حوارات عامة

حوار من الناقد ياسين النصير

hamed fadilفي مقدمة قافلة النقد العربي الحديث.. أمتطى حادي العيس ناقة المكان. أخلص للمكان، فأخلص المكان له.. دله على واحة أسراره ورآه، ومنحه قراح مائها، فيىء سدرها، ولحم كمَئها.. فخرج على قومه من محراب الأدب بزينة النقد المكاني، فقالوا: يا ليت لنا مثل ما أتي ياسين.. نعم هو ياسين النصير، العمود الوسط في خيمة النقد المكاني، ناقد كان وما يزال يتحرى المكان في الشعر، السرد، المسرح، التشكيل، والعمارة، حتى حفر اسمه على جذع نجمة متلألئة في سماء النقد العربي.. اغتنمنا فرصة وجوده في بغداد للمشاركة في مؤتمر الرواية العربية الأول وكان حصاد غنيمتنا هذا الحوار الذي حاولنا فيه الإحاطة قدر الامكان بتجربة ناقد كبير كياسين النصير

• المكان المحدد Delimited Place والمكان المزدوج Dual Place كلاهما ينتميان الى المكان المرجعي أو الفضاء المرجعي Reference Space، أين تجدون هذا الانشطار المكاني عند المكانيين العراقيين؟

ـ جرى التفكير بالمكان منذ اليونان وحتى اليوم، ودخل ميادين فلسفية وقانونية ومدنية ومواقع أخرى، ولكن الأهم في المكان هو الجانب اللامفكر به، واعني يه تكوينه الذاتي بما يمتلكه من عناصر بنائية تسهم في بنية النص، هذا الجانب هومن اللامفكر به فلسفياً وتأليفاً ابداعياً، ولذلك جرى التنبيه مبكرا في ثقافتنا إلى أهمية أن يكون المؤلف على دراية بمكونات المكان كي يوظف كعنصر بنائي في النص. ومن أولى المبادئ التي يفكر بها هي حدود المكان الداخلية والخارجية، فالحدود ترسم الأطر التي على المؤلف الانتباه لها، وعندما تُخترق الأطر أو لا تُفهم يختل التعامل مع المكان فنياً. ثمة حدود تحيط بالمكان من الخارج لتعيّن داخله، فيُصبح المكان محددًا بمساحة هندسية ورياضية، مهما كان نوع المكان، بيتاً، مقهى، بلداً. ستكون هذه الحدود مطلوبة ومعترف بها كحدود البلدان الخارجية، ويطلق على هذه الحدود بـ (حدود المكان الداخلية) وهي الحدود المفكر بها دائماً، حيث لا يشيّد المكان دون معرفة حدوده مساحته، وغالباً ما يجري التعامل معها ضمن منطق نسق المكان الداخلي الذي تصنعه علاقات الأجزاء المكونة للمكان، وثمة حدود أخرى للمكان، هي الحدود اللامفكر بها في النصوص، تلك هي الحدود الفضائية، الحدود المنفتحة على الفضاءات الأخرى، أي تداخل الفضاءات والأمكنة بين البلدان، أو بين البيوت أو بين المدن، وتمثلها العلاقات الثقافية، والاقتصادية، والإنسانية، والاتصالات، والأعراف، والتبادل السلعي، والتعليمي، والسياحة...الخ، ونطلق عليها (حدود المكان الفضائية) هذه الحدود الفضائية تبدأ من الداخل وتنطلق إلى الخارج، لا تصنعها إلّا العلاقات المتبادلة، ومن شأنها أن تفتح المكان على خيالات مختلفة، ولغات متعددة، ومرونة في التصور، وإمكانية هائلة في الاستعارة. إذ ليس من مكان محدد إلّا بما يريده الكاتب منه أن يكون محدداً، وإلّا فكل الأمكنة يمكن أن تكون محددة وفضائيّة في آن واحد، حتى السجون، والمستشفيات، والمنعزلات، المحاطة بأسيجة وموانع، أي ما يجعلها محددة، أو فضائيّة يمكّنها أن تنفتح على فضاءات أخرى.. المرجعية في مثل هذه الأمكنة المرنة، تفتح آفاقاً على إمكانيّة الاستعارة من الأزمنة القديمة، فمرجعيتها تكون منفتحة.

أما الأمكنة المزدوجة، فافهم منها أنها المشغولة بوظيفتين في زمنية واحدة، فتحميل المكان لغتين ومهمتين وشحنتين، يعني ان يكون المكان بطاقة تأويلية. في هذا الإطار يمكن للانشغالين أن يكونا فضائين داخليين وخارجيين معاً. هذه الأمكنة هي الأكثر لشحنات غيرها، لارتباطها بحركة تاريخية متجددة. فالبيت، المقهى، النادي، الشارع، المكتبة، السجن، وغيرها يمكن أن تكون متعددة الوظائف، بمعنى أن إنشغالها متاح لعدد من المهمات، ستنتظم مثل هذه الأمكنة ضمن شحنة المستويات المكانية المتجددة. بعض الأمكنة تخفي هويتها انشغالاتها الأخرى، وجدل الكتابة الإبداعية يكمن في اظهار المخفي والمستتر في المعلن المكاني، فالآبار في الصحراء، يمكن أن ينظر إليها كأمكنة منح، واستدلال، وتوثيق، وفوارز مكانية، وعلامات، ويمكن ان تكون أزمنة تاريخية ممتلئة باسرار الأمكنة الأخرى، ويمكن أن تكون معادلا للسماء الممطرة، ويمكن ان تكون طريقا للسفر وديمومة للحياة. فالمكان شأنه شأن اللّغة كلما تعدد استعمال مفرداتها زادت ثراء ودلالة وتأويلاً، فباطن العبارة أفعال ملتفة في جوفها كما لو كانت بئرا يختزن التجربة، فتصميم اي مكان يجب ان يكون مزدوجاً وجدلياً، وإلا ما قيمة المكان إذا كان بوظيفة واحدة، كان الجامع مكاناً للعبادة ومكاناً لنوى الثورات، وكانت المقهى بالوظيفة مكاناً للالتقاء ومكانا لعلاقات الشارع بالمدينة. القاص المتميز هو من يكشف مستويات المكان كي يتعرف على تعاريجه وخفاياه التي لن تظهر علانية، عندئذ يغتني السرد باحتمالية الأمكنة.

إلا أن استثمار القاص العراقي لمثل هذه الأمكنة كان وما يزال فقيرًا، أنَّه لم يدرس الامكانيات المضمرة في أمكنته، ولم يتعرف على لغاتها وشحناتها التي لا تبان، ولم يدرس امكانية فضاءاتها مع فضاءات الأمكنة الأخرى، ولم يكشف عن جيولوجيتها، كل ما يتعامل به مع الأمكنة هو سطحها الخارجي ووظيفتها المعلنة، يقول الحصيري (الحانة هي الكون) وتصبح الحانات فضاء لشعرية سعدي يوسف، فالحانة ليست بارا لاحتساء الخمر، إنما هي ملتقى لسياقات اجتماعية تجعل منها فضاء مشغولا بالمحتملات، قاصنا لم يتعمق في فهم أمكنته، لأنه لم يدخلها عنصرا بنائيا، كي يجعل منها بؤراً مولدة، كما لم يدرس محتويات مواقد نار المقهى وعلاقتها بالشتاء، وبحركة السوق، وتناغم الأضواء والظلمة، وأزياء العمال، نداءاتها وتنظيم ممراتها، وخصوصيات أسمائها، وذاتيتها التي تعلنها فضاء تجسيدياً، وتشكيلاتها، والتعاقب الزمني عليها. لذلك تحولت معظم الأمكنة المزدوجة إلى أوعية خارجية لم يدخلها الكاتب في نسيج بناء نصه.. ضمن هذا السياق لا يمكن لأي مكان أن يكون عنصرا في النصّ ما لم يكن قد دُرست أبعاده وثقافته وامكاناته وقدرته على الاستيعاب. لابد للأمكنة من بحث، فالتعامل مع الأمكنة يتم عبر دراسة، واستقصاء، وبحث وخبرة، وأسئلة،وعلاقة مع العناصر والبنى الاجتماعية الأخرى، فليس المكان كله داخلاً ولا كله خارجاً، إنما المكانية في (الما بين)، اي تكون داخلا وخارجا لإنتاج فضاء نصياً.

