم حولها (المرأة الشرقيّة تحديدا).
هذه المُمارسة الفنيّة التي تكون في بعض الأحيان في علاقة مُباشرة مع "السّياسي" خُصوصاً إذا ما تعلّق الأمر بقضيّة مثل القضيّة الفلسطينيّة. فقد تميّز أسلوب حاطوم بالتبصّر الظاهراتي الذي ينقل في وقت واحد مشاعر الحالة السويّة المُدركة وما يحيط بها من خطر وشيك، الأمر الذي يجعل الحالة النفسيّة للمشاهد في تقلب متواصل. نتيجة لذلك تزداد حواس المُشاهد توتّراً، وفي حالة من عدم الإستقرار، في الوقت الذي ينجذب فيه إلى حضورها الماديّ، ضمن هذه الحالة المتوترة، يتوجّب على المرء مساءلة حقيقة الوضع الإنسانيّ ضمن السياق الشخصيّ فضلاً عن السّياق السياسيّ والاجتماعي الرّاهن. غير أنّ هذه الفنّانة قد تجرّأت واخترقت مناطق من المسُكوت عنه في الفن التشكيلي العربي والإسْلاميّ. فهي تخترق المحرّم الأوّل عبر استعمالها لجسد الأمّ وهي عارية وهو ما يمكن اعتباره هتكاً للمقدّس و"تابو" بما أنّ الأمومة هي عادة ما تكون مقدّسة ومحلّ إجلال. وهو ما يتعارض على الأقل في الثقافة العربيّة والإسْلاميّة مع العرى باعتباره تدنيساً للجسد ورُبّما هو من بقايا الإحساس الآثم بالخطيئة الأولى وكأنّ العرى مُرادف أو فيه إحالة على الجنس كمُمارسة مُدنّسة.
من خلال عملها الفني "تحت الحصار"، وهو عرض شخصيّ داخل مكعّب زُجاجي دام سبع ساعات قامت به سنة 1982 حين اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان بعد حصار دام تسعة أسابيع، تعرضت هذه الفنانة لإنزلاقات في كلّ مرة تقوم فيها بأيّ حركة، أو تُحاول فيها مجرّد الوقوف داخل المكعّب. تتخبط أطرافها الملوّثة بالوحل على الجدران الصلبة، ويتمرّغ جسدها ويتلوى في صراع دائم. وفي كل مرة تقوم فيها من جديد تحاول الحفاظ على توازنها القائم، فتزل قدمها الحافية عن موقعها اللزج، ويحلّ الجسد داخل وعائه ودون أن تسكن لحظته. وتزداد حدة التباين بين فضاء حاطوم الضيّق وحركتها المكبّلة وفضاء المتفرج الفسيح وسكونه المصاحب لأصوات التخبط بالوحل وارتطام الجسد بالجدران. ومن خلال هذا العرض المثير والشاق، لا تروم حاطوم فحسب التعبير عن ذاتها أو عن امرأة لبنانيّة بعينها في إطار "زمكاني" محدّد (بيروت وقت الحصار). بل هي تجاوزت ذلك لِتعبّر عن المرأة الشرقيّة بشموليتها ( العربية، المسلمة...) في خضم صراعها مع الواقع، ومع معضلات الحياة في شتى مجالاتها. إذن نحن الآن إزاء جسدين لا جسد واحد جسد أنثويّ مكشوف مرتبط ارتباطا وثيقا بالدنيويّ(جسد حاطوم) والذي يمثل في حدّ ذاته جسد الفنّانة.
من جانب آخر، ركّزت المُصوّرتان (شيرين نشأت وشادي غادريان) على الأثر الاجتماعي السلوكي والمحيطي لبيئتهم الآسيويّة من خلال رصدهما لتفاصيل انتهاكيّة معينة تبقيهما كمراقبتين متفاعلتين. لكن يبقى الفرق في اختيار الوسيلة (الوسائط) متاح بمجال أوسع لشيرين نشأت التي تعيش في المنفى من الفنانات الإيرانيّات الأخريات. أولا لشساعة الإرث الحداثيّ وما بعده المتاح والمعاش للفنان "الأورو أمريكي" وثانياً لمساحة الحريّة. وما اختيار الفنان الآسيويّ في مثالنا هذا للفوتوغراف ومنه (الفيديو آرت) إلا لفاعليّة وسائله لقراءة أفكار زمننا الحاضر ولمشاع تقنيته ومن دون جهد للتنقيب الشاقّ عن الإرث التشكيلي الآسيوي الذي أساسا يعود لأزمنة عتيقة. تبقى مساحة الحريّة المتاحة للفنان هي الفيصل في إنتاج أعمال كشفيّة أعمق وأوضح كما هو حاصل في أبرز أعمال الثنائيّ الأنثويّ هذا.
