حوارات عامة

الشاعرة والناقدة التونسية فاطمة بن محمود ... في ضيافة المقهى؟؟!

 دفعني إلى طرق أبواب المبدعة المشرعة على مصراعيها لإجراء هذه الدردشة القصيرة...

 

من هي فاطمة بن محمود؟

- هذا السؤال من الأسئلة الصعبة التي تواجهني بطريقة مباشرة و.. أرتبك. ذلك أني لا أعلم أي مدخل يليق به ويستوفي حقيقتي ككائن بشري، هل يكفي أن أقول أن فاطمة بن محمود تلك.. هي أنا.. وهي امرأة ..على ما يبدو من تونس ..

هل انتهى الأمر.

يبدو أن المسألة أعقد من هذا ولازلت على تخوم الإجابة.. وإذ أقترب أكثر.. مني .. فقد أقول اني لست تحديدا امرأة .. بل أنا أحيانا طفلة .. أنهر أطفالي عن لهوهم وأدفعهم دفعا لدروسهم حتى أختلي أنا بلعبهم.. وأحيانا أجد نفسي صبية .. لازلت مكتنزة الرؤى .. لازالت لي القدرة على ابتكار أحلام جميلة في .. اليقظة. وأحيانا فتاة جامحة أستلذ الحماقات الصغيرة.. يحدث أن أستدعي صديقتي لبيتي وأذهب لانتظارها في المقهى.. وعادة أنا امرأة محبطة كثيرا من واقع لا يرضى به أي حيوان – واع .. شغوفة كثيرا بالقلم.. يلذ لي أن أكتب به نصا ما وأحب أن أرسم أشياء غير محددة وأشطب به أسماء أشخاص يتقنون كره البحر والطيور والفراشات المحلقة في سماء الورقة.

نشأت في عائلة متواضعة جدا .. قريبة جدا من تخوم الفقر وتفحمني أمي كثيرا بطيبتها ، لازالت متمسكة بخصوصية ريفية لم يعد لها حيزا في فضاء المدينة .. لازالت أمي تتقن " ريفيتها " بتلقائية رائعة.. كانت أمي – ولاتزال لها موهبة الحكي وتجيد تأليف أغاني تحكي فيها عن معاناتها في الحياة وعن شغفها بطفلتها الوحيدة .. هي أنا. ترعرعت في حي شعبي من تلك الأحياء التي تمثل حزام العاصمة واعتدت ضجيج الشوارع وهرج الأطفال خلف كرة منفلقة.. في مثل هذا الحي.. أشهد اليوم تغيّر المجتمع وتحوّل العالم .. بقلب حزين.

 

كيف تورطت في عالم الكتابة؟

- في صغري .. أدمنت الذهاب للمكتبة العمومية، هناك كنت أقضي جزءا كبيرا من اليوم أقرأ القصص التي يرى والدي أنه ليس من الضروري شراءها.. كانت المكتبة الصغيرة تفتح لي عوالم فسيحة في القصص والروايات .. في بداية مراهقتي ولاعتبارات سيكولوجية كنت أقلد االكتّاب و الشعراء الذين التقيتهم في المكتبة.. أحاول تقليد كتابة قصة أو أحاكي قصيدة وكلما أعجز أرسم أي شيء...

في المرحلة الثانوية من دراستي كنت أدرس في العاصمة وفي تلك الفترة كان هناك حراك ثقافي يميز الفضاءات الإبداعية إلى حد كبير.. بدأت أرتاد المقهى الثقافي بدار الثقافة ابن خلدون وأتردد على نادي السينما بابن رشيق.. ومن ثمّة ألتقيت الشخصيات الأدبية والفنية التونسية وأغراني المشهد..