• سعى غاستون باشلار Gaston Bachelar الى ايجاد علاقة نفسيه بين الراوي المكاني وشخوصه الحقيقية والمفترضة، وهي عملية مشاركة مخيالية للأمكنة بين الراوي وقراءه، وبين الأماكن المألوفة سواء المفتوحة، أو المغلقة.. في معظم ما قرأت لك هناك تأكيد على المكان المخيالي للحكاية الواقعية والمكان الواقعي للحكاية المخيالية. كيف تنظرون الى هذه الإستبدالية المكانية؟

ـ (يرتبط وصف الفضاء دائما بالتحليل النفسي والتأمل الأخلاقي، أو الفلسفي في الرواية) كما يشير رولان بورنوف، ربما هذه النقطة من أجمل التوصيفات النقديّة لما اشتغلت عليه، فأنا اعتبر أي مكان يصبح عنصراً بنائياً في النص هو مدخل للنفس، لذا لا يمكنني توظيف المكان دون شرطين: الأول، أن أجعله مألوفًا، أي أسبغ عليه ذاتي، وأجعله قريباً من مشاعري وأحاسيسي، وبدون مألفته لا يمكنني الدخول إلى تفاصيله، وهي غالباً ما تقع تحت سطحه الظاهر.. الأمكنة مثل الخيول، لابد وأن تسيسها وتدربها على الممارسة الاجتماعية، كي تمنحك طاقتها. الثاني، لابد لكل مكان من أن يتفضأ، أي أن تدخل المكان في علاقات فضائية كونيّة، إما مع أمكنة أخرى، فيكتسبها علاقات، وإمّا أن تكشف عن قدراته الذاتية، فتكسر حدود هويته الداخلية، وبدون المألفة والتفضئ لا يمكن للشخوص والأحداث أن تدخل في علاقة جدلية مع الأمكنة.. من هنا يمكن للمكان الواقعي أن يكون مكاناً مغرباً وخيالياً وكنياً مثل البحار والصحارى، والجبال،والمدن اللامرئية، والأمكنة الشاسعة، والفضاءات الكونية، كما يفعل معظم القصاصين المبدعين، حين يضعوننا في مكان مألوف ليكشفوا فيه عن مستويات محتملة لخيال المادة الغرائبي، فالأمكنة مهما كانت بسيطة ومألوفة، هي عوالم غرائبية، وفيها من العوالم الغامضة والسريّة والملغزة والكونية، إن ظلام القرية يكشف عن عوالم مثيولوجية تستحضر فيها كل الموروث الشعبي المتداول عن الطناطل وحكايات الجن والسحرة، فلا يوجد مكان واقعي دون أن يكون لمادته خيالاتها، ولا يوجد مكان خيالي دون أن يمد أسبابه للواقع، ولا يجوز فرض الأمكنة مسبقاً على الحدث أو الشخصيات، كل شخصية تصنع أوهامها بالعالم الذي لا تفهمه، سواء أكان وهماً شعرياً، أو وهماً عاطفياً، أو وهماً مفرحاً، أو وهمًا سوداويا، أو وهماً مكدراً، أو وهماً مفجعاً، بحسب كل شخص وما هو عليه من طبيعة.. إن تشخيص الفضاء يعني انك تحاكي الطبيعة أدبياً، وحتى لا أكون مجانباً للصواب، ان تميز الكاتب هو أن يكون آثارياً، بمعنى أنه يحفر بأدوات دقيقة عن الآثار المختفية في الأمكنة الواقعية والخيالية، فكل مسار لفن القص هو أن تموضّع الحدث والشخصيات والأفكار في موضعة احتمالية أي في (الما بين)، الموضعة الظرفية التي توصل وتقطع بين متناقضين، فالأمكنة الفجوة هي التي يختمر فيها النصّ، بحيث لا تكون واقعية بالكامل، ولا غرائبية خيالية بالكامل، النص الأدبي يعيش في اللاحسم، في الاحتمالات لأنه سيشرك القارئ في التأليف، هذه المابينية واحدة من الأمكنة النصيّة، الأدبية، الشعرية.. يقول بلزاك: (إذا كان المثل يقول أن في إمكاننا الحكم على المرأة من باب بيتها، فينبغي أن تكون الشقق أوفى تعبيراً عن روح المرأة.) فالأمكنة الموصوفة عند بلزاك تفسير للطباع والأمزجة . ويقول: (إن شأن الشخصية ومسكنها كشأن المحار وصخرته) ويقول أيضاً: عن مدام فوكير (إنَّ جماع شخصيتها يدلنا على الفندق، كما أن الفندق يدل على شخصيتها)، هذه الأمكنة وغيرها تفصح أن للإنسان خاصية تشكل الفضاء الذي يحيا فيه على صورته، وأن الدراما- والقول لبلزاك (تكون مكتوبة على الوجوه وفي الأماكن، قبل أن تكون مجرى مغامرة من المغامرات).

• اقترح باشلار Bachelar مصطلح الانشائية الفضائية Construction space  للتعبير عن علم النفس النسقي Psychology opto للأمكنة المألوفة والحميمية من وجهة النظر الرمزية للشخصيات التي يخلقها المؤلف ويدعوها للسياحة في تلك الأماكن المركزية، أو الهامشية.. أماكن الاقامة كالمنازل، الغرف، الفنادق. الأماكن المبهجة، كالمتنزهات، الحدائق، الملاعب، الشواطئ، الملاهي، مدن الألعاب. الأماكن المحزنة، كالسجون، المستشفيات، السراديب، المقابر. اماكن الانتظار، كمحطات الاستراحة، مواقف الباصات، المرائب، المطارات، محطات السكك الحديد، محطات المترو. الأماكن التاريخية كالقلاع، الثغور، الحصون، العاديات، أو الأثرية، كالزقورات، الاهرامات، المعابد، الأماكن المسفوحة، كالصحارى، البراري. أو المنسابة كالأنهار، البحيرات، البحار، المحيطات. أو المكتظة، كالأسواق الأزقة، المدارس، المقاهي، الثكنات، الحانات. أو المتشابكة، كالغابات والبساتين. أو الجوفية، كالأنفاق، الآبار، المناجم. الأماكن العالية، والأماكن المنخفضة.. من وجهة نظركم كناقد مكاني إلى أي مدى نجح القاص العراقي، أو العربي في التعبير عن القيم الرمزية للأماكن، وهل تحققت في مخيلتنا كقراء عرب كما تحققت في متون القصص والروايات المكانية العالمية وقرائها؟