استطاعت العديد من الفنّانات تجاوز خطوط الحظر أو الحجز وفكّكوا بأعمالهم وصورهم المنظومة الثقافيّة "الثيوقراطيّة" المصادرة لحقوقهم الإنسانيّة كذوات يشكّلن نصف المُجتمع الإنسانيّ. واستطاعت أسماء فنيّة مثل العراقيّات "جنان العاني وريم القاضي" والأفغانية "ليدا أبدول" وغيرهنّ العديد من تجاوز حاجز الحجر أو الحجز الذكوريّ وكشف ممارسته الأيديولوجيّة صورا وأفلاما على قدر كبير من الإفصاح الثقافيّ والتقنية الفنيّة. وان كانت صور نشأت وشادي تؤكّدان على خطوط العزل والحجز بأوضح صوره ما بين الرجل والمرأة في الخطاب "الثيوقراطيّ" المحلّيّ. فإنّ "ريم القاضي" تسترجع تاريخ المرأة كجزء من إرث شعبيّ محلّي معرض لخروقات حوادث الحروب العبثيّة والانهيار الاقتصادي، والمرأة فيه، ما هي إلا بعض من أزقة لا تعدو أن تكون بيوت مقفلة على جدرانها المتداعية في انتظار معجزة تنتشلها. ورغم أن مشهديّة صور العاني تبرز كبؤر مضيئة بمتضادات شخوصها وخلفياتها المعتمة، فإن صور القاضي يغلفها جو ضبابي يدمج الشخوص ومحيطها بوحدة مصيرها الضبابي. أما الأفغانية "ليدا أبدول" فقد تغزلت بنفسها كما تغزلت بحجارة بلدها المتساقطة وهي تؤكد على استعادة حلاوة عسل الجنس مرادفا لاستعادة المكان الذي دمرته القاصفات.
من هنا نستخلص ما قالته شيرين نشأت في مداخلة لها حول قضيّة المرأة الإيرانيّة:"ثم اكتشفت لماذا لدى الكثير من الإلهام من النساء الإيرانياّت. ذلك، في جميع الظروف، لقد دفعن الحدود. وواجهن تلك السلطة. وحطّمن كلّ القيود في أصغر وأكبر وسيلة. ومرّة أخرى، أثبتن أنهنّ أنفسهنّ. أقف هنا لأقول لقد وجدتُ النّساء الإيرانيّات صوت جديد، وصوتهنّ أعطاني صوتي. وإنه لشرف عظيم أن تكون امرأة إيرانيّة وفنانة إيرانيّة، حتى لو أن تعمل في الغرب فقط في الوقت الرّاهن"[7]. وتختلف الفنّانات الإيرانيّات تحديدا في كيفيّة اختيارهن لموضوع عملهنّ الفنّي.
من البديهيّ تختلف في بعض الأحيان هذه الاختيارات من فنان لآخر خاصّة وإن كان يعيش خارج أرض الوطن، فهو سيجد مساحة واسعة للإبداع والخلق بحريّة. وتكون محدودة في بعض البلدان العربيّة والإسلاميّة. فيهرب الفنّان للإشتغال حول مواضيع بعيدة كل البعد عن المسكوت عنه كالسياسة، والمحضورات الدينيّة .
تُواجهنا "الثيمات السياسيّة" التي تعتمدها شيرين نشأت وشادي غادريان، كخطاب سياسيّ ونضاليّ مُباشر، لكنّها تسمح بإظهار مُمارسات وتعبيرات فنيّة قادرة على مزج خطاب المُقاومة مع استثمارات شكلانيّة مُعاصرة مجلوبة ممّا يحدث في تجارب الفنون الإيرانيّة المُعاصرة. الواقع أنّ هذا المزج هو صفة موجودة في أغلب الأعمال الإيرانيّة النسائيّة خاصّة، والتي تكشف أنّ أصحابها على صلة جيدة بما يحدث في سوق الفنون المُعاصرة، وأن بعضهم يعيش فعلاً في قلب هذه السوق، حيث يقدم المنفيين منهم مساهمته في تحويل التغريبة الإيرانيّة إلى مادة منفتحة على مؤثّرات خارجيّة لا تلغي الخطاب السياسيّ المُعلن في العمل الفنّيّ من جهة، وتسمح من جهة أخرى بتسريب مقترحات جديدة على المُمارسات المبذولة في إظهار هذا الخطاب.