في تلك الفترة كنت قد اعتدت الذهاب لاتحاد الكتاب التونسيين.. وأهم ما كان يجلبني هناك هو كأس شاي دافىء يوزع مجانا على كل الحاضرين..وكان من العادات الجميلة بعد أن ينتهي اللقاء الشعري مع شاعر ما..أن يقرأ كل من في القاعة قصيدا له.. وكان يروقني جدا أن أحضي بكأس شاي مجانا وأن أقرأ أمام الحاضرين شعرا... كان ذلك منتهى السعادة.

ولم أكن وحدي.. كنّا جيلا كاملا من الشبان نحترف عشق الحبر ونتحسّس عوالم الكتابة في نوادي أدبية خاصة بنا مثل نادي الحدائق بتونس.. ونادي الشعر صلاح الدين ساسي بسيدي البشير (وصلاح الدين ساسي هو واحد منّا انتحر لأجل حبيبته كوثر فسمينا النادي باسمه)..وبدأنا نتحسّس جسد القصيدة ونتدرّب على ترويض اللغة .. وننشر في الصحافة.. وبدأت تروقنا المسألة وتتجذر في كياننا ..كنّا نمثل موجة جديدة بمواقف شعرية وفكرية تختلف عن السائد أدبيا في تلك الفترة.. ونثير الانتباه بلغطنا وجموح قصائدنا واندفاع ذواتنا فكنا نمثلّ جيل التسعينات الذي أحدث معارك أدبية طاحنة .. مثّل هذه المرحلة كمال العيادي ، محمد الهادي الجزيري، شمس الدين العوني، منير هلال ، يوسف بن حمادي، الهادي الدبابي، الطيب شلبي، حافظ محفوظ....

ومنّا من أصبح له حضورا أدبيا مميزا ومنا من تلقفتهم دوامة الحياة فتخلفوا عن مواعدة القصيدة ولعلها أصبحت لهم عادة سرية يكتبونها أحيانا ويخبئونها في أدراج خزاناتهم.. المدهش أنه ليس هناك من فتاة سواي في غابة من أرقّ الفتيان وأجملهم.. يا لحظّي الجميل .. و لم أغرم سوى بالسيد ..القصيد.

 

كيف تقيمين وضعية المرأة المبدعة في تونس؟

- سأتحدث عن المرأة الكاتبة وهي أصناف أظنها لا تحتكر في تونس فقط بل في البلاد العربية و ربما في العالم كله :

- هناك امرأة تقدم نصها الأدبي - شعرا أو قصة أو رواية ..- بتوقيع النافذين في حياتها .. زوجها مثلا بما يمثله من سلطة أدبية أو صحفية ...وهذه ستكون مثلا الشاعرة التونسية الوحيدة في البلاد .. لذا هي التي تجوب مهرجانات العالم بابتسامة ساحرة، وفستان أنيق والبطاقة الشخصية لزوجها.

- هناك امرأة تقدم نصها الأدبي وتضيف له بهارات أخرى عادة ما تكون حسيّة تفتح على جسدها كفضاء ممكنا للقراءة.. أيضا. بحيث أن النص يتكيء على الجسد ومنه توجد لنفسها نقادا يساندونها ومديري مهرجانات يستدعونها لتقيم بينهم ويقيمون بينها وبين ملابسها الداخلية.. هذه الكاتبة .. تشرّع أمامها كل الأبواب .. أيضا.

- وهناك امرأة ليس لها سوى نصوصها وكمّ من المقولات الأخلاقية التي لا مكان لها..هذه تكتب.. ويصيب نصوصها الغبن.. ويتراكم عليها غبار اللامبالاة ويهددها النسيان. ولأن الكتابة مسألة حياتية لا يمكن التخلي عنها ستكون لها مبررات أشدّ للاكتئاب، وعليها أن تنتظر فرصة قد تجيء ليؤمن بنصها كتّابا مثلها.. يؤمنون أن لا سلطة تعلو على سلطة الإبداع الجميل والراقي والمختلف. وربما تنتظر أن ينصفها التاريخ ويعلن أنها كاتبة حقيقية .. لكن لا يمكنها أن تسعد حتى بانحياز التاريخ لها لأنها تكون عندها قد تحولت في قبرها إلى صديقة للديدان .. تقنعهم أن يقضموها بعنف أقلّ .