ـ مصطلح الإنشائية الفضائية، مفهوم هندسي مأخوذ من العمارة، فالنص له معماره الهندسي، ولذلك لا بد من فهم الكيفية الإنشائية التي يبنى بها، وأن الإنشائية الفضائية مثل اللغة لا تتم بمفرداتها إنما بمعانيها وبنيتها كذلك الأمكنة، فالأمكنة تعلّم بالفعل الذي يشغلها، أما مادة الإنشاء – مادة الفعل- فهي مجموعة الرموز والعلاقات بين الشخصيات والأحداث التي تكوّن هوية المكان، ويتضح من علم النفس النسقي أن البنى الداخلية للأمكنة هي المعنية بالإنشاء، هي المستويات التي تتصل بالأنا، في حين يكون خارج الأمكنة هو النتائج، قضية الإنشاء واحدة من الأفكار الهندسية، والتشييد يعني البناء، إذ لا يوجد مكان دون عناصر إنسانية تشيده، ما يشيد العمارة هو المواد الأولية، والخبرات العملية، وما يشيد هندسة البناء هو الخط والنقطة، وما يشيد الرواية هو فصولها، والفصول تشيد من عباراتها، والعبارات تشيد من جملها والجمل تشيد من كلماتها، والكلمات تشيد من حروفها، وهكذا، فالتشييد هو الإنشاء، إلا أنَّ ذلك لا يحدث دون فعل قصدي من قبل المؤلف، ليجعل من طريقة التشييد المكاني تشييداً للذات المكانية، بمعنى أن الإنشائية الفضائية تتألف من العناصر الداخلية للأمكنة، أسميت هذا النوع من النسق الداخلي في كتابي (مدخل إلى النقد المكاني) بالمألفة بين الأشياء المكونة والمشيدة والمنشئة للمكان، فعن طريق المألفة يمكن للمؤلف أن يجعل من أي مكان أليفاً، ومفضىً بطريقة الاندماج الشعوري بين الشخصية وأمكنتها، نلحظ ذلك عند نوع محدد من الشخصيات، خاصة أصحاب المكتبات، وأصحاب الحانات، ودفانو الموتى، والعاملون بالجراحة، والمهنيون بعامة، مما يعني ثمة تواشج معرفي ومادي بين تشييد الشخصية وتشييد الفضاء الذي تعمل فيه، عندئذ لا يمكن رصد التغيرات النفسية والسايكولوجية للشخصية بنية النسق الذي تولده العلاقات الداخلية للأمكنة. يتطلب هذا النوع من اكتشاف شحنات الأمكنة قدرة على مزج الواقعة بالخيال المادي للأشياء، عندئذ سيجد أنَّ الأمكنة تمتلك من الشحنات الذاتية ما يحدد هويتها وكينونتها، فهي ليست مجرد أوعية خارجية تُعبأ بالأحداث والشخصيات، إنَّما هي كيانات قادرة على أن تعطي من ذاتيتها ما يغني الأحداث. لا يمكن للبحر أن يكون مجرد ماء محيط، ولا يمكن للجبل أن يكون مجرد صخور، وللصحراء مجرد رمال وأبعاد سرابية، كل الأمكنة لا ترى بمعزل عن شحناتها، إنّما ترى لعلاقاتها الداخلية كي تولد إحساساً ما بأنَّها أمكّنة خلّاقة، فيها من القوى الإنشائيّة ما يجعلها تبني لنفسها كيانها الذاتي وتؤثر في السياق نفسه بمن يفعلّها، فعلم النفس النسقي أحد كشوفات علم المكان (البروكسيميا) ـ كما يشير أدورد هال ـ الذي يقوم على احتساب المسافة بين مكونات الفضاء والشخصيات والأحداث، كي يمّكن الشخصيّة من أن ترسل رسالتها بتشكيل شفري، ثم تصل ضمن منطق المسافة إلى متلق، كي يصيرها إلى لغة تكمل مبدأ الاتصال. ضمن هذه البنية الدائرية تتولد شحنات مكانية نفسية واجتماعية تمنح الفعل تصورًا عمّا يحيط به، وتجعل من الشخصيات قادرة على أن تقوم بمهمتها الإشارية.. كان اندريه مارلو (يشذر رؤيته إلى إشارات، ويحولها إلى تصاميم، يعيد تكوينها في كامل اختلاطها وهو يولي اهتماماً كبيراً إلى لعبة الضوء في اللوحة المنفلتة من مكانها، إنَّه يعيد تشكّيل الوصف عبر الرؤية التشكيلية) كما يقول جوزيف كيسنر. أن ما يفعله مارلو هو الاهتمام بالبناء النفسي عبر الوصف، إن الأمكنة ما عادت فضاء للتوافقات، أو ملتقى للأحاسيس والرموز، كما يقول غرييه، إنَّما هي مجرد مقاومة بصرية أي أنها تعيش على السطح، لكن السطح يقلب الوقائع إلى ممارسة نفسية للأشياء. بالنسبة لكتابنا العراقيين والعرب، لم اجد بحكم قراءاتي ـ وهي محدودة بالتأكيد ـ ما ينسجم وطبيعة العلاقة مع الأمكنة سوى كاتب او اثنان هما: ابراهيم الكوني وعلاقته بالصحراء، ومحمد خضير وعلاقته بالمنعزلات، وحامد فاضل الذي يؤسس لخطوات اكتشاف الأمكنة المسفوحة المختزنة للتواريخ والممارسات الاجتماعية والحياتية. المشكل الأساس أن الغالبية من مؤلفي النصوص القصصية والشعرية يعيشون المدينة بعلاقات ريفيّة، ولم يتخلصوا من ارث القرية ولم ينتموا لحداثة المدينة، والسبب هو أنَّ الريف ما يزال مكونًا من مكونات المدينة وما تزال المدينة حاضنة للريف وعلاقاته، بمعنى أن الأشياء لم يجر اختبارها وهي تنتقل بين أمكنة مختلفة، وبدون الاختبار لا يمكن معرفة دواخل وتركيب الشخصية. ولذلك نكثر نقديًا من الأمثلة التي تنسجم وتطلعاتنا من الأدب الأجنبي، لأن ثمّة فواصل معرفيّة ومادية وخيالية بين الأمكنة ومحتوياتها. إن المكان لا يرى بالعين، إنما هو وسط اجتماعي محمل بالقيم والأفكار التي لا شأن لها بالأشكال والألوان الخارجية إن انشغالها الأساسي، هو اظهار مستويات التلقي النفسية.

• هناك أماكن حميمية كثيرة ذكرها فليب هامون Philip Hamon وأطلق عليها أمكنة الأخبار، كصالونات الحلاقة، الشوارع، المنتزهات.. هذا طبعاً في ما يخص الأمكنة في المدن الأخرى.. فهل شكلت محال التسوق، الآبار، عيون الماء، المضايف، المقاهي، بؤراً للأخبار في مدننا وقرانا، وما نسبة توظيفها في السرد العراقي؟

ـ يمكنك أن ترسم فضاءك على الورق، ومن ثم تلقي به على الواقع، وعلى المخيلة أيضًا، سيكون لك ثلاثة أمكنة لفضائك المرسوم، أعني يمكنك أن تمسك بتلابيب الفضاء كي تتعامل روائيًا معه، لا يمكن للكاتب أن يتعامل مع المكان لمجرد انَّه يعرفه، لابد من تحديده على الورق أولًا، ومن ثم الوعي به اجتماعياً، ثم منحه الإمكانية بأن يكون عنصرًا بنائياً في النصّ، كل فضاء ومكان لا يحدد لا يمكن الإمساك به. الحميمية تأتي من التمكن والهيمنة المعرفية على عناصر ومكونات المكان، ولا يأتي الفهم من أسماء المكان، ماذا يعني اسم مقهى؟ غير أن مشتق من القهوة، وأسم البيت غير أنه مشتق من المبيت أو المأوى، واسم الشارع من الشرعة،...الخ، هذا لا يعني شيئًا، ما يذكره فليب هامون هو الأمكنة الواقعية التي تشكلت اجتماعياً، ثم وظّفت فنياً، في حين ما ننشده ليس الأمكنّة كما هي في الواقع، إنّما الأمكنة كما يتصورها المؤلف، وهذه وحدّها التي تكون واقعيّة وخياليّة في آن معًا، وحدّها أيضا تمنح السرد رؤية بمستويات مختلفة، وإلّا كيف يبني المؤلف مدناً من الخيال، وتحكي شهرزاد عنها وعن بلدان تحت الماء وفوق الغيم وفي مجاهل البحار والأمصار، وكيف لآن روب غرييه، ان يتحدث عن مدن وهمية، وكالفينو عن المدن المرايا، والمعري عن أمكنة الغفران، ودانتي عن مدن الطهر والجحيم، هكذا يكون اكتشاف الأمكنة سرًا من أسرار المخيلة المبدعة. وكل هذه الأمكنة المتخيلة مموقعة في الما بين- الحقيقة والخيال- فالمحكي في النصّ لا يكون إلا مموقعاً بين نقيضين، يعني تحديد الموقع وضبط آليات وجوده هو الذي يحدد معنى ودال المحكي، إنَّ حميمة المكان تمنح النصّ حقيقة ما يجري، بمعنى أنَّ هذه الأمكنة تعطي تصوراً أنَّها جزء من الواقع المفترض، عندئذ يمكن أن تكون مرسلة أخبار، مستقبلة أخبار، منطقة حرة للتبادل، تكوينات مرنّة للنحت اللّغوي، كل الأمكنة بما فيها، عيون الماء، والآبار، والمضايف، والمقاهي، والنواعير، وغيرها ستكون بؤرًا، عندما تموضعها في منطقة فيها تجاذب لنقيضين، المنح والشح، الصيف والشتاء، الخضرة والجذب، ولكن الكيفية لفهم موضعة المكان هي ما ينقص وعي الكتابة عنها، أي أن يجعل المؤلف من هذه الأمكنة تخيلًا نصيًا وليس شكلًا واقعيًا مهما بلغت من تشابهات مع الواقع، وأي تعين للأمكنة مسبق دون تحليل وبحث إفساد للمخيلة، والقارئ ليس بمقدوره أن يفهم الواقع من خلال اقترانه بأمكنة واقعية، العكس هو الصحيح، أن الأمكنة في الواقع تستعين بالفنّية كي تتعرف على ذاتها. فالفنيّة أداة سبر وكشف وتحويل الأمكنة الواقعية إلى أمكنة أسرار ومبهمات. سيبقى كوت حفيظ، في نص القاص فهد الأسدي واقعاً مغرباً، وإلى الآن، بالرغم من افتضاح الأمر، يبقى كوت حفيظ في الذاكرة الشعبية والنصوص الأدبية من الأمكنة التي أودع الشيطان فيها نطفته. على القاص المبدع ان يضع في امكنته نطفه، كي تنتمي أرثًا وجيناتٍ له.

