حوارات عامة

بعد إصداره لـ "الهامش والصدى".. الأديب والناقد عبد الحفيظ بن جلولي يؤكد:

jaloli- غياب الفكر النقدي والفكر المدرسي سبب أزمتنا المعرفية

شكل النقد الأدبي بمعاوله المعرفية المتعددة والمتشابكة الشق الآخر في ملحمة الإبداع الأدبي،

ذلكم الشق الذي أسهم ولا شك في إعطاء لنص المبدع شرعيته في الوجود فنيا ومعرفيا في فضاء الكلمة الجميلة، وفي هذا حوارنا هذا مع الناقد المتميز الأستاذ عبد الحفيظ بن جلولي الذي صدرت له مؤخرا باكورة أعماله النقدية تحت عنوان " الهامش والصدى" يتأكد لنا أن الظاهرة النقدية بحسبانها رؤية فنية أخرى للمنجز الإبداعي هي حقا كما قيل عنها من قبل إبداع على الإبداع..

    

ـ الكتابة النقدية بوصفها تجل آخر للعمل الإبداعي هل هي في غور بعدها الوظيفي محض اشتغال على دلالات النص الفنية أم تنطوي هي الأخرى على سمة العمل الفني في طيات ذاتها؟

ـ أولا وقبل كل شيء، دمتم مميزين الأستاذ بشير عمري، وشكرا على هذه الإستضافة بمؤسستكم الموقرة

بالنسبة للسؤال، فإن البحث في النص، هو محاولة للكشف عن جمالية ما في أنساقه المضمرة، لذلك فظاهر النص عادة ما يكون صادا لعملية القراءة، ومنه نكتشف لا صبر القارئ على تعرّيه، لأنه لم يتفنّن في عملية الإنصات لما ينعكس من أعماقه وشقوقه(النص).

الإقتراب من النص ومحاولة فك شفراته ومن ثم اختراق مركز الصدّ فيه، يُبلور عملية جوهرانية، الأساس فيها هو تتبع جمالية انكشفت تحت وقع الإشتغال المباشر والخفي على لغة الإبداع من جهة، ومن جهة أخرى محاولة الناقد المستميتة في نحت اللغة القادرة على تأمل الجملة، واستنطاق الدلالة الظاهرة لأجل النفاد من خلال المظهر التركيبي للنص إلى متخفيات الدلالة الإيحائية، حيث تتحول اللغة من اشتغال بسيط على المفردة إلى أداة مدجّجة بالحلم الافتضاضي للنص، على أمل ترتيب مستوى جمالي لنص لا يقصي النص الأول وإنما يعزّزه، وهو ما يمنح النص النقدي الصفة الجمالية /الإبداعية.

ـ النص الإبداعي وخصوصيات المنهج النقدي، علاقة كثيرا تطرح إشكالية المعاول الجاهزة وشططها على النص وفضاء المتخيل لدى المبدع، كيف يمكن تخطي ظاهرة الإسقاط المتعسف إن جاز والوصف للقالب المنهجي على نص قد ينطوي على ميزات فنية وتقنية غير ذات قابلية لهذا المنهج أو ذاك؟

ـ المقاربة التي تتبادر إلى ذهني لحل هذه المعضلة، تتمثل في إقتراب الناقد من النص غير متسلح بعُدّة جاهزة لإصدار أحكامه القطعية على نص لم يمهله مسافة للقراءة.

فالإقبال على النص وفق تصوّر منهجي مسبق، في اعتقادي يقتل التجليات الممكنة في أتون مقولات النص الجمالية، والإشكالية تتحدد من حيث أن النص المُقارب حسب المنهج المسبق، إما يسقط ضحية "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، ومنه يكون الإجهاز على النص والعزوف عنه عندما لا يجد القارئ خطابه داخل النص متجاوزا "خطاب النص" كما يقول د.حسين فيلالي، ومثل هذا السلوك القرائي إنما يتقدم إلى النص متسلحا بنصوص احتفظ بها في وعيه ولا وعيه تمثل النموذج المثالي للمقايسة، حتى إذا افتقد تلك المعايير في النص مجال الدراسة هجم عليه بكافة جهوزيته الإقصائية، ومثل هذا التوجه كثيرا ما يتغافل عن حقيقة أن النص المثال ما هو إلا نتيجة لمحلية كاتبه، كما نقرأ عند نجيب محفوظ أو غارسيا ماركيز.

هذه العقدة تفضي بنا إلى أخرى، من قبيل القراءة السطحية التي تكون وبالا على النص، لأنها تهمل دلالاته الإيحائية أو مظهره الدلالي ولا تتعامل إلا مع مظهره اللفظي.

مما تقدّم أصل إلى أن المنهج لا ينكشف في النص إلا من خلال الإكتشاف القرائي للعملية النقدية، بمعنى أحيانا يضطر الناقد إلى استعمال أكثر من منهج دون وعي منه، حتى يكتشف ذلك قارئ مجهول ـ كما يسميه النقد التواصلي ـ لمنتجه الإبداعي، وللتخلص من هذه الظاهرة المعيبة في حق النص والتي تؤسس لظاهرة القولبة النقدية، بمعنى إسقاط المنهج الواحد على عديد النصوص بحيث يبقى القالب جاهزا ولا تتغير سوى الجمل والمعاني، للتخلص من هذا على الناقد أن يُقبل على النص من خلال معاني النص الدالة ومحاولة اكتشاف الجديد الذي يبوح به حفرا في أنساقه المضمرة، وقبل هذا وذاك يجب التحلي بالصبر على النص حتى نتمكن من جس نبضه والاستماع إلى خلجاته التي قد تتوافق مع خلجات إبداعية النقد فيكون كلاهما أي النص الإبداعي والنص النقدي فالتة جمالية تؤسس لقراءات منتجة ومستفزة.