 

ما هي طبيعة المقاهي الثقافية في تونس؟ وهل هناك خصوصية تميزها عن المقاهي العربية الأخرى؟

- كنت "بنت" العاصمة .. ورغم صعوبة ذلك بالنسبة لي فقد كانت له مزايا قليلة منها اني :

 كنت شاهدة على بعض هذه المقاهي الثقافية مثل المقهى الثقافي بدار الثقافة ابن خلدون.. كنت تلميذة أتسرّب من الحصص الدراسية التي لا تروقني (خاصة الفرنسية وكل أنواع .. العلوم) وأتحلق مع رفيقاتي حول كأس شاي عادة ما نتشارك ثمنه ونحضر جلسات نقاش لأفلام أو كتب أو دواوين.. هناك التقينا مباشرة بمبدعين كنا نراهم على التلفزيون أو نقرأ عنهم في الجرائد و... نتناقش معهم..وكنت أتقن الملاحظة وأجيد الانصات.

كانت تجربة مثيرة و رائعة...

للأسف انقطعت.

ولا أقدر على مقارنتها بمقاهي ثقافية عربية أخرى .. لأنه لم يحدث لي أن رأيت تجارب أخرى. عندما زرت القاهرة – رحلة سياحية – ذهبت إلى مقهى الفيشاوي ومقهى نجيب محفوظ .. كان الوضع يبدو عاديا ، لم أنتبه لوجود أنشطة إبداعية موازية ... أعتقد أن الظاهرة قد انقرضت أو هكذا تبدو لعوامل غير صحيّة في المجتمع.

 

من المعروف أن المقهى فضاء محظور على المرأة العربية بشكل عام.. فإلى أي درجة يطبق هذا الحظر على المرأة التونسية..؟

- كامرأة أعتبر أنه صدقا من حظي الجميل أن أكون تونسية .. لعدة اعتبارات أهمها أن مجلة الأحوال الشخصية قد هيأت ظروفا عديدة لاقتحام المرأة مجالات عديدة .. صحيح أن الوعي الذكوري لا يغيب ولكن بمرور الزمن يتقلّص (يزيد عن نصف قرن منذ تأسيس هذه المجلة)، فقد الوعي الذكوري الكثير من سطوته ورعونته.. فقط يشترط أن لا يكون المقهى في حي شعبي حيث تبدو الظوابط الاجتماعية ظاهريا .. أشدّ صلابة. غير هذا يمكن للمرأة مهما كان وضعها الاجتماعي أو الثقافي أن توجد في هذه المقاهي الثقافية أو غيرها بكل أريحية بمفردها أو مع صديقاتها أو مع أصدقائها...

 

هناك علاقة وثيقة بين المقهى والمبدع.. ما رأيك في الأمر؟ وهل هناك علاقة بين المبدعة فاطمة بن محمود والمقهى؟

- هذا يتوقف على طبيعة المبدع و طقوسه في الكتابة...

هناك من يفضّل هدوء البيت أو المكتب للكتابة وليست المقهى سوى لتبادل الأخبار وقتل الوقت (رغم أو الوقت لا يقتل). وهناك من يفضّل ضجيج المقهى ليقتنص أفكاره ويزجّ بها داخل بياض الورقة..

أعتقد أن المقهى قد يعبر عن فئة أو شريحة من المجتمع .. وربما يحتاج الكاتب أحيانا أن يكون بين الناس .. يلتقط صداهم بعينه الثاقبة ويصطاد شخوصه من بينهم لصنع حكايته أو نحت قصيدته..