• المكان هو مَنْ يُثبت أنَّ الأحداث المتخيلة أحداثاً حقيقية، وهو الذي يؤصل الحكاية.. هنري ميتران Hennri Mitteran واحد من أبرز النقاد الذين بحثوا في الخطاب القصصي لا للنظر في السردية Narrative وانما للبحث في الخطاب القصصي. كيف تقيمون قابيلة المكان في التوظيف السردي؟

ـ ما يجري في المكان حتى لو كان (افتراضاً أو خيالًا يكتسب سمة الحقيقة، فالمكان يمنح النص شرعية التحقق، ولكن يشترط في تثبيت الأحداث المتخيلة) أن الحدث متموضعاً في منطقة ما من المكان، واسمينا هذه الموضعة (الما بين) بالنسبة للنص الأدبي يكون طرفا التحقق:الواقع والخيال، النص يقع في موضع ما بينهما، فيبدو واقعيا لأنه يجري في مكان، وخياليا لأنه يبني نصه فنياً فالموضعة تضفي على النص طابع الاحتمال، أي أنْ تجعله في صورة كأنه (الواقع) وبواسطة الموضعة يتأكد للنصّ إمكانية الوقوع؟،لأن سمة الموضعة لا تجعل النصّ مختفياً، إنَّ التخييل يجعل النصّ فعالاً، كما أن المكان يعطي انطباعاً بأنَّ النصّ حقيقي، فهو يؤكد أن ما يحكى داخله هو محض تشخيص، وبفضل المكان يحيل النصّ ويتبدى كأن له علاقة بشيء خارجي، أو هو صورة عنه، أو محاكاة له، إنَّ النصّ لا يحيل في الواقع إلّا على نفسه. ويبدو الحكي كما هو عليه من توقيت موضعه كأنه محاكاة تامة للعالم كما لا يخفى اهمية الاسم، وتحديد زاوية لإدراك النص، فالموضعة المتعينة تصبح دليلا للتعرف، كما توجه القارئ على نحو ما أن ما يقرأه جزء من الواقع، هذه المقتبسات تعمدت نقلها بحرية وتداخل مني من كتاب الفضاء الروائي لمجموعة مؤلفين لأهميتها في هذا الصدد.

يفيدنا بهذا الصدد اتجاه المهندسة المعمارية زهاء حديد المتميزة عالمياً، حيث تكثر في تصميماتها من التكوينات الطائرة، لأنَّها ترفض أن تكون الجاذبية أساساً في رسو التكوينات على الأرض، وتقول: (إنَّها ابتدعت الكمرات الطائرة المبالغ فيها، لأنَّها ضد الجاذبية الأرضية، هذا الاتجاه يتميز بالشعبية والتفاؤل والواقعية) .هذه التركيبة الخياليّة تجعل من الفضاء موضعاً حلماً وواقعاً، كي تؤسس للنص رؤية كونية، عليك ان تشرك بالموضعة كل احتمالات الأبعاد الفضائية. وعندما يتحدث بروست عن العلاقة بين الكاتدرائية ومعمارية الرواية، نستدل بوضوح أن الفضاء الإيهامي أساس في ترسيخ الفضاء الواقعي.

أمّا مفهوم الخطاب القصصي فهو مفهوم إشكّالي، ويعني الخطاب حسب رأي فان دايك (دراسة اللّغة كنشاط داخل سياق معين)، فالخطاب هو (جملة النصوص منظـوراً إليهـا فـي علاقاتهـا مـع الشـروط التاريخيـة (اجتماعيـة، إيديولوجيـة...) لإنتاجهـا). لهذا نقول أن الخطاب هو الموضوع المعرفي لفهم النصوص. بالنسبة للمكان يؤسس خطاباً حضارياً، فالفضاء في النص يشكل مرجعاً لنص لساني، بمعنى كما يقول يوري إيزنزفايك، (وضع الإشكالية الأدبية المحض في إطار دلالية عامة، كم يدعونا (المرجع الفضائي) على نحو أدق إلى تفحص العلاقات التي يقيمها الفضاء المشخص داخل نصّ أدبي، مع مفهوم (فضاء) كما يستخلص من الخطاب العام لحضارة معينة). لذلك يكون مفهوم الخطاب في السرد من أصعب الخطابات، لأنه يخضع إلى آلية تنفيذية متعلقة بتطور النوع السردي، وبالزمن وبالحضارة وبالثقافة، فهو كما يبدو متعلق بالدقة البنائية التي يقوم النص عليها، وأي خلل في بنيّة النصّ، أو قلة المعرفة العملياتية بمكونات الموضوع، لن يكون ثمة خطاب ناضج. فالرواية مثلا ليست مجموعة أحداث وشخصيات وأمكنة ولغة، فمثل هذه المكونات لا تخلق (جسدا لصوفيا لورين او كيم نوفاك) إنَّما ما يخلق الجسد الجمالي هو الخبرة التي تتعالق فيها مكونات الرواية فضائيًا.

• ما قولكم في الأمكنة المشاكسة Places quarrelsome  التي لا تختلف عن الأمكنة المفارقة Paradoxically places في تحقيق الاغتراب Alienation؟.

ـ ثمة أرضية لفهم الأمكنة والتعامل أدبياً وابداعياً معها، هذه الأرضية هي المفاهيم القارة التي لا يختلف عليها إثنان، منها على سبيل المثال، أن الهندسة جزء من بنية الأمكنة، لا يوجد مكان دون خطوط،ونقاط، ومساحة، ومسافة، وجدران، ومواد اولية، حتى المكان الفني لا يلغي هذه البنية، ومنها أن المكان فيه ايقاعية، يعني ثمة موسيقى مكانية تشكل الانسجام والتنظيم وإلا لا يمكن تشييد اي مكان في الواقع أو في النص بدون تنظيم ونظام وايقاع يشد أوصال الأمكنة ويظهرها بصرياً كياناً مشيداً وجميلا، ومنها أن المكان صورة، مرسومة بالمواد وهيكل نحتي يعني ثمة بنية معمارية لا يمكن تجاهلها، أو الغائها، حتى الأمكنة المائية، أو الهوائية، أو النارية، أو الرملية تبنى على أساس التكوين النحتي المعماري، لذلك تكون الأمكنة مسبقا برؤية معمارية فنية،هذا التصور يأتي قبل ان ندخل في علاقة تأليفية معه، أما أن اشخص بعض الأمكنة من أنها أليفة، وأخرى مشاكسة، وثالثة مفارقة، ورابعة اغترابية، فهذا التشخيص آت من التسمية وليس من طبيعة وبنية الأمكنة، التسمية مهمة ولكنها لا تسبق التشييد والتكوين، لأن المشاكسة والمفارقة ليست بنية من بنى المكان، إنما هي من طرق توظيف الأمكنة. كل الأمكنة تكون مشاكسة ضمن الفعل الذي يوظفها، وتكون مفارقة أيضاً ضمن المسار نفسه، إلا ان مثل هذه الممارسات الثقافية مع الأمكنة تفرض على المؤلف أن يمهد لها، لا أن يأتي بالكلمة ويلصقها بالمكان.. المكان المشاكس هو الفعل المشاكس وليس الحجر او التكوين، لذلك لا يسبق التوصيف الأمكنة، للمفارقة قوة ان تهيمن على كل متعلقاتها في التوضيح، لذلك يكون النص المفارق برؤية تكوينية تشمل اللغة والشخصيات والحدث والمكان والزمان، وكذلك المكان الأليف والمكان المشاكس والمكان الاعتيادي والمكان الغرائبي، ثم ان الإغتراب مفهوم ماركسي اقتصادي، ويتضح اكثر في المجتمعات الصناعية، ويمارس على العمال الذين يعشون اغترابا عما ينتجونه، في حين ان المعامل التي يشتغلون فيها ليست معادية ولا مشاكسة ولا اغترابية، فالمفهوم لا يسبق الأمكنة، وكل الأمكنة بإمكانها أن تكون مشاكسة وأن تكون اليفة ومعادية وغرائبية، شيء يتبع التأليف وطرق إنتاج المعرفة.

• المكان هو الوعاء الذي يستوعب الأحداث التي يسكبها الزمان فيه، حيث تتحول الى خطاب تعكسه مرايا السرد. هل يعني استدعاء الأمكنة المتعددة أزمنة مختلفة.. وهل تعني ملازمة الخطاب للحكاية ملازمة الأمكنة للأحداث بحسب أزمان وقوعها وتمثيلها في الخطاب السردي؟

