اخترنا لكم

إبراهيم بورشاشن: علم النّعم

إذا كان ابن مسرة قد تحّدث عن «علم المحن»، فإن «الآجري» في كتابه «أخلاق أهل القرآن» فضّل الحديث عن «علم النّعم»، وهما في الحقيقة علم واحد ذو وجهين منسجمين. وإذا كان الحديث عن علم المحن مقروناً بمفهوم «الابتلاء»، فإن الحديث عن "علم النّعم" مقرونا بمفهوم "النّعمة" باعتباره حالة الإنسان المترفّه، الذي يعيش دعة وسعة، وينعم بالفرح والسرور والأمن والسّلام. وإذا كان ابن مسرة قد أحجم عن الكتابة في علمه، فإن «علم النّعم» كان محظوظاً، حيث كتب فيه ابن أبي الدنيا [281 للهجرة] كتاباً سماه «الشّكر»، ثم جاء بعده الخرائطي [327 للهجرة] فكتب «فضيلة الشكر لله على نعمته، وما يجب من الشكر للمنعم عليه».

إن «علم النعم» هو في أعمق معانيه، علم إنساني له موضوعه ومفاهيمه ومنهجه، وإن كان لم يتميّز عند المسلمين علماً مستقلاً، لتردّدهم فيه، كما تردّد ابن مسرة في علم المحن أيضاً.

نعم، لقد نشأ «علم النعم» في أوساط المحدّثين، والسّبب في ذلك أن الآثار في الشّكر كثيرة، سواء في القرآن الكريم أو في السّنة النبوية، وعندما تحدّث الآجري عن «علم النعم» فلعلّه كان يقصد أن يجمع ما قيل في ذلك في إطار نظري معين، أو لعلّه قصد التّنبيه على ضرورة فعل ذلك، أو لعلّه كان يعني بالعلم، التّصور والتصديق كما كان شائعاً في تصوّر العلم في عصره، القرن الرابع. لكن الذي يبدو مرجّحاً أن الآجري، كان قاصداً أن يجعل من هذا العلم جسراً للتواصل ومبعدة للخلاف المُفرّق، فقد كان هذا الرجل يكره التعصب المذهبي، ما جعل مجايليه مختلفين على أي مذهب كان هذا الفقيه الكبير.

لكن عندما نتأمّل السّياق الذي حضر فيه الحديث عن «علم النعم»، أو «علم شكر المنعم» في كتاب «الآجري»، نجده علماً ناشئاً في سياق الحديث عما يمكن تسميته بالأمراض الخُلُقية التي يحملها بعض حملةُ القرآن الكريم، وينبههم «الآجري» إلى أن سبب ما يتخبطون فيه من علّات ترجع إلى عدم العناية بهذا العلم، لكن دون أن يفصل القول في ذلك. إذ غاية العلم عنده غاية أخلاقية.

رتّب كتاب «محمد بن جعفر الخرائطي» ما يُرَغِّب في الشّكر وَيُزَهِّد في الكفر، واهتم المفسرون بهذا العلم من خلال وقوفهم عند مفهوم «الحمد» الذي ورد في خمس وعشرين آية من القرآن الكريم، وأفاضوا في التّمييز بين الحمد والشكر، وكذلك صنع اللّغويون وأصحاب المعاجم في اهتمامهم بهذا المفهوم، لكن الذي سيرفع هذا المفهوم إلى درجة كبرى من التجريد هم المعتزلة، إذ معهم أصبح مفهوم «شكر المنعم» مفهوماً ذا دلالة خاصة، وسيتم تداوله داخل الحقل الكلامي بِلُوَيْنات دلالية تختلف بين المعتزلة والأشاعرة. وسيظهر مفهوم الشّكر في سياق فلسفي إسلامي مع الكندي في كتابه في الفلسفة الأولى، وابن رشد في المقالة الصغرى من تفسير ما بعد الطبيعة، اللّذين وجدا مناسبة فلسفية أرسطية طريفة ليقدما تصوراً لمفهوم الشكر يؤسس لثقافة الاعتراف.

قدّم المسلمون في ثنايا علومهم المختلفة مادّة علمية غزيرة في موضوع الشّكر والحمد، وهي مادّة قمينة بأن تؤسس عند المسلم ثقافة الاعتراف، وتنهض بهِمّة المفكرين إلى بناء «علم النعم» موضوعاً ومفاهيم ومنهجاً. وتظهر قيمة هذا العلم في أنّ شكر النعم امتحان وجودي، ومن فشل فيه أخفقت رسالته في الوجود.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 29 ديسمبر 2023

في المثقف اليوم