حوارات عامة

حوار (قديم) مع الاستاذ الطاهر الشريعة / محسن العوني

وتعميما للفائدة خاصة وأن مضمون المقابلة وفحوى الحوار مازال طازجا وراهنا..

حوار خاص "بالفن السابع"

الطاهر الشريعة يتحدث عن "الأيام" وعن "السينما التونسية"

من لا يتقن لغة الصورة يكون في حالة غياب

 

أعتقد أنه ليس هناك أجدر من الأستاذ الطاهر الشريعة الأب الروحي للسينما التونسية لنسائله حول مسيرة أيام قرطاج السينمائية والمنجز السينمائي التونسي وتاريخ السينما التونسية.. فالرجل وثيقة حية وأحقيته بالحديث في هذه القضايا لا  غبار عليها.. والتوجه إليه في هذه الفترة بالذات أمر طبيعي بل مطلوب ومتوقع لنقف معه وقفة التأمل والمراجعة والنقد والتقييم الضرورية في كل مسار من أجل مزيد التكامل بين الأجيال والاستفادة من خبرة أهل الرأي الذين كان لهم فضل السبق والريادة والتأسيس وشجاعة المواصلة والاستمرار.. ونحن نستغل هذه الفرصة لنوجه التحية للعميد الطاهر الشريعة عبر صفحات مجلة "الفن السابع" ونرجو من الله أن يمتعه بالصحة بعد خضوعه لتدخل جراحي حتى يتابع اهتماماته الفكرية والفنية الكثيرة ونشكر له استجابته الكريمة لإجراء هذه المقابلة.

 

- كيف يقيّم الأستاذ الطاهر الشريعة مسيرة مهرجان أيام قرطاج السينمائية بعد ثلاثين سنة؟

- إذا اعتبرنا المهرجانات في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية شأنا من شؤون الأمم الحية والنشيطة الساعية إلى النمو بكل معاني هذه الكلمة وراجعنا مسيرة الدولة التونسية منذ نشأتها إلى الآن وقد زامنت أيام قرطاج السينمائية نوعا من المزامنة أقول تقييمي لا يمكن أن يكون إلا إيجابيا.. فهو مهرجان تواصل واستمر وتنوعت ملامحه وتجاوز التعثرات.. وهو يقينا له مكانته في الداخل والخارج وبالتالي يمكننا القول بأنه يعدّ مكسبا لتونس ويحق لكل تونسي أن يعتبره كذلك.. أما إذا قارناّ كيان المهرجان كمضمون وكأهداف سعى إليها باعثوه وما توصل إليه بعد هذه الرحلة فأقول إن الإيجابية التي لا يمكن إنكارها في المهرجان هي استمراره وكونه لا يزال أداة صالحة وفضاءا ناجعا لكل الإبتكارات والتجديدات التي يمكنك لنفر من المولعين والهواة بالمعنى الأصيل للكلمة الغيورين على هويتهم وسمعة بلادهم وخصوصا على فائدة وجدوى المهرجان أن يجعلوه في دورة آتية ولم لا تكون هذه الدورة أنفذ فعلا وأنجع وأبعد وأعمق تأثيرا.. فهو أداة مجربة وصالحة وهذه إيجابية لا تكتسبها المهرجانات إلا بعد جهد جهيد ولا يكتسبها إلا القليل والمهرجانات التي توفرت لها هذه الفاعلية قليلة وهو لن يفعل شيئا بمجرد تكرره والعبرة بمن يتولون تصريفه والقائمين عليه لتحقيق غايات ولأداء دور استراتيجي في قطاع معين هو الثقافة.. أما لماذا هذا المهرجان؟ ولماذا اختير هذا السلاح النافذ؟ فهو يذكرني بما قاله الأستاذ محمود المسعدي في جانفي 1974 وقد جمع هيئة المهرجان وطرح عليها السؤال التالي : ما الذي يمكن الاعتزاز به من هذه الأيام؟ وأضاف : أريد أن أقتنع بأنها (أيام قرطاج السينمائية) ستكون مفيدة في المستقبل وهو ما يجعلها تستحق أن تتواصل وتستمرّ..