ـ يُخضع المؤلف العلاقات الإنسانية والأحداث والمعرفة والنظم والأفكار (لإحداثيات المكان) ويلجأ إلى اللّغة (لإضفاء إحداثيات مكانية على المنظومة الذهنية)، كما يرى يوري لوتمان، لذلك لا يكون المكان مجرد وعاء للأحداث، لأن الأحداث قد تكون أوسع أو أضيق من المكان، التناسب هنا هو المعني بالوعاء، ليست كل الأوعية مناسبة لشرب الماء او للسكن أو للممارسة الاجتماعية، علينا توخي الحذر من أن تكون الأمكنة اعتباطية ومجانية، لماذا الزمن هو مصدر الحدث وليس المكان؟ لماذا يختار الزمن أمكنته ولا يختار المكان أزمنته؟ ما يعني تعدد الأزمنة تعددا في الأمكنة غير دقيق، فربما ثمة مكان واحد تتناوب عليه الأزمنة، كقصور الحكم والجامعات وملاعب الرياضة وبيوت القرى، وبيوت البغاء، والسجون، والمستشفيات، مكان واحد يستوعب أزمنة مختلفة، الأزمنة المختلفة تعني ثراء المكان في الاستيعاب والتجديد، أي تحول المكان إلى فضاء، كلما تعاقبت الأحداث في المكان كلما شحن المكان بالتواريخ وبالمحتملات، ليس شرطًا أن يقترن تعدد الأزمنة بتعدد الأمكنّة، يمكن العكس هو الصحيح أن الأزمنة المتعددة تتطلب أمكنة تنسجم وطبيعتها، وعندئذ يستنهض المكان طاقاته لاستيعاب الأحداث الجديدة ويكون السرد معكوساً على مرايا مكانية خفية وحديثة، قديمة ومعاصرة، وتكون اللّغة مشبعة بالاِستعارة. عندما تتحول الأمكنة إلى فضاءات ستتسع دائرة الاستعارة، وسيكون بمقدور المكان أن يخرج من حدوده الضيقة إلى فضاء الممارسة، إنَّ الفضاء في العمل الفني أوسع من المكان، كلما أردنا لأمكنتنا أن تكون شاهدة وعناصر بناء، استنهضنا فيها طاقة الفضاء. فسيرورة الحكي تتطلب مكاناً فضائياً كي يستوعب النص تحولات الاحداث في الأمكنة، هكذا فعلت شهرزاد عندما استدعى الحكي امكنة مختلفة من ازمنة مختلفة، فالمتخيل الحكائي يجد وعاءه في الفضاء وليس في الأمكنة، لقد أطلق جوزيف كيسنر مصطلح (التوصيف اللفظي) للأثر الفني، وضرب (بدرع أخيل) في الالياذة، وقصيدة جون كيتس (أنشودة الآنية الإغريقية) مثالا حيث يعني توصيف الأثر لفظياً، ويعني التوصيف اللفظي للأثر هو ربط العناصر الزمنية (اللفظية) بالعناصر الفضائية (النحتية والتصويرية)، هكذا تفضي العلاقة بين الأمكنة والأزمنة إلى تشكيل ما يسمى بـ (الإطار التصويري) بوصفه إحدى حيل السرد، أي أن السرد يصبح عنصراً فضائياً في الشكل الزمني للنص. ما معنى ذلك،؟ ليس من مكان محدد بما يقال دون أن يدخل المكان عنصراً فاعلاً بما يقال فيه، ولذلك فكلمة وعاء غير مناسبة للعلاقة بين الزمنية وفضائها المكاني. الوعاء مفهوم حيادي، وقبلي، وجامد، وفكرة أكثر منه تحققًا.

• المكان المخيالي أو اللفظي عنصر مهم في الرواية المكانية كما تعلمون، ويكاد يجزم معظم النقاد، أن المكان الذي يظل قائماً في مخيلة المتلقي، هو المكان الذي تخلقه مخيلة الروائي بما لا يتطابق مع المكان الخارجي.. قرأت لكم ما يتماهى مع هذا، وهو: (أن تكون ضمن مكان معين، وفي الوقت نفسه خارجه، وأنت فيه) ما هو تفسيركم لما ورائية المكان؟.

ـ يكاد هذا السؤال أن يختصر كل التعامل الفني مع المكان، فالمكان منذ عصر نيوتن يتحدى الإنسان لما يمتلكه من قوى خفية، لا شيء غير أن يكون المكان متخيلاً في النَّص، وبما أن النَّص لّغة، لا يوجد مكان خارج اللّغة، لأن اللّغة تمتلك طبيعة فضائيّة، اللّغة تخلق المكان الروائي المتخيل وتصيّره فناً، أمّا المكان في الواقع ليس هو كل المكان الروائي، إنَّه الأرضية التي جرت عليه الأحداث، المكان في الرواية، القصة، القصيدة، هو نّصها الفني القائم على المكان الواقعي، ولذلك خلق جوزيف كيسنر فضاءً متخيلاً ايهامياً ثانوياً ليتعامل الروائي معه، وهو المكان المخيالي، الأمكنة النَّصية، أو الشعريّة، أو الأدبية، وهذه الأمكنة لا تنطبق عليها أيَّة هندسية خارجية، إنَّما هندسيتها هي تنظيمها، فالشخصيات فيها نقاط تتواصل عبر خطوط حوارية، سردية، وصفية، مشكلين عالماً افتراضياً ثانوياً مخيالياً للنَّص، كل بنيّة زمنيّة، خاصة الماضي، لا يمكن أن تتضح إلّا من خلال بنيّة الفضاء، (أي من الترتيبات الفضائية للأشياء) إن تدوين الرواية للّغة والأحداث (منسوبة إلى الفضاء أكثر من الزمن) وهو المجال الذي يتيح لنا أن نرى عالم الواقع بطريقة مختلفة عمّا هو، فالنافذة في الواقع نافذة، مهمتها أنها نافذة يدخل منها الضوء والنور إلى البيت، وتسلط على أجزاء المكان الواقعي، لكن النافذة في الرواية هي عتبة لدخول عالم الأمكنة المخفي وراء ما معلن منها، ليرى اللامرئي في المرئي، ويقيس، ويصف، ويربط بين أجزاء المكان المختفية هناك، ليخلق من الخيالي مكاناً فنياً جمالياً مختلفاً عمّا كان عليه المكان الواقعي، فنرى الروائي يسلط الضوء عبر النافذة على ما يوجد على الحائط من سجادة، أو لوحة فنية، أو روزنامة، كما في قصة محمود عبد الوهاب (الشباك والساحة)، لتصبح النافذة مدخلاً لما في الأمكنة الواقعية، وتصبح مخرجاً لما في الداخل إلى العالم الخارجي، فالنافذة عتبة، لا داخل لها ولا خارج، هي تكوين ذاتي البنية، وسيط ليمرر الفعل، ويكشف عن عالمين مترابطين يكونان النّص.. كل الأمكنة الفنية هي أمكنة (ما بينية) بمعنى أنها متومضعة في مكان يمكن أن تقرأ عبره ما هو قبلة وما هو بعده، كما تقرا نفسها، لذلك تكون الأمكنة (الما بينية) مشحونة بالأزمنة كلها، النافذة متعلقة بالزمن أكثر من تعلقها بالمكان، ولها قدرة أن تربط بين أجزاء الزمن المختلفة والتدرجات الفنيّة في المكان الواحد حيث تبين كيف ينتقل السرد من موضع إلى آخر. ليست الأمكنة في النَّص أمكنة واقعيّة، ولكن تصورها الفني يمكن أن تؤشر إلى أمكنة واقعية، فإذا بقيت ضمن واقعيتها لم نجد لها أي صدى فني، ربما تكون أغنى تصورًا على يد روائي لا يمتلك الأداة الفنية لتغريب المكان الواقعي وانزياحه، حتى الانطباعية لم تنقل الواقع كما هو، بل غيّرت نسبه وتكويناته عندما توضع في سياق جمالي فني، كل ما يقال عن الأمكنة الفنية أنها مطابقة للواقع، منقولة، مشابهة، متماثلة...الخ، لكنها ليست فنية، المكان الفني ينشغل باللّغة التي تشحنه برؤى قابلة للتأويل، بينما المكان الواقعي كل ما فيه معطى مسبقاً ولذلك لا يؤول.. لا تقف العلاقة بين الأمكنة الواقعية والأمكنة المتخلية في الفنّ، عند الأسماء والمعلومات التوثيقية، وإنَّما تكون الأمكنة المتخيلة كاشفة لمستويات لا تظهر للعين العادية في الأمكنة الواقعية، لأنها مشغولة بجماليات السطح، كما الفنية الفضائية ليست جمالية لّغوية، ولا هي أسلوبية متميزة، إنَّما هي رؤية كونيّة مهمتها تغيير العلاقة مع الأمكنة الواقعية لاستنباط روحها المادية المتخيلة، فالمادة الواقعية في أحلام الفنان يصبح خيالها ماديّا، الشعر في الرواية هو الكشف عن مستويات غير مرئية في الواقع، والفنان لا يملك أداة لسبر أغوار المكان الواقعي غير أن يجعله غير مألوف، الشعرية والفنية هي غير المألوف في الواقع المألوف. لا تكون الفنية إلا طريقة للتفاعل بين الفنون الوزنية والفنون الفضائية، وهذا التفاعل لا يكشفه الشكل الواقعي بل يكشفه الشكل الخيالي، وهو الشكل الفضائي الذي يدمج الزمن بالأمكنة، فالشعر، والموسيقى، والسرد، تندمج مع التشكيل، والنحت والتصوير، والمسرح، والكرنفال.. الرواية هي من تصوغ جدلياً مثل هذه العلاقة بين فنون الزمان وفنون الفضاء، لتغرّب الواقع وتفضيّه .إن المسافة والمجال والحيز والنقطة والخط، وكلها فضائيات مكانية واقعية، لكّنها في الرواية تصبح شخصيات ولّغة وسرد وفضاء متخيل، الأمكنة المتخيلة أمكنة وجدت نتيجة للتفاعل بين الأمكنة الواقعية والتاريخية والفضاء المادي لخيال الأمكنة. علينا أن ندرك كروائيين أنَّ الفضاء ليس تسمية أو رؤية شخصيّة، إنَّما هو فلسفة كونية (يشيدها الروائي كما يشيد المعماري فضاءه النّصي وفق قواعد وأسس جمالية). الأمكنة المتخيلة أمكنة جماليّة، شعرية، مغرّبة عن الأمكنة الواقعية، تحسسك بالتاريخ والأحداث ولكّنها ليس من فنون التوثيق التاريخي ولا من مدونات القضاء أو المؤرخين. يمكن تمييز الروائي الحقيقي عن الروائي الضعيف، هو أنَّ (الروائي الضعيف يشيد شخصياته ويتحكم فيها ويجعلها تتكلم، أما الروائي الحقيقي فيستمع لها ويشاهد وظائفها باختلاسه السمع حتى قبل أن يعرفها. بتعبير آخر، يصادفها عن طريق حجمها ذي نفس الحدود وعن طريق قدرتها لتمكينه من الاقتراب منها بدل تمكينها من الاقتراب منه).