هنالك العديد من المواضيع التي تندرج ضمن قضايا المسكوت عنه في المُمارسة الإيرانيّة المُعاصرة، سواء في المنفى أو داخل إيران. ولكنّ هذه الدّراسة التي يمكن اعتبارها من الدّراسات التي تحاول الخوض في مثل هذه المواضيع وتمثل محاولة استقرائيّة تُلقى الضوء على ثقافة العيب والمسكوت عنه. فاعتماد "التابوات" ضمن الأعباء التي يختزنها المورُوث الإيرانيّ، ويحملها تاريخهم الاجتماعيّ عبر الأزمان ويمثل ميراث ثقيل متوارث عبر الأجيال دون أن يكون لأحد الجرأة على تخطّيه أو مجرد الخوض فيه صراحة، تفكيكاً لمكوّناتها أو تصويباً لمضامينها، أو دراسة وتحليل لعوامل تأسيسها وتشكيلها وكيفيّة تحكمها على الذهنيّة الفرديّة أو قهرها للعقل الجمعيّ.
لكنّنا ونحن أمام هذا الكمّ الهائل من الفنّانين الإيرانيّين سواء في المنفى أو في ارض الوطن، نُلاحظ تواتر المواضيع الدينيّة والسياسيّة بشكل كبير خاصّة ونحن في زمن "الإرهاب الدّيني". الذي تجاهل صنّاع القرار الإعلاميّ الطّاغي على مسبّبات نشأته. غير أنّنا لم نلحظ وبشكل عام خطابا فنيّا سياسيّا سواء كان صوريّا أو أدائيّا حياديّا يرقى لقوّة وفاعليّة الحدث الخبري الإعلامي ومختبره الصوريّ بخطابه الأحاديّ لطرفيْ النّزاع. فرغم ذلك، فإنّ أكثريّة الأعمال التي أنتجت عن الإرهاب الدّيني هي أعمال فنيّة إعلاميّة صوريّة لا تتعدى المونتاج الفوتوغرافي والكاريكاتير الصوري والفيلمي. مع النادر من الأعمال الأخرى ذات التقنية العالية. وهو ما ساهم في إيقاظ نوازع الصّراح الديني، والإعلام المُعاصر ضاعف من فاعليته الذهنية التدميريّة ضمن مساحة الفوضى المفاهيميّة المُعاصرة وما أنتجتها من خطاب فنّي سياسي.
د. مبروكة بوهودي
باحثة تشكيلية في علوم وتقنيات الفنون
.....................
المراجع:
- رونالد بارثر وكاميرا لويسيدا، تأملات في التصوير الفوتوغرافي، ترجمة ريشارد هاوارد، منشورات أصلا، نيويورك 1980.
- ميشيل فوكو، فوكو صحافيا: أقوال وكتابات، وكتابات، ترجمة البكاي ولد عبد المالك، جداول للنشر والترجمة، بيروت، 2012.
- أبو بكر العزاوي، الخطاب والحجاج، مؤسسة الرحاب الحديثة، الرباط-المغرب ، 2010.
- شيفا بالاغاي ولين جامبرت، صور من إيران الفن، والمجتمع والثورة، جزء الكتابة بالنور: صور عباس الفوتوغرافيّة للثورة الإيرانية لعام 1979.
- عزمي بشارة، في الثورة والقابلية للثورة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات، بيروت،ط1، 2012.
- شيرين نشأت، الفن في المنفى ،مُداخلة تمّ تسجيلها في ديسمبر 2010، ترجمة فيصل جابر.
هوامش
[1] ميشيل فوكو، فوكو صحافيا: أقوال وكتابات، وكتابات، ترجمة البكاي ولد عبد المالك، جداول للنشر والترجمة، بيروت، 2012.
،ص198.
[2] شيفا بالأغاي ولين جامبرت،، صور من إيران الفن، والمجتمع والثورة، جزء الكتابة بالنور: صورعباس الفوتوغرافيّة للثورة الإيرانية لعام 1979، مصدر سابق، ص116.
[3] رونالد بارثر وكاميرا لويسيدا، تأملات في التصوير الفوتوغرافي، ترجمة ريشارد هاوارد، منشورات أصلا، نيويورك 1980،ص89. ص118.
[4] أبو بكر العزاوي، الخطاب والحجاج، مؤسسة الرحاب الحديثة، الرباط-المغرب ، 2010، ص 101.
[5] شيفا بالاغاي ولين جامبرت، صور من إيران الفن، والمجتمع والثورة، جزء الكتابة بالنور: صور عباس الفوتوغرافيّة للثورة الإيرانية لعام 1979، مصدر سابق، ص119.
[6] عزمي بشارة، في الثورة والقابلية للثورة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات، بيروت،ط1، 2012،ص86.
[7] شيرين نشأت، الفن في المنفى ،مُداخلة تمّ تسجيلها في ديسمبر 2010، ترجمة فيصل جابر.