 

?هل أن المهرجان ما زال جديرا بالحياة والاستمرار..؟

- ينبغي ألا يتطرق أي شك في جدوى المهرجان وأعتقد حقيقة أن له فوائد جمة وأرى أن قول الأستاذ محمود المسعدي أنسب جواب على هذا السؤال فالمهرجان استمر وعبر بذلك عن جدارته بالحياة وهو يتطور.. وكانت له أهداف يمكن أن تتغير مع الزمان والمستجدات وهو أمر طبيعي وقد استطاع أن ينطلق ككائن متنام ونجح في رسم هوية ذاتية وبذل جهدا كبيرا ليتثبت منها : هل هي هويته أم هي انتحال وكذب. واجتهد أيضا ليثبتها وانصرفت أكبر جهوده نحو ترسيخ هذه الهوية على هذا الأساس فالمهرجان جدير بالحياة دون أدنى شك وهناك شروط يجب احترامها تتمثل في :

1)   الهوية الثابتة وهي صمام الأمان وأولوية الأولويات والمحركة لجل الجهود.. وفي حالة الأزمات لكل الجهود بدون استثناء..

2)   أن نكون أوفياء لذواتنا كعرب ومسلمين وأفارقة ومتوسطيين.. والوفاء لذواتنا يتمثل في ما نرجوه من هذه الأيام وما توجبه علينا من خيارات متدرجة في الأولوية ومن واجبات متفاضلة..

3)   العبرة من المهرجان هو ما ينجزه بالنسبة للفن الذي هو قطاعه وهو السينما والتلفزيون وهذا يعني أن يكون لنا موقع قدم في هذا العالم فالسينما هي محرك التنمية وتجعلنا نحلم بأن نخرج من هذه القرون الخمسة من الظلمات التي آخرها الاستعمار.. وهي تحمل بصيص الأمل في أن نعبر هذا النفق بأسرع وقت ممكن.. وقد اقترحنا في وقت من الأوقات تدريس السينما في المعاهد كمادة أساسية وتمكين النابتة من أبجدياتها حتى يمكن أن نكوّن نخبة تمتلك صناعة الصوت والصورة..

 723-tahar1

?على ذكر الصوت والصورة أستحضر عبارة قالها جون كلود كاريير(Jean Claude Carrière ) مدير المؤسسة الأوروبية لمهن الصوت والصورة وهي "شعب لا يصنع صوره هو شعب محكوم عليه بالزوال والاندثار" فما هو تعليقك عليها؟

- هذه العبارة صحيحة مائة بالمائة وأضيف بأن الصورة في عالم اليوم هي اللغة المهيمنة ونحن بإزاء بدء تركز هذه الهيمنة وهي الوحيدة المؤهلة للقيام بهذا الدور نتيجة التغييرات المتسارعة.. ولتكون أنت لا بد من أن تمتلكها ومن لا يتقن هذه اللغة يكون في حالة غياب ولا يكون حاضرا إلا يوم يتقنها ويفتكها لأنها لا تـُهدى ولا توهب..

 

?هل يمكن أن نتحدث اليوم عن سينما تونسية كمّا وكيفا.. أو كمّا أو كيفا؟

- طبعا يجوز الحديث اليوم عن سينما تونسية على الأقل مثلما يتحدث الناس عن "الفن التشكيلي التونسي" وعن "الأدب التونسي" أو "الأغنية التونسية" وغير ذلك.. إذا انطلقنا من الشريط – الفيلم السينمائي الذي يشاهده المشاهد في قاعة السينما أو حتى على شاشة التلفزة واعتبرنا جنسية مخرجه خاصة لنسبته – عرفيا – إلى "التونسية".. فلا شك في أن لنا في هذه السنة 1996 الموافقة لثلاثينية المهرجان الدولي لأيام قرطاج السينمائية سينما تونسية يجوز الحديث عنها..