• استفاد باشلار Bachelar من النقد الظاهراتي Phenomenological Criticism في النقد الباشلاري معتبراً الظاهراتية منهجاً مهما بين ذاتي المؤلف باعتبار ان الصورة الشعرية يمكن ان تستوعب ذاتاً كاملة.. هل يمكن اعتبار الظاهراتية نوع من التناص الظاهري؟

ـ يعد الفيلسوف باشلار فيلسوفاً ظاهراتيا، وما كتابته عن خيال المادة:المكان، النار، الأحلام، واللحظة، والحدس، والعلم، إلا تأكيد منهجيته الظاهراتية، لكنه يتخذ من الشعرية طريقة لاكتشاف أحلام يقظة الشعراء في خيالات المادة، ومشروع باشلار هو (علم بلغة الشعر) كما يقول أدونيس، حيث يتشابك الحلم والواقع، المخيلة والمادة، ميزة باشلار الهائلة هي تحويلة الأشياء إلى طاقة شعرية مغطاة بخيال المادة وبكشوفات علم نفس المكانية،عندئذ يمكن لخرير الماء ان يصف صخب المحيطات وجموع البشر، ويمكن لبجعة بيضاء ان تشير إلى عري مترسخ تعتمد الثقافة الشعبية حين تقدم اشياءها، ويمكن للرماد الحار أن ينضج الكلمة والخبز واللغة، ويمكن لذراع مفتوحة في الفضاء ان يكشف بها عن سعادة الأرض، هذه الطاقة لخيال المادة في ظاهراتية باشلار شعرية، ولذلك لم يعد باشلار ناقداً، بل فيلسوفاً، إنَّ غسل الموتى بالماء، يعني موت الماء أيضان هذا التكوين المتماهي مع الزمن يجد حضوره في الثقافة الشعبية اكثر من حضوره في النصوص الأدبية، لذلك يجد باشلار ضالته في الموروث في النصوص التي تخرج على القاعدة في الميثولوجيا في القصائد، في طاقة العلم التجريبي،. مهمة الصور الشعرية عند باشلار، أن يحيلها الى صور متخيلة، فهو يشتق من الماء عشرات الصور، خاصة عندما يغير من علاقة الماء بالمكونات الإنسانية والطبيعية، يجد في الحجر عشرات الخيالات التي تمد الصلابة أشياء من مكونات الإنسان والطبيعة والأحلام لا تقف مخيلة باشلار عن المفردة، إلا متى ما استطاع أن يفتتها ويبحث عن ظلالها في علاقات واقعية ومفرضة، خيالية وشعرية، المادة تحت يدية توليد طاقة لا تنضب. وعندما تتحول الاشياء إلى اشكال مختلفة يعني تدمير لكيانية الشيء والبحث عن التحولات التي يكسبها الشيء وهو يتحول عن طبيعته، لأنه يكشف في المادة قوتها الحلمية، ومتى ما تمكن من العثور عليها، انفتحت أمامه ابواب التأويل. قراءة باشلار واحدة من القراءات التي تفتح أبواب الحياة كلها، دون ان يكون ثمة موانع عرفية، أو دينية، أو أيدولوجية، فالمعرفة فوق الجميع. إذا أردت ان تغتني بالاستعارات استعر قراءة باشلار للمادة.

• ذكرتم مرة انكم تطمحون الى ظهور النص المكاني المختلف عن القصة أو القصيدة أو المسرحية أو الرواية، أي أنه نص أدبي جديد يكون المكان فيه نوعاً جديداً من الكتابة الابداعية، يحتوي السرد كما يحتوي الشعر والفتوغراف والحوار والتشكيل، وهو مهيأ فنياً وتوصيفياً لمثل هذه النقلة.. فهل تحقق هذا عرقياً أو عربياً، واي نصوص تلك التي اشتملت عليه؟.

ـ النص المكاني طموح نقدي اسعى إلى توصيفه، المتحقق من أشكاله كثير ولكن الوعي به كنص له توصيفاته الخاصة قليل، لا يُكتب النص المكاني بلغة واحدة، إنَّما يكتب بلغات إذا فهمنا أن الكتابة التي أعنيها ليس الكتابة بالحروف فقط، إنَّما الكتابة هي اشكال التنفيذ، هي لغات معمارية تدي كل لغة جانبًا من النص، ويكون التناغم بينها هو الفنية أو النصية، كأن يكون النص المكاني نصاً مكتوباً على الورق، وهذا شكل أولي للنصّ المكانيّ، أي أنَّ الورقة، الكتاب، الوثيقة، المدونة، العريضة لتي يكتبها العرضحالجي، ستكون هي النصّ، عندئذ يكون لدينا نصّان مكانيان، أحدهما هو النصّ نفسه المشيد بالكلمات على الورق، الشكل الثاني للنص المكاني هو: الكيان الورقي المحسوس الذي نتلمسه باليد والعين ويمكن وضعه في المكتبة كأي عمل فني، وتبقى (المكانية) هي الفنيّة أو النصيَّة وهذه المكانية ستكون خارج اهتمام من انجزها، هذا الشكل من النصّ المكاني كتب فيه الكثير، يمكن الإشارة إلى نصوص: البريكان، القصيدة 96 والبدوي مثلا، والسياب، في المعبد الغريق، وجيكور أمي، وبويب وغيرها، وابراهيم الكوني، في العديد من رواياته، وعبد الرحمن منيف في مدن الملح، ونجيب محفوظ، في القاهرة الجديدة وميرامار والحرافيش، ومحمد خضير في بصرياثا وكراسة كانون ورؤيا البرج، وحامد فاضل، في بلدة في علبة، وجمعة اللامي، في الثلاثيات، وجواد الحطاب في قصائد النصب والتماثيل، وآخرين، ويبقى هذا الشكل بحدود الفنية التجسيدية اللّغوية. ويمكن إضافة له أشكال أخرى، كنصّ السيرة خاصة التشكيلية، والنحتية، والفتوغرافية.

إلا أن المسعى لا يقف عند هذا الشكل الثالث للنصّ المكاني، إنَّما هو في تلك الأشكال الفنيّة التي دائمًا ما تكون في النقص التكويني، فيأتي من يضيف إليها وينحت فيها، وقد يحذف منها، وهذا هو النص المكاني المفتوح، وما زلنا في شكل تنفيذي أولي متقارب هو الكتابة، هنا تكون الكتابة غير مكتملة المعنى،بمعنى أنَّها دائمًا بحاجة إلى من يضيف إليها، أو يهمش عليها، أو يكتب نصاً مجاوراً أو معارضاً لها، ولدينا في كتب التراث أشكال من هذه النصوص التي كانت هوامشها وملاحظات القراء عليها، بمثابة تكملة للنقص فيها، وزيادة في الرقش المطمور في شقوقها وخفاياها، وإمعانا في التفسير والتأويل، وجعل النص مسامياً. أي أنه يمتص ما يدون، ويفرز ما لا ينسجم والتطور. هذا النص المتحرك، هو من يجعل المحتمل قائماً في الممكن. هذا النص مازال تحت هيمنة الكتابة بالحرف.