ـ  ما هي الاستثناءات التي حملها الهامش والصدى والتي تلافاها المشتغلون على نصوص الكتاب الجزائريين في حقلنا النقدي ؟

ـ أستاذ بشير لا أدعي أن هذا العمل يمثل استثناء بين ما هو متداول في ساحتنا النقدية، بل أستطيع أن أقول أنه جاء ليفتح زاوية أخرى يمكن للقارئ أن يرى من خلالها النص الجزائري، ولعلي اطمح إلى أن اجعل القارئ يقترب أكثر من محلياته المعرفية والإبداعية ليستطيع أن يقرأ  المنتوج المعرفي الإنساني بعين المتدثر جلباب بيئته، ولا أقصد الانغلاق البتة بل على العكس من ذلك أرنو من خلال هذه الرؤية إلى تسهيل عملية التفاعل والحوارية بين القارئ الجزائري المدجج بميكانزم حفري ذاتي، ينبع من استيعاب مؤسَّس ممّا يحيط به، وما يُنتج على خارطة الإبداع العالمي.

عندما نحصر الرؤيا ونحدد الهدف من النص، يتحقق الجانب المعاملاتي في حوار النص، ولا يتحقق ذلك إلا بالمحبة، فدون محبة خاصة للنص، ليست هناك قراءة ممكنة كما يرى دريدا، وعليه يكون التفكيك من هذا المنظور هو تحقيق متعة لأنه يمنح رغبة، وبالتالي تلتقي رغبة القارئ بالرغبة في النص. يبدو لي أن هذه الرغبة المتبادلة بين القارئ والنص هي التي تجعل التفكيك من زاوية ثقافية أشد تركيزا على اعتبار انه ليس الهدم وليس الانحلال وإنما هو تحليل البنى المترسبة التي تشكل العنصر الخطابي أو الخطابية الفلسفية التي نفكر داخلها، حسب دريدا، وبالتالي يرتجع النص متعددا وفقا للثقافة التي يسقطها القارئ على النص وينجز طبقا لها حفرياته الخاصة المؤسِّسة لرؤيته داخل النص، حيث ينتفي ابتداء من وجهة النظر هذه جاهزية المنهج، لأن ثقافة القارئ تمنع ذلك. يبدو لي أني قاربت نصوص محمد مفلاح من هذه الزاوية، ويبقى الحكم أولا وأخيرا للقارئ الذي يبحث عن المختلف.

ـ إلى أي مدى يمكن أن يعكس الجهد النقدي حقيقة نتاجات المبدع ويحكم بوجود حركية إبداعية جماعية تأسيسيا وظرفيا ؟

- أرى أن هناك عاملين غائبين عن الفكر العربي عموما والجزائري خصوصا، يتمثلان في غياب الفكر النقدي وغياب الفكر المدرسي، بحيث يؤسس الأول للقراءة بمفهومها الكوني الذي يلامس جوهر الأشياء، حيث لا حركة دون الاشتباك العارف والجوهري مع الكون ككتاب منظور ومع المعرفة ككتاب مسطور، والقراءة من هذا المنظور وبمفهوم عصري ترتبط بالإكتشاف وإعادة إنتاج المعرفة، لذلك فهي تمتد من التفسير إلى التأويل ومن الانفعال إلى الفعل كما يرى أحد النقاد.

أما من حيث الفكر المدرسي فالعقل العربي يغيِّب لاعتبارات ذاتية ونرجسية عنصر العمل الجماعي المنتج للقيمة المعرفية الفاعلة، حيث تتنوع الرؤيا ويزدهر الفعل البحثي داخل الرؤى المتفاعلة والمتحاورة، والمكمِّلة لنقصان الفعالية البشرية داخل اطر الاستمرار عبر تداول الفكرة، وتقليبها على كافة أوجهها القابلة للسؤال والمماحكة الرصينة على مسرح الوظيفة الدالة على حركية الإنسان وإنتاجيته.

فعندما تتلقف الفاعلية النقدية عملا ما وفق منظور مؤسس وفاعل على مستوى الجهد الجماعي الدارس والباحث في الظاهرة الأدبية مثلا على امتدادها الكمي وانتشارها ألمفهومي، يتوسع الإدراك للعمل الإبداعي، ومن ثم يسهل حصر الحركية الإبداعية في بعدها الجماعي التأسيسي والظرفي، لأن من وظائف البحث هو الفرز والتصنيف.

ـ ماذا بعد الهامش والصدى؟ هل من مشاريع في الأفق على المستويين الإبداعي والنقدي؟

- تعلم أستاذ بشير أن لي تحت الطبع مؤلف نقدي في شعرية عبد الحميد شكيل موسوم بـ " خرائب الترتيب" ورواية بعنوان "وعلى الرمل تبكي الرياح.."، وإذا وفقت فهناك نصوص إبداعية في مجال قصيدة النثر، أرجو أن ترى النور.

ـ كلمة أخيرة ؟

- أشكركم جزيل الشكر أستاذ بشير على الجهد المعتبر الذي تبدلونه من أجل انبثاق فعل ثقافي

ناجز داخل منظومة المعرفة وتعددية الرؤيا، كما أشكرك على هذا التقديم والذي يقرّب المبدع من القارئ، تحضيرا لإشعال شرارة الحوار الثقافي المنجز للحركية التنموية بمعناها الاصطلاحي الأشد ثقافية أو الرأسمال الثقافي بمفهوم عالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيير بورديو والمرتبط أساسا بإنتاج المعرفة.

حاوره : بشير عمري

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1551 الاربعاء 20/10/2010)

 

 

في المثقف اليوم