 

ولأني نشأت في حي شعبي فقد اعتدت الضجيج .. لذلك يقلقني السكون والهدوء يشوّش عليّ.. أفكاري. ثم اني من الأشخاص الذين لديهم فوبيا من الأماكن المغلقة حتى وان كان بيتي..لذلك كل صباح .. أفتح كل الشبابيك على مصراعيها .

أجد من الضروري الخروج من رتابة اليومي والتخلص من مشاغل البيت التي لا تنتهي و ألتجىء إلى المقهى.. ومقهاي واحد ..عادة .. لا أغيره. يهمّني أن يعتادني النادل ويعلم نوع قهوتي.. وأجد متعة أن أقرأ.. وأكتب .. في المقهى. وأحيانا قبل هذا وذاك .. أبقى برهة من الزمن أراقب الناس من حولي وكأني أبحث عن فكرة اقتنصها منهم. وأنا مدينة للمقهى في كتابة العديد من الومضات الشعرية أو القصصية أو المقاربات العاشقة.. وأحيانا أجد في المقهى مشهدا أعجز عن قنصه..

آخر مرة، كان قبالتي عاشقين شابين.. ضريرين.

شدّني المشهد بقوة وحبس كل أفكاري وكنت من حين لأخر أسترق النظر إليهما وأتساءل بسذاجة .. كيف يمكن أن يبصر كل واحد الأخر دون عينين ؟ ولم استطع ترويض هذا المشهد لغويا .. عجزت عن ذلك شعريا وقصصيا.

رواد المقهى .. مادة دسمة للكتابة.

 

ماذا تمثل لك: الطفولة، المرأة، الورقة ..؟

- الطفولة: هي عمر الكاتب الحقيقي أثناء الكتابة، كل كاتب يجب أن يعود طفلا أمام بياض الورقة.. بمعنى أن يتخلص من الضوابط الاجتماعية ويكون : حرا تلقائيا، مشاكسا، منطلقا، جامحا، جريئا، مستكشفا.. وتلك هي أهم شروط الكتابة الصادقة والعميقة حسب رأيي.

الرجل: الرجل هو شطر المرأة و فيهما يتحقق : الانسان. الرجل قد يكون حافزا للمرأة وقد يكون حجرة عثرة في طريقها. الرجل قد يكون واقعا أعيشه .. أتحايل عليه وأوهمه انه مدار كل ما أكتب حتى.. . أكتب الرجل قد يكون حلما افرّ اليه لأعيش وهما لذيذا.. وأكتب نصا جارحا.

الورقة: الورقة عندما تكون صفحة بيضاء..هي مدار الرعب .. تستفزني كثيرا للانطلاق في مغامرة لغوية.. أشعر أمامها بالارتباك والقلق.. والورقة عندما تفقد بياضها وأريق عليها حبر قلبي ..تربكني أيضا تتحول إلى اختبار لمهارتي في ترويض اللغة، لقدرتي على اقتناص فكرة لذلك أشعر أمامها أيضا بارتباك أشدّ وقلق مضن

 

كيف تتصورين مقهى ثقافيا نموذجيا؟

- في ضمنية السؤال .. ندرك ان المقهى الثقافي عمليا غير موجود.. وبناء عليه نحن نحلم به .. أيضا. من المفارقات العجيبة في دول الجنوب عموما أنه كلما يشتدّ الضيق تزداد .. الأحلام..

عندما يتحول المقهى الثقافي إلى واقع .. يمكن عندها أن نتصوره. بالنسبة لي يهمني جدا وجود الاختلاف في الأنماط الثقافية وفي وسائل التعبير وفي وجهات النظر.. ويروقني أكثر لو توزّع كؤوس الشاي الدافئة ..مجانا.

هذا وحده يمكن أن يجلب تلاميذ قد يتسرّبون من الحصص الدراسية المملّة ويحضرون لقاءات أدبية و قد يكونون يوما ما .. كتّابا.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1436 الاربعاء 23/06/2010)

 

في المثقف اليوم