الشكل الثالث من النص المكاني هو النص الأثر، النص الأنثى، فالمكان أنثى الكتابة، أنثى الفنيّة، الأدبية، النصيّة، الشعريَّة. النصّ المكاني هو الذي يحتوي الخصائص الفضائية القابلة للتوالد، وهي (المشهد، خلق التكوين، الشكل الوظيفي)، وكلها مشتقة من الفنون الفضائية التصويرية والنحتية والمعمارية، فمن التصوير استقى النص المكاني (الوضع الإطاري، والمشهدي)، ومن عناصر النحت تم خلق الشخصية أو النموذج، ومن مفاهيم السطح والدائرة والبروز والعمق، أخذ بناء التكوين. فالنص المكاني لا يكتب، إنما منكتب في المكان، وعلى المؤلف أن يجده فيه لا أن يضيفه إليه، فالكتابة آثار ولدت في المكان، قبل أن يكتبها أحد، وليست الكتابة أثراً يتحدث عن المكان، الكتابة هنا هي المكانيّة، الكتابة الأثر تقترب من النحت، من الموسيقى، من التصوير، من التشكيل، من الكرنفال، من العيد، من التشكيلات التي تحدثها الزلازل والبراكين والأمطار والعواصف، هي التشكيل الذي بإمكانه أن يشير إلى موت الأب، بمعنى أن النصّ المكانيَّ الكليَّ، هو الذي يحوي عدداً من اللّغات الفنيّة التي تنكتب في المكان: لّغة السينما، لّغة التصوير الفوتوغرافي، لّغة النحت، لّغة التشكيل، لّغة الكتابة، لّغة الأثر الذي يمحو أثراً أسبق، لّغة الأشياء المادية التي توضع والتي تحذف، لّغة الكرنفال، اللّغة اللالّغة، وبالتالي يكون النصّ المكانيّ مشيدًا ومرئيًا ومحسوسًا ومقروءًا، ويمكن نقله وتداوله، فهو تمثال، وهو كتاب، وهو تشكيل. مثل هذا النصّ المكاني يكون زمنياً أيضاً، مفتوحاً على التأليف الذاتي المستمر، لذلك سيمحو أية صفة ساكنة له، كل تكوينه دينامي متحرك وعرضة للتأويل والنقد، النصّ المكانيّ إذا لم يكن نصاً زمنياً لا يمكن أن تتوحد الأشكال الإيهامية فيه. كل الأشكال السابقة للنصّ المكانيّ ليست إلا خطوات باتجاه النص الفضائي، المرئي، والمدون، والمتغير، والهيكلي، والممحو. وكل هذه الأشكال الفضائية لها علاقة ما بالفلسفة، والزمن والعلم لأنها تتعالق مع الفضاء الفيزيقي، وعلى المؤلف أن يحسب أنَّ النصّ المكاني ليس كله امتلاء، فالفراغات الداخلية والتي تحيط به جزء من بنيته، هذه الفراغات الفضائية هي أرقام لدى الفيثاغوريين، ولذلك يجري احتسابها كجزء من الامتلاء، والامتلاء يهب اللّعبة الزمنية إلى الفضاء، لأن النصّ المكاني نصٌّ مشهديٌّ، أي معماري، مشيد بالكلمات والصور والمادة والفراغ، فهو نحت متحرك، وربمّا نعيد هنا مقولة كانط: (إنَّ المكان حدس خالص) أي أنَّه فضاء مشيد بلغة كونية، يمكنك تشكيله وفق ما تراه حدسياً، لذلك نحتاج دائماً لتوظيف لّغة الضوء والظل في اظهار تفاصيل هذا النصّ، ومن يريد أن يقرأه عبر مكوناته يقرأه، ومن يريد أن يقرأه عبر الكتابة فليقرأه فالقراءة فعل زمني متحرك، يقول ما لينوفسكي: (ليس باستطاعة المرء ملاحظة المكان إلّا في الزمن، وهذا الأخير في المكان) هذا ما نريده للنص المكاني، أن يُقرأ مكانياً وزمانياً. وإذا أردت أن تقرأ الماضي في النصّ، فلن يكون الماضي إلا (الترتيبات الفضائية للأشياء)، كما يقول لدوف غرنبوم، فالأدب الحديث يتجه باتجاه الشكل الفضائي، أي ترتيب الأزمنة عبر ترتيب الاشياء، يقول فلوبير: (على كل شيء أن يبدو تعاقبياً آنياً).ويقول نوراي كريغر: (إن لغة الفنون الفضائية هي، في الواقع المعجم الوافي الوحيد لاستكشاف أشكال الفن في الزمن) لأن الفضاء وظيفة فالوظائف الفضائية خاصية من خواص النصّ كما تقول سوزان لانغر.

الشيء الملفت للنظر أن حضارتنا تمتلك أشكالًا من النصوص الزمانية / المكانيّة، تلك هي ألواح الكتابة، التي وظفت لا للكتابة لتكوين النصوص إنما وظفت لذاتها كألواح حملت الكتابة، لا يمكنك ان تكتب دون اللوح، فمسلّة حمورابي نصّ مكانيّ، يمتلك كل مقومات النصّ الكوني الشامل، لأنه كتلة نحتية حروف، والبردية الفرعونيّة نصّ مكانيّ كونيّ، لا يمكن للنص المكاني أن يكون ظاهراً، ويشيّد بدون الكتابة، الكتابة نفسها مكانيّة وما تعبّر عنه مكانياً، وما تشكله مع غيرها مكانياً، وكانت وما زالت الكتابة في الحضارة الرافدينية العنصر الخامس من مكونات الطبيعة، فالكتابة المسمارية ليست حروفاً تلفظ فقط، إنما هي تشييدات مكانية تفسر وتحدد وتقونن الحياة، ومثل هذه المهمة لا يقوم بها إلّا العنصر المكاني الذي يدخل في تركيب كل العناصر الأخرى، فالمكانية ليست صفة لمكون ما، إنَّما هي وجود لذات الشيء، هي كينونته، أو كما يسميها هيدجر (لدازاين) أي (الوجود هنا) أو النصيّة، كما يسميها سلفرمان، ولن يكون للنصّ المكانيّ حضورُ إلّا ضمن الاحتفاليّة الكرنفاليّة، والأعياد، والشكل التعبيري الجماهيري، حيث تتم قراءته بممارسة بصرية، ومن مختلف الأعمال واللغات، اضافة أن ماديته قابلة للإضافة والحذف والتغيير، ولذلك فالنصّ المكانيّ الذي انشده هو نص المستقبل الثقافي.

•  استخدم جاسم عاصي مصطلح المكان غير الموطوء في كتابته عن مرائي الصحراء المسفوحة. وفي رأي المتواضع أنه مصطلح يعبر عن المكان بشقيه الظاهري والجوفي. تحت أي الأمكنة يمكنكم ادراج هذا المصطلح؟

ـ ليس من مكان غير موطوء، فما أن يسمى المكان مكاناً فهو قد وطئ، ولذلك تعد الكتابة مثل الاقدام التي تطأ أرضاً، وإلّا كيف أمكن لحامد فاضل أنْ يكتب عن أمكنة الصحراء، إذا لم تكن قد وطئت أماكنها من قبل، فقد وطأتها الرياح، ووطأتها العواصف، ووطأتها الأمطار، ووطأتها الشهب، والنيازك، ووطأتها الحيوانات، والطناطل، ووطأتها الأحجار، ليس المهم اجتراح مفهوم أو مصطلح، لفهم النص، بقدر ما يمنح النص مفهومه الخاص، المهم أن نستعين بأي مفهوم للوصول إلى ما أنتجه الكاتب، المكان غير الموطوء مفهوم جيد إذا كان المعني به أن يكون أنثى، والمكان أنثى، يكون الوطئ منسجما مع افتضاض بكارته، والكشف عن ماهيته، والكتابة تأسيس أثر على اثر سابق، أي أن المكان قبل الكتابة أنثى عزباء، موطوءة من قبل، دون ان تمحو الكتابة هوية الأثر السابق، أو تلغيه، لأنها لا تنشئ عمارتها بالكلمة إلا إذا كانت ثمة كلمة تسبقها، لذلك ما يشكل صحراء السماوة ليس هو أمكنتها وفيافيها وآبارها وفسحاتها وشساعتها، فقط، إنَّما الكتابة الأثر الذي يقع على اثر سابق، أي الكتابة بالقدمين، عندئذ تكون الكتابة الوطئ لموطوء جنسيا. سنصادف مفردات محلية كثيرة في المستقبل عندما يؤسس الاشتغال في المكان رؤية إعادة تشكيل الأمكنة ثقافياً، وليس رؤية استيعاب للأحداث فقط، والكثير من الأمكنة لم تكتشف لأنَّها ليست موطوءة بالكتابة، فالكتابة ممارسة متأخرة، قضيتها هي أن تحفر لتوطأ، هي بحث، في مدون لإعادة تكوينه، وتحديد مسمياته، وخلقه، وتصويب ما التبس من معلوماته، الكتابة صنو الفعل الجنسي المختبر، كما يشير بارت إلى ذلك، لذلك كانت الكلمة بداية التفلسف، الكلمة فاعل جنسي، وابتدأت الديانات بـ (أقرأ) باسم...الكتابة / القراءة، القراءة فاعل جنسي، وتعد القراءة واحدة من الأسس التي يقوم عليها قانون المعرفة، القراءة كتابة جنسية أخرى لا تقف عند حدّ، القراءة ممارسة جنسية مستمرة، ومن هنا لا نستغرب أن تكون الأمكنة غير المكتشفة تحمل معها مفاهيمها الغامضة التي بحاجة إلى من يفضَّ مغاليقها. ما يصلنا من مصطلحات ومفاهيم من الثقافات الغربية، مفيد جداً، ولكنَّي شخصياً أتخذها دليلًاً أولياً لاحتذاء الطريق إلى النصّ، وخلال البحث والممارسة والمسيرة، أجد أن النصّ المحلي قد يحمل مفهوماً آخر يقترب أو يبتعد عن المفاهيم المنقولة إلينا، كل الأمكنة محلية حتى لو أقيم فيها بناء للأمم المتحدة، ومحليتها تعني أنَّها تُكسب اللّغة اشتراكية التكوينات المثيولوجية والشعبية .

• أخيراً كيف تردّون على مَنْ يقول ان اهتمامكم بالمكان جاء بعد اطلاعكم على كتاب شعرية المكان باشلار والذي ترجمه غالب هلسا بعنوان جماليات المكان؟ .

ـ أسرد هنا قضيَّة توثيقية، وليست رأيًا أفرضه على السائل، فكتابي (الرواية والمكان) القسم الأوَّل منه، صدر في الأول من شباط 1980، ضمن اصدارات الموسوعة الصغيرة، وحمل رقم 57، كما حمل رقم الإيداع في المكتبة الوطنية 103. في حين أنّ كتاب باشلار (جماليات المكان) بترجمة المرحوم غالب هلسا، والذي كان لي الفضل في دفعه إلى البحث عنه أولاً بحكم الصداقة بيننا، ومن ثم ترجمته، وقد صرفنا وقتاً طويلاً حتّى تم الحصول عليه من الدكتورة فريال جبوري غزول، الاستاذة في الجامعة الأمريكية في القاهرة، بنسخته الإنجليزية، ومن ثم دأب غالب هلسا على ترجمته طوال عام 1980، فصدر كتاب (جماليات المكان)  في أواخر عام 1980، وتحت رقم ايداع في المكتبة الوطنية 798 لعام 1980، أيّ أنّه ظهر بعد كتابي بعشرة أشهر تقريبًا. فكيف أتأثر بكتاب صدر بعد كتابي؟- لاحظ رقم الإيداع في المكتبة الوطنية- . كما أنّ القسم الثَّاني من كتابي (الرواية والمكان) قد ظهر أيضًا في السنة نفسها أي عام 1980، بمجلة آفاق عربية، العدد الرابع، نيسان عام 1980. ويكون بذلك قد ظهر كتابي بقسميه الأول عن الموسوعة الصغيرة والثاني منشوراً في مجلة آفاق عربية، قبل كتاب باشلار، بأشهر، وللإشارة أنّ كتابي (القاص والواقع) الذي صدر عام 1975، عن وزارة الاعلام العراقية، فيه إشارات كثيرة لدراسة المكان في القصة والرواية العراقية، من بينها المجموعة القصصية البكر (المملكة السوداء) للقاص محمد خضير والتي صدرت عام 1972، ونشر المقال في مجلة الآداب، ثم نشر المقال في كتابي (القاص والواقع) الصادر عام 1975. وقد اشار الدكتور رحيم على جمعه الحربي في رسالته الدكتوراه (المكان ودلالته في الرواية العراقية) جامعة بغداد 2003، إلى العديد ممّا تضمنه كتابي القاص والواقع عن المكان. وتشير المقدمة القصيرة ألتي كتبتها للقسم الأول من (الرواية والمكان)، الموسوعة الصغيرة عدد 57 إلى عام 1978، ودفعته للنَّشر في السنة نفسها، ضمن الموسوعة الصغيرة، بناء على توصية من الدكتور علي جواد الطاهر رحمه الله، بأهمية هذا الموضوع، إلّا أنّ احتجازي في الأمن العامة كموقوف سياسي عام 1978، حال دون نشره مبكراً. وكان يومذاك مسؤول الموسوعة الصغيرة القاص أمجد توفيق، الذي أشار بعد خروجي من سجن الأمن العام، عليّ أن اتريث بنشره، لأني قد خرجت تواً من السجن، (ليس من المعقول- كما قال- أنّ نصدر لك كتاباً بعد خروجك من السجن بفترة قصيرة). وهكذا بقي الكتاب نائماً في أدراج الموسوعة الصغيرة لعامين كاملين، حتّى مجيء القاص المرحوم موسى كريدي، فسارع إلى دفعه للمطبعة، ليظهر في 1- شباط عام 1980. هذه حقائق مدونة وليست افتراضات مني، ولكن مع الأسف يتجاهلها البعض. بل ويصر البعض الآخر على تجاهل سعينا ويؤكد سعي غيرنا في انتاج شيء جديد عن المكان، ثم اصدرت بعد ذلك كتابين هما: (دلالة المكان في قصص الأطفال) سنة 1985، و(إشكالية المكان في النَّص الادبي) عام 1986. ومعظمها أصول مقالات عن المكان نشرت قبل وبعد عام 1980 بقليل، منها دراسة عن رواية الرجع البعيد،ودراسة عن رواية السفينة، ودراسات أخرى تخص القصيدة المكانية والأمكنة الشعبية وقد نشر بعضها في مجلة فنون، وهذا الزخم من المقالات والكتب المعنية بالمكان، دليل على أنّ موضوعة المكان كانت يومذاك متأصلة عندي وليست تأثراً بأحد، مع أنّ التأثر شيء مهم في سياق المعرفة الأدبية والنقدية، لاسيما إذا كان المتأثر به فيلسوفاً كبيراً مثل باشلار، ولكن مثل هذا التأثر لم يحدث قبل صدور كتابي الرواية والمكان بجزأيه. فالتفكير بالمكان عنصراً بنائياً بدأته بكتابي الرواية والمكان، ولما كان المشروع مشروعي الشخصي، بحثت عنه في أمهات المصادر، ومن ضمنها سؤالي للأستاذ غالب هلسا فيما إذا كان ثمة دراسة عن المكان في الآداب الأجنبية، فكان جوابة بالإيجاب، ومنذ تلك اللحظة بدأنا سوية بالبحث عن كتاب باشلار، فكتب غالب إلى الدكتورة فريال جبورغزول لتجلبه لنا، هذا المسعى لم يدوّن لأنه تحصيل حاصل شغلي الذاتي، وإلا فكتاب باشلار مؤلف منذ سنوات، لماذا لم يفكر به أحد؟، التفكير بالمصادر والبحث عنها، يعني وجود مشروع ما لدى الناقد، وهو ما دفعني للسؤال عن الكتب التي تعالج مثل هذا الموضوع. أقول ذلك توضيحاً لشعوري بالمرارة من بعض آراء من هم الأقرب لي، خاصة النقاد العراقيين للأسف الشديد الذين يتجاهلون عن عمد جهدي، وكأني قد سلبت منهم مركزاً نقدياً أو قضية كانت عليهم حصراً انجازها. لكنهم مع الأسف لم يكونوا بالدرجة التي يجب أن يكون عليها الناقد. ولم يقف الأمر على كتاب (الرواية المكان)، بل تجاوزوا على مشروعي البكر الثاني، (الاستهلال) الذي لم يظهر أي كتاب في الأدب العربي عن الاستهلال قبل كتابي الذي صدر عن الشؤون الثقافية عام 1993، وأنا مهاجر خارج العراق. وكنت قد دفعته للنشر عام 1990،لقد رفض الاستهلال من قبل مدير عام الشؤون الثقافية، ثلاث مرات، ولم يظهر إلا بعد تغير المدير العام، فأحيل إلى خبيرين مهمين فأجازا الكتاب.

أما اليوم فعليك ان تحصي عشرات الأطروحات الجامعية عن المكان وعن الاستهلال وعلى امتداد جامعات البلدان العربية، إضافة إلى مئات المقالات النقدية المهمة في هذين الميدانين، مما يجعلني أقول وبوضوح: أن ما وصلت إليه دراسة المكان سواء عن طريق الترجمة أم عن طريق التأليف يفوق ما قدمته عام 1980، بكثير، فقد كانت أداتي النقديَّة ضعيفة والمفاهيم التي تعاملت بها مع موضوع شائك ومعقد كالمكان بسيطة، حيث كانت تنسجم وثقافتي وما موجود من أصول للرواية العراقية لا تغني ولا تسمن، فشخصياً لا أدعي أنني مكتشف المكان، فالمكان موجود فكراً وفلسفةً منذ أرسطو وأفلاطون وحتى الفلسفة العربية الإسلامية، لكنه لم يطرح مشروعاً نقدياً قبل عام 1980، إلا من قبلي، وهذا ما جعل جهدي البسيط والمتواضع موضع الريادة في هذا المجال، وقد طبع كتاب الرواية والمكان خمس طبعات، والاستهلال ثلاث طبعات لحد الآن، اليوم شخصيًا اغتني بالعديد من الدراسات النقدية المترجمة والموضوعة عن المكان والاستهلال، وأعد نفسي تلميذًا ومن متتبعي ما يصدر في هذين الميدانين، فليس الريادة أن تكتفي بالطروحات الأولى، إنَّما بمواصلة المشروع وتأكيده نقدياً وفلسفياً، وقد صدر لي عدد من الكتب عن المكان، أعدها متقدمة كثيرًا جدًا عمّا بدأت به.

 

حاوره: حامد فاضل

في المثقف اليوم