كمّا؟ عدد الأفلام "الروائية الطويلة" يتراوح من سنة لأخرى بين الواحد والثلاثة وعدد الأفلام القصيرة  – بكل أنواعها – لا يقل عن الخمسة كل سنة.. قد يبدو هذا الكم متواضعا جدا (وهو فعلا غير كاف بالمرة لشفاء أي غليل!) ولكنه.. لا يبعد كثيرا عن معدل كمّ الإبداعات السينمائية في.. سويسرا أو الدانمارك أو حتى السويد.. (وأتعمّد المقاربة بهذه الأمم /  الدول "المتقدمة جدا" (صحّة ليها)* حتى أدغدغ عجب التونسي بنفسه.. وأداعب "بهبرته"** بفعاله الممتازة المتميزة والفذة غالبا) – فالكم – في الإبداع السينمائي خاصة نظرا لضخامة تكاليف إنجاز أي فيلم روائي طويل جدير بالاهتمام – ليس الأهم في القضية - وكيفا ؟ - أيضا يجوز (ولعلّه ينبغي؟!) الحديث عن السينما التونسية من حيث "الكيف" فإذا استعرضنا نحو العشرين فيلما تونسيا (روائيا طويلا طبعا) التي تستحق كل الاستحقاق أن تشاهد ويستمتع بمشاهدتها الناس أولا ثم أن ينظر فيها النقاد والباحثون (متى كان لنا من هؤلاء نصيبا يعتبر كمّا وكيفا!؟..) لتجلى لنا ببساطة ووضوح مقنع أن ميزات هامة تميز هذه الأفلام التونسية عن "أقرب" الإبداعات السينمائية إليها حضاريا وثقافيا (الأفلام العربية مثلا) أو جوارا وتفاعلا وتآثرا "ثقافيا – تاريخيا" (الأفلام الفرنسية خاصة) لا أعتقد أن المجال يدعوني – ولا أنك تنتظر مني في هذا الحديث العاجل المقتضب إلى التيه في استبانة المميزات التي أشير إليها ولكني أعرف بعضها جيدا وكأني أراجعها الآن مثل الشهب الوامضة تنوّر شريطا من ذكرياتي عن "أفلامنا العلامات" :"مختار" و"خليفة الأقرع" و"السفراء" و"سجنان" و"مطر الخريف" و"العرس" و"عرب" و"ريح السد" و"صفائح ذهب" و"سلطان المدينة" و"ظل الأرض" و"غدا" و"العبور" و"الوصمة" و"شيشخان" و"الهائمون" وغيرها...

فربما نسيت أفلاما أخرى أعيرها نفس الأهمية وأعرف أن حظها من الإمتياز طيب. ولنقل اختصارا أن الميزة المشتركة والتي تشير إلى نوع من الهوية الممتازة هي "تونسية" الأفلام التونسية (الجديرة بالنظر والاعتبار) فهي تجلي شخصية فرد فيها هو مبدعها وهي "فضيحته الذاتية" إيجابا كانت الفضيحة أو سلبا أو إيجابا وسلبا معا" وهو الأصح في أغلبها.. ويحضرني عن هذا الأمر مثالان قد يوضحان لك ما أقصد: لقد عرفت وعاشرت وصادقت صداقة حميمة مديدة عشرات المخرجين السينمائيين العرب والأفارقة وغيرهم وشاهدت المئات من أفلامهم منذ خمسين سنة.. ومن بينهم يوسف شاهين المصري وفريد بوغدير التونسي – مثلا – وكنت أظن أنه لا تشبه أفلام مخرجها "خلقة وخلقا" شكلا وحركية ومضمونا ووجدانا.. بقدر ما تشبه أفلام يوسف شاهين صاحبها.. فكنت أعتقد أن تلك "ميزة خاصة" بيوسف  في أفلامه (منذ "فجر يوم جديد" خاصة!)  إلى أن طلع علينا فريد بوغدير "بعصفوره"! ("عصفور السطح" ذلك الفيلم "الفلتة" العجيب..) فإذا نحن إزاء شريط سينمائي.. عالمي الانتساب للسينما.. وهو في الآن نفسه "بطاقة تعريف" ذاتية مطابقة للتي في جيب فريد.. لا أكثر ولا أقل!.

والواقع الجدّي أن تميّز الأفلام التونسية تميّز واضح كلما قابلت بينها وبين غيرها – من الأفلام العربية شرقا وغربا – وهو "كيف" أجدر بالنظر والتحليل واستقصاء الخلفيات والمعطيات والأسباب والظروف وغير ذلك مما قد يجلي هذه "التونسية" فيها ويبيّنها ويبرهن عليها.. بجد واجتهاد وجهد أليق بها من حديثي هذا المنساب عفويا..

 

?هل صحيح أن السينما التونسية عمرها 30 سنة فقط..؟!

- طبعا لا.. التأريخ للسينما التونسية بثلاثين سنة فقط لا يمتّ للتاريخ بصلة بل هو سخافة أو قل هو ادعاء من ذي "موقف مسبق" وغرض مبيت لا يصرح به بل يتستر عليه بظل وقور – كالتاريخ مثلا – حتى يُسَرّبه للناس في قناع يشبه الحقيقة دون أن يفتضح موقفه ولا غرضه.. أما علمي المتواضع – ولست مؤرخا فكل أخطائي جديرة بشيء من المعذرة والغفران – فهو أن أول فيلم تونسي أصيل ولا شك في نسبه (تونسيته مثل تونسية جبل زغوان أو عين قربص لا أكثر ولا أقل) كان سنة 1924 وعنوانه "عين الغزال" ومخرجه ألبير شمّامة شكلي والد الصديقة هادية شمامة شكلي تمزالي (أمد الله في أنفاسها حتى.. تشهد على هذه الحقيقة التاريخية على الأقل؟!).

 

?رأيك بمسيرة رائد مدرسة الواقعية المخرج صلاح أو سيف؟

- مسيرة صلاح أبو سيف طويلة وجليلة ولقائي بها من قدام شاشة سينما "الحمراء" يوما ما من 1952 في "لك يوم يا ظالم!" ثم في أفلامه التالية.. ثم التقائي به شخصيا ومعاشرته في عديد المناسبات ومتابعة كل أفلامه وأكثر نشاطه.. كل ذلك يمثل مسيرة أخرى طويلة وذات قدر..(في اعتقادي على الأقل) وهنا يعني أن مسيرة رائد الواقعية صلاح أبو سيف كان لي معها شؤون وكان لا يزال لي فيها "آراء" كثيرة متنوعة متناقضة ومتكاملة منها الإيجابي ومنها السلبي ومنها البين بين.. وليس لي فيها رأي واحد أستطيع إيجازه في حديث مرتجل كهذا.

وإذا كان الموضوع يهمك.. إلى درجة أنك تقدر على إقناع ناشر من فحول ناشرينا على الغنم بنشره.. وجئتني بعقد سخي الأجر وتسبقة مغرية باقتحام المغامرة.. فإن لي كتابا جاهزا مع وثائق وذكريات في منتهى الحيوية.. عن صلاح أبو سيف وأفلامه ومسيرته.. لم يكتبه أحد وما هو مما يستطيع غيري كتابته..

 

?ولا يسعنا – في خاتمة هذه المقابلة الشيقة – إلا أن نقول للسينما التونسية: هنيئا لك بأبيك العتيد.. ولأيام قرطاج السينمائية: الثلاثون سن الاستواء وعنفوان العطاء وفاز بالعزة الجسور.

 

حــــاوره : محسن العوني

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1600 الاربعاء 08 /12 /2010)

 

 

في المثقف